مــزاج مسـائــي
للفنان الفرنسي ويليـام بـوغـرو، 1882
كثيرون هم الرسّامون الذين فتنوا بتصوير الجسد الأنثوي. وربّما لا يوجد رسّام واحد لم يحاول ذات مرّة رسم شكل لأنثى. وكان هذا يعتبر دائما مقياسا على براعة الرسّام وأصالة موهبته.
وفي أغلب الحالات، لم يكن رسم الأنثى العارية مدفوعا بالبحث عن فكرة فلسفية أو تجربة ثقافية ما، بل كان تعبيرا عن افتتان الفنان بالجانب الحسّي للموضوع.
ومن بين أشهر الأعمال الفنية التي تصوّر الشكل الأنثوي هذه اللوحة الرائعة لويليام بوغرو. وفيها نرى امرأة فاتنة، غُطّي جسدها جزئيا، بينما تقف بجلال على شاطئ البحر وقت هبوب العاصفة.
ويلاحَظ أن الفنان حرص على تغطية الجزء السفلي من جسد المرأة بينما أبقى على صدرها مكشوفا.
المشهد يذكّرنا بأفرودايت، "أو لعلّها كياندا أو ثيامات أو ثالاسا"، وهي تبدو هنا كما لو أنها تتأمّل هويّتها كأنثى محاولة اكتشاف طبيعتها الخاصّة كما تعكسها السمات الأنثوية للعالم.
المعروف أن الأنثى ارتبطت دائما ببدايات الكون وأصل الحياة. وبعض الأساطير القديمة تصوّر آلهة البحر والخصوبة على هيئة امرأة تخرج من البحر مبشّرة بالميلاد وبالبدايات الأولى للخلق.
ومنذ القدم، اقترنت صورة الأنثى بالعناصر والفصول وبعالم الطبيعة. وفي الكثير من ثقافات العالم، ترمز الأنثى لدورة الحياة ولطقوس العبور أو التحوّل من طور لآخر. وفي هذا إشارة إلى وجود المرأة الأزلي وحضورها الدائم الذي يتجاوز حدود المكان والزمان.
بوغرو اختار للوحة هذا العنوان "مزاج مسائي"، ربّما لكي يبتعد عن التسميات النمطية التي كانت شائعة في زمانه والمستمدّة من الأساطير. وقد يكون اختار هذا العنوان كي يضفي على الموضوع مضمونا معاصرا. بالإضافة طبعا إلى ما يوحي به العنوان من مسحة شاعرية، وهي سمة غالبة على معظم أعمال هذا الفنان.
علاقة الأنثى بالبحر علاقة وثيقة وقديمة. وهناك العديد من الأعمال الفلسفية والأدبية والفنية التي تتحدّث عن هذه الجزئية بالذات. فالبحر يرمز للرحم وما يتّصل به من دلالات الخصوبة والخلق والميلاد. وهناك اعتقاد قديم يقول بأن الحياة بدأت، أوّل ما بدأت، في الماء.
من الواضح أن هذه اللوحة نفّذت بأسلوب رقيق ينمّ عن شاعرية عالية، يميّزه هذا النسيج البديع وهذه الألوان المترفة والساحرة.
وبالإضافة إلى تناغم الألوان، هناك طريقة رسم الوشاح المنسدل على جسد المرأة، بالإضافة إلى الأسلوب البارع الذي اتبعه الفنان في رسم حركة الجسد وجعله يتداخل ويتناغم مع حركة الموج.
في العصر الذي عاش فيه بوغرو، كان الناس يغضّون الطرف عن اللوحات التي تصوّر نساءً عاريات، شريطة أن توضع ضمن سياق أسطوري أو ديني أو تاريخي.
وخلال القرون الوسطى كانت صورة المرأة العارية مرادفة للشرّ والموت والرذيلة. وبحلول عصر النهضة تغيّرت الحال وأصبحت صورة المرأة العارية رمزا للمثالية أو الحسّية. وطوال القرون الخمسة الأخيرة ُرسمت آلاف اللوحات الفنية التي تصوّر نساءً عاريات على هيئة آلهات وقدّيسات وحوريّات في أوضاع مختلفة وبحالات تتراوح ما بين الايروتيكية والارتقاء والتسامي الروحي.
والمتأمّل في تفاصيل هذه اللوحة البديعة لا بدّ وأن يلاحظ الأسلوب المرهف الذي تمّ به تمثيل الوجه ذي التعابير الغامضة والأطراف وتفاصيل الجسد الأخرى. وهذا كلّه يشي بمعرفة الفنان الواسعة بالتشريح وتناسب الأعضاء، كما انه يشير إلى أن الرسّام خطّط لهذه اللوحة جيّدا وعمل عليها مرّات ومرّات إلى أن أخذت شكلها النهائي.
ساندرو بوتيشيللي يعتبر أول فنّان رسم الأنثى العارية. وتعتبر لوحته "مولد فينوس" إحدى أشهر الأعمال الفنية التي عالجت الفكرة.
في الحضارات القديمة، كان الجسد الذكوري العاري هو المهيمن، ونادرا ما كان احد يفكّر في رسم امرأة عارية. وكانت التماثيل التي تصوّر رجالا عراة منتشرة في كل مكان، حيث كان ينظر إلى الرجل باعتباره تجسيدا لكمال الإنسان الجسدي والمعنوي.
ومن الأمور اللافتة أن الإغريق لم يكن يستهويهم جسد المرأة ولم يكن يحرّكهم الجمال الأنثوي كثيرا. كانوا يرون ذروة الكمال في جسد الرجل، وكان الجسد الذكوري العاري عندهم جزءا مهمّا من الأدب ومن الحياة بشكل عام.
ميكيل انجيلو، فنان عصر النهضة الايطالي، كان يرسم الرجال غالبا. ومن شدّة تعلّقه بالجسد الذكوري كان يرسم نساءه في هيئات ذكورية وبقوام صارم وعضلات بارزة.
وعلى النقيض من ميكيل انجيلو هناك فنّانون رسموا رجالا بملامح أنثوية.
وليام بوغرو يُنظر إليه اليوم على انه احد أعظم الرسامين في التاريخ. وقد كان متأثّرا بالمدرسة الكلاسيكية الايطالية. وبعد وفاته ترك أكثر من 700 لوحة تتناول مواضيع تاريخية وأسطورية ومن الحياة اليومية.
وبعض النقاد يعيبون على أعمال بوغرو خلوّها من المضامين السياسية والاجتماعية، ويسوقون ذلك باعتباره دليلا على ابتعاد الفنان عن مشاغل واهتمامات الناس في فرنسا القرن التاسع عشر.