Monday, December 22, 2008

لوحات عالميـة - 182

درج إلى السمــاء
للفنان الأمريكـي جيـم ووريــن، 1980

قد لا يكون اسم جيم وورين مألوفا كثيرا. لكنْ من المؤكّد أن الكثيرين منّا سبق وأن شاهدوا بعض رسوماته، خصوصا هذه اللوحة التي تعتبر أشهر أعماله وأكثرها رواجاً.
وقد بلغ من شعبية اللوحة وانتشارها أن ظهرت على أغلفة العديد من الكتب والروايات والمجلات، بالإضافة إلى حضورها الدائم في الكثير من المواقع الاليكترونية التي تعنى بالشعر والموسيقى والأدب.
"درج إلى السماء" لوحة جميلة ومتألقة بألوانها الهادئة والأنيقة وبمضمونها الديني والروحي الذي يبعث في النفس إحساسا بالسلام والطمأنينة.
وفيها نرى درجا يقوم على شاطئ بحر غامق الزرقة يرتفع إلى السماء ويختفي في الغيوم، بينما تحفّ به الحمائم وتتناثر على جانبيه زهور ذات ألوان متناسقة وبديعة.
هذا المشهد يحتمل أنه يمثل حميمية العلاقة بين السماء والأرض وما بينهما من أواصر. كما انه يستدعي إلى الذهن ذكريات وصوراً عن الغياب والرحيل.
بعض النقاد يعتبرون جيم وورين أحد أنجح الرسّامين المعاصرين. وهناك من يعتبره ظاهرة متفرّدة في عالم الفنّ التشكيلي المعاصر بالنظر إلى انتشاره الغريب وكثرة الطلب على أعماله.
بل إن موقعه الاليكتروني كان وما يزال احد أكثر المواقع الفنيّة جذبا للزوّار من جميع البلدان والقارّات.
وربّما يعود احد أهم أسباب شهرته إلى أن أعماله تتّسم ببساطتها وواقعيّتها التي تروق للناس من جميع الفئات والأعمار، من الأطفال والكبار إلى رجال الأعمال والشخصيات الدينية ونجوم الفن الذين يقصدونه ليرسم لهم بورتريهات شخصية بنفس الأسلوب الفانتازي الذي ظلّ يرسم به منذ أكثر من ثلاثين عاما.
كما تروق رسوماته لشركات السينما ودور النشر التي كثيرا ما تستعين به لتصميم ملصقات لأفلام أو وضع رسوم إيضاحية لقصص وروايات.
وجيم وورين يمزج في لوحاته بين الواقع والخيال. ولا تخلو أعماله من لمسة سوريالية تدهش وتفتن. من مناظر الجياد التي تنبثق من ثبج البحر أو تتشكّل في الجليد، إلى صورة المرأة التي يكشف جانب من وجهها عن ملامح نمر، إلى عرائس البحر التي تداعب حيوانات الدولفين تحت الماء، إلى مناظر لعشّاق يتعانقون في السحاب أو وسط براكين متفجّرة، أو نساء تتحوّل أجسادهن إلى شلالات وأنهار وأقواس قزح، إلى المرأة التي تقرأ كتابا وهي تلتحف بأمواج البحر. إلى آخره.
وهناك سمة تغلب على مجمل لوحاته، ألا وهي اهتمامه بقضايا البيئة والذي ينمّ عن إحساسه الكبير بجمال الطبيعة وقوّتها وتنوّعها كما تعكسه أعماله.
فالطبيعة عنده تتجلى دائما على هيئة نساء جميلات يستلقين على الشواطئ أو فوق السهول والمنحدرات، بينما تكشف ملامحهن عن صور لشلالات وغدران وجبال ومروج خضراء.
وهناك من يشبّهه بمواطنه الفنّان توماس كينكيد. غير أن وورين كثيرا ما يتحدّث عن تأثره في بداياته بـ دالي ورمبراندت ومونيه، قبل أن يختطّ لنفسه أسلوبا مستقلا وخاصّا به.
"درج إلى السماء" عنوان جميل وجذّاب ولا يخلو من شاعرية. هو هنا اسم للوحة، لكنّه بنفس الوقت عنوان لعدد غير قليل من قصائد الشعر والقصص القصيرة، واسم لمسلسل آسيوي شهير، ورمز دلالي لطقوس تعاطي بعض الجماعات الدينية للمخدّرات للوصول إلى حالة من الروحانية المثالية والاتصال بالسماء. كما أن هناك أغنية مشهورة جدّا تحمل نفس هذا العنوان للمغنّي البريطاني ليد زيبلين قيل إنها تتضمّن معاني خفيّة تروّج للسحر وتمجّد الشيطان.
بعد النجاح الكبير الذي حققته اللوحة، رسم وورين لوحة أخرى يمكن اعتبارها تنويعا على نفس الفكرة أسماها "فوق قوس قزح".
ومنذ بعض الوقت، ألفت عازفة البيانو الروسية اوكسانا كوليسنيكوفا، المفتونة بلوحات وورين، مجموعة من القطع الموسيقية التي استلهمتها من أجواء مناظره الغرائبية والساحرة.

Friday, December 19, 2008

لوحات عالميـة - 181

تكويـن بالأصفــر والأزرق والأحمــر
للفنان الهولنـدي بِـيـت مـونـدريــان، 1921

يعتبر بيت موندريان أحد روّاد المدرسة التجريدية في الرسم. وقد اقترن اسمه بتطوير ما اسماه في ما بعد بالبلاستيكية الجديدة. وهي شكل من أشكال التجريد الذي يعتمد على رسم شبكة من الخطوط السوداء الأفقية والعمودية باستخدام الألوان الأساسية.
درس موندريان الرسم في مدرسة الفنون الجميلة بأمستردام. وعندما تخرّج عمل فيها مدرّسا.
وفي بداياته، أظهر ميلاً لرسم المناظر الطبيعية بأسلوب قريب من الانطباعية. غير انه في ما بعد تحوّل إلى الرسم التجريدي متأثّرا بدراسته للفلسفة والدين.
في ذلك الوقت، أي في نهايات القرن التاسع عشر، شاعت الأفكار الثيوصوفية؛ أي تلك التي تمزج ما بين الدين والفلسفة.
وظهرت نظرية تقول إن فهم الإنسان للطبيعة يمكن أن يتحقّق بشكل أعمق من خلال الوسائل غير التجريبية.
وفي مرحلة لاحقة، ابتكر هو ومجموعة من زملائه تيّارا فنيّا أسموه "الأسلوب". ولم يكن تأثير ذلك التيّار مقتصرا على الرسم، بل امتدّ ليشمل أيضا المعمار والمسرح وتصميم الأثاث.
في هذه اللوحة، نرى مجموعة من الخطوط المستقيمة والأشكال المستطيلة التي تتوزّع على بعضها الألوان الرئيسية الثلاثة، أي الأحمر والأزرق والأصفر.
يقول بعض النقاد إن هذه اللوحة تمثل بحث موندريان الدائم عن المعرفة الروحية والبساطة والتناغم المطلق ونقاء الألوان من خلال استخدام الأشكال والتكوينات الهندسية.
وثمّة من يذهب إلى القول إن اللوحة هي إحدى أهمّ لوحات القرن العشرين، بالنظر إلى تأثيرها الكبير في مجالي التصميم والعمارة الحديثة.
ويمكن النظر إلى لوحات موندريان باعتبارها بُنى رمزية تجسّد طبيعة رؤيته عن ثنائية الكون. فالعمودي عنده هو رمز للروحي والذكوري، والأفقي رمز للمادي والأنثوي.
من الواضح في اللوحة غلبة المساحات البيضاء على ما عداها. وقد كان موندريان يرى أن الأشكال البيضاء تعطي اللوحة ديناميكية وعمقا اكبر. وأصبحت هذه السمة أكثر وضوحا في لوحاته التي أنجزها في أخريات حياته.
كان موندريان يقول إن التجريد هو السبيل الوحيد للاقتراب من الحقيقة والعودة إلى الأصول والبدايات. لكن ذلك لا يتحقق ما لم يملك الرسّام قدرا عاليا من الوعي والحدس اللذين يمكّنانه من بلوغ أعلى درجات الإيقاع والتناغم.
عاش الفنان فترة من حياته في باريس التي التقى فيها بيكاسو وتأثر بالتكعيبية واستوعبها. غير أنها كانت مجرّد محطّة عابرة في مسيرته الفنية.
وعندما سقطت باريس وهولندا بيد النازية عام 1940، انتقل للعيش في لندن ومن ثم نيويورك التي ظلّ فيها حتى وفاته.
استخدم موندريان في جميع لوحاته الألوان الزيتية. وفي نسخ لوحاته الموجودة على الانترنت تبدو الألوان ذات أسطح ملساء مستوية.
غير أن ضربات الفرشاة تبدو واضحة في لوحاته الأصلية الموجودة في المتاحف، مثل متحف نيويورك للفنّ الحديث ومتحف تيت البريطاني.
وهناك الآن بعض المواقع الاليكترونية التي توظف برامج رسوميات وتقنيات أخرى متطوّرة لإعادة بناء لوحات بيت موندريان بل ورسم نسخ شبيهة بلوحاته مع بعض الاختلاف والتعديل.
وفي السنوات الأخيرة ظهرت فرضيّة تقول إن بوسع الكمبيوتر اليوم أن ينتج خطوطا وأشكالا وألوانا أكثر نقاءً وديناميكية وتناغماً ممّا يمكن أن يتحقق على رقعة الرسم العادية وباستخدام الألوان الزيتيّة.

موضوع ذو صلة: الفنّ التجريدي: كيف نفهمه؟

Monday, December 01, 2008

لوحات عالميـة - 180

بيغمـاليــون و غـالاتـيــا
للفنان الفرنسـي جـان ليـون جيــروم، 1890

كان بيغماليون، حسب ما يذكره اوفيد في كتاب التحوّلات، نحّاتا قبرصيا موهوبا وبارعا. لكنه كان كارها للنساء اللاتي كان يعتبرهنّ مخلوقات ناقصات ومعيبات. وقد ألزم نفسه بألا يضيّع وقته في مصاحبتهن، بل وأقسم ألا يتزوّج امرأة طوال حياته مفضّلا الفنّ على رفقة النساء.
غير انه في ما بعد صنع تمثالا على هيئة امرأة، كأنّما ليحاول من خلال التمثال إصلاح العيوب التي كان يراها في النساء الحقيقيات. كان التمثال آية في الجمال والروعة والإتقان. وكانت ملامحه تجسيدا لأكثر نساء العالم جمالا ومثالية وكمالا، كما كان يراها في مخيّلته وعقله. وكان من المدهش أن ملامح المرأة لا تشبه ملامح أيّ امرأة أخرى.
وشيئا فشيئا، وجد بيغماليون نفسه واقعا في حبّ التمثال الذي صنعه وأسماه غالاتيا. وأصبح يتعامل معه بعواطفه لا بالمطرقة والإزميل.
وكان يحدّق في المرأة لأيّام طويلة متأمّلا تضاريس جسدها وأعضائها المستديرة والناعمة. وكان يتحسّسها كي يتأكّد إن كانت حيّة، غير مصدّق أنها مجرّد تمثال من العاج.
وكان يتحدّث إليها الساعات الطوال ويلبسها أغلى الملابس ويجلب لها صدف البحر وأفخم الحليّ والمجوهرات.
وفي الليل كان يأخذ التمثال إلى سريره وينام معه.
التمثال نفسه كان هادئا، لم يكن يتكلم أو يناقش أو يثير المشاكل. وكان هذا يروق لـ بيغماليون ويناسب طبيعته.
وفي احد الأيام ذهب بيغماليون إلى الاحتفال السنوي الذي ترعاه أفرودايت آلهة الجمال، وطلب منها أن تهبه زوجة تشبه تمثاله.
وبعد أن عاد إلى البيت، قصد التمثال وطبع على فمه قبلة كما كانت عادته. لكنه فوجئ بأن الشفتين أصبحتا ساخنتين والنهدين طريّين والأطراف مرنة ليّنة. ولفرط المفاجأة تراجع بيغماليون إلى الوراء بذهول. وأيقن أن افرودايت منحته أعزّ أمنياته: أن يتحوّل التمثال الساكن إلى امرأة حقيقية من لحم ودم.
والتقت عيناه بعيني غالاتيا لأوّل مرّة وعرف كلاهما الحبّ ثم تزوّجا وأنجبا طفلا جميلا أسمياه بافوس، الذي سيطلق اسمه في ما بعد على إحدى مدن قبرص.
الفنان جان ليون جيروم (jeanleongerome.org) عُرف بمناظره الاستشراقية الفخمة. وقد استهوته قصة بيغماليون واختار أن يرسم اللحظة التي تدبّ فيها الحياة في غالاتيا وهي تمدّ يدها لتطوّق رأس بيغماليون وكأنها تصحو من سبات عميق.
وقد رسم الفنان لوحتين لنفس الموضوع؛ واحدة تصوّر غالاتيا من الأمام و الأخرى تصوّرها من الخلف.
بالإضافة إلى كونه رسّاما، كان جيروم نحّاتا أيضا. وفي نفس السنة التي رسم فيها اللوحتين، أنجز تمثالا يحكي عن نفس القصّة.
المنظر يحمل لمسة رومانسية واضحة. ويلاحظ دقّة الرسّام ومهارته في الإمساك بلحظة التحوّل في التمثال وكذلك براعته في إبراز الجسد المتحوّل بنعومة وانسيابية.
عندما نتأمّل في تفاصيل التمثال وفي الطريقة الناعمة والمحكمة التي صُوّر بها، لا بدّ وأن نتذكّر ما يقال أحيانا من أن العمل النحتي يستثير في المقام الأول حاسّة اللمس عند الإنسان، بخلاف الرسم الذي يتوجّه في الأساس إلى حاسّة الإبصار التي تميل إلى النظر إلى اللوحة والتمعّن في تفاصيلها.
أسطورة بيغماليون كانت ملهما للكثير من الأعمال الإبداعية المهمّة في الفن والأدب. ومن بين من تطرّقوا إليها الشاعر الألماني فريدريش شيللر والفيلسوف غوته والكاتب المسرحي الايرلندي جون برنارد شو الذي تحوّلت مسرحيّته عن بيغماليون إلى فيلم شهير بعنوان "سيّدتي الجميلة".
بعض الكتّاب يرون في أسطورة بيغماليون رمزا للفنان الواهب للحياة بتحويله الحجر البارد والساكن إلى كائن حيّ. والبعض الآخر يرى فيها رمزا لغموض الحياة وقابلية الأفكار لأن تتحوّل وتتغيّر.
جان ليون جيروم يغلب على رسوماته الطابع الأكاديمي. وقد عُرف بأسفاره إلى بلدان الشرق الأوسط حيث رسم لوحاته الشهيرة التي تصوّر جوانب من سحر الشرق وغرائبيّته.
في الأعمال الأدبية والفنية التي ناقشت أسطورة بيغماليون، كثيرا ما تثار تساؤلات فلسفية وسيكولوجية تتناول السبب الذي دفع بيغماليون إلى نحت امرأة طالما انه كان يكره النساء، ولماذا مثلا لم يصوّر شجرة أو رجلا أو حيوانا؟
ولماذا انصبّ اهتمامه على الشكل دون الجوهر عندما ركّز على الهيئة الخارجية للمرأة ولم يعر اهتماما لشخصيّتها وروحها الداخلية؟
وهل أحبّ بيغماليون غالاتيا لذاتها أم لأنها من صنع يديه ومخيّلته أم لأنها كانت مرآة لنفسه هو؟
وهل كانت المرأة تجسيدا لحلمه الخاص أم انعكاسا لإحساسه الشديد بالوحدة وحالة الخواء التي كان يحياها؟
وهل كان بيغماليون يعوّض عن فشله في التواصل مع النساء على المستوى الشخصي والجنسي من خلال نحته للتمثال الذي يسهل تطويعه والسيطرة عليه لانعدام قدرته على الرفض أو الممانعة؟
ثم هل يوجد بالأساس رجل كامل أو امرأة كاملة؟
وإلى أيّ مدى يمكن تصوّر علاقة بين رجل وامرأة خارج حدود الجنس الذي قيل إن بيغماليون كان يكرهه ويمقته؟
وهل كان بيغماليون باحثا عن الكمال فعلا، أم انه كان مجرّد شخص نرجسي يبحث عن امرأة ترتفع إلى مستوى رغباته ويثير من خلالها غيرة الآخرين وحنقهم؟
بعض الأعمال الأدبية المعاصرة تعاملت مع الأسطورة بشيء من التحوير والتعديل.
في أحدها، مثلا، عندما تُبعث الحياة في غالاتيا فإنها تصبح امرأة متبلّدة الأحاسيس وباردة المشاعر ترفض بيغماليون وتتمنّع عليه فلا يستطيع الظفر بها في النهاية.
وفي إحدى المسرحيات، يقوم بدور النحّات رجل متزوّج تشاطره زوجته اهتمامه بنحت تمثاله المسمّى هو الآخر غالاتيا..
لكنْ عندما يتحوّل التمثال إلى امرأة حقيقية، سرعان ما تدبّ الغيرة في قلب الزوجة فتقلب البيت رأسا على عقب. وعندما تخرج الأمور عن السيطرة، تدرك غالاتيا أنها كانت اسعد حالا في هيئتها الأصلية وتقرّر أن تتحوّل مرّة أخرى إلى تمثال.
في العقود الأخيرة، شاع كثيرا مصطلح "البيغماليونية" الذي أصبح مرادفا لحالة الانجذاب الجنسي إلى التماثيل والدمى والمانيكانات واللعب العارية.

Friday, November 21, 2008

لوحات عالميـة - 179

منظر لساحة الجمهورية
للفنان الفرنسي إدوار ليـون كورتيـز، 1960

لا يوجد رسّام أحبّ مدينة بمثل ما أحبّ إدوار كورتيز مدينته باريس.
وقد بلغ من افتتانه وشغفه الكبير بهذه المدينة أن كرّس لها جميع لوحاته تقريبا وعكف على تصويرها على امتداد أكثر من خمسين عاما.
ومناظره التي رسمها لباريس وشوارعها وساحاتها ومعالمها المختلفة ما تزال من أشهر وأروع الصور التي تعكس بهاء وفخامة هذه المدينة.
كما يمكن اعتبار لوحاته سجلا يوثّق جانبا من الإرث التاريخي والحضاري لباريس خلال النصف الأول من القرن العشرين.
والذي يتأمّل لوحات كورتيز التي تبدو فيها الشوارع والبنايات والساحات غارقة في الأضواء الملوّنة والمشعّة، لا بدّ وأن يستذكر مغزى تسمية هذه المدينة بعاصمة النور.
فقد كانت باريس في ذلك الوقت عاصمة الفنّ الأولى في العالم. وكان يؤمّها الفنّانون والمبدعون من مختلف الأرجاء والأماكن، إمّا للدراسة أو سعيا للعمل أو التماسا للشهرة.
كما كانت المدينة مقصدا للكثير من السياح وأصحاب الأعمال وجامعي التحف الفنية، وحاضنة للعديد من المدارس والاتجاهات والتيّارات الحديثة في الرسم والموسيقى والمسرح والأدب.
في هذه اللوحة يرسم كورتيز بأسلوبه الانطباعي المتفرّد والخاص ساحة الجمهورية؛ أحد أشهر معالم باريس.
والمنظر عبارة عن كرنفال صاخب من الألوان والأضواء المتوهّجة والمنعكسة على الساحة والمباني المحيطة بها.
وفيها نرى رجالا ونساءً يمشون على الأرصفة، وعربة تجرّها جياد بيضاء، وعربة أخرى لبيع الزهور، ومقاهي وأكشاكا.
وإلى يمين اللوحة من الأمام تظهر زوجة الفنان وابنته اللتان كان يحرص على رسمهما في لوحاته.
ساحة الجمهورية كانت وما تزال أكثر الأماكن في باريس ازدحاما بالحركة وبالناس. ويعود تاريخ إنشائها إلى بدايات اندلاع الثورة الفرنسية.
ومن أهم المعالم التي تميّزها تمثال الجمهورية الذي يظهر في خلفية اللوحة والذي شيّده النحّات جول دالو في العام 1883م.
من الواضح أن كورتيز رسم هذا المنظر في إحدى ليالي الشتاء الباردة والممطرة.
وتتبدّى مهارته بشكل خاص في تمثيل الساحة المبللة بالمطر وفي استخدامه المبهر للألوان اللامعة والمتلألئة.
وعندما نتمعّن في اللوحة لا يمكن إلا أن تلفتنا براعة الفنان الهائلة في تحويل كتل الطلاء الثقيلة إلى وهج انطباعي أخّاذ تنبثق منه ألوان ناعمة ومتناغمة تتشكّل منها ملامح الوجوه وتفاصيل الملابس والنوافذ والمصابيح وغيرها من الأشياء والتفاصيل.
وكثيرا ما تتكرّر في مشاهده صور لخيول تجرّ العربات وأشخاص يمشون ويقرؤون الصحف ومحلات تبيع الزهور ونوافذ تشعّ منها الأنوار الساطعة والمتألقة.
في لوحاته الأخرى يصوّر كورتيز، بنفس الأسلوب الشاعري والروح المفعمة بالحياة، مناظر لمعالم باريس الأخرى التي لا تقلّ شهرة، مثل برج ايفل وكنيسة ماديلين وساحة الكونكورد والحيّ اللاتيني وقوس النصر وساحة نوتردام ودار الأوبرا والشانزيليزيه وغيرها.
وبالإضافة إلى الشكل الخارجي، فإنّ لكلّ مكان من هذه الأمكنة شخصية وحضورا داخليا محسوسا ومتجسّدا في اللوحة.
فاهتزاز الألوان وبريقها وتماهيها وذوبانها الغريب يتوالد عنه عناصر حيّة من أصوات وكلمات وإيقاعات وأحاسيس.
ويكاد الناظر إلى اللوحة يحسّ برودة الجوّ ويلمس الغيم بيديه ويشمّ رائحة المطر ويسمع وقع خطوات الناس وصدى كلماتهم واختلاج أنفاسهم.
لقد عاش كورتيز حياته بأكملها في هذه الأماكن. ومع مرور الوقت، نشأت بينه وبينها أواصر نفسية وروحية حميمة جعلته مندمجا فيها ومتّحدا بها.
ولوحاته هي بمعنى ما تجسيد لمشاعره وأحاسيسه الخاصّة وتعبير عن حالاته النفسية والشعورية.
وعند الحديث عن كورتيز ومناظره الباريسية الجميلة، لا بدّ وأن نتذكّر مواطنه الفنان انطوان بلانشار Antoine Blanchard الذي اشتهر، هو أيضا، بلوحاته التي تصوّر باريس بما تضمّه من صروح ومعالم وما تحفل به الحياة فيها من مظاهر وأنشطة مختلفة.

Tuesday, November 18, 2008

لوحات عالميـة - 178

غــشّــاشــو الورق
للفنان الايطـالـي كـارافــاجـيــو، 1596

تعود هذه اللوحة إلى عصر النهضة الايطالي وتعتبر من بين أكثر الأعمال التشكيلية إتقانا وتميّزا.
وقد رسمها كارافاجيو في بدايات اشتغاله بالرسم، وحاول من خلالها ابتكار شكل جديد من الصور التي تتضمّن عناصر الغش والإخفاء والخداع.
ويقال انه يستحيل تقليد اللوحة أو استنساخها. ومع ذلك، فقد قلدها رسّامون كثر، لكنْ لا أحد تمكّن من مضاهاة الأصل.
في اللوحة نرى شابّين يلعبان الورق بحضور شخص ثالث يقوم بدور الضالع أو الشريك.
وفي الزاوية اليسرى من الطاولة تستقرّ كومة من العملات الذهبية التي يفترض أنها ستذهب إلى من سيفوز في النهاية.
الشابّ إلى اليسار يبدو ذا طبيعة رصينة وسمت وسيم. كما أن ملابسه الباذخة وهيئته الأنيقة تدلّ على خلفيته الاجتماعية الرفيعة.
والذي يتمعّن في ملامحه ونظراته سرعان ما يدرك أنه يلعب دور البريء أو الضحية في اللوحة.
أما الشابّ إلى اليمين فيجسّد دور الغشّاش، وهو يبدو على شيء من التوتّر واللهفة، فيما يخبئ بعض الورق وراء ظهره. وما يثير الانتباه في مظهره، بشكل خاص، هو أنه يرتدي خنجرا حول خصره.
غير أن الشخصية الأكثر درامية في اللوحة هي شخصية الرجل الجالس بين الشابين. فملامحه ونظراته وحركاته تختصر التأثير السيكولوجي والدراماتيكي للمشهد. إذ يبدو الرجل منهمكا في استراق النظر إلى أوراق الشاب الجالس إلى جواره، بينما يتابع شريكه إشاراته وإيماءاته بتلهّف وحرص.
نظرات الرجل متربّصة، مختلسة ومخاتلة. ومن الملاحظ أن كارافاجيو حرص على تغطية عينه اليمنى بطرف عمامة الشاب الجالس إلى جانبه لكي يكثف الإحساس بطبيعته المراوغة وليضفي على نظراته بعدا دراميا أعمق.
ومع ذلك تبدو عينه الوحيدة، الظاهرة في الصورة، مفتوحة على اتساعها، تراقب وتتابع وترسل الإشارات والتلميحات إلى الجانب الآخر من الطاولة.
وممّا يلفت الانتباه أيضا منظر يده التي خبّأها داخل قفاز بينما راح يؤشّر بإصبعيه لشريكه.
من الواضح أن كلّ شيء يتمّ على هذا المسرح المصغّر خلسة وعن طريق الإيهام ومحاولة صرف الأنظار.
والإخفاء هو سيّد الموقف هنا. فالشاب البريء واثق من أن أحدا لا يرى ما في يده من أوراق. والغشّاشان متأكّدان من أن الشاب غير واع بما يخطّطان له. وكلّ واحد من الثلاثة يلعب بطريقته الخاصّة ضمن لعبة اكبر يتنافس فيها الجميع للفوز بالجائزة.
والذي يمرّ على تفاصيل اللوحة بطريقة عابرة سوف لن يلمح فيها سوى خمس أيادٍ. لكن بشيء من التركيز سيكتشف مكان وجود اليد السادسة.
ويظهر أن كارافاجيو اختار أن يرسم اليد الثانية للرجل في ذلك المكان الذي لا يتوقّعه أحد، أي تحت ذراع شريكه وبالقرب من الخنجر، لكي يؤكّد مرّة أخرى على عنصر الإخفاء والتعمية، وربّما للإيحاء بأن اللعبة قد تنتهي بمشهد عنيف وغادر.
من المعروف أن لعبة الورق من الرياضات الذهنية القديمة جدّا، لكنْ لا يُعرف أين ولا متى نشأت. وقد جرت العادة أن يتنافس المتبارون فيها على مبلغ من المال، أي أنها في النهاية ضرب من القمار. وكثيرا ما يلجأ اللاعبون إلى الحيل والأحاجي السحرية للسيطرة على النظام الذي يجري من خلاله توزيع وتبادل الأوراق. ومن أهم المواصفات المطلوبة في اللاعب سرعة البديهة وخفّة اليد والقدرة على مراقبة الخصم وكشف إستراتيجيته في اللعب.
في هذه اللوحة، ثمّة ما يوحي بأن الخداع هو الذي سينتصر في النهاية على البراءة. لكن هناك من يرى بأن كارافاجيو إنما أراد أن يسرد قصّة أو حكاية، وهو لم يكن معنيا كثيرا بتضمين لوحاته دروسا أو مواعظ أخلاقية.
ومن الأمور الأخرى التي تشدّ الناظر إلى اللوحة واقعيّتها الشديدة وألوانها اللامعة بالإضافة إلى تأثيرات الضوء فيها. هناك أيضا أناقة الملابس: اللباس المخملي الذي يرتديه الشابّ إلى اليسار بطيّاته وحواشيه الموشّاة بأناقة، وأيضا النقوش الزهرية والأنماط البديعة التي تزيّن ملابس الشخصين الآخرين.
في ما بعد ظهرت لوحات كثيرة تتخذ من فكرة الغشّ أو الخداع موضوعا لها. ومن أشهرها لوحة بنفس الاسم للرسّام الفرنسي فالانتين دي بولون Valentin de Boulogne ولوحتان أخريان لـ جورج دي لا تور Georges de la Tour؛ الأولى بعنوان قارئة الحظ The Fortune Teller، والثانية The Cheater أو الغشّاش.
في القرون الوسطى، كان كلّ من تثبت عليه تهمة ممارسة لعب الورق يعاقب بالطرد من الكنيسة. في حين كان بعض الملوك والحكّام يحظرونها باعتبارها شكلا من أشكال القمار الذي يهدّد النظام الاجتماعي لأنه يتيح لبعض الفئات فرصة الإثراء بطريقة غير مشروعة تتنافى مع مبدأ أن يعيش الإنسان من عرق جبينه وأن يكسب رزقه بوسائل شريفة ونزيهة.
أما بالنسبة لـ كارافاجيو، فرغم أنه لم يعش أكثر من 39 عاما، فإن تأثيره وشهرته في زمانه وبعد وفاته كانا كبيرين وواسعين.
وقد عُرف عنه قربه من أكثر الشخصيات نفوذا في مجتمع روما آنذاك. كما كان مقرّبا من رجالات الكنيسة والكرادلة الذين كلفوه برسم مواضيع دينية.
لكنه أثار حنق هؤلاء بلوحته "موت العذراء" التي رسم فيها السيّدة بملامح وجسد امرأة مومس انطبعت صورتها في ذهنه بعد أن شاهد جثتها وهي تنتشل من مياه النهر بعد موتها غرقا.
ومن أغرب الحوادث التي تروى عن هذا الفنان واقعة قتله لأحد الأشخاص في روما بغير قصد إثر شجار نشب بينهما.
وقد تمكّن كارافاجيو بعد ذلك من الفرار بمساعدة احد أصدقائه القدامى من القساوسة. وبعد سنوات من هروبه، أصدر البابا حكما بالعفو عنه. وعندما عاد إلى روما، اعتقل عن طريق الخطأ لجريمة لم يرتكبها. لكنه توفي في السجن بعد ذلك بأيام بعد إصابته بمرض غامض لم يمهله طويلا.

موضوع ذو صلة: قراءة هادئة في مشهد عنيف

Friday, November 14, 2008

لوحات عالميـة - 177

صــوت سيـّـده
للفنان البريطاني فرانسـيس بــارود، 1897

بعض الأفكار قد تبدو غريبة وغير مألوفة. لكنها يمكن أن تكون مصدرا للإلهام الذي يحقق لصاحبه الثراء أو الشهرة، أو كليهما.
وهذه اللوحة توفر مثالا على ذلك. يكفي القول أنها عاشت لأكثر من مائة عام وما تزال مشهورة كثيرا بعد أن تحوّلت إلى ماركة تجارية لعدد من كبريات شركات الصوتيات في العالم.
ومن عوامل شهرة اللوحة، بالإضافة إلى طرافة موضوعها، إسمها الموحي والجميل.
وقصّة اللوحة تعود إلى نهايات القرن قبل الماضي.
كان شقيق فرانسيس بارود قد توفي قبل وقت قصير من رسمها. وقد ورث عنه فرانسيس كلبه الصغير وجهاز فونوغراف من صنع شركة إديسون الأمريكية، بالإضافة إلى بعض التسجيلات التي تحمل صوت شقيقه المتوفى.
وكان من عادة فرانسيس بارود أن يستمع من وقت لآخر إلى صوت أخيه في جهاز الفونوغراف الموصّل بمايكروفون.
وقد لاحظ أن الكلب يقترب من المايكروفون ويصدر بعض الهمهمات الغريبة ويهزّ ذيله انتشاءً وطربا كلما سمع صوت سيّده الراحل.
تكرّر هذا الأمر كثيرا. وكان الفنان يراقب سلوك الكلب بالكثير من الحيرة والاندهاش. ولم تلبث الفكرة أن اختمرت في رأسه، فرسم لوحة للكلب وهو يستمع باهتمام إلى الصوت المنبعث من جهاز التسجيل.
وفي أحد الأيّام، أخذ بارود اللوحة إلى الرويال أكاديمي لعرضها هناك. غير أن محاولته رفضت. ثم عرضها على شركة إديسون وفي ذهنه احتمال أن تبتاعها الشركة منه لاستخدامها في الترويج لجهاز الفونوغراف الذي تنتجه.
لكن ردّ الشركة جاء مخيّبا لآماله، بعد أن قيل له إن اللوحة غير ذات موضوع وأن الكلاب لا تستمع إلى الموسيقى.
ومرّ وقت ليس بالقصير كان بارود خلاله قد صرف النظر عن فكرة بيع اللوحة وفقد كلّ أمل في أن يجد من يشتريها.
لكن بعد أشهر، أبدت شركة "غرامافون" البريطانية اهتمامها بالصورة، واشترطت على الفنان لشرائها استبدال صورة الفونوغراف بأحد أجهزة تشغيل الأصوات التي تصنعها.
ثم اشترت اللوحة والاسم بمبلغ لا يتجاوز مائة جنيه استرليني.
وقد استخدمت الشركة اللوحة كعلامة تجارية لها وظهرت في جميع إعلاناتها وطبعتها على ملصقاتها وأوراقها الرسمية وتسجيلاتها.
وما تزال اللوحة الأصلية معلقة إلى اليوم في مكاتب شركة EMI العالمية للصوتيات التي ورثت شركة غرامافون القديمة.
مع مرور الأيّام، تحوّلت صورة الكلب إلى رمز من رموز الثقافة الشعبية والاستهلاكية وظهرت في العديد من الإعلانات والدعايات. كما ظهرت على أغلفة عدد من المنتجات الموسيقية من بينها ألبوم غنائي للمطربة كريستينا اغيليرا.
يذكر أن الكلب مات عام 1895 أي قبل ظهور اللوحة بعامين. وبعد خمسين عاما على رحيله، بادرت شركة غرامافون إلى تكريمه وإحياء ذكراه في حفل مهيب انتهى بوضع لوحة نحاسية على قبره في إحدى حدائق لندن.
أما فرانسيس بارود فقد توفي عام 1924 عن عمر يقارب السبعين.
الجدير بالذكر أن الكلاب كانت دائما موضوعا مفضّلا لدى شركات الدعاية والإعلان.
وإذا كان فرانسيس بارود قد جعل الكلب يستمع إلى الموسيقى والأصوات، فإن بعض شركات الإعلان مشت خطوة أبعد من ذلك عندما جعلت الكلاب في إعلاناتها تعزف الموسيقى وتلعب البوكر وتدخّن السيغار وهي ترتدي ملابس غاية في الترتيب والأناقة.

Tuesday, November 11, 2008

لوحات عالميـة - 176

ديكـور منـزلـي وامـرأة شـابـّة
للفنـان الدانمـركي وليـام هَمَـرشُـوْي، 1904

ترتبط الدانمرك في الأذهان بجملة من الأشياء والانطباعات. ففيها أقدم نظام ملكي في العالم. وهي بلد قبائل الفايكنغ والملك هاملت والكاتب هانس كريستيان اندرسون والفيلسوف الوجودي كيركغارد. كما أنها بلاد شمس منتصف الليل وتمثال عروس البحر الصغيرة وليالي الشتاء الباردة والطويلة بما تثيره من إحساس بالحزن والوحدة والكآبة.
ومن بين من كتبوا عن الدانمرك الأديب البريطاني في إس نيبول الحائز على جائزة نوبل للأدب والذي أقام في الدانمرك فترة.
يقول: إذا كنت مهتمّا بالذهاب إلى مكان مرعب فأوصيك بالدانمرك. هناك لا أحد يجوع، والناس يعيشون في بيوت صغيرة وجميلة. لكن لا احد غنيّ. ولا أحد يملك فرصة أن يعيش حياة باذخة. وكلّ شخص مكتئب!
إنهم يعيشون في زنازين محكمة التنظيم مع مفروشاتهم الدانمركية ومصابيح الإضاءة الأنيقة التي بدونها يمكن أن يصابوا بالجنون".
وبصرف النظر عمّا إذا كان كلام نيبول صحيحا أو أن فيه شيئا من المبالغة الساخرة، فإنه يمكن القول إن لوحات وليام همرشوي، أكبر وأشهر رسّام دانمركي بل واسكندينافي، تقدّم صورة واقعية إلى حدّ كبير عن طبيعة الحياة في الدانمرك. كما أنها تشكّل انعكاسا لشخصية هذا الفنان ونمط شخصيته. فقد كان همرشوي إنسانا خجولا، متكتّما وغامضا مثل لوحاته. وبخلاف هذا، لا تتوفر الكثير من المعلومات عنه. لكن من المرجّح أنه عاش حياة مريحة بفضل خلفيته البورجوازية واشتغال والده بالتجارة.
وأجواء رسوماته تذكّرنا بلوحات مواطنه الفنان كارل هولسو Carl Holsoe وبلوحات كلّ من يوهان فيرمير وإدوارد هوبر.
في هذه اللوحة الجميلة يرسم همرشوي زوجته "آيدا"، وهي بنفس الوقت الموديل التي تظهر في جميع لوحاته.
وهي هنا تبدو واقفة وظهرها للناظر، أي أننا لا نرى ملامح وجهها ومن ثمّ يصعب التعرّف على طبيعة انفعالاتها في تلك اللحظة.
لكن بوسع المرء أن يكتشف أننا أمام منظر ينفتح على عالم من الصمت والسكون ويثير إحساسا بالعزلة والتذكّر الحزين.
حتى الديكور نفسه ساكن، بارد ومنعزل. والألوان في اللوحة هي ألوان همرشوي المفضّلة دائما، أي ذلك المزيج المتدرّج والناعم من الرمادي والأسود والأبيض.
ورغم أناقة هذه الألوان وتناغمها الرقيق والشائك، فإنها لا تعمل إلا على تعميق الإحساس بالهجر والانفصال والكآبة.
لكن المشهد شاعري وحالم إلى حدّ ما. تنظر إلى هذه المرأة، بجسدها الضئيل وفستانها الداكن وانحناءة رأسها الخفيفة، فيخيّل إليك أنها تعيش في عالم آخر يتجاوز حدود الفضاء الفيزيائي الضيّق الذي تقف فيه.
ومع ذلك، فهي تبدو مطرقة، حزينة، جامدة وشاردة الفكر.
قد يكون السبب أنهما - أي الفنان وزوجته - لم يرزقا بأطفال أبدا. ويقال إن همرشوي تزوّج "آيدا" كي يستنقذها من معاملة والدتها التي كانت تعاني من اضطرابات سلوكية.
وهناك احتمال بأن تكون قد ورثت عن أمّها ذلك الجانب المظلم من شخصيّتها.
ومع ذلك كانت العلاقة بين الزوجين تتسم دائما بالمحبّة والدفء والألفة.
ويقال أنها وقفت إلى جانبه بتفان وإخلاص عندما أصيب بالسرطان، واستمرّت تلازمه وترعاه حتى وفاته في سنّ الحادية والخمسين.
وقد أنجز الفنان جميع لوحاته في نفس المنزل الذي عاشا فيه طوال حياتهما.
وما يزال البيت قائما إلى اليوم، لكنه أصبح في عهدة مالك آخر.
كان همرشوي مهتمّا في لوحاته، وبشكل خاص، بتمثيل الضوء الذي كان يرى انه يمنح الأشياء الجامدة حياة ويخلع عليها هويّة وكينونة خاصّة بها.
وافتتانه بالضوء ليس بالأمر الغريب أو المفاجئ. فمعظم رسّامي شمال أوربّا كانوا يرون في الضوء نوعا من الاحتفاء بالحياة وانبعاث الأمل. وكانوا مغرمين برسم تلك اللحظات العابرة التي تشرق فيها الشمس مشيعة بعض الحرارة والدفء قبل أن يخيّم الظلام والبرد مرّة أخرى ومعهما ذلك الإحساس الغامض الثقيل بالحزن والانقباض.
وفي العديد من لوحاته، نرى نفس المرأة إمّا واقفة أو جالسة بهدوء وهي تؤدّي بعض الأعمال المنزلية. وكثيرا ما تظهر صورة لآلة بيانو ولوحة معلقة بطريقة أنيقة على الجدار. في حين تأخذ الملابس والديكور والمعمار بعض سمات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وفي بعض أعماله الأخرى نلمس إحساسا عظيما بالفراغ، عندما يرسم مناظر لغرف خالية إلا من تأثير الضوء المتسرّب عبر النوافذ والمنعكس على ذرّات الغبار المتطايرة، وبعض الأثاث الذي يبدو بسيطا متقشفا. ولطالما اعتقد همرشوي أن الغرف تنطوي على جمال متأصّل وخاصّ حتى مع عدم وجود بشر فيها، وربّما بالتحديد عندما لا يكون فيها بشر.
ومن خصائص لوحاته أنها محدودة الأبعاد، أحادية اللون وكثيرا ما تستعصي على التفسير. لكنها مع ذلك مثيرة للاهتمام بطبيعتها الشاحبة وجمالها اللامع.
وهناك من النقاد من يصفون لوحاته بأنها قصائد صامتة. ويصحّ القول أنها نوع من الجمال الحزين أو الحزن الجميل.
ومن الواضح أن مشاهده الساكنة والحزينة هي نتاج عفوي ومباشر لروحه ومشاعره الشفافة، أكثر من كونها مستندة إلى نظريات أو أطر فنية معدّة مسبقا.
وفي السنوات الأخيرة، ازداد الاهتمام بـ همرشوي ولوحاته، وتضاعف ذلك الاهتمام أكثر إثر قيام تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية بإنتاج برنامج وثائقي نادر عن الفنان وأعماله.
إن ثمّة شيئا ما غامضا يجذب الإنسان إلى لوحات همرشوي بتفاصيلها الغريبة وألوانها الهادئة والمحايدة. شيء ما أعمق بكثير من مسألة الشكل والتكنيك أو الأسلوب الفني الذي يوظفه في أعماله.
ومن المحزن أنه لم يترك وراءه أي مذكّرات أو كتابات يتحدّث فيها عن نفسه بعد أن أتلف مجموعة رسائله الخاصة قبيل وفاته عام 1916م. ولعله فعل هذا متعمدّا كي لا يتعرّف عليه الناس مباشرة، بل يكتفوا بالبحث في لوحاته عن مفاتيح وإشارات قد تدلّهم على طبيعة شخصيّته وأفكاره ونظرته للحياة.
إن من يتأمّل مناظر همرشوي ويتمعّن في ألوانها المرهفة وتفاصيلها البديعة، لا بدّ وأن يعجب به ويتعاطف معه ويقتنع أكثر فأكثر أنه كان إنسانا مختلفا وفنانا متميّزا جدّا.

موضوع ذو صلة: ليالي الشمال الحزينة

Thursday, November 06, 2008

لوحات عالميـة - 175

منظــر لـ طـليطـلــة
للفنان الاسبـاني إل غــريـكــو، 1600

رسم إل غريكو هذه اللوحة قبل أكثر من أربعة قرون. وما تزال تعتبر، إلى اليوم، واحدة من أعظم الأعمال التشكيلية التي تصوّر السماء.
وهناك من يشبّهها بلوحة فان غوخ "ليلة مرصّعة بالنجوم" من حيث القوّة التعبيرية، وتماثل الأجواء في اللوحتين، حيث السماء الداكنة بفعل الغيوم المظلمة والكثيفة.
إل غريكو، المولود في جزيرة كريت باليونان، عاش طوال حياته في طليطلة.
ويبدو انه أراد تخليد مدينته من خلال هذه اللوحة التي تعتبر، مع لوحة أخرى، العملين الوحيدين اللذين رسم فيهما منظرا طبيعيا.
من أهم سمات هذه اللوحة اللمسة الانطباعية التي تميّزها، مع أن المدرسة الانطباعية في الرسم لم تظهر إلا بعد أكثر من مائتي عام على وفاة الرسام، وهو أمر يدلّ على انه كان سابقا لعصره، من حيث ميله لتطبيق أساليب فنّية ثورية وتجديدية.
وهناك أيضا الاستخدام الأخّاذ والمبتكر للألوان الثريّة والمتموّجة والصاخبة.
وممّا يسترعي الانتباه أيضا في اللوحة الطريقة التي رسم بها الفنان السماء المظلمة والضوء الذي يبدو غامضا وهو ينبثق من وسط السحاب الداكن المدلهم مثيرا شعورا بالروحانية والقداسة.
وربّما كان إل غريكو أراد أن يعكس في اللوحة مشاعره الروحية الخاصّة. إذ المعروف انه كان شخصا تقيّا، وطليطلة كانت في ذلك الوقت العاصمة الدينية لاسبانيا.
والمتمعّن في تفاصيل اللوحة لا بدّ وأن يستشعر اهتزاز الطبيعة فيها وسحر الوهج الفضّي المشعّ الذي تعكسه البيوت التي تبدو من بعيد أشبه ما تكون بشواهد القبور. وممّا يعزّز هذا الإحساس حقيقة أن المشهد يخلو من أيّ وجود للبشر.
يقال إن طليطلة لم تتغيّر كثيرا منذ رسمها إل غريكو. حيث لا تزال الكاثدرائية والجسر الروماني وقصر الكازار وغيرها من المباني على حالها، مع أن الرسّام تعمّد تغيير مواقع بعض تلك المعالم لضرورات فنّية على ما يبدو.
ظاهريا، يمكن اعتبار هذه اللوحة مجرّد منظر لمدينة في عاصفة، أو محاولة لتصوير قوى الطبيعة.
وبعض النقاد يشبّهها بقصيدة شعر، بالنظر إلى حمولتها الدرامية والشاعرية المكثّفة.
لكن هناك من يعتقد بأن اللوحة محمّلة بالكثير من المعاني والاستعارات.
هناك، مثلا، من يرى بأنها لوحة دينية تصوّر حوارا صامتا بين السماء والأرض، بينما قيل في بعض المرّات أن إل غريكو قد يكون رسم هذا المشهد العاصف والمظلم كنذير شؤم وعلامة احتجاج ضمني على ممارسات محاكم التفتيش الاسبانية.
وعلى غرار ما كان يفعله في الكثير من لوحاته، لم ينس إل غريكو أن يوقّع اسمه بالأحرف اليونانية إلى أسفل يمين اللوحة.

موضوع ذو صلة: مدينة فوق تلّ

Thursday, October 16, 2008

لوحات عالميـة - 174

تمثـال النصـر المجنـّح
القرن الثالث قبل الميلاد

يعتبر هذا التمثال واحدا من أشهر الأعمال النحتية في العالم والتي تعود إلى الحقبة الهيلينستية. وهو يقدّم صورة مجازية عن النصر أبدعتها مخيّلة نحّات عبقري شاء القدر أن يظلّ اسمه مجهولا.
وقد اكتشفه عام 1863 قنصل فرنسا في اليونان، وكان عالم آثار ومؤرّخا، ثم أرسله في نفس السنة إلى باريس حيث ظلّ في متحف اللوفر منذ ذلك الحين.
وفي ما بعد، أي في خمسينات القرن الماضي، أرسل الفرنسيون بعثة أثرية إلى جزيرة ساموتراكي اليونانية، حيث اكتشف التمثال لأوّل مرّة، في محاولة للبحث عن الأجزاء المفقودة منه.
لكن لم تعثر البعثة سوى على أجزاء من اليدين والأصابع في حين بقي مكان الرأس مجهولا حتى اليوم.
هذا التمثال الضخم منحوت بالكامل من المرمر، وهو يصوّر آلهة النصر الإغريقية Nike التي تأخذ هيئة امرأة تقف على قاعدة من الحجر تشبه هيكل سفينة.
والطريقة التي أنجز بها التمثال تدلّ على براعة النحّات الذي صنعه وعلى عناصر الإبداع والإحكام والجمال التي أودعت فيه.
ويقال إن التمثال كان رمزا لانتصار احد قادة الإغريق في معركة بحرية خاضها ضدّ أعدائه حوالي بدايات القرن الثالث قبل الميلاد.
وقد جلبت حجارة التمثال من جزيرة باروس اليونانية التي اشتهرت بتشكيلاتها الحجرية وجودة رخامها. وعندما تمّ الانتهاء منه وضع على صخرة عالية تطلّ على معبد كبار الآلهة من جهة وعلى البحر من جهة أخرى.
تبدو المرأة في التمثال بقوام فارع وجناحين عريضين وجسد مندفع إلى الإمام، بينما تطاير رداؤها الشفاف بفعل ما يفترض أنه قوّة الرياح التي تقف بمواجهتها.
براعة النحّات هنا واضحة من خلال طريقته في رسم الخطوط وتشكيل النسيج وأسلوبه في تمثيل طيّات الرداء وانثناء جسد المرأة إلى الأمام.
ومن العناصر الأخرى ذات التأثير الصوري الأخّاذ في هذا التمثال طريقة الوقوف الدرامية والتكثيف الحركي، ما يثير إحساسا بالجلال والفخامة.
ولا بدّ وأن يتخيّل المرء أن رأس المرأة المفقود كان ذا ملامح جميلة وأنها ربّما كانت تنفخ بفمها آلة نفير وتحمل في أحد ذراعيها إكليل غار أو غصن زيتون تتوّج به أعناق المنتصرين.
كان قدامى اليونان مغرمين كثيرا بالتنافس في ميادين الحروب والرياضات المختلفة. لذا كان وجود الآلهة ضروريا وله ما يبرّره، باعتبارها ملهما للفوز ومحفّزا على تحقيق الانتصار.
لكن ليس من الواضح لماذا كانوا يصوّرون النصر دائما على هيئة امرأة.
قد يكون احد الأسباب أن المرأة أكثر قدرة على استثارة الرجال وبثّ العزيمة والحماس في نفوسهم.
بقيت الإشارة إلى أن اسم آلهة النصر Nike أصبح ماركة مسجّلة لإحدى أشهر شركات صناعة الأحذية والملابس الرياضية في العالم.
كما أن الفنان الأمريكي Abbott Thayer استلهم طريقة حركة المرأة في التمثال وكذلك شكل جناحيها في رسم كبرى بناته الثلاث كما يظهرن في لوحته المشهورة عذراء.

Friday, September 12, 2008

لوحات عالميـة - 173

بورتـريه البابـا اينوسنـت العاشـر
للفنان الإسباني دييـغـو فـيلاســكيــز، 1650

من المفارقات الغريبة أن هذا البورتريه، الأخّاذ والرائع والمشهور جدّا، يصوّر إحدى الشخصيات التاريخية التي عُرف صاحبها بصرامته وقسوته بالإضافة إلى دوره المهمّ في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية والعالم.
وقد قيل غير مرّة أن هذا البورتريه ليس فقط أروع عمل فنّي أنجز خلال القرن السابع عشر، وإنّما أفضل صورة شخصية تمّ رسمها في جميع العصور.
وأحد أسباب شهرة البورتريه هو انه يقدّم تصويرا بليغا وصادقا لطبيعة السلطة الدينية المطلقة والمتجسّدة في شخصية البابا اينوسنت العاشر. كما يمكن اعتباره دراسة بصرية محكمة عن قوّة الشخصية كما تعبّر عنها الملامح والتعابير وطريقة اللباس.
رسم فيلاسكيز البورتريه أثناء زيارته الثانية لروما وذلك بتكليف من اينوسنت. وكان عمر البابا في ذلك الوقت 75 عاما.
وبعد إتمام اللوحة أبدى بعض رجالات الفاتيكان تخوّفهم من احتمال أن يواجه فيلاسكيز غضب البابا، إذ أن البورتريه يصوّره بملامح صارمة ونظرات قاسية ومتجهّمة.
لكن البابا استقبل الفنان بحفاوة وأعلن سروره البالغ باللوحة قائلا إنها واقعية بأكثر مما ينبغي. ثم أمر بتعليقها في صالة استقبال الضيوف الرسميين، وأهدى فيلاسكيز ميدالية وسلسلة من ذهب تقديرا له واعترافا بموهبته.
واللوحة تبيّن بوضوح أيّ صنف من الرجال كان البابا.
كان اينوسنت العاشر شخصا طويلا، نحيلا، بوجه متورّد وحواجب كثة.
كما كان شديد المراس ذا مزاج حارّ ومتقلب وعنيف.
وهو يظهر في اللوحة جالسا على كرسي من المخمل الأحمر الموشّى بزخارف ذهبية، ومرتديا لباسا أبيض ووشاحا أحمر وغطاء رأس بلون داكن.
النظرات مفترسة والعينان متفحّصتان تشعّان بالذكاء المشوب بقدر غير قليل من الشكّ والتوجّس.
وليس ثمّة شكّ في أننا أمام رجل يعرف سلطته جيّدا، قويّ، ذي حضور دائم وربّما عنيف، واثق من نفسه كثيرا ومسيطر تماما على ما حوله. إنه رجل سلطة دينية ودنيوية معا، يقرأ الرسائل باهتمام ويصرّف أمور البلاد وينتظر بصبر أن يمتنع رعاياه عن التفكير في الخطيئة وأن يقرّ الخاطئون بذنوبهم كي يمنحهم بركته ويمنّ عليهم بصكوك الغفران التي تعدهم بالخلاص والجنّة.
كان البابا في ذلك الزمان أقوى رجل في العالم، وكان له من السلطات والصلاحيات ما لا يحلم به اليوم أكثر حكّام العالم سلطوية واستبدادا. وقد عُرف عن اينوسنت العاشر دهاؤه وسرعة بديهته وإتقانه فنون الحيل والمناورات السياسية. وعندما اختير للبابوية عام 1644 تضاعفت سلطة الفاتيكان الزمنية أكثر فأكثر، رغم أن تبوّءه للمنصب جاء في أعقاب أزمة عاصفة بين ثلاث عائلات دينية كانت كلّ منها تدّعي أنها الأحقّ بالمنصب.
من السمات اللافتة في هذا البورتريه تعامل الرسّام مع الألوان بطريقة تنمّ عن إبداع قلّ نظيره: التطريز والزخرفة، البراعة في المزج بين الألوان القرمزي والبنّي واللحمي والأحمر لإنتاج جوّ يشي بالهيبة والفخامة، اللمعان والوهج المنعكس على محتويات المكان، الطيّات الدقيقة التي تتخلل الرداء الحريري الأبيض البارد، التأثير الدراماتيكي والنشط للأحمر بدرجاته وظلاله المتفاوتة، وأخيرا وليس آخرا الخاتم الأسود المشعّ في يد البابا التي تبدو خلافا للمتوقع ذات تقاطيع أنثوية ناعمة.
طوال فترة حكمه، كان اينوسنت العاشر واقعا تحت سيطرة "اوليمبيا" أرملة أخيه التي كان قد عيّنها مستشارة له وحافظة لأسراره. ويبدو انه بحث كثيرا بين أقاربه عمّن يمكن أن يساعده في إدارة شئون البلاد فلم يجد غير هذه المرأة.
كان نفوذ اوليمبيا على اينوسنت كبيرا جدّا، ما أدّى إلى ظهور شائعات غير مؤكّدة عن علاقة عاطفية كانت تربط بين الاثنين. لكن المؤكّد هو أن مكانة اوليمبيا القويّة في البلاط لم تؤدّ سوى إلى استشراء الفساد والطمع والمحسوبية في أوساط المقرّبين من البابا.
وعندما توفي اينوسنت عام 1655 لم تحضر اوليمبيا جنازته، لأنها كانت منهمكة في نهب كنوز ونفائس القصر البابوي.
إن المتأمّل في تفاصيل هذا البورتريه لا بدّ وأن تستوقفه الطبيعة الفاتنة لهذا الرجل برغم نظراته القويّة والمتحدّية. إنه يبدو صامتا، متحفظا بل ومجاملا إلى حدّ ما. ويظهر أن وسامته تكمن بالأساس في حضوره الطاغي والمسيطر.
في عهد اينوسنت العاشر، واسمه الأصلي جيوفاني بامفيلي، أبرمت اتفاقية ويستفاليا للسلام التي وضعت نهاية لحرب الثلاثين عاما. غير أن اينوسنت رفض التوقيع على الاتفاقية لأنها نصّت على حقّ رعايا كلّ دولة في أن يتمتعوا بحرّياتهم الدينية الخاصّة، الأمر الذي كان يعني ضمنا تقليص دور الكنيسة الكاثوليكية وإضعاف سلطتها.
وفي نفس الوقت عمل اينوسنت على إطالة أمد الحرب الأهلية بين الانجليز والايرلنديين. كما دعم مذابح المسيحيين ضدّ اليهود في بولندا. وفي عهده أيضا استمرّت طقوس مطاردة وحرق الساحرات في أوربا. ويقال أنه، هو وعائلته، اشتغلوا بتجارة شراء وبيع العبيد.
في العام 1953، رسم الفنان الايرلندي فرانسيس بيكون Francis Bacon سلسلة لوحات استلهم موضوعها من لوحة فيلاسكيز. وفي إحدى اللوحات يظهر البابا اينوسنت محشورا داخل قفص وهو يصرخ. ومن الواضح أن القفص يشبه كثيرا الغرف التي يُعدم بداخلها المجرمون صعقا بالكرسي الكهربائي، ما يوحي بأن بيكون يرى أن اينوسنت كان يجب أن يوضع خلف القضبان.
يقول بعض مؤرّخي الفنّ إن دييغو فيلاسكيز وصل من خلال هذا البورتريه إلى أعلى ذرى الكمال والنضج والإبداع الفني.
ولا بدّ وأنه كان سعيدا جدّا بهذا العمل، بدليل أنه حرص على أخذ نسخة منه قبل عودته من روما إلى اسبانيا.
وتوجد اليوم نسخ كثيرة من هذه اللوحة تتوزّع على العديد من متاحف وغاليريهات العالم الرئيسية، بينما تستقرّ اللوحة الأصلية في غاليري دوريا بامفيلي في روما.

Thursday, September 04, 2008

لوحات عالميـة - 172

إنعكـاس، بورتـريه شخـصـي
للفنان البريطاني لـوسيـان فـرويـد، 1985

بعض النقاد يعتبرون لوسيان فرويد أعظم الرسّامين البريطانيين الأحياء. وفرويد ينحدر من عائلة ألمانية يهودية عريقة. فجدّه هو الطبيب وعالم النفس الشهير سيغموند فرويد. ووالدته تنتمي إلى أسرة من التجّار وأرباب الأعمال.
ولد فرويد في برلين عام 1922م. وعندما جاء هتلر إلى الحكم أصبحت أوضاع اليهود في ألمانيا لا تطاق. فقرّرت العائلة الهجرة إلى بريطانيا والإقامة فيها نهائيا.
وأعمال لوسيان فرويد تكتسب أهمّية خاصّة لأنها مرتبطة بزمن الحرب وبتبعات الحقبة النازية. ولوحاته تمتليء بصور لرجال ونساء عراة في مواقف وأوضاع شتّى.
وقد قيل في إحدى المرّات أنه بقدر ما كان سيغموند فرويد مهتمّا بدراسة النفس وسبر أغوارها، بقدر ما أن حفيده مهجوس بالجسد. وهناك حضور شبه دائم للكراسي في لوحاته. ويبدو أن اهتمامه بالكراسي والأرائك يستمدّ مغزاه من قرب هذه الأشياء من اللحم الإنساني الذي يشكّل لفرويد مصدر قلق وتفكير دائمين.
وعندما نتمعّن في لوحاته التي تصوّر نساءً عاريات نكتشف أن لا علاقة لها بالجنس أو الإيروتيكية. فالجلد سميك متغضّن والعظام نافرة والأطراف منهكة والأعين جامدة والوجوه حزينة وباردة.
وحضور النساء في اللوحات يتسمّ بالغموض والتشظي، وملامحهن إجمالا لا تثير في النفس سوى شعور بالتوتّر الذي لا يوصف وبالعزلة المتعبة وبالاستلاب المضني.
في إحدى لوحاته القديمة، نرى امرأة شابّة بنظرات شاحبة وهي تمسك بقطّة صغيرة من رقبتها. ورغم خلوّ تعابير المرأة من أي أثر للعدوانية أو العنف، فإن المنظر يوحي كما لو أن المرأة توشك أن تقتل القطّة خنقا.
من أشهر لوحات لوسيان فرويد هذا البورتريه الذي رسمه لنفسه في سنّ الرابعة والستّين، أي عندما كان في ذروة نضجه الفنّي. واللوحة ليست "بورتريه" شخصّيا بالمعنى المتعارف عليه، وإنما هي صورة الفنان كما تبدو منعكسة في مرآة، بحسب ما يشير إليه العنوان.
تعابير الوجه هنا صارمة، والنظرات قاسية، قلقة، ومتوتّرة مثل نمر متحفّز. إنه نفس أسلوب فرويد الذي يتّسم بالعنف والوحشية والصدمة. ومن الملاحظ أنه استخدم في اللوحة ضربات فرشاة سميكة وسكب على القماش طبقات كثيفة من الطلاء. ومن بين كتل الألوان الخام والمشبعة نلمح في الوجه آثار رضوض وندوب، كأنما يعطي الإحساس بقسوة الحياة التي لا تني تعاقبنا وتجعلنا نبدو عراة، مكشوفين، ضعفاء ووحيدين.
وفرويد يفعل هذا بواقعية شديدة وبمزاج مشبع بالوحدة والانقباض.
يقول أحد أصدقائه إن من عادة فرويد أن يرتدي في محترفه ملابس تناسب مواضيع صوره، وهو يباشر عمله في الرسم بزيّ جزّار مسلّح بالمناشير والفوط والسكاكين.
ولا يبدو الفنان مهتمّا بإظهار الجمال في أعماله إلا بقدر ما يرى في القبح والدمامة ضربا من الجمال. كما لا يعنيه أن يصوّر الجوانب الإنسانية التي تعبّر عن السعادة والأمل والنبل والتفاؤل.
ويمكن القول أن السمة الغالبة على لوحات فرويد هي كونها ذات مضامين سيكولوجية ووجودية، وهو أمر يؤهله لأن يكون رسّاما "فرويديا" حتى النخاع.
فالكثير من لوحاته مزعجة وتعطي شعورا بجدب الحياة ووحشتها وهشاشتها. وكلّ شخصية لها فضاؤها الوجودي الخاص والمستقل. وليس هناك اتصال بين الشخصيات، إذ لا أحد ينظر إلى الآخر مباشرة، ونادرا ما يعترف أحد بوجود الآخر. وفي غالب الأحيان تظهر الشخصيات كما لو أنها مشدودة إلى أسفل بفعل قوّة خفيّة وغامضة.
ومن الواضح أن فرويد يتعمّد دائما تصوير الغرف بحيث تخلو من أي أثر للتكنولوجيا أو لوازم الحياة اليومية الأخرى، وكأنها - أي الغرف – فضاءات خاصّة ومنعزلة توفر للشخوص فيها ملاذا مريحا وآمنا يحميها من فظائع وتعاسات العالم الخارجي.
مما يجدر ذكره في الختام أن فرويد يقترب اليوم من عامه السادس والثمانين. وهو أب لأربعين طفلا أنجبهم من علاقاته العابرة مع عدد من النساء من بينهن بعض "موديلاته". ومؤخّرا إبتاع مليونير روسي لوحته المسمّاة "مديرة المتجر النائمة Benefits Supervisor "Sleeping والتي تصوّر امرأة بدينة عارية بمبلغ 34 مليون دولار أمريكي. كما بيعت لوحتة الأخرى "على خُطى سيزان After Cézanne " بمبلغ ثمانية ملايين دولار.

Monday, September 01, 2008

لوحات عالميـة - 171

سيمفـونيـة الـرعـاة
للفنان الإيطالي جـورجيـونـي، 1509

يعتبر جورجيوني الرسّام الأكثر غموضا في تاريخ الفن الأوربّي. إذ لا يُعرف عنه أو عن حياته الكثير. غير أن العديد من النقاد يتفقون على أنه كان شخصية متميّزة في زمانه. وبالإضافة إلى كونه رسّاما، كان جورجيوني شاعرا وأديبا وموسيقيا وكان مقرّبا من أوساط النبلاء والعائلات الأرستقراطية في فينيسيا.
و"سيمفونية الرعاة" ليست إحدى أجمل لوحاته فحسب، بل وإحدى التحف الفنية الكبيرة التي أنتجها عصر النهضة الإيطالي. ويقال إن تيتيان، تلميذ جورجيوني وأقرب أصدقائه، أكمل رسم هذه اللوحة بعد وفاة جورجيوني المفاجئة عن عمر لا يتجاوز الرابعة والثلاثين. وليس مستغربا أن تُنسب اللوحة أحيانا الى تيتيان بالنظر الى التشابه الكبير بين أسلوب الإثنين.
موضوع اللوحة هو امتداد للفكرة اليونانية القديمة عن "أركاديا" وعن تقاليد الحياة الرعوية والريفية، حيث يتعايش الإنسان مع الطبيعة جنبا إلى جنب في وئام وانسجام. وقد بُعثت هذه الفكرة من جديد في المراحل الأخيرة من عصر النهضة وبدايات عصر الباروك.
وكان من عادة الفنانين في ذلك الوقت رسم مناظر لطبيعة مثالية تصوّر حياة الرعاة، لكنها لا تخلو من أفكار ترمز للأدب والشعر والموسيقى والربيع والجمال والحبّ والحقيقة. وغالبا ما يتم توظيف شخصيات خيالية وأسطورية مثل الآلهة والحوريّات اللاتي يظهرن إما عاريات أو مرتديات ملابس كلاسيكية.
في مقدّمة اللوحة نرى أربعة أشخاص: رجلين بملابس أنيقة وامرأتين عاريتين. الرجلان يبدوان كما لو أنهما يجريان تدريبات على الموسيقى.
وإلى اليمين تجلس إحدى المرأتين وظهرها للناظر بينما تمسك بآلة ناي. في حين تنشغل الأخرى، إلى اليسار، بملء إناء زجاجي شفاف من مياه حوض.
وثمّة احتمال بأن يكون الماء والزجاج رمزا للصفاء والنقاء اللذين ينظر إليهما كتجسيد لحقيقة الفن.
من الواضح أن الرجلين لا يهتمّان كثيرا بوجود المرأتين. وهذا يطرح سؤالا عن حقيقة وجودهما، إذ قد تكونان مجرّد صورة ذهنية، أي أنهما لا توجدان سوى في خيال الرجلين.
وربّما أرادهما الرسّام رمزا للإلهام أو الإبداع. وقد يكون حضورهما في اللوحة استدعاءً لبعض الأساطير القديمة التي تتحدّث عن الحوريات اللاتي يجتذبهن سحر الموسيقى وجمال الأنغام.
في المشهد ليس هناك ما يدلّ على حوار أو تبادل للكلام. والاتصال بين الشخصيات الأربع يتم فقط من خلال الموسيقى والعزف.
وفي خلفية اللوحة نرى راعيا بمعيّة قطيعه ومنزلا يقوم على ربوة تعلوها سماء غائمة.
ورغم غموض هذه اللوحة فإنها تروق للعين والمشاعر. فالألوان فيها دافئة والأضواء ناعمة. ومن الواضح أن جورجيوني لا يعير اهتماما كبيرا بالخطوط بل يركّز على مناطق اللون. كما أن المنظر الضبابي للتلال في الخلفية يعطي المشهد عمقا، ما يذكّرنا بمناظر دافنشي الحالمة.
ومن التفاصيل الأخرى التي تجذب الانتباه في اللوحة أسلوب الرسّام المتفرّد في تمثيل الأضواء الذهبية المشعّة وفي تعامله مع عنصري الضوء والظل.
ويمكن القول إن "سيمفونية الرعاة" نموذج لمناظر عصر النهضة التي تصوّر أجواءً رعوية حالمة لا تخلو أحيانا من إحساس بالحزن والتوق الممزوج بشيء من الغموض والشاعرية.
والمتمعّن في تفاصيل اللوحة لا بدّ وأن يتذكّر لوحة مانيه المشهورة غداء على العشب Manet's Luncheon on the Grass، التي قد يكون الفنان الفرنسي رسمها وفي ذهنه لوحة جورجيوني.
كان جورجيوني مشهورا بوسامته اللافتة وحضوره الطاغي. وقد تتلمذ على يد بلليني وكان الاثنان، بالإضافة إلى تيتيان، يمثلون نخبة رسّامي فينيسيا في نهايات القرن الخامس عشر وبدايات السادس عشر.
ويعتبر كتاب جورجيوني للكاتب هيربرت كوك من بين أفضل المراجع التي تتحدّث عن حياة وأعمال هذا الفنان وتسلّط الضوء على إسهامات فينيسيا في فنّ عصر النهضة الإيطالي.

Thursday, August 28, 2008

لوحات عالميـة - 170

طفل الجيوبوليتيك يراقب ولادة الإنسان الجديد
للفنان الإسباني سلفـادور دالــي، 1943

إثر اندلاع الحرب العالمية الثانية هرب الكثر من الفنانين والأدباء الأوربّيين الى الولايات المتحدة الامريكية. وكان لـ سلفادور دالي سبب آخر في اختياره الهجرة يتمثل في الآثار المأساوية التي نتجت عن الحرب الأهلية الاسبانية.
وقد أقام دالي بصحبة زوجته غالا في نيويورك لمدّة ثمان سنوات. وأثناء مكوثه هناك تعرّف عليه الأمريكيون أكثر من خلال المعارض العديدة التي أقامها، وبالتالي أصبح اسمه أكثر شهرة وذيوعا.
وفي نيويورك رسم الفنان هذه اللوحة التي اختار لها اسما طويلا وغريبا: طفل الجيوبوليتيك يراقب ولادة الانسان الجديد". واستخدام مفردة "الجيوبوليتيك" في العنوان له دلالة خاصّة، فهي تشير ضمناً إلى النزعة الاستعمارية والهيمنة السياسية والعسكرية.
في اللوحة نرى بيضة ضخمة تأخذ شكل الأرض. وداخل البيضة هناك ما يفترض أنه طفل "هو في الواقع أقرب ما يكون للرجل" وهو يشقّ طريقه بعنف للخروج من البيضة تاركا وراءه خيطا سميكا من الدم.
وعلى يمين اللوحة تقف امرأة وهي تشير بيدها إلى الحدث المتجلي أمامها، فيما يتشبّث بساقيها طفل راح يراقب المشهد بهلع وذهول.
ومما يلفت الانتباه في اللوحة أن الرجل الخارج من البيضة يطبق بقبضته على ما يفترض أنه أوربّا، وإنجلترا على وجه الخصوص، في الخارطة.
ترى هل أراد دالي من خلال اللوحة التعبير عن وجهة نظر سياسية تجاه صعود نجم الولايات المتحدة بعد انتصارها مع الحلفاء في الحرب العالمية الثانية؟
إن العنف الذي يرافق عملية الولادة في اللوحة والشراسة التي يبديها الطفل في سعيه للخروج وكأنه لا يأبه بتمزيق العالم في محاولته تلك، قد يكون تعبيرا عن توجّس دالي ونظرته غير المطمئنة إلى ظهور أمريكا كقوّة عظمى جديدة في العالم.
فالدم هو رمز لويلات الحرب التي عزّزت مكانة أمريكا ودفعت بها إلى الواجهة. والقبضة المطبقة على أوربّا تشي بهيمنة الوليد الجديد مستقبلا على حلفاء اليوم.
ويلاحظ أيضا أن دالي عمد إلى تضخيم قارة أفريقيا وكأنه يشير إلى الدور المتعاظم الذي ينتظر أن يلعبه العالم الثالث في السياسة الدولية.
من الواضح أن "طفل الجيوبوليتيك" مختلفة كثيرا عن غالبية لوحات دالي التي تتسم بسورياليتها وغموضها الشديد. فمضمون هذه اللوحة واضح إلى حدّ كبير، وهي تعود للمرحلة الكلاسيكية التي أنجز خلالها الفنان لوحات استمدّ موضوعاتها من التراث الاسباني ومن الرموز الدينية والأحداث والتطوّرات السياسية.
المرأة في اللوحة قد تكون رمزا للأمّ الطبيعية أي الأرض، لكنها لا تفعل شيئا حيال ما يجري سوى الانتظار. أما الطفل فربّما أراده دالي أن يكون رمزا للجماعات الإنسانية الأخرى والثقافات المتنوّعة التي تتمسّك بالأرض خوفا مما قد يحمله المستقبل من نذر ومخاطر نتيجة ولادة الطفل العنيف.
في وسط المشهد نرى ما يشبه المظلة، لكن من غير المتيسّر معرفة وظيفتها أو إلى ماذا ترمز. كما أن من المتعذّر معرفة السبب الذي دفع الرسّام إلى جعل ظل الطفل أطول من ظلّ المرأة في اللوحة.
بالنسبة لـ دالي، كان لحادثة إسقاط الامريكيين القنابل النووية على اليابان أثر مهم في دفعه لاستكشاف طرق وأساليب فنية جديدة. ويقال انه كان مفتونا بقوّة الذرة وقدرتها التدميرية الهائلة وبالتطوّر الذي حققته العلوم الحديثة وخاصّة الفيزياء.
وفي تلك الفترة بدأ في استخدام اسلوب جديد أطلق عليه "الغموض النووي" ومزج فيه بين عناصر علمية وأخرى غامضة ليعبّر من خلاله عن ما كان يسمّيه بـ "القوّة المقدّسة".
"طفل الجيوبوليتيك" لوحة مثيرة للتفكير والتأمّل. وهي تحتمل أكثر من معنى. وقد قيل في بعض الأحيان إن الرجل الخارج من البيضة يمثل روح العصر الجديد أو الإنسان الجديد.
بعض الأوربيين، مثلا، كانوا يرون أن الحرب العالمية الثانية كانت نقطة تحوّل كبرى في المسيرة الإنسانية وفي طبيعة النظام الذي يحكم العالم. فقد فتحت الحرب الأعين على مساوئ النظام العالمي الذي كان سائدا آنذاك والذي انكسر وانهار بفعل الحرب. وكان ثمّة مفكرون وفلاسفة كثر يبشّرون بقرب ولادة الإنسان الحديث الذي سينهض من رماد الحرب ليتولى المسئولية السياسية والأخلاقية عن العالم فيصلح أوضاعه ويرمّم العلاقة بين أطرافه المتنافرة وصولا الى مرحلة يعمّ فيها السلام والاستقرار بدلا من التوتّرات والحروب.

Monday, June 02, 2008

لوحات عالميـة - 169

حــبّ متجـمّـد
للفنان الفرنسي جـان بـول ايفيـس، 1980

بعض الأعمال التشكيلية تألفها العين وترتاح لها النفس بصرف النظر عن قيمتها الفنية أو الإبداعية. وهذه اللوحة مثال على ذلك.
وهي تعبّر عن رؤيا أو عن حالة ذهنية تأخذ الناظر إلى عالم خفي لم يسبق لأحد أن ارتاده وربّما لا نراه إلا في الأحلام أو حالات اللاوعي.
واللوحة مألوفة إلى حدّ كبير. وكثيرا ما تستهوي المواقع المخصّصة للأدب والشعر. وهي تنتمي إلى ما يسمّى بالرسم الرؤيوي، وهو جنس من الفن يحاول فيه الرسّام أن يرتفع فوق العالم الملموس والمشاهَد لكي يقدّم رؤيا أوسع للوعي مستمدّة من خبراته الذاتية؛ العاطفية والروحية والسيكولوجية والصوفية وغيرها.
في اللوحة نرى امرأة تجلس وحيدة على ما يشبه أطلال قلعة قديمة، في طقس توحّدي مع الطبيعة.
نظرات المرأة المستغرقة وتعابير وجهها تعطي انطباعا هو مزيج من التوق والانتظار والحزن. قد تكون بانتظار حبيب أو قريب أمعن في الغياب. وقد تكون المرأة جاءت إلى هذا المكان المثلج البارد كي تتلمس في رحاب الطبيعة ما يسلي النفس وينسيها مرارة تجربة حبّ قديم أو علاقة ما لم تكتمل.
التباين قوي ما بين الهيئة العصرية للمرأة وشكل المعابد والأعمدة التي ترمز لماضٍ موغل في القدم. وقد يكون الرسّام أراد من هذه المفارقة أن يوحي بأن ما يعتري الإنسان من مشاعر الفقد والحنين والحزن وغيرها من الأحاسيس المختلفة لها صفة أزلية وسرمدية لا تتأثر بتقادم الزمن أو تغيّر الظروف.
والطبيعة في اللوحة فانتازية إلى حدّ كبير. لكنها تظلّ هي الطبيعة التي تمنح - برحابتها وغموضها - الإنسان شيئا من العزاء وتوفر له وعدا بحياة جديدة تنبثق فيها شمس الأمل من جديد مبدّدةً بأشعتها سحائب اليأس والعتمة لتلتئم جراح النفس وتستعيد معها الروح بعضا من توازنها وهدوئها.
الألوان هنا جميلة ومتناسقة، والمنظر نفسه شاعري بامتياز. ولا يقلل من شاعريّته حقيقة أن طريقة لباس المرأة، التي تظهر عارية الصدر والكتفين، لا تتناسب كثيرا مع الطبيعة الثلجية والجوّ البارد.
كما لا يقلل من جمال اللوحة احتمال أن يكون الفنان قد وظف بعض تقنيات التصوير الرقمي والغرافيكس في رسم بعض تفاصيلها وأجزائها.
جان بول ايفيس رسّام فرنسي علّم نفسه بنفسه وأقام عدّة معارض في اليابان وأمريكا الشمالية وسويسرا. وقد أصبح اسماً معروفاً في أوساط الفن التشكيلي العالمي منذ العام 1990، أي بعد أن عرض بعض أعماله في غاليري بريستيج للفنّ بشيكاغو. وتكثر في لوحاته صور لنساء، وطيور، وورود، وفراشات، وغابات، وستائر ملوّنة، وأزهار لوتس، وكُرات كريستال، وساعات مفكّكة ومتناثرة قد تكون رمزا لسيولة الوقت ونسبية الزمن.
يقال أحيانا إن الفن الرؤيوي هو طريق الفنان للبحث عن رؤى ذاتية؛ باطنية وذهنية وبدائية، يعبّر عنها باستخدام لغة بصرية تعينه على رؤية ما لا يراه في الواقع.
وفي لوحات الفنانين الرؤيويين غالبا ما نرى صورا لممرّات غامضة، ومتاهات، وانكسارت ضوء، وطبيعة داخلية، وأقنعة، وهالات نور، وصخور، ومعابد، وطقوس سحر، وملائكة، وشياطين، وأطلال وبقايا حضارات سادت ثم بادت.. إلى آخره.
كما تتمحور لوحاتهم حول مواضيع وثيمات محدّدة مثل الجنّة والنار، والموت، والبعث، ورحلة ما بعد الحياة، والأبطال القدامى، والمستقبل البعيد، والماضي السحيق، والمخلوقات الأسطورية، والأماكن النائية والغامضة إلى غير ذلك.
ومن أشهر فنّاني الرؤيا القدامى وليام بليك وغوستاف مورو.
أما الرؤيويون المعاصرون فكثيرون، ومن أبرزهم مايكل فوكس Michael Fuchs، وأليكس غري، وبريجيد مارلين Brigid Marlin، وروجر غارلاند، وجوزيفين وول Josephine Wall، وجيفري بيدريك، واندرو غونزاليس Andrew Gonzales، ومحمود فارشجيان Mahmoud Farshchian، وكيرك راينارت Kirk Reinert، وجوناثان باوزر، وغيلبيرت وليامز Gilbert Williams، وكريستوف فيشر Christophe Vacher، وجيك باديلي Jake Baddeley، وفريدون رسولي Freydoon Rassouli وغيرهم.

موضوع ذو صلة: جماليات الفنّ الرقمي

Tuesday, May 27, 2008

لوحات عالميـة - 168

امـرأة تقـرأ كتاباً قـرب نافـذة
للفنان الفرنسي ديلفـن اونجولرا، 1901

كان ديلفن اونجولرا رسّاما أكاديمياً وتلميذاً لـ جان ليون جيروم. ومع ذلك لا يكاد يتذكّره اليوم أحد. بل ربّما لم يسمع باسمه الكثيرون. غير أنه ما أن يُذكر اسمه حتى تتبادر إلى الذهن هذه اللوحة التي تعتبر، ليس فقط من أجمل لوحات اونجولرا؛ وإنما أيضاً من أفضل الأعمال التشكيلية التي أنتجها الرسم الغربي عن فكرة "المرأة القارئة".
في اللوحة نرى امرأة شابّة تجلس على كرسي وتقرأ كتاباً أمام نافذة مفتوحة بينما ارتدت فستاناً زهرياً بأكمام قصيرة يتخلله وشاح طويل منسدل على الأرض. وإلى جوار النافذة هناك مزهرية ضخمة وُضعت فوق طاولة.
المرأة تبدو في حالة استغراق داخلي وعزلة عن العالم الخارجي، وتركيزها منصبّ كليّة على قراءة الكتاب وتعابيرها الهادئة والمسترخية ربّما تشي بأنها تقرأ كتاباً خفيفاً.
هذا المشهد لا يخلو من نعومة ورقّة وهو يذكّرنا إلى حدّ كبير بمناظر رينوار المليئة بالألوان الزاهية والتفاصيل المبهجة والأضواء المتوهّجة.
اونجولرا كانت له رؤيته الخاصّة عن الحياة وعن الأنوثة بشكل خاص. ولوحاته في معظمها تصوّر عالما من الجمال والسحر والجاذبية لكنها تخلو من الأفكار والانفعالات العميقة والمركّبة. وقد كان مهتمّاً في الأساس بتصوير أوضاع ومزاج الطبقة البورجوازية في زمانه. وكان يميل إلى رسم نساء أنيقات وهنّ منهمكات في القيام بأنشطة منزلية مختلفة مثل القراءة والخياطة وتنسيق الزهور. وغالباً ما تظهر نساؤه بالقرب من مصباح أو نافذة.
أكثر ما يلفت الانتباه في هذه اللوحة براعة اونجولرا في استخدام لمسات الفرشاة الناعمة واختيار ألوان دافئة ومتناسقة لدرجة انه يُخيّل للناظر أن الشخصية تكاد تذوب في الألوان المشبعة وفي تفاصيل الديكور من سجاد وستائر وخلافه.
وبعض لوحات الفنان الأخرى تصوّر نساءً عاريات ضمن توليفات ديكورية تتسم بحيويتها وشاعريتها وبألوانها الباذخة والأنيقة.
"المرأة القارئة" ثيمة تتكرّر كثيراً في الرسم الأوربّي والغربي عامّة كرمز لقدرة المرأة على التفكير وتثقيف الذات والمشاركة في إعادة تشكيل الحياة والتأثير الفاعل في المجتمع. ومع ذلك، كثيرا ما قدّمت الفكرة في إطار رومانسي وأحيانا حسّي.
وبالإضافة إلى أن الفكرة توضّح أهميّة الكتاب ومكانته في التاريخ البصري إجمالاً، فإنه يمكن اعتبارها سجلاً أو تأريخاً يوثق جانباً من مسيرة المرأة ونضالها في كسر القيود الضيّقة للحياة المنزلية ومحاولة الخروج إلى العالم الأوسع من اجل اكتساب المعرفة وتحقيق الذات في مجتمع يخضع تقليديا لسيطرة الرجل.
وبما أن الحديث عن فكرة المرأة والقراءة، تحسن الإشارة في الختام إلى لوحتين أخريين عن نفس الموضوع لا تقلان أهمّيةً في جمالهما وقوّتهما التعبيرية؛ الأولى: في بستان البرتقال لـ تشارلز بيروجيني Charles Perugini's In the Orangery، والثانية: امرأة تقرأ رسالة عند نافذة مفتوحة لـ يان فيرمير Jan Vermeer's Girl Reading a Letter at an Open Window.
كما استهوت الفكرة رسّامين آخرين مثل فراغونار وبيكاسو ومانيه وميري كاسات وغيرهم.

Wednesday, May 21, 2008

لوحات عالميـة - 167

رجـلان يتـأمّـلان القمــر
للفنان الألماني كاسبـار ديفيـد فريـدريش، 1830

يمكن اعتباره هذه اللوحة نموذجاً لعالم فريدريش المسكون بحبّ الطبيعة لدرجة التقديس وبالميل للروحانية والتأمّل. وفيها نرى رجلين يرتديان ملابس سكّان المدن ويقفان بمحاذاة الطريق ويحدّقان في ضوء القمر الذي يلقي بوهجه الأرجواني على المكان. بينما بدت إلى اليمين شجرة سنديان ضخمة بأفرع أشبه ما تكون بمخالب كائن خرافي متحفّز للانقضاض والإطباق على فريسة.
المشهد يصوّر رفقة غامضة بين شخصين "أحدهما هو الرسّام نفسه والآخر أحد تلاميذه" من جهة، وبين الطبيعة من جهة أخرى. لكنه أيضا ينطوي على دعوة ضمنية للناظر لكي يدخل في الحالة المزاجية والشعورية ويتأمّل الأفق اللامتناهي ويستمتع بمشاهدة الحضور المسيطر والطاغي للقمر. ويقال إن سامويل بيكيت، الروائي والمسرحي الايرلندي، وقف مبهوراً أمام هذه اللوحة وهو يشاهدها للمرّة الأولى وأنه استوحى من أجوائها فكرة مسرحيّته المشهورة "بانتظار غودو".
فرديدريش، الذي يمثل مع غوته وبيتهوفن أضلاع مثلّث الرومانسية الألمانية، معروف بمناظره ذات القوّة الانفعالية الكبيرة والمضامين الصوفية والشاعرية التي تصوّر علاقة الإنسان بالطبيعة وقواها الروحية الغامضة.
وقد كان الفنان مفتوناً كثيراً بالقمر الذي ارتبط في عصر الرومانسية الأوربّي بالقصص الفولكلورية والأساطير وبالسحر والتوق والتأمّل الحزين وبحالات ما دون الوعي وبالخصوبة والأشباح، إلى غير ذلك من التصوّرات والانفعالات المختلفة والمتباينة.
وعندما حلّ عصر التنوير اكتسب القمر دلالات مغايرة فنُزع عنه الغموض نهائيا وفقدت صورته الرومانسية الكثير من سحرها وجاذبيتها مع ظهور الأفكار العقلانية والعلمية.
في ذلك العصر كان الرسّامون، ومنهم فريدريش، يركّزون على رسم الطبيعة باعتبارها عنصرا غامضاً ولا مبالياً ويتعذّر التنبؤ بما تفعل ناهيك عن استحالة السيطرة عليها أو ترويضها.
وسادت وقتها أفكار التصوّف وخواء الإنسان وعبثية الوجود وغير ذلك من التصوّرات النفسية المتشائمة والمظلمة. وكان الأدباء والرسّامون والشعراء يكثرون من الحديث عن القمر والليل والأحلام والعزلة والأرواح باعتبارها أكثر أهميّة من الشمس والنهار والنور وغيرها من الرموز التي تشير إلى الإدراك والتفكير الواعي والعقلاني.
ووجد الكثير من هؤلاء طريقهم إلى الغابات الواسعة وأحضان الجبال ومساقط الأنهار والشلالات يمارسون في رحابها التأمّل والعزلة والصلاة قرب أضرحة الرهبان والنسّاك والقدّيسين. وكانوا يرون أن ذلك يقرّبهم من الله أكثر من تعبّدهم في الكنائس والكاثدرائيات "التي لوّثها سخام المدن ونفاق رجال الدين"، على حدّ تعبير الفنان والفيلسوف وليام بليك الذي تجمعه بـ فريدريش نقاط شبه كثيرة.
لكن مع مجيء عصر التنوير تغيّرت الصورة وراجت الأفكار التي تتحدّث عن سيطرة الإنسان على الطبيعة وحتمية انتصار العقل على العاطفة والخرافة في النهاية.
ولـ فريدريش أكثر من لوحة يمكن اعتبارها تنويعاً على نفس فكرة هذه اللوحة. فالشخوص فيها لا يزيدون على اثنين في الغالب. وهما دائماً يعطيان ظهريهما للناظر ويبدوان كما لو أنهما يخطوان خارج الحيّز المكاني الذي يقفان فيه، أو كأنهما يبحثان عن شيء ناء لا يمكن بلوغه ويتبادلان حديثاً أشبه ما يكون بحديث الأرواح. هذا بالإضافة طبعاً إلى الحضور الدائم للقمر وأشجار السنديان وكذلك الأفق الذي يتعمّد الفنان جعله منخفضاً بشكل غير مألوف لإبراز قرب السماء وسيطرتها.
توفي فريدريش بعد عشر سنوات من رسمه هذه اللوحة، وقد مات فقيراً، وحيداً ومريضاً.
ولأنه لم يكن يملك مالا يسدّد به نفقات علاجه، فقد وهب هذه اللوحة لطبيبه الذي عالجه وقام على رعايته في الأيّام الأخيرة من حياته. وقد انتقلت اللوحة من مالك لآخر إلى أن استقرّت أخيرا في متحف المتروبوليتان بنيويورك.

موضوع ذو صلة: مراحل الحياة

Wednesday, May 14, 2008

لوحات عالميـة - 166

السيّــدة الخضــراء
للفنان الروسي فلاديميـر تريتشيكـوف، 1950

وصف بعض النقاد هذه اللوحة بالمملة والسخيفة. وقال عنها البعض الآخر إنها لا تجلب للناظر أيّة متعة بالنظر إلى فقرها وضعفها من حيث الشكل والمضمون.
ومع ذلك، لم يمضِ وقت طويل حتى أصبحت "السيّدة الخضراء" اللوحة الأكثر مبيعاً وشعبيةً في القرن العشرين. إذ يُقدّر عدد النسخ التي بيعت منها بأكثر من خمسة ملايين نسخة، وهو رقم قياسي لم يحققه حتى بيكاسو أو فان غوخ.
وطوال ستّينات وسبعينات القرن الماضي أصبحت اللوحة عنصراً ثابتاً في الكثير من البيوت في أوربّا وأمريكا، كما ظهرت في أكثر من فيلم سينمائي. وأصبح تريتشيكوف الذي لم يكن أحد قد سمع به من قبل شخصية مشهورة جدّاً بسبب لوحته الغامضة. بل لقد قيل في بعض الأوقات انه ثاني أكثر الرسّامين شعبيةً في العالم بعد بيكاسو.
وفي التسعينات تجدّدت شعبية اللوحة مرّة أخرى. لكن انقسام النقاد حول الفنان وقيمة اللوحة ظلّ على حاله.
في اللوحة نرى امرأة صينية (ويقال إنها من الملايو) بشعر اسود فاحم وفستان بُنّي له ياقة واسعة مذهّبة وهي تنظر إلى جنب وتضع يداً فوق يد. اسم المرأة "لينكا" وكان الرسّام قد تعرّف عليها أثناء إقامته في جاكرتا زمن الحرب العالمية الثانية، أي عام 1943م. وكانت المرأة في ذلك الوقت متزوّجة من طبيب هولندي لكن يظهر أنها لم تكن سعيدة معه. لذا لم تلبث أن وقعت في غرام تريتشيكوف وأصبحت عشيقته.
وربّما يعود احد أسباب شهرة اللوحة وشعبيتها الكبيرة إلى الطريقة الغريبة التي رُسم بها وجه المرأة الذي اختار له الرسّام لوناً غير مألوف هو مزيج من الأزرق والأخضر "ومن هنا جاء اسم اللوحة". أما تعابير الوجه فتبدو غامضة وإن كانت الملامح بشكل عام تعطي انطباعاً عن امرأة جريئة ومتحرّرة.
ولم يكن مستغرباً أن يعتبر بعض النقاد تريتشيكوف رسّاماً طليعياً ورائداً لما عُرف بعد ذلك بالرسم الشعبي. ومن عباءته خرج في ما بعد اندي وارهول وروي ليكتنشتاين وغيرهما.
وقد تكون جاذبية اسم اللوحة، نفسه، سبباً آخر في شعبيّتها ورواجها. والكثيرون ممن راقت لهم، وجلّهم من أبناء الطبقة العاملة ومن الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، كانوا في الأساس شغوفين بحضارة الصين وجنوبي شرقي آسيا وكانوا يرون في المرأة رمزاً لعالم غرائبي وغامض طالما تاقوا لزيارته والوقوف على معالمه لولا أن وسائل الاتصال في ذلك الوقت كانت بسيطة وقاصرة عن تحقيق ذلك الهدف.
وثمّة من يقول إن هجوم النقاد على اللوحة كان عاملاً مهمّاً في تحفيز الناس أكثر على شرائها واقتنائها. فالفكرة الشائعة عن النقاد أن كثيراً منهم نخبويون وانتقائيون بطبعهم. وقد درج بعضهم على اعتبار أن شعبية عمل فني ما ليست بالضرورة معياراً ولا دليلاً على جودته أو قيمته الإبداعية.
ولد تريتشيكوف في كازاخستان عام 1913 ، ولما اندلعت الثورة البولشفية انتقلت عائلته إلى الصين. وقد عاش حياة اتّسمت بالترحال وعدم الاستقرار. ومواضيع لوحاته استلهمها من تجربته في العيش في الصين وماليزيا وإندونيسيا وجنوب أفريقيا.
ومن المؤكّد أن هذه اللوحة جعلته غنياً جدّا فعاش حياة بوهيمية ومترفة. لكنه ظلّ دائما إنساناً بسيطاً ومتواضعاً. ولطالما عبّر عن احتقاره وكراهيته للحياة في ظل الأنظمة الماركسية والشمولية.
قضى تريتشيكوف السنوات الأخيرة من حياته يعاني المرض والوحدة في دار للرعاية بجنوب أفريقيا إلى أن توفي قبل سنتين عن 92 عاما.
أما لينكا أو "السيّدة الخضراء" فتعيش منذ سنوات في مدينة هيلفرسوم الهولندية وعمرها اليوم يربو على التسعين.

Wednesday, May 07, 2008

لوحات عالميـة - 165

بـورتـريـه مــوزارت
للفنانة باربـرا كـرافــت، 1819

أصبح هذا البورتريه منذ إتمامه قبل حوالي مائتي عام أشهر لوحة تصوّر وولفغانغ اماديوس موزارت، احد أشهر المؤلفين الموسيقيين الكلاسيكيين وأكثرهم إنتاجا وتميّزا.
ورغم أن البورتريه رُسم بعد وفاة الموسيقي المشهور بحوالي 18 عاما، فإنه - بشهادة من عرفوا موزارت عن قرب - ينقل ملامحه بشكل دقيق جدّا.
وعلى مرّ سنين طويلة، ظهرت هذه الصورة على أغلفة عشرات الكتب التي تتحدّث عن حياة موزارت وموسيقاه وأشهرها كتاب آرثر هتشينغز: "موزارت الرجل والموسيقيّ". كما ظهرت على أغلفة عدد كبير جدّا من الكاسيتات والأقراص المدمجة التي تتضمّن أعمال موزارت الموسيقية.
الغريب أن رواج هذا البورتريه وشهرته الواسعة جاء على حساب الفنانة التي رسمته، إذ لا احد يعرف اليوم شيئا عن باربرا كرافت ولا عن حياتها أو أعمالها الأخرى. غير أن اسمها ربّما يوحي بأنها ألمانية أو نمساوية.
في البورتريه نرى موزارت بوجه شاحب وقوام هزيل وعينين واسعتين زرقاوين ومتوهّجتين. وهو هنا يبدو بمزاج مرتاح نسبيا وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة يخالطها مسحة حزن..
في اللوحة أيضا يرتدي موزارت باروكة بظفيرتين ضخمتين على جانبي الرأس من الطراز الذي كان يستخدمه الموسيقيون في الحفلات الرسمية، بالإضافة إلى جاكيت بلون أحمر طرّزت حوافّه بالذهب.
ويقال إن موزارت كان شديد الشبه بوالدته، خاصّة فمه وعينيه وانفه التي تبدو ناتئة قليلا في منتصفها. وثمّة من يقول إن شقيقة الفنان هي التي أعطت باربرا كرافت أوصافه. كما اعتمدت الرسّامة على صورة قديمة لموزارت يظهر فيها جالسا إلى البيانو برفقة والده وأخته.
النقاد اعتبروا هذا البورتريه دائما عملا تشكيليا خاصّا ومتميّزا يبدو فيه الموسيقي بهيئة رسمية ونظرات متأمّلة تنم عن ذكاء صاحبه وعبقريته.
موزارت يعتبر اليوم احد أكثر رموز الموسيقى الكلاسيكية شعبية وانتشارا. ومن دلائل عبقريته المبكّرة انه كتب أولى سيمفونياته وهو في سنّ الثامنة. ورغم انه توفي وعمره لا يتجاوز الخامسة والثلاثين فقد ترك أكثر من 600 قطعة موسيقية ما بين كونشيرتو وسيمفونية وأوبرا وسوناتا.. إلى آخره.
وبعد وفاته راجت نظريات كثيرة ومتناقضة تفسّر حادث موته المفاجئ والغامض. ومؤخّرا توصّل فريق من الأطباء والمؤرّخين إلى استنتاج مؤدّاه أن موزارت مات جرّاء إصابته بالحمّى الروماتيزمية "وهو مرض يعالج اليوم بالقليل من المضادّات الحيوية". كما استنتجوا أن لا صحّة لنظريات المؤامرة التي تحدّثت عن مقتل موزارت بالسم على يد منافسه الموسيقار الايطالي انتونيو سالييري.
وفي وقت سابق من هذه السنة تواترت أنباء عن العثور على لوحة نادرة أخرى لموزارت قيل إنها رّسمت له في سنّ السابعة والعشرين، أي عندما كان في ذروة صعوده وشهرته.
وقد ظلت اللوحة الأخيرة في عهدة أجيال من عائلة احد أصدقاء والد موزارت الذي كان احد كبار ملاك الأراضي في سالزبورغ إلى أن ابتاعها في شهر مارس الماضي مليونير أمريكي لم يُكشف النقاب عن اسمه ولا عن الثمن الذي دفعه مقابل اللوحة.
في ثمانينات القرن الماضي، ساد العالم ما يشبه حالة الهوس بموزارت والشغف بموسيقاه في أعقاب ظهور فيلم اماديوس للمخرج التشيكي ميلوش فورمان. وفي عام 1991 تكرّست صورة موزارت، أكثر، باعتباره ظاهرة ثقافية عالمية مع احتفال العالم بمرور مائتي عام على مولده.
توفي موزارت في فيينا يوم الخامس من ديسمبر عام 1791 بينما كان ما يزال يعكف على كتابة نشيده الجنائزي. ويقال انه مات فقيرا ومنسيا ولم يسِرْ في جنازته سوى عدد قليل من الناس قبل أن يوارى الثرى في قبر ما يزال إلى اليوم مجهولا.

موضوع ذو صلة: جدلية العلاقة بين الرسم والموسيقى

Wednesday, March 26, 2008

لوحات عالميـة - 164

لاسكــابيـليـاتــا أو رأس أنثــى
للفنان الإيطالي ليــونــاردو دافـنـشـي، 1508

رسم دافنشي هذه اللوحة بعد عشرين عاما من إتمامه "العشاء الأخير".
وفيها نرى مثالا آخر للكيفية التي كان ليوناردو ينظر بها إلى جمال الأنثى. وهو هنا يحاول إبراز جمال الروح والنفس والتقاط الحالة الداخلية؛ الإنسانية والروحية التي تميّز الشخصية.
المرأة في اللوحة غير معروفة، لكن هناك من النقّاد من يرجّح أن تكون إحدى "المادونات" الكثيرة التي رسمها دافنشي في أكثر من لوحة.
ومما يجذب الانتباه في تفاصيل هذا العمل إجادة الرسّام تمثيل شعر المرأة الذي يبدو غير مرتّب، والنظرة المفكّرة والمتأمّلة التي تعمّقها وضعية الرأس المحني إلى أسفل.
ثم هناك تقاطيع الوجه التي تشي بنوع من الجمال النبيل المفعم بقدر غير قليل من البساطة والرّقة.
هذا البورتريه لا يختلف كثيرا عن بقيّة أعمال دافنشي التي رسم فيها نساءً. فالملامح الفيزيائية تكاد تكون واحدة تقريبا وهي سمة تختصر مفهوم الفنان الخاص عن الجمال الأنثوي خلال عصر النهضة الايطالي. فالأنف دقيق وحادّ والشفاه رقيقة والجبين عريض وناتئ قليلا، بالإضافة طبعا إلى المسحة التأمّلية الهادئة والبسمة الخفيفة والغامضة.
في العديد من بورتريهات ليوناردو نلمس حضورا قويا للنساء، وقد كانت له فلسفته الخاصّة عن المرأة إذ كان يرى أنها كائن عاقل وأنها من الناحية البيولوجية والفكرية مكافئة للرجل. وكانت أفكاره تلك تشكّل تحدّيا لأعراف المجتمع الأبوي آنذاك الذي لم يكن يعترف بأيّ دور للنساء في السياسة أو المجتمع.
"لاسكابيلياتا" دافنشي كانت وما تزال تثير اهتمام الكثير من النقاد ومؤرخي الفن.
وبعضهم يرجّح أن يكون دافنشي رسمها كي يعكس من خلالها تأمّلاته حول تجاربه عندما كان شابا.
كما أن الطابع التأمّلي العميق في اللوحة دفع نقّادا آخرين للقول إنها أكثر أعمال الفنان تسامياً ونبلا. بل إن البعض يذهب إلى القول إنها أكثر سموّاً حتى من الموناليزا. وقد رسمها ليوناردو بطريقة احترافية بارعة تؤهلها لان تعمّر طويلا متحدّية كلّ عوامل النسيان والتقادم.
الجدير بالذكر أن هذه اللوحة اكتسبت شعبية جماهيرية إضافية عام 1998 عندما وظّفت في الفيلم السينمائي المشهور Ever After الذي تظهر فيه بطلة الفيلم درو باريمور في بورتريه تتّخذ فيه شكل ووضعية المرأة في بورتريه دافنشي.

موضوع ذو صلة: ليوناردو في فرنسا

Wednesday, March 19, 2008

لوحات عالميـة - 163

الفضـائـل الثــلاث
للفنانة الفرنسيـة إلـسـي راســـل، 1993

في الأساطير اليونانية القديمة، كانت الفضائل الثلاث، أغايا ويوفروزين وثاليا، بناتا للإله زيوس وابنة البحر اورينوم. وكنّ يرمزن، على التوالي، إلى السعادة والفضيلة والجمال.
كان حضورهن معا في الحفلات والمآدب وغيرها من المناسبات أمرا ضروريا، إذ كنّ يدخلن السعادة والسرور على قلوب ضيوف أبيهن كبير الآلهة بما أوتينه من مهارة في الرقص والغناء وسرد الحكايات الطريفة والقصص المشوّقة.
بالنسبة للفنّانين المغرمين برسم موضوعات تاريخية، كانت "الفضائل الثلاث" من المواضيع الجذّابة والمفضّلة. وُيذكر أن أوّل من أتى على ذكرهن كان الفيلسوف الإغريقي كريسيبوس الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد.
هذه اللوحة الجميلة تقدّم صورة نموذجية عن رؤية الفن والأدب لهذه الأسطورة. إذ نرى فيها ثلاث فتيات شبه عاريات وهنّ يؤدّين رقصة طقوسية في ما يشبه الدائرة.
التوليف في اللوحة يتّسم بديناميكية ملحوظة، وانثناء الأجساد وتأرجح الأقدام والأيدي واتّساق حركتها يخلق إيقاعا لا يخلو من تناغم وموسيقيّة.
مما يلفت الانتباه أيضا في اللوحة الطبيعة الأثيرية والحالمة التي اختارتها الفنانة كخلفية للمشهد، وفيها إحساس قويّ بالأزلية والخلود.
هناك أيضا منظر الفتاة التي في الوسط، إذ توحي الطريقة التي ُرسم بها قوامها أننا إزاء رجل لا امرأة. ثم هناك الكرة التي تمسك بها الفتيات الثلاث والتي قد تكون رمزا للكون، أو ربّما إلى التجربة الإنسانية التي تتوحّد مع العالم الأكثر رحابة؛ مع الروح المبدعة التي تدلّ على الإله الواحد الأكبر.
تذكر الأساطير أن الفضائل الثلاث ُعهد إليهن بالاهتمام بآلهتي الحب ايروس وأفرودايت.
وكثيرا ما كنّ يغنّين للآلهة على قمّة جبل الأوليمب. وكنّ أيضا يلعبن دور الملهمات. إذ بفضل تشجيعهن ورعايتهن للفنون والأدب، أنجز الشعراء والفنّانون أجمل أعمالهم الإبداعية على الإطلاق.
المشهد الذي تنقله اللوحة لا يخلو من مسحة حسّية. ومن الواضح أن النزعة الهيلينستية حوّلت ما كان يوما مجرّد ثلاث شقيقات خجولات يرتدين ملابس محتشمة وبسيطة ويرمزن لكل ما هو نقي وبريء إلى عرض ايروتيكي.
وعبر العصور المتعاقبة، كثيرا ما استخدم الرسّامون الأسطورة كذريعة لرسم نساء عاريات أو لتصوير جمال الشكل الأنثوي.
غير أن الجاذبية الطاغية التي تمتّعت بها أسطورة الفضائل الثلاث في الفنّ والأدب كانت دائما مدعاة للتساؤل والاستغراب. ذلك أن دورهن في الأساطير الإغريقية لم يكن بتلك الأهمّية الكبيرة.
لكنّهن في ما بعد أصبحن يرمزن، مجتمعات، لنواة العائلة "الذكر والأنثى والطفل"، ولمرحلية الأشياء "البداية والوسط والنهاية"، ولدورة الكائنات "الميلاد والحياة والموت".
الفنانة إلسي راسل ولدت ونشأت في باريس لأب أمريكي وأم فرنسية ودرست الرسم في روما ونيويورك وباريس. وقد ساعد على بروز موهبتها حقيقة أن والدها كان رسّاما تعبيريا معروفا.
وُيذكر أنها التقت في صغرها بسيلفادور دالي الذي كان صديقا للعائلة. وقد شجّعها وأثنى على موهبتها.
وأخيرا، من بين أشهر الفنانين الذين مثلوا الفضائل الثلاث في أعمال تشكيلية ونحتية كل من روبنز وانتونيو كانوفا وبوتيشيللي ورافائيل.

موضوع ذو صلة: ربّات الإلهام

Sunday, March 09, 2008

لوحات عالميـة - 162

فيـوليــن انـغـــر
للفنّان الأمريكـي مــــان راي، 1924

ثمّة من النقّاد من يقول إن هذه اللوحة تمثّل أشهر صورة فوتوغرافية، تمّت معالجتها وتحويرها، خلال القرن العشرين.
وقد اعتبرت في حينها عملا فنيّا حداثيا وثوريا.
أنجز مان راي، واسمه الأصلي ايمانويل رادنيتزكي، هذه الصورة في الفترة ما بين الحربين العالميتين. وهي الفترة التي شهدت ذروة ازدهار فنّ التصوير الفوتوغرافي.
كان راي مصوّرا ورسّاما ومخرجا سينمائيا. ويقال انه أكثر المصوّرين الفوتوغرافيين تأثيرا ونفوذا خلال القرن الماضي. وقد ُعرف بابتكاراته التقنية وميله إلى اكتشاف كلّ ما هو غير مألوف أو متوقّع. كما ينسب إليه الفضل في كونه احد الفنانين الطليعيين الذين عملوا على تطوير التصوير الضوئي وجعله شكلا من أشكال الفن.
وكان راي معجبا كثيرا بأعمال الرسّام الفرنسي انغر الذي اشتهر برسمه المحظيّات والنساء العاريات. وكان انغر معروفا في الوقت نفسه بإجادته العزف على آلة الفيولين أو الكمان.
وقد ألهمت إحدى أشهر لوحات الفنان الفرنسي المسمّاة Bather of Valpincon ، ألهمت راي إنجاز هذه اللوحة التي تعدّ أشهر أعماله وأكثرها رواجا والتي يمزج فيها بين التصوير والرسم.
والموديل في الصورة هي امرأة تدعى "كيكي" كانت عارضة أزياء ومغنّية مشهورة، كما كانت احد رموز الحياة البوهيمية في باريس خلال الربع الأول من القرن العشرين.
من الواضح أن فكرة الصورة، التي نفّذت بالأسود والأبيض، تعزف على الشبه بين جسد المرأة وآلة الكمان.
ولهذه الغاية عمد المصوّر إلى إخفاء ذراعي الموديل أمامها ثم رسم على جانبي ظهرها من الوسط حرف f اللاتيني الذي يظهر عادة محفورا على طرفي الكمان، لكي يبدو ظهر المرأة أكثر مضاهاة لشكل الآلة الموسيقية.
أي أن الفنّان أجرى تحويرا بسيطا على ما كان في الأصل صورة كلاسيكية عادية لامرأة عارية الظهر.
المرأة تبدو في الصورة وهي ترتدي غطاء رأس وقرطا، ورغم ذلك فإنها عارية إلا من وشاح منسدل وملفوف حول وسطها ومؤخّرتها.
كانت هذه الصورة، على بساطتها، ملهمة لأجيال عديدة من الفنانين الذين رسموا جسد المرأة على شكل آلة موسيقية وترية، ثم توسّع خيال بعضهم بعد ذلك ليرسموه على شكل ثمار وفاكهة.
قد يكون مان راي أراد من وراء إخراج هذه الصورة أن يسخر من التقاليد التي كانت شائعة في زمانه. وربّما أراد القول إن فنّ التصوير الفوتوغرافي بمقدوره هو أيضا أن يخلق واقعه الخاص، وأن الجسد يتفاعل مع اللمس بمثل ما أن الأصابع المدرّبة والخبيرة تستطيع أن تبثّ الحيوية في الآلة الموسيقية لتجود بأجمل النغمات وأعذبها.
ولد مان راي بفيلادلفيا في الولايات المتحدة لأبوين يهوديين، لكنه عاش معظم حياته في باريس التي لمع فيها اسمه كأحد الأعضاء البارزين في الحركة السوريالية.
وقد اشتهر بتصوير كبار رموز ذلك العصر أمثال مارسيل بروست وماكس ارنست وجيمس جويس وبول ايلوار بالإضافة إلى الممثلة الأميركية ايفا غاردنر.
ولـ مان راي صورة أخرى لا تقلّ ذيوعا وانتشارا اسمها دموع Tears، كثيرا ما تظهر في كتب الشعر والروايات العاطفية.
"فيولين انغر" كانت عملا ثوريا ورائدا في وقتها، وذلك بفضل تطويع أساليب التلاعب بالصورة واستخدام المونتاج بشكل مبتكر.
لكنْ وعلى نطاق أوسع قليلا، وعلى مستوى الصورة بشكلها الكلاسيكي المجرّد، لا بدّ من الإشارة إلى صور فوتوغرافية أخرى ذاعت شهرتها كثيرا خلال القرن العشرين. ومن أشهرها صورة المناضل البوليفي تشي غيفارا ، وصورة نيل ارمسترونغ وهو يخطو على سطح القمر، وصورة الفتاة الأفغانية شربات غولا ، وصور مذبحة ماي لاي الفييتنامية، وصورة لسان اينشتاين ، وصور مقتل الطفل الفلسطيني محمّد الدرّة ، وأخيرا وليس آخرا صورة الصحافي كيفين كارتر عن ضحايا المجاعة في جنوب السودان.

Thursday, March 06, 2008

لوحات عالميـة - 161

الكــابـــوس
للفنان السويسري جون هنـري فوزيـلي، 1782

قد تكون هذه اللوحة مألوفة للبعض. فقد ظهرت في الكثير من أفلام ومسلسلات الرعب والدراما البوليسية، كما ظهرت على غلاف رواية ميري شيلي الشهيرة فرانكنشتاين. بالإضافة إلى ظهورها المتكرّر على غلاف أكثر من كتاب علمي يتحّدث عن الكوابيس والأحلام المزعجة.
وقد اعتبرت اللوحة في حينها عملا تشكيليا مبتكرا، لأنها تتحدّث عن طبيعة الأحلام وعالم اللا وعي، وهي فكرة لم يكن احد من الرسّامين قد تطرّق لها من قبل.
في اللوحة نرى امرأة ترتدي ملابس بيضاء وتنام على سرير في غرفة ذات ستائر حمراء داكنة.
طريقة اضطجاع المرأة ووضعية رأسها ويديها تدلّ على أنها تمرّ بحالة نوم غير مريحة تبدو معها بلا حول ولا قوّة.
لكننا لا نحتاج لمعرفة السبب، ففوق صدر المرأة مباشرة يجثم كائن قبيح المنظر جامد النظرات أشبه ما يكون بالغول.
وإلى يسار الغرفة نرى مخلوقا آخر اسود اللون غريب الهيئة أشبه ما يكون بالحصان وقد راح يرمق المرأة بعينين تلمعان في الظلمة.
ورغم بشاعة ملامح الوحش إلى اليمين وهيئته الغريبة، فإنه لا يبدو في وضع من يحاول إيذاء المرأة أو المساس بها. بل انه اقرب ما يكون إلى حال التفكير والتأمّل.
صورة الوحشين الظاهرين في اللوحة قد يكون الرسّام استوحاهما من الكتب القديمة التي تورد قصصا عن مخلوقات بهيئات نصف بشرية.
ولكي نفهم جوّ اللوحة ومضمونها بشكل أفضل، لا بدّ أوّلا من الحديث قليلا عن جون فوزيلي وعن ملامح وسمات العصر الذي عاش فيه.
ولد هذا الفنان في سويسرا لكنه قضى معظم حياته في بريطانيا التي عمل فيها رسّاما وشاعرا وناقدا.
في تلك الأيام كانت الحضارة القوطية تعيش ذروة ازدهارها. ومعلوم أن الأفكار والقيم التي اتسمت بها الحقبة القوطية نتجت كردّ فعل على الاتجاه العقلاني الذي جاء به وكرّسه عصر التنوير الأوربي والكلاسيكية الجديدة.
كانت الثيمات الرائجة في الأدب والفن القوطي، أي ابتداءً من النصف الثاني من القرن الثامن عشر، تتمثل في الموضوعات الفانتازية وعلم الغيب وظواهر ما فوق الطبيعة.
وقد شاعت في ذلك الوقت قصص كثيرة تتحدّث عن الموتى الذين يرفضون أن يرتاحوا في قبورهم، وعن الجنّيات اللاتي يغرّرن بالبشر، والوحوش التي تتخّذ صورة مسوخ بشرية مثل فرانكنشتاين وغيره.
كما راجت في تلك الحقبة حكايات متواترة عن كائنات شرّيرة تخرج في آخر الليل لتغتصب النساء وهن نائمات.
ويظهر أن فوزيلي استمدّ من الفولكلور والطبّ والمخيال الشعبي السائد آنذاك عناصر وظّفها في رسم هذه اللوحة المشحونة بالرعب والترقّب.
ورغم الشعور بالخوف الذي يثيره جوّ اللوحة، فإن لباس المرأة المستفز نوعا ما، وطريقة اضطجاعها، ربّما يوحيان بمزيج من الإحساس بالألم والإغواء والمتعة الحسية.
وهناك من يقول بأن المرأة في اللوحة ليست سوى عشيقة الفنان التي كان قد وقع في حبّها عندما كان يعيش في زيوريخ.
لكن المهم أن لوحة "الكابوس" حققت نجاحا باهرا منذ أن عرضت لأوّل مرّة في العام 1982م.
بل لقد بلغ من شعبيّتها أن فوزيلي اضطرّ إلى رسم عدّة نسخ منها بناءً على طلب بعض زبائنه.
والمعروف أن العالم الشهير سيغموند فرويد، رائد مدرسة التحليل النفسي، كان يعلق هذه اللوحة في عيادته بفييّنا جنبا إلى جنب مع لوحة رمبراندت "درس في التشريح".
وقد ظلت لوحة فوزيلي مثارا للعديد من التفسيرات والقراءات المتباينة من قبل علماء النفس الذين رأوا فيها موضوعا خصبا لتنظيراتهم واجتهاداتهم.
بعضهم رأى فيها تجسيدا لرغبة لم يتم إشباعها، بينما رأى فيها البعض الآخر مظهرا من مظاهر الغيرة التي يتحوّل فيها عشيق المرأة إلى وحش مترصّد تحت ثقل شعوره بالحقد والميل للانتقام.
وهناك من نقاد الفنّ من يرجّح بأن اللوحة ألهمت سيلفادور دالي رسم لوحته بعنوان "امرأة نائمة وحصان وأسد".
وبوحي من هذه اللوحة أيضا كتب الشاعر ايراسموس داروين قصيدته "الحديقة النباتية".
في ما بعد، أصبحت الكوابيس والأحلام المزعجة موضوعا مفضّلا في العديد من الأعمال السينمائية والدرامية والأدبية.
وغالبا ما لا تتغيّر العناصر الموظّفة من اجل إنتاج مشهد يحبس الأنفاس ويزرع الرعب والهلع في قلب المتلقي. فهناك دائما رجل أو امرأة مستلقية بعينين نصف مفتوحتين. وعبر النافذة المواربة يلوح من بعيد منظر غيمة تمرّ متثاقلة أمام قمر شاحب. وعندما يبدأ الكابوس يظهر في المشهد آلة موسيقية "بيانو غالبا" ويد سوداء تحاول فتح الباب وحيوان ميّت وجنس وموسيقى وموت، إلى آخره..
ترك جون هنري فوزيلي عند وفاته حوالي ستّين لوحة أشهرها الكابوس، والساحرات الثلاث وحلم الراعي.
ومواضيع لوحاته تشبه كثيرا مواضيع لوحات معاصره الفنان والشاعر وليام بليك، حيث الفانتازيا والرعب والجنس والسحر هي العناصر المهيمنة.
وقد كان فوزيلي منجذبا كثيرا إلى شكسبير وجون ميلتون صاحب الرواية المشهورة الفردوس المفقود. وأعمال هذين الاثنين تضجّ هي الأخرى بقصص الشياطين والملائكة والبيوت المسكونة والقلاع المظلمة والسحرة والمجانين والأشباح والعنف والجريمة.

Thursday, February 28, 2008

لوحات عالميـة - 160

أحـــلام الغــــد
للفنان الفلسطيني إسماعيـل شمّـوط، 2000

عندما يتعامل الفنان مع حدث ضخم أو قضية مصيرية، فلا بدّ وأن ينتج عملا ملحميا مثل هذه اللوحة التي يمكن اعتبارها بحقّ سجلا بصريا مكثّفا يختصر تاريخ فلسطين المعاصر ويجسّد نضال شعبها من اجل التحرّر والخلاص والانعتاق.
الفنان الراحل إسماعيل شمّوط يعتبره النقاد المؤسّس الفعلي لحركة الفن التشكيلي الفلسطيني. ولا يمكن قراءة لوحات هذا الفنان دون ربطها بالقضيّة التي كانت دوما الدافع والمحرّض لهذا الإبداع الذي يطبع كافة أعماله.
وكل من يتأمّل لوحات اسماعيل شموط لا بدّ وأن يتخيّل انه يقرأ سفرا ضخما يعكس قدرة صاحبه الفائقة على السرد الدرامي والتصوير التعبيري الذي لا ينقصه الصدق ولا الإحساس القويّ والنافذ. وفي كل لوحاته نلمس حنينا جارفا إلى الوطن وتطلّعا وتوقا لا يني ولا يتوقّف إلى الأيام الخوالي والزمن الجميل.
في هذه اللوحة يربط الفنان بطريقة بارعة بين مكوّنات وعناصر القضية الفلسطينية المادية والمعنوية في آن. فهو يحرص على توثيق عناصر الأرض والشعب والطيور والأزهار لتعبّر عن مفاهيم الحرية والأمل ولتأكيد حقّ العودة والحياة الكريمة لشعب شرّد من أرضه وقاسى مرارة النفي القسري عن وطنه ووطن أجداده.
رسم الفنان الجزء الأساسي من اللوحة والذي يمتدّ على مساحة كبيرة منها على هيئة فتاة مستلقية يشكّل جسدها خريطة فلسطين كاملة ليؤكّد البعد التاريخي لهذه البقعة من الأرض وأنه ما يزال يعتريه الأمل والحلم بأن تكون وطنا لكل أبنائها الذين شرّدوا منها وتشتّتوا في المنافي البعيدة.
وعند التركيز على هذا الجزء من اللوحة، نلاحظ أن الفنان قد رسم فتاة بثوب أبيض من التراث الفلسطيني تحتضن أبناءها بيديها، تحمل حمامتي سلام من جانب وتمسك براية المقاومة يلفها العلم الفلسطيني من الجانب الآخر في مشهد عاطفي يحمل رموز القضية التي يوثقها الفنان.
في تفاصيل هذا المشهد يلفت الانتباه دقّة التفاصيل التي أودعها الفنان في اللوحة، فنلاحظ أنه رسم قبّة الصخرة باللون الأحمر في الجزء العلوي المطرّز فوق صدر الفتاة وحول عنقها وقد كتب فيها كلمات "الحب ، الخير، الصبر، العدل" في إشارة واضحة لموضوع اللوحة، بالإضافة إلى إدراجه لعدد كبير من مدن وقرى فلسطين.
لقد اختصر الفنان إسماعيل شمّوط وصف هذه اللوحة الجدارية بقوله: "للأحلام دوما تلك المساحة الرحبة اللا محدودة. وما من أحد يستطيع أن يمنع الحلم. قالوا: أنا أفكر إذن أنا موجود. أقول: أنا موجود إذن أنا أحلم. وهل يكون للحياة معنى إن خلت من الأحلام؟! إن الحلم حرّ كالحرّية. ونحن نعرف حُلمنا. نعم نعرفه لكننا لا نزال نحلم به. نعرفه وطناً مقدّساً كالحقّ المقدّس. نعرفه عميقا في الشعر والموسيقى واللون. لكنه رائع أكثر بشعبه وبأرضه. كلّ شعبه وكلّ أرضه".
إن كل من يتأمّل تفاصيل هذه اللوحة البديعة لا يمكن إلا أن تتردّد في أذنيه وفي وجدانه بطريقة لا إرادية، ومن مكان ما في خلفية المشهد، تلك الأغاني والأناشيد الحماسية التي تتحدّث عن الارتباط بالأرض ومقاومة الغاصب المحتل.
وليس بالمستغرب أن تحتلّ الألوان البيضاء والحمراء والخضراء كامل بناء اللوحة تقريبا. وكل هذه الألوان تبدو ساطعة، قويّة، مدهشة ومثيرة للمشاعر برموزها ودلالاتها المتفرّدة والعميقة.
إن اسماعيل شمّوط لا يسجّل في لوحاته نكبة الشعب الفلسطيني ومسيرة نضاله الطويلة فحسب، بل يحاول من خلالها تعزيز الشعور بالعزّة والكرامة والانتماء للوطن وإشعال جذوة الأمل في نفوس شعب يواجه القمع والتهجير والتصفية كل يوم.
وفي لوحاته تتكرّر مشاهد الحمام والرمّان والثياب المطرّزة التي تعتبر رموزا تقليدية لفلسطين منذ القدم.
كان الفنان إسماعيل شمّوط متزوّجا من الفنانة تمام الأكحل، وقد تلقّى دراسته في مصر وايطاليا وأقام معارض لأعماله في عدد من عواصم العالم ونال العديد من الجوائز العالمية تكريما له على إبداعه والتزامه العالي بقضايا الحرّية والكرامة الإنسانية.

Thursday, February 21, 2008

لوحات عالميـة - 159

حقـل قمـح و أشجـار سـرو
للفنان الهولندي فنسنـت فــان غــوخ، 1889

رسم فان غوخ هذه اللوحة بعد حوالي شهر من وصوله إلى المصحّة النفسية في آرل.
وخلال فترة مكوثه في المستشفى، كان الأطبّاء يسمحون له بالذهاب إلى الحقول المجاورة ليمارس هوايته في الرّسم كلما خفّت نوبات الصرع التي كانت تنتابه من حين لآخر.
ومن بين أشهر لوحاته التي أنجزها آنذاك هذه اللوحة التي تشير إلى مدى تأثّر فان غوخ بالأسلوب الياباني في الرسم، وخاصّة طريقة تمثيل الخطوط واستخدام الألوان.
في اللوحة نرى حقلا للقمح يقوم في وسطه وعلى أطرافه عدد من أشجار السرو. وبالإضافة إلى الأشجار، تبدو بعض التلال والجبال والأعشاب تحت سماء غائمة.
ولعلّ أهم ما يميّز هذه اللوحة عمق منظورها وسماكة نسيجها وإيقاع الأشكال فيها، بالإضافة إلى صفاء ألوانها التي تصوّر حيوية الربيع وبهاءه.
كان فان غوخ يراقب الأشجار من نافذة غرفته في المستشفى، وفي إحدى رسائله لأخيه ثيو يقول: لطالما أثارت هذه الأشجار تفكيري. وأجد من الصعوبة بمكان أن أتجنّب رسم هذا الحزن وهذه العزلة النهائية. إن هذه اللوحة ستخبرك عما عجزت أنا عن التعبير عنه بالكلمات وهو ما اعتبره مصدر الإلهام والسعادة في حياة الريف".
إن الناظر إلى هذه اللوحة لا بدّ وان يتخيّل أن كلّ شيء فيها يتحرّك. إذ بفعل ضربات الفرشاة الملتفّة كالدوّامة، تبدو الأشجار مضطربة والعشب كما لو أنه يتطاير مع الريح، ما يبعث شعورا غامضا بالتوتّر والخطر المحدق.
ارتبطت أشجار السرو منذ القدم بالموت وأحيانا بالخلود. وفي بعض الحضارات الشرقية القديمة كانت ترمز للكمال والجلال والحكمة.
فان غوخ كان هو أيضا مفتونا بالنظر إلى أشجار السرو متأمّلا أشكالها وألوانها وطريقة تموضعها في الطبيعة المفتوحة.
أثناء وجوده في المستشفى، كان فان غوخ منكبّا على التأمّل في حال الأدباء والشعراء والفنّانين الذين نجحوا في فهم واستكناه المشاعر والحالات الإنسانية العميقة وجسّدوا ذلك في أعمالهم.
وكان هو نفسه يتمنى أن يعكس في لوحاته جانبا من تلك المشاعر وأن يكون لأعماله نفس التأثير الانفعالي والعاطفي.
وفي سنواته الأخيرة أصبح ميّالا لرسم مشاهد نهارية وبات من النادر رؤية مناظر الفجر والغسق التي كانت تميّز لوحاته الأولى.
في العام 1993 بيعت هذه اللوحة بمبلغ 57 مليون دولار أمريكي. وقد أعارها المليونير الأمريكي الذي اشتراها إلى متحف الميتروبوليتان حيث ظلّت فيه إلى اليوم.
بعد حوالي سنة من رسمه هذه اللوحة، أي في السابع والعشرين من يوليو 1890، أقدم فان غوخ على الانتحار بإطلاق رصاصة على صدره في أحد هذه الحقول التي ألهمته رسم أعظم لوحاته وأكثرها شعبية وذلك خلال فترة السنتين اللتين قضاهما في آرل.
وبعد وفاته سرعان ما بدأت لوحاته تجتذب اهتمام النقاد الذين اكتشفوا أصالة وعمق موهبته ورؤيته الفنية، ليحتلّ في ما بعد مكانته كأحد أشهر الرسّامين الطليعيين في تاريخ الفن الحديث.

موضوع ذو صلة: سجال فلسفي حول حذاء

Friday, February 08, 2008

لوحات عالميـة - 158

مــزاج مسـائــي
للفنان الفرنسي ويليـام بـوغـرو، 1882

كثيرون هم الرسّامون الذين فتنوا بتصوير الجسد الأنثوي. وربّما لا يوجد رسّام واحد لم يحاول ذات مرّة رسم شكل لأنثى. وكان هذا يعتبر دائما مقياسا على براعة الرسّام وأصالة موهبته.
وفي أغلب الحالات، لم يكن رسم الأنثى العارية مدفوعا بالبحث عن فكرة فلسفية أو تجربة ثقافية ما، بل كان تعبيرا عن افتتان الفنان بالجانب الحسّي للموضوع.
ومن بين أشهر الأعمال الفنية التي تصوّر الشكل الأنثوي هذه اللوحة الرائعة لويليام بوغرو. وفيها نرى امرأة فاتنة، غُطّي جسدها جزئيا، بينما تقف بجلال على شاطئ البحر وقت هبوب العاصفة.
ويلاحَظ أن الفنان حرص على تغطية الجزء السفلي من جسد المرأة بينما أبقى على صدرها مكشوفا.
المشهد يذكّرنا بأفرودايت، "أو لعلّها كياندا أو ثيامات أو ثالاسا"، وهي تبدو هنا كما لو أنها تتأمّل هويّتها كأنثى محاولة اكتشاف طبيعتها الخاصّة كما تعكسها السمات الأنثوية للعالم.
المعروف أن الأنثى ارتبطت دائما ببدايات الكون وأصل الحياة. وبعض الأساطير القديمة تصوّر آلهة البحر والخصوبة على هيئة امرأة تخرج من البحر مبشّرة بالميلاد وبالبدايات الأولى للخلق.
ومنذ القدم، اقترنت صورة الأنثى بالعناصر والفصول وبعالم الطبيعة. وفي الكثير من ثقافات العالم، ترمز الأنثى لدورة الحياة ولطقوس العبور أو التحوّل من طور لآخر. وفي هذا إشارة إلى وجود المرأة الأزلي وحضورها الدائم الذي يتجاوز حدود المكان والزمان.
بوغرو اختار للوحة هذا العنوان "مزاج مسائي"، ربّما لكي يبتعد عن التسميات النمطية التي كانت شائعة في زمانه والمستمدّة من الأساطير. وقد يكون اختار هذا العنوان كي يضفي على الموضوع مضمونا معاصرا. بالإضافة طبعا إلى ما يوحي به العنوان من مسحة شاعرية، وهي سمة غالبة على معظم أعمال هذا الفنان.
علاقة الأنثى بالبحر علاقة وثيقة وقديمة. وهناك العديد من الأعمال الفلسفية والأدبية والفنية التي تتحدّث عن هذه الجزئية بالذات. فالبحر يرمز للرحم وما يتّصل به من دلالات الخصوبة والخلق والميلاد. وهناك اعتقاد قديم يقول بأن الحياة بدأت، أوّل ما بدأت، في الماء.
من الواضح أن هذه اللوحة نفّذت بأسلوب رقيق ينمّ عن شاعرية عالية، يميّزه هذا النسيج البديع وهذه الألوان المترفة والساحرة.
وبالإضافة إلى تناغم الألوان، هناك طريقة رسم الوشاح المنسدل على جسد المرأة، بالإضافة إلى الأسلوب البارع الذي اتبعه الفنان في رسم حركة الجسد وجعله يتداخل ويتناغم مع حركة الموج.
في العصر الذي عاش فيه بوغرو، كان الناس يغضّون الطرف عن اللوحات التي تصوّر نساءً عاريات، شريطة أن توضع ضمن سياق أسطوري أو ديني أو تاريخي.
وخلال القرون الوسطى كانت صورة المرأة العارية مرادفة للشرّ والموت والرذيلة. وبحلول عصر النهضة تغيّرت الحال وأصبحت صورة المرأة العارية رمزا للمثالية أو الحسّية. وطوال القرون الخمسة الأخيرة ُرسمت آلاف اللوحات الفنية التي تصوّر نساءً عاريات على هيئة آلهات وقدّيسات وحوريّات في أوضاع مختلفة وبحالات تتراوح ما بين الايروتيكية والارتقاء والتسامي الروحي.
والمتأمّل في تفاصيل هذه اللوحة البديعة لا بدّ وأن يلاحظ الأسلوب المرهف الذي تمّ به تمثيل الوجه ذي التعابير الغامضة والأطراف وتفاصيل الجسد الأخرى. وهذا كلّه يشي بمعرفة الفنان الواسعة بالتشريح وتناسب الأعضاء، كما انه يشير إلى أن الرسّام خطّط لهذه اللوحة جيّدا وعمل عليها مرّات ومرّات إلى أن أخذت شكلها النهائي.
ساندرو بوتيشيللي يعتبر أول فنّان رسم الأنثى العارية. وتعتبر لوحته "مولد فينوس" إحدى أشهر الأعمال الفنية التي عالجت الفكرة.
في الحضارات القديمة، كان الجسد الذكوري العاري هو المهيمن، ونادرا ما كان احد يفكّر في رسم امرأة عارية. وكانت التماثيل التي تصوّر رجالا عراة منتشرة في كل مكان، حيث كان ينظر إلى الرجل باعتباره تجسيدا لكمال الإنسان الجسدي والمعنوي.
ومن الأمور اللافتة أن الإغريق لم يكن يستهويهم جسد المرأة ولم يكن يحرّكهم الجمال الأنثوي كثيرا. كانوا يرون ذروة الكمال في جسد الرجل، وكان الجسد الذكوري العاري عندهم جزءا مهمّا من الأدب ومن الحياة بشكل عام.
ميكيل انجيلو، فنان عصر النهضة الايطالي، كان يرسم الرجال غالبا. ومن شدّة تعلّقه بالجسد الذكوري كان يرسم نساءه في هيئات ذكورية وبقوام صارم وعضلات بارزة.
وعلى النقيض من ميكيل انجيلو هناك فنّانون رسموا رجالا بملامح أنثوية.
وليام بوغرو يُنظر إليه اليوم على انه احد أعظم الرسامين في التاريخ. وقد كان متأثّرا بالمدرسة الكلاسيكية الايطالية. وبعد وفاته ترك أكثر من 700 لوحة تتناول مواضيع تاريخية وأسطورية ومن الحياة اليومية.
وبعض النقاد يعيبون على أعمال بوغرو خلوّها من المضامين السياسية والاجتماعية، ويسوقون ذلك باعتباره دليلا على ابتعاد الفنان عن مشاغل واهتمامات الناس في فرنسا القرن التاسع عشر.

Monday, January 28, 2008

لوحات عالميـة - 157

الأمــــل
للفنان البريطاني جـورج فريدريـك واتـس، 1886

قد لا تصنّف هذه اللوحة ضمن الأعمال الفنّية التي تثير الفرح أو تبعث على البهجة والارتياح، لكنها مع ذلك تحمل فكرة إنسانية عظيمة وتثير أجمل وأنبل ما في النفس الإنسانية من مشاعر وأحاسيس.
عندما أتمّ جورج واتس رسم اللوحة منذ أكثر من مائة عام، سرعان ما وجدت طريقها إلى كلّ بيت وأصبحت حديث الناس والنقاد، على السواء، في بريطانيا.
وبالنظر إلى مضمونها العاطفي والإنساني العميق، فقد انتشرت اللوحة حول العالم واستنسخت مرارا وتكرارا وظهرت العديد من قصائد الشعر التي تستمدّ من مضمون اللوحة موضوعا لها.
العنوان قد لا يدلّ على جوّ اللوحة، إذ نرى امرأة معصوبة العينين وحافية القدمين وهي تجلس في وضع انحناء فوق ما يبدو وكأنه مجسّم للأرض بينما راحت تعزف على آخر وتر تبقّى في قيثار مكسور.
تعابير وجه المرأة غامضة إلى حدّ ما، بينما يغرق المشهد كله في موجات مهتزّة من اللازوردي والأصفر بتدرّجاتهما المشعّة.
بعض النقاد يرون أن اللوحة تعبّر في الواقع عن اليأس وتثير إحساسا بالحزن، بينما يرى آخرون أنها تعبّر عن تمسّك الإنسان بالأمل ورفضه الاستسلام لليأس. فالمرأة مستمرّة في العزف حتى بعد أن لم يتبقّ في قيثارتها سوى وتر وحيد.
واتس كان احد أعظم الفنانين الذين ظهروا خلال العصر الفيكتوري، وكان للوحاته مضامين رمزية؛ أخلاقية وفلسفية وروحية.
في ذلك العصر كان الفنانون والأدباء والشعراء مفتونين بالموسيقى وعناصر الجمال المختلفة. ومثل معظم معاصريه، كان واتس منشدّا إلى فكرة الموت، إذ كان يرى فيه مفسّرا للحياة وامتدادا لها.
وربّما لهذا السبب، تروق لوحاته كثيرا للمتديّنين وللفئات الاجتماعية المحرومة، بالنظر إلى طبيعتها الروحية التي تضفي على مشاعر الحزن والألم واليأس طابعا من الجمال والنبل والقداسة.
كان واتس يرسم الأفكار لا الأشياء، وكثيرا ما كان يحيط شخوص لوحاته بأجواء ضبابية أو غائمة للإيحاء بأنها انعكاس لأفكار ورؤى معيّنة.
وكان يعتقد دائما أن باستطاعة الفن أن يعبّر عن قوّة الحياة وإرادة الإنسان.
وفي الوقت الذي كان معاصروه يميلون إلى تصوير الأمل والمعاناة والحزن والحياة والموت على هيئة نساء إغريقيات يرتدين ملابس طويلة وشفّافة، كان واتس يجد كل هذه المعاني والظواهر داخل نفسه ويعبّر عنها بمناظره التي يرسمها اعتمادا على معرفته وخبراته الذاتية وميله للتأمّل والنزوع الفلسفي.
والذي يتملّى البناء الفنّي لهذا اللوحة المتميّزة لا بدّ وأن ينصرف تفكيره إلى لوحة بيكاسو الشهيرة عازف الغيتار العجوز، التي تصوّر عجوزا أعمى يعزف على غيتاره بلا اهتمام.
وهناك من المؤرّخين والنقاد من ذهبوا إلى أن لوحة واتس، الموجودة اليوم في متحف تيت البريطاني، تتضمّن صورة سياسية مجازية، وأن المرأة ليست في الحقيقة سوى رمز لبريطانيا التي فتحت العالم وبلغت أوج مجدها وانتصاراتها خلال حكم الملكة فيكتوريا.
لكن ذلك كله لم يجلب السلام ولم يحقّق للناس السعادة وراحة البال التي كانوا يتطلعون إليها في ذلك الوقت.