Thursday, October 27, 2016

لوحات عالميـة – 381

شروق الشمس على قلعة نورهام
للفنان البريطاني جوزيف تيرنر، 1845

كان جوزيف تيرنر قد رأى لأوّل مرّة قلعة نورهام التاريخية الواقعة على الحدود ما بين انجلترا وسكوتلندا في العام 1797، وكان يزور آنذاك مناطق شمال انجلترا. وقد أعجب بالمكان وقرّر أن يعاود زيارته من وقت لآخر.
ويُرجّح أن يكون قد رسم هذا المنظر كـ "اسكتش" للوحة كان يفكّر في رسمها في ما بعد. غير أن اللوحة تبدو لمعظم الناس اليوم لوحة كاملة وجميلة ومقبولة بهيئتها هذه. وثمّة احتمال بأن تيرنر كان يراها كذلك، وربّما كان قد رسمها من اجل إرضاء نفسه فحسب.
وفي السنوات التالية رسم نسخا أخرى من هذه اللوحة التي مثّلت ذروة افتتانه الذي رافقه طوال حياته بهذا المكان. كما أن اللوحة تُعتبر أحد أعظم أعماله في تصويرها للضوء والتأثيرات الجوّية.
الألوان النقيّة في المنظر أكثر من الألوان المتباينة وتعبّر عن الضوء المتألّق، بينما تتداخل أشكال المباني التاريخية مع المنظر الطبيعي. وقد ذابت كلّ الأشكال الممكن تمييزها في ضوء الشمس المشرقة.
الرسّام تعامل مع القلعة ومع الأشكال الصلبة الأخرى كعناصر شفّافة من الضوء واللون. والقلعة نفسها رُسمت ملساء وناعمة وسائلة لدرجة أنها ذابت وتناثرت أسفل اللوحة.
لكن برغم أن تيرنر خلق بعض أهم تأثيراته الجوّية هنا، إلا أن المكان لا يبدو من السهل التعرّف عليه أو تمييزه. كما أن بنية التوليف نفسها تبدو كلاسيكية وصارمة.
في بداياته تبنّى الرسّام بالتدريج أسلوبا حرّا وأثيريا شبيها أحيانا بالتجريد. ولم يكن يعرض أعماله تلك على الجمهور، لأنها كانت تفتقر إلى التفاصيل وإلى اللمسات النهائية التي تجعلها مقبولة بحسب معايير الأكاديمية. وقد أسيء فهمه ورُفض من قبل نفس النقّاد الذين سبق وأن أعجبوا به طوال عقود.
بدأ تيرنر دراسته للرسم في الأكاديمية الملكية بلندن مع رسّامين آخرين كبار من أمثال جوشوا رينولدز وبول ساندباي. واجتذبت رسوماته الأولى اهتمام النقّاد والجمهور. وانعكس هذا إيجابا على أحواله المالية، فتمكّن من القيام بالعديد من الزيارات لانجلترا وويلز حيث رسم كثيرا من الأماكن والمعالم.
ثم زار فرنسا وسويسرا حيث اطلع فيهما على أعمال كبار المعلّمين مثل رمبراندت والبيرت كاب وكلود لوران. ويمكن ملاحظة تأثير الأخير بالذات على لوحات تيرنر المبكّرة مثل "الطاعون في مصر" وغيرها.
ويقال انه في تلك الفترة تقريبا وفي احد معارضه في الأكاديمية، سقطت قطعة من إحدى لوحاته على الأرض. وقد قلّل من أهمّية ما حدث قائلا إن الشيء المهم الوحيد هو انه ترك انطباعا. وقد تسبّبت تلك الملاحظة في إثارة دهشة الحضور. الناقد جون راسكن الذي كان صديقا مقرّبا لتيرنر وصف لوحاته بأنها انطباعات لما كان يراه بعقله وليست نتيجة تأمّلاته المباشرة.
وذات مرّة كان تيرنر في ضيافة راعيه والتر فوكس في يوركشاير عندما هبّت فجأة عاصفة رعدية بدّدت هدوء ذلك المساء. ثمّ ما لبث أن هطل المطر بقوّة. وبسرعة قام تيرنر ليرسم المطر الغزير والغيوم الثقيلة.
ثم قال لمضيفه: خلال سنتين من الآن سترى هذه الاسكتشات وقد تحوّلت إلى لوحة بعنوان "هانيبال يعبر جبال الألب". وفي عام 1812، عرض تيرنر لوحته الطموحة تلك بنفس ذلك العنوان والتي أصبحت مشهورة جدّا في ما بعد.
وقد شجّعه نجاحها عند عرضها على أن يرسم المزيد من المناظر التاريخية مثل لوحته "أفول امبراطورية قرطاج" وغيرها.
نمت شعبية تيرنر بعد ذلك بسرعة. وقد وجد في روما مواضيع جديدة ومناسبة لعبقريّته. عقليته المتفتّحة وجدت في ايطاليا عالما لم يخبره من قبل من الألوان والأضواء والأجواء. وقد زار تورينو وميلانو وفينيسيا ونابولي، ودرس أعمال الرسّامين العظام مثل تيشيان ورافائيل، كما التقى النحّات المشهور انطونيو كانوفا.
وفي السنة التالية عاد إلى انجلترا وصوّر ذكريات زيارته الايطالية التي تركت بصمتها على أعماله التالية مثل "المنتدى الروماني" أو لوحته الأخرى عن رافائيل وفورنارينا. ثمّ زار ايطاليا مرّة أخرى بعد ذلك بثمان سنوات. وابتداءً من مطلع ثلاثينات القرن التاسع عشر أصبح أسلوبه أكثر حرّية.
لوحته "شروق الشمس مع وحوش بحرية" هي احد أفضل الأمثلة على لوحاته الأخيرة، فأشكال وحوش البحر فيها من الصعب تمييزها وسط أجواء البحر. والضوء الذي يبدو محاطا بهالة من القداسة يعكس نظرية تيرنر التي تعتبر أن الشمس هي مركز الحياة كلّها.
أعمال الرسّام الأخيرة كانت تضجّ بالفوضى وقد انتُقدت باعتبارها أعمال رجل مجنون. ويقال انه حتى الملكة فيكتوريا رفضت أن تخلع عليه لقب فارس، وهو شرف ناله رسّامون اقلّ منه أهمية بكثير، لأنها كانت تعتبره بالفعل شخصا معتوها.
وكان من السهل وصف تيرنر بالمجنون أخذا في الاعتبار الظروف التي رافقت ولادته، فأمّه قضت أربع سنوات من حياتها في مشفى للأمراض العقلية. لكن التشوّش الذي ملأ لوحاته الأخيرة كان في الواقع نتيجة تطوّر فنّي معقّد سبق خلاله بعقود العديد من أبناء جيله.
كان تيرنر أكثر من مجرّد رسّام مناظر بحرية، بالرغم من أن عددا من أعظم انجازاته حقّقه من رسم مناظر البحر والماء. ذوبان الأشكال في لوحاته الأخيرة فُسّر من قبل نقّاد عديدين على انه بوادر الخرف. حتى راسكن أزعجته أعمال تيرنر تلك وكان ينصح بتثبيت مسامير على إطارات اللوحات لتشير إلى أجزائها العلوية والسفلية.
في أكتوبر من عام 1851، كان تيرنر يتعرّض لأزمة صحّية خطيرة. وبسببها نصحه الأطبّاء بالكفّ عن الرسم. وفي التاسع عشر من ديسمبر من ذلك العام توفّي في منزله في تشيلسي بلندن ودُفن جثمانه في كاثدرائية سينت بول.
ويمكن رؤية اكبر عدد من أعماله اليوم في جناح خاصّ يحمل اسمه في متحف تيت البريطاني.

Thursday, October 20, 2016

لوحات عالميـة – 380

فجـر بـلا أمـل
للفنان البريطاني فـرانك بـراملـي، 1888

عندما عُرضت هذه اللوحة لأوّل مرّة في الأكاديمية الملكية في لندن قبل 130 عاما وُضع معها اقتباس من مقالة كتبها الناقد جون راسكين يقول فيها:
الإنسان والحزن متلازمان إلى الأبد، ومن عصر إلى عصر تجري الأمواج دائما والرياح تعوي والقلوب المؤمنة تعاني وتمرض والرجال الشجعان يواجهون الشطآن الثائرة بضراوة. لكن خلف دفّة كلّ قارب أو سفينة، ثمّة يد الله التي تمنح البحّارة مفاتيح السماء".
واللوحة تصوّر مشهدا حزينا من العصر الفيكتوري. فالمرأة الجاثية تدرك أن زوجها توفّي في البحر أثناء رحلة صيد، بينما تحاول حماتها أو أمّ زوجها مواساتها والتخفيف عنها. وعبر النافذة يمكن رؤية بحر هائج وأنوار الفجر في سماء عاصفة.
الكتاب المقدّس المفتوح والطاولة على شكل مذبح على الجدار تتضمّنان تلميحا بأن الدين يساعد في تعزية الإنسان والتخفيف عنه.
لكن كلا المرأتين فقدتا الأمل في عودة الزوج والابن بعد أن انتظرتا خبرا عنه ليومين كاملين. وهما لم تناما طوال الليل، تقرآن الصلوات والأدعية وتنتظران بلا أمل عودته.
الرسّام يخلق تباينا بين ضوء الصباح الشحيح والشمعة المتوهّجة على الطاولة، بينما على حافّة النافذة تظهر شمعة منطفئة يمكن أن تكون رمزا لموت الصيّاد. وخارج النافذة تستمرّ العاصفة بلا رحمة. الزجاج المتصدّع يوحي بضعف البشر مقابل لا مبالاة وقسوة البحر.
وقد وُصفت اللوحة في بعض الأحيان بأنها ذات مضمون عاطفيّ وسرديّ قويّ مع جاذبية جمالية وتناغم لونيّ، ما يجعلها أحد أكثر الأعمال الفنّية جاذبية وجمالا.
صحيح أن المنظر يصوّر أحزان حياة صيّادي الأسماك وعائلاتهم. لكنه أيضا يقدّم العزاء بالقول إن الربّ لا يتخلّى عن عباده وأن رحمته هي الهادي في الليالي المظلمة وعندما لا يبدو أن الفجر يحمل أملا بالخلاص.
احد النقّاد ذهب إلى انجلترا قبل سنوات ورأى اللوحة في التيت غاليري وقد وصفها بقوله: كانت أعمال رمبراندت وكونستابل وغينسبورو معروضة في غرفة بعد غرفة. وقد أعجبت بجمالها وقدّرت البراعة التي تطلّبها إنتاج مثل تلك التحف الرائعة. لكن في زاوية هادئة من الطابق الثالث، شدّت انتباهي لوحة، بل أقول أنها أسرت قلبي.
وأضاف: لقد رسم الفنّان كوخا متواضعا أمام البحر تظهر بداخله امرأتان، زوجة صيّاد غائب وأمّه، وهما تنتظران طوال الليل عودته، والآن تدركان انه لن يعود أبدا. الزوجة تدفن رأسها في حضن العجوز وهي تبكي بحرقة ويأس.
وختم الناقد كلامه بالقول: أحسست بألم المرأتين وحزنهما. والعنوان المؤرّق الذي أعطاه الرسّام لعمله هذا يخبر عن القصّة المأساوية. ومع ذلك فالموت حقيقة من حقائق الحياة لا يستثني أحدا، ويمكن أن يكون مؤلما جدّا أن نفقد أحدا من أحبّتنا".
ولد فرانك براملي في لنكولنشاير في مايو من عام 1857 ودرس في مدرسة لنكولن للفنّ، ثم في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة حيث تتلمذ على يد تشارلز فيرلات.
وقد عاش الرسّام في فينيسيا بإيطاليا مدّة عامين وتزوّج من رسّامة زميلة هي كاثرين غريهام. وكان من بين زملائه ستانهوب فوربس الذي كان يعتبر براملي من الأشخاص الروّاد في مدرسة نيولاين للرسم.
تخصّص براملي في رسم الديكور المنزليّ وفي مزج الضوء الطبيعيّ بالاصطناعيّ في لوحاته، كما فعل في هذه اللوحة.
وفي عام 1894 أصبح أستاذا في الرويال أكاديمي، ونال في إحدى السنوات ميدالية ذهبية من صالون باريس.

Sunday, October 16, 2016

لوحات عالميـة – 379

لقاء عند البوّابة الذهبية
للفنان الايطالي جيوتو دي بوندوني، 1305

طبقا للعقيدة المسيحية، فإن مريم العذراء وُلدت بنفخة من روح الربّ. وفي روايات الرهبان الأوائل فإن أبوي مريم أيضا أنجباها من دون اتصال جنسي. كان يجب أن تبدأ حياة العذراء بمعجزة عندما حملت بها امرأة في سنّ اليأس. وهذه الفكرة، أي الحمل الإعجازي، تتخلّل عددا كبيرا من القصص الواردة في الإنجيل.
تصوّر هذه اللوحة قصّة والدي مريم، يواكيم و حنّة. كان قد مضى على زواجهما ثلاثون عاما دون أن يُرزقا بأطفال. وكانا محبّين لبعضهما، لكنهما لم يكونا سعيدين لأنهما كانا يحلمان بطفل. وكانا يظنّان أن الله لا بدّ وأن يكون غير راض عنهما.
وقد ذهب يواكيم إلى معبد أورشليم ليقدّم قربانا لعلّ أمنيته تتحقّق. لكن الكهّان صدّوه، لذا اتخذ له ملجئا عند الرعاة. ثم أتاه ملاك وأخبره بأن صلاته استجيب لها. وقد وجّه الملاك الزوجين بأن يذهب كلّ في طريق وأن يلتقيا عند البوّابة الذهبية لأورشليم وأن يقبّل كلّ واحد منهما الآخر هناك.
وعند البوّابة اجتمع شمل الزوجين للمرّة الأولى منذ أن غادر يواكيم البيت ليسأل الكهنة عن الحدث الكبير والوشيك الذي سيغيّر حياتهما إلى الأبد. ويُفترض رمزيا أن لقاء البوّابة الذهبية واحتضان الزوجين لبعضهما هو الذي أدّى إلى الحمل بمريم.
في اللوحة يظهر الزوجان وهما يقبّلان بعضهما البعض أسفل قوس مزخرف يحيط بهما عدد من الناس.
وقد وُصف اللقاء في الكتب القديمة بأن حنّة ألقت بنفسها في أحضان زوجها، ثم حمد الاثنان الله على منّه وكرمه بأن منحهما طفلا. وقد عرفا من رسول السماء، أي الملاك، بأن الطفل سيكون أنثى وأنها ستصبح في ما بعد ملكة قويّة في السماء والأرض.
وفي مختلف الرسومات القديمة التي تصوّر القصّة، يظهر الزوجان عند البوّابة الذهبية وهما في حالة عناق. الفنّان الألماني البيرت ديورر رسم نفس القصّة ووظّف فيها تقاليد عصر النهضة المبكّرة، كالنظر عبر شبّاك مفتوح والمزج بين الديني والدنيوي من حياة ذلك العصر.
في اللوحة أيضا يظهر يواكيم بصحبة الراعي، وجزء من الراعي مقتطع من الصورة لخلق انطباع بتتابع المشاهد من خلال إطارات تُتوّج بالمشهد الأخير والأهم، أي موكب الزوجين.
الخطوط العمودية في المعمار والقوس الذهبيّ لبوّابة المدينة تؤطّر الطريق الذي يسلكه الزوجان. هنا يتقابل الاثنان فوق الجسر ويحتضنان بعضهما بحنان. في الفنّ الكلاسيكي الأوربّي يُعتبر مشهد القبلات أمرا نادرا، وحتى نهاية القرن الماضي كانت شيئا مبتدعا وجريئا. والقبلة في اللوحة لا علاقة لها بالجنس، وأهميّتها تنبع من حركة وتعابير الأجساد.
رُسمت هذه اللوحة قبل سبعمائة عام كجدارية لتزيّن إحدى الكنائس في بادوا بإيطاليا. وما تزال موجودة في مكانها حتى اليوم. وربّما يلاحظ الناظر أن ملامح الأشخاص فيها تتسم بالصرامة، وتلك سمة ملازمة لرسومات جيوتو بشكل عام وقد كانت دائما مصدر تقدير عند النقّاد. أحدهم قال في زمانه أن جيوتو ترجم فنّ الرسم من اليونانية إلى اللاتينية، أي انه غيّره من تسطيح الأيقونات اليونانية إلى صلابة التماثيل الرومانية.
لكن بالنسبة للعين الحديثة، فإن هذه الصلابة تشوّه الشكل التشريحي. وبسبب انثناءات الجسد في رسوماته، تبدو بدائية وطفولية، وهذا بالضبط ما كان يروق لبعض رسّامي الحداثة في القرن العشرين. حذَرُ شخوص الرسّام وثباتهم وبطء حركتهم ربّما يلخص أسلوبهم في التواصل مع العالم ومع بعضهم البعض.
في اللوحة هناك بعض التفاصيل اللافتة مثل القوس الذهبي للبوّابة واستخدام الأسود في عباءة إحدى النساء، وكذلك الراعي وهو احد شخصيات القصّة الذي يظهر نصفه في طرف اللوحة الأيسر. كما أن هناك جدلا بشأن المرأة التي ترتدي الأسود، ويبدو أنها الشخص الوحيد غير السعيد باللقاء.
جيوتو يتمتّع بحضور قويّ في الفنّ الغربيّ، وقد استحدث أبعادا ثلاثية في لوحاته وأعماقا متراجعة في فراغاتها. ولد وعاش في فلورنسا، ويقال انه كان راعيا بسيطا كان يرسم أغنامه في التلال إلى أن اكتشفه احد الرسّامين وقدّم له التشجيع والرعاية. وهو اليوم يُعتبر من أشهر فنّاني عصر النهضة الإيطالي.

Thursday, October 06, 2016

لوحات عالميـة – 378

ليـدا اتـوميكـا
للفنان الاسباني سلفادور دالي، 1949

لم يكن هناك شيء عاديّ في شخصية سلفادور دالي أو في أعماله أو في أسلوب حياته. لذا لم يكن مستغربا أن تعكس لوحاته طبيعته الغريبة.
كانت زوجته غالا مصدر إلهام كبير له. وعندما يستحضرها كان يصنع أعمالا متسامية. وقد قال انه عندما رسم هذه اللوحة إنما أراد من خلالها أن يمجّدها.
كان أيضا متأثّرا بفنّ وميثولوجيا وتاريخ اليونان. ويقال أنه رسم صورة لهيلين أميرة طروادة قبل بلوغه سنّ العاشرة. وتتضمّن أعماله العديد من الإشارات الميثولوجية.
موضوع هذه اللوحة استلهمه الرسّام من الأسطورة الكلاسيكية المشهورة عن ليدا ابنة ملك اتوليا. وتحكي الأسطورة أن زيوس، كبير آلهة اليونان القديمة، وقع في حبّ ليدا. وعندما تمنّعت عليه حوّل نفسه إلى إوزّة ثمّ نام معها وأحبلها.
قصّة ليدا والإوزّة ظلّت دائما تتمتّع بالرواج والشعبية طوال تاريخ الفنّ. غير أن دالي حوّلها إلى قصّة داخلية عن الجمال والإغراء.
وقد بدأ رسم هذه اللوحة في الولايات المتحدة، ويصوّر فيها زوجته وملهمته غالا على أنها ليدا. وتبدو وهي تجلس عارية على قاعدة تمثال بينما تداعب بيدها اليسرى إوزّة وتقترب منها كي تقبّلها.
الكتب والفقاعات الفضّية تتطاير في الجوار وحول ليدا مثل الالكترونات حول النواة، وطبعا كلّ هذه الأشياء لا علاقة لها بالأسطورة الأصلية.
وحول ليدا، المرسومة داخل شكل فيثاغورسي ثمانيّ الأضلاع، هناك أشياء أخرى مثل كتاب ومربّع، بالإضافة إلى بيضة ترمز إلى ثمرة الاتحاد بين ليدا والإوزّة التي وُلد منها توأمان.
كانت البيضة احد موتيفات دالي المفضّلة، وهو يربطها بالنسل والذرّية والوالدين، ويستخدمها رمزا للحبّ والأمل.
وفي الخلفية تظهر صخور كيب نورفو في إشارة إلى مسقط رأس دالي.
كلّ شيء في اللوحة مرسوم بحرص لكي يكون ساكنا في الفراغ، رغم عدم وجود ما يربط هذه الأشياء منطقيّا ببعضها البعض.
الشاعر الانجليزي وليام بتلر ييتس كان قد وصف في إحدى قصائده المشهورة قصّة اللقاء الغريب بين زيوس وليدا. وكانت هذه الأسطورة مشهورة وشائعة في القرن السادس عشر.
والمفارقة أنه في ذلك الوقت كان مقبولا أن تُرسم صورة لامرأة في فعل جماع مع إوزّة، بينما كان محظورا تصويرها على تلك الحال مع رجل.
بعض معاصري دالي كانوا يرون أن توظيف الرياضيات، كما فعل في هذه اللوحة، يسيء إلى العمل الفنّي ويعطّل الإبداع. لكن دالي كان يرى أن أيّ عمل فنّي يجب أن يرتكز على التوليف والحساب.
وفي تناوله للقصّة، من الواضح انه تعامل مع الحبّ بطريقة أكثر روحانية ممّا تعامل به أكثر الرسّامين الآخرين الذين ركّزوا في تصويرهم لهذه الأسطورة على الجانب الجسديّ لاتحاد زيوس وليدا كما فعل ميكيل انجيلو ونيكولا بُوسان.
في اللوحة كلّ شيء تقريبا أثيريّ وليست هناك ملامسة من أيّ نوع، بل وحتى البحر لا يلامس الأرض. ونفس هذه السمة يمكن أن نراها في بعض لوحات الرسّام الأخرى، إذ يظهر فيها الأشخاص وهم في حالة ارتقاء وسموّ.
ويقال أن دالي كان يرى تماهياً مع شخصيات اللوحة، فزوجته غالا هي هيلين التي كان جمالها عظيما لدرجة انه أدّى إلى إشعال حرب بين الإغريق وأهل طروادة. وأحد التوأمين كان شقيقه الميّت، بينما شقيقته هي كليتمنسترا.
ولأنه كان كاثوليكيّا، فقد فتح هذا المجال لتفسيرات أخرى، منها مثلا أن في اللوحة إشارة إلى حمل العذراء بابنها وبأنه نفخة من الروح القدس. وربّما أراد أن يقول انه يحبّ غالا مثلما أحبّ الله العذراء.
افتتان دالي بالعلم يظهر في العديد من أعماله التي أنجزها خلال وبعد الحرب العالمية الثانية. وممّا يؤثر عنه انه قال ذات مرّة: في الفترة السوريالية أردت أن اخلق رسومات ايقونية عن العالم الداخليّ؛ عالم الدهشة، عالم والدي الروحيّ فرويد. واليوم فإن العالم الخارجيّ، أي عالم الفيزياء، تجاوز علم النفس، ووالدي اليوم هو الدكتور آيزنبيرغ".
وكان دالي يقصد العالم ويرنر آيزنبيرغ الذي تحدّث في نظرياته عن مبدأ اللا يقين. ومع هذا التغيير ظهر اهتمام الرسّام بالدين، ثم صاغ على إثره مصطلحه "الغموض النوويّ".
ومنذ ذلك الوقت أصبح دالي يهتمّ بالعلم والتكنولوجيا. والكثير من لوحاته التي رسمها آنذاك تصوّر مفهوم أن كلّ شيء هو في حالة تعليق وطفوّ من خلال تنافر البروتونات والالكترونات.
كما كان أيضا مفتونا بالحالة العابرة للعقل ما بين النوم واليقظة، ما بين الحلم والواقع، وما بين العقل والجنون، معتبرا أنها الحالة التي يعمل فيها العقل بصفاء، دون أن تعطّله قيود المنطق ومقتضيات السلوكيات الاجتماعية.
أثناء رسم دالي لهذه اللوحة، اخذ له المصوّر الفوتوغرافيّ المشهور فيليب هالسمان لقطة لا تُنسى اسماها "دالي اوتوميكوس"، صوّر فيها الهستيريا والسوريالية التي كان دالي من أنصارهما.
المعروف أن دالي كان مفتونا بكلّ شيء باذخ ومذهّب، وكان يعشق الرفاهية والملابس الشرقية. ولطالما ردّد أن عائلة أمّه ذات جذور يهودية وأن أسلافه كانوا من العرب.
كان واسع الخيال ويتصرّف بطريقة غريبة كي يجذب الانتباه إلى نفسه، وهذا كان يسعد محبّي فنّه، لكنه كان يضايق النقّاد.

Tuesday, June 14, 2016

لوحات عالميـة – 377

نهاية العشاء
للفنان الفرنسي جـول الكسنـدر غـرون، 1913

كان جول الكسندر غرون أحد رموز الرسم الأكاديميّ في عصره، ومع ذلك كان معروفا بارتباطه بالمدرسة الانطباعية. كان يتمتّع بموهبة ممتازة، وإحدى لوحاته المبكّرة امتدحها النقّاد ولاقت نجاحا مدوّيا، رغم انه في ذلك الوقت بالكاد تجاوز الثامنة عشرة من عمره.
إحدى المطبوعات التي تعود إلى مطلع القرن الماضي تصفه بأنه "فرنسيّ كان الفنّ والحياة عنده ممتزجين ببعضهما. وقد اختار الرسم لأنه كان يحبّ الحياة ويحتاج إلى التعبير عن مشاعره بطريقة ملوّنة وحيّة".
صحيح أن فنّ غرون يُنظر إليه اليوم كموضة قديمة، لكن انجازاته يجب أن تُعطى قدرها، مثل هذه اللوحة الفخمة التي يصوّر فيها أشخاصا كثيرين يحضرون مأدبة عشاء.
كانت حفلات العشاء في ذلك الوقت، وكما هو الحال اليوم، جزءا لا يتجزّأ من حياة الأوربّيين وواجبا من أهمّ واجبات الزوجات في الطبقات الاجتماعية الرفيعة. فالمضيفة أو ربّة البيت يجب أن تهتمّ بأدقّ تفاصيل الحفل، من قائمة الضيوف إلى أماكن الجلوس إلى الديكور ونوعية الأطباق المقدّمة.
كان الغرض من هذه الحفلات الحفاظ على علاقات اجتماعية طيّبة وودّية بين العائلات المختلفة. والمضيفة أو زوجة صاحب الدعوة كانت تدعو للمأدبة الأشخاص الذين تعتبرهم جديرين بالدعوة، كالأصدقاء الجدد والقدامى والأثرياء والأشخاص الذين تعتقد أنهم قد يكونون مفيدين لزوجها.
وكان على كلّ من يلبّي الدعوة أن لا يعتذر عن الحضور، إلا إن كان فاقدا لقريب أو مصابا بمرض مُعدٍ أو خطير. وبالإضافة إلى الساسة والفنّانين، كانت الدعوات تُوجّه للعزّاب من الشباب الذين يمكنهم إدارة النقاشات وإثارة الأحاديث الممتعة بين الضيوف.
رسم جول غرون هذه اللوحة الضخمة لصالة الرسّامين الفرنسيين عام 1912. ولم يكن هذا أمرا غريبا أو محض صدفة، فللرسّام لوحات ضخمة كثيرة. واللوحة تصوّر وليمة عشاء يحضرها مجموعة من رجال ونساء الطبقة الباريسية الرفيعة.
بناء اللوحة المتناغم ولمعانها وتلقائيّتها هي من الأشياء التي تلفت الانتباه. ولو نظرت إليها عن قرب ستقدّر كلّ التفاصيل الجميلة التي أودعها الرسّام فيها.
لمسته الواسعة تذكّر بأستاذه غيميه. وبراعته في تصوير تأثيرات الضوء يمكن أن تضعه في عداد الرسّامين الحداثيين.
موضوع اللوحة يذكّر بأحوال المجتمع الفرنسي في ما عُرف بـ "الحقبة الجميلة"، فمجتمع باريس يظهر هنا بتنوّعاته وأطيافه المختلفة، من فنّانين وممثّلين إلى ساسة وصحافيّين وأطبّاء مع زوجاتهم.
ونقطة الارتكاز في اللوحة هي المرأة ذات الفستان الأحمر والزهريّ التي تعطي ظهرها للناظر. وقد جرى تعريفها على أنها جينيت لانتوم زوجة مدير جريدة لوماتان العريقة. كانت هذه المرأة مشهورة في مجتمع باريس بجمالها وحضورها الأخّاذ.
الرسّام غيميه، معلّم غرون، هو أيضا حاضر وكذلك الرسّام جورج روشيغرو، بالإضافة إلى غرون نفسه.
الكتب الخاصّة بإيتكيت الطعام والحفلات والمآدب خلال القرنين الثامن والتاسع عشر تزوّدنا بلمحة عن الآمال الموضوعة على المرأة، وخاصّة الزوجة في مجتمع النخبةّ.
كان على صاحبة الدعوة، مثلا، أن تهتمّ بأماكن الجلوس المناسبة لكلّ ضيف، لأن خطأ واحدا يمكن أن يتسبّب في إحراج شخص أو جرح كرامته. وهناك نظام صارم للجلوس، لدرجة أن تغييرا بسيطا في قائمة المدعوّين يمكن أن يغيّر كامل النظام. ويمكن لمدعوّ أن يُعطي ظهره للجالس إلى جواره كنوع من التعبير عن احتجاجه على إجلاسه بجانب شخص غير جدير بمحادثته.
وكان من عادة المضيفة عند انتهاء العشاء أن تصحب المدعوّات إلى غرفة أخرى لتدور دردشة نسائية عن الموضة والقيل والقال، وهي المواضيع الوحيدة التي كان يُعتقد أنها تناسب السيّدات. بينما يبقى الرجال بعد العشاء لمناقشة المواضيع الذكورية كالسياسة والعلوم وما في حكمها.
لكن ابتداءً من القرن العشرين، أصبح الرجال ينضمّون للنساء في غرفة واحدة يمكن للجميع فيها أن يثيروا معا أحاديث عامّة الطابع.
ولد جول الكسندر غرون في باريس في مايو من عام 1868، وكان أبوه يريده أن يصبح تاجرا. لكنه اتفق مع عائلته على أن يدرس الديكور، ثم تتلمذ على يد جان باتيست لافستر مزيّن المسارح المشهور في أوبرا باريس وأنطوان غيميه رسّام المناظر الطبيعية.
في البداية، عمل غرون كرسّام كاريكاتير ومصمّم بوسترات في مونمارتر. وقد وضع الرسوم التوضيحية لمجموعة من الأغاني بتكليف من ملهى القطّ الأسود، كما رسم جداريات لتزيّن ملاهي وحانات ليلية أخرى.
لكنّ هذا كان لكسب لقمة العيش اليومية فقط. وسرعان ما أصبح مشهورا في المجال الذي نافس فيه جميع زملائه، أي رسم البوسترات. وهذا فتح أمامه الباب للذهاب إلى مونمارتر، حيث استقرّ هناك وافتتح له محترفا في المكان الذي اعتاد فيه الرسّامون أن يعيشوا حياة بوهيمية وأصبح بسرعة أحدهم.
كان غرون بطبيعته شخصا مرحا ومحبّا للحياة، وكان على الدوام يصادق رسّامين أكبر منه سنّا. ومعظم هؤلاء كانوا من رسّامي الكاريكاتير الذين كانوا يتّسمون بروح الدعابة. ثم أصبح جزءا من مجتمع باريس المخمليّ آنذاك.
في نهايات حياته، عمل الرسّام كمحكّم وعضو في لجنة المحلّفين في الصالون. لكنه أصيب بمرض باركنسون في أواخر الثلاثينات. وقد عزله المرض عن المجتمع وقضى على قدراته الفنّية إلى أن توفّي في فبراير من عام 1934.

Tuesday, May 31, 2016

لوحات عالميـة – 376

امرأتان في الشارع
للفنان الألماني إرنست لودفيغ كيرشنر، 1914

هذه اللوحة هي واحدة من سلسلة من سبع لوحات رسمها إرنست كيرشنر، يصوّر فيها الحياة في شوارع برلين على مدى عامين. والموتيف الرئيسي في هذه اللوحات هي فتيات الليل، وهو اختيار غير مألوف كرمز للمدينة. وقد وظّف الرسّام فيها اللغة البصرية للأشكال الخشنة وضربات الفرشاة المتوتّرة.
واللوحات تستدعي التناقضات الصارخة لمجتمع المدينة الحديثة، حيث الوهج والخطر والحميمية والانحلال والوحدة تتعايش مع بعضها البعض وحيث كل شيء للبيع.
كما أن هذه اللوحات تمثّل نقطة تحوّل في مسيرة الفنّان الفنّية، إذ انه انتقل فيها من الألوان الساطعة والخطوط المنحنية التي كان يوظّفها في أعماله المبكّرة إلى ألوان أشدّ قتامة وأشكال أكثر حدّة، في محاولته تصوير مجتمع برلين الحيويّ والمتوهّج آنذاك.
والمزاج المتوتّر الذي تشيعه هذه المجموعة من اللوحات يعزّزه الشعور بالاضطراب والقلق عشيّة اندلاع الحرب العالمية الأولى.
في ما بعد، تحدّث كيرشنر عن هذه السلسلة فقال: لقد رسمتها في أكثر أوقات حياتي إحساسا بالوحدة. التوتّر والألم دفعا بي إلى الخارج، إلى الشوارع في أوقات الليل والنهار، وكانت مليئة بالناس والسيّارات".
تلك الفترة اتّسمت بالتطوّر والتغيير السريع ومثّلت وقتا مهمّا، ليس في حياة كيرشنر فقط، وإنّما أيضا في تاريخ برلين وألمانيا كلّها.
وعندما تنظر إلى هذه اللوحات للوهلة الأولى قد تظنّ أن الرسّام يصوّر نساءً بملابس أنيقة وهنّ في طريقهنّ إلى حدث سعيد. غير أن نظرات النساء، بأجسادهنّ المتأرجحة وخطواتهنّ السريعة والمختصرة، توحي بدور آخر مختلف.
إحدى أشهر لوحات السلسلة هي هذه اللوحة التي يرسم فيها كيرشنر امرأتين تمشيان في شارع. واللوحة تتميّز عن بقيّة السلسلة في أنها صورة مقرّبة تُظهر فقط جذعا المرأتين. أيضا وجهاهما تجريديان ومسطّحان مع ثلمات غير طبيعية تشبه الخشب، وربّما كان في ذلك إشارة إلى الفنّ الأفريقي والاوقيانوسي الذي كان يجتاح أوربّا في ذلك الوقت.
قصّات وألوان ملابس المرأتين التي يغلب عليها الألوان الزهرية والخضراء والصفراء تشير إلى أنهما من سيّدات المجتمع الرفيع.
إحداهما، ذات الجاكيت البرتقالي، ترتدي قبّعة بنفس لون الجاكيت الفيروزي الطاووسي لرفيقتها. وألوان الياقتين متماثلة من خلال غلبة الأصفر الليموني عليهما.
ورغم المسحة التجريدية للمنظر، إلا أن فيه حضورا وتفاعلا إنسانيا واضحا. كما أن فيه لمسة من تكعيبية بيكاسو التي كان كيرشنر متأثّرا بها. ممّا يجدر ذكره أن هناك لوحة أخرى له يقلّد فيها لوحة بيكاسو المشهورة "آنسات افينيون" وتظهر فيها خمس نساء مصطفّات بشكل إيقاعيّ.
كان الرسّام حديث عهد ببرلين عندما رسم هذه اللوحة. وكانت درسدن التي عاش فيها من قبل هادئة جدّا ومتحفّظة أخلاقيّا مقارنة مع برلين المتحرّرة والمتسامحة والتي كانت ثالث اكبر مدينة في أوربّا بعد كلّ من لندن وباريس.
بعض لوحات الرسّام الأخرى تركّز على اظهر المباني والجسور وغيرها من الصروح الحضرية، ولا ظهور للناس فيها إلا بالكاد، وهي سمة تشي بدراسة كيرشنر المبكّرة للهندسة المعمارية.
في عام 1980 اختارت محطة البي بي سي هذه اللوحة من بين أعظم مائة لوحة في تاريخ الفنّ. وطبقا لأحد النقّاد فإن اللوحة تتضمّن تشوّهات بشعة تسخر من تصنّع الرسّامين المتأنقين "أو الماناريست" في مجتمع برلين الفنّي.
كان كيرشنر عضوا في جماعة الجسر. وقد رفض منذ البداية الفنّ التقليديّ للأكاديمية، وفضّل عليه أسلوبا تعبيريّا أكثر طبيعية وتلقائية.
في عام 1937 قام النازيّون بمصادرة أكثر من ستمائة من لوحات إرنست كيرشنر وعرضوا بعضها في معرض "الفنّ المنحلّ" في ميونيخ، قبل أن يقدم هو على الانتحار بإطلاق النار على نفسه في السنة التالية.
وأعماله الباقية موجودة اليوم في متاحف ومجموعات خاصّة في ألمانيا وسويسرا وايطاليا والولايات المتّحدة.

Thursday, May 26, 2016

لوحات عالميـة – 375

شعراء كلاسيكيون على شاطئ مقمر في اليونان القديمة
للفنان الروسي ايفان ايفازوفسكي، 1886

الفكرة الرئيسية المهيمنة على فنّ ايفان ايفازوفسكي إجمالا هي صراع الإنسان مع الطبيعة والعناصر. لكن في أوقات الحروب كان يرسم مشاهد عسكرية. وكان معجبا كثيرا بالقصص البطولية التي كان يسمعها عن اليونانيين وعن حروب الماضي.
ومن وقت لآخر، كان ايفازوفسكي يتناول في أعماله موضوع الشعراء العظام من العالم الكلاسيكيّ القديم ومن العصور المتأخّرة مثل دانتي وبايرون وبوشكين.
وقد تحدّث بعض مؤرّخي الفنّ عن الأسباب التي يمكن أن تدفع رسّاما كبيرا عُرف عنه شغفه الكبير برسم المناظر البحرية لأن يصوّر رجال فكر وأدب. ولوحاته المخصّصة للشعراء الكلاسيكيين تمثّل برأي البعض فصلا غريبا وغامضا في سيرة حياته.
وإحداها هي هذه اللوحة التي تتمتّع بألوانها الجذلة وبمقدرتها الغريبة على ملامسة المشاعر. وربّما لهذا السبب أصبحت من أعظم انجازات هذا الرسّام التي أكسبته إعجاب واعتراف النقّاد والجمهور.
المعروف أن ايفازوفسكي رسم الشاعر الروسيّ الكبير الكسندر بوشكين عندما تقابل الاثنان في أكاديمية الفنون بسانت بطرسبورغ.
وفي ما بعد وجدت أفكار الرسّام عن معنى الحياة ووظيفة الفنّ شكلها المناسب في لوحته المسمّاة "دانتي يشرح لفنّان منظرا لغيوم غير مألوفة".
ثم رسم ايفازوفسكي لوحة أخرى يصوّر فيها الشاعر الانجليزيّ اللورد بايرون أثناء زيارته لأحد الأديرة المشهورة في جزيرة سانت لاتزارو في فينيسيا. وهذه اللوحة كانت، بمعنى ما، تذكيرا بالقضيّة الأرمنية، كون ايفازوفسكي نفسه ينحدر من أصول أرمنيّة.
وهناك لوحة أخرى له اسمها "زواج شاعر في اليونان القديمة".
وكلّ هذه اللوحات الأربع متساوية تقريبا في الحجم وجميعها تستحضر الأجواء الرعوية التي تذكّر بأركاديا.
ورغم هذا التشابه في ما بينها، إلا انه يصعب التأكّد ممّا إذا كان الفنّان قد رسمها بناءً على تكليف من أشخاص ما، أم أنها كانت من بنات أفكاره أو ثمرة لمخيّلته هو.
وأيّا ما كان الأمر، فإن هذه اللوحة بالذات تحتلّ مكانة بارزة في سلسلة رسوماته عن الأزمنة القديمة. وهذا التصوير لمنظر ليليّ هادئ على شاطئ باليونان يتميّز بجماله وحميميّته.
والرسّام هنا، وعلى عكس ما عليه الحال في اللوحات الأخرى، لا يقدّم للناظر صورة لمعابد قديمة. وبالكاد تستطيع رؤية أشجار الغار المخصّصة للفائزين في المسابقة الشعرية المفترضة.
الوجه الشاعريّ لليونان القديمة يتألّف من سمات فنّية مختلفة. هناك مثلا القمر الذي يرتفع فوق البحر وسط طبقة من السحب المظلمة التي تطلّ بصمت وجلال على سطح الماء الساكن الذي يشبه مرآة.
هنا يوصل الفنّان صورة عن غموض الليل وقدرته على إخفاء العالم المنظور، والارتباط الغامض بين جمال ضوء القمر وألوان السماء الليلية الشاحبة وجمال ألوان البحر. البحر والصخور المستحمّة في ضوء القمر الشبحيّ تستدعي الإحساس الرومانسيّ باتساع الأرض وبمظاهر المتعة التي تملؤها.
ومن الواضح أن الرسّام اشتغل كثيرا على رسم القمر، وتبدو براعته بأجلى ما يكون في إيصاله تأثيرات ضوء القمر على السحب والأمواج التي تلامس سطح الماء.
وقد وزّع وهج ضوء القمر بفرشاة ساطعة وإيقاعية تشبه الومضات الذهبية مع ألوان أنيقة وباردة قوامها البنّي والأزرق. الماء والضوء والهواء تمتزج جميعها لتصبح عنصرا واحدا. والسماء تخبر الناظر بالتفصيل عن الوقت من اليوم وعن حالات الجوّ والمزاج.
هذا المحيط الجوّي بتيّاراته وغيومه يلتحم مع القمر الذي يضيء الماء. وهذه هي المنطقة التي تتبدّى فيها براعة الرسّام في أوضح صورها.
كان من عادة ايفازوفسكي أن يضع أبطاله في صوره وهم جالسون أو واقفون على الصخور بجانب الماء، وكان هذا أهمّ أساليبه الفعّالة في تصوير روعة المناظر الليلية وإضفاء قوّة تعبيرية عليها.
وبين تلك الأسطح المظلمة نرى الشعراء في مقدّمة هذا المنظر وهم منهمكون في حواراتهم. وخلفهم هناك توليف طبقيّ من السماء والبحر ينفتح بفعل ضوء القمر المطلّ من علوّه الشفّاف.
كان ايفازوفسكي كثيرا ما يقارن إبداعه بالشعر، وقد قال ذات مرّة إن موضوع الصورة يأتي إلى مخيّلته كما يأتي موضوع القصيدة إلى عقل الشاعر.
لكن يبدو أن موضوع هذه الصورة، أي الأدب والشعر، يتراجع إلى الخلفية. وما يظهر للعيان حقّا هو هذا المشهد بعمومه والذي يبدو أشبه ما يكون بقصيدة متناغمة من الألوان والأضواء.
الجدير بالذكر انه كان من بين أصدقاء ايفازوفسكي الكاتب نيكولاي غوغول والرسّام الكسندر ايفانوف والموسيقيّ ميخائيل غلينكا صاحب المقطوعة المشهورة "رسلان ولودميلا".
من جهته كان الروائيّ الكبير دستويفسكي معجبا كثيرا برسومات ايفازوفسكي، وقد أطلق عليه وصف "المعلّم الذي لا ينافَس في رسم عواصف البحر ذات الجمال الأبديّ والأخّاذ".

موضوع ذو صلة: ايفازوفسكي شاعر البحر

Thursday, May 19, 2016

لوحات عالميـة – 374

العنكبـوت المبتـسم
للفنان الفرنسـي اوديـلـون رِيـدون، 1881

كان اوديلون ريدون يقول إن الخوارق ليست من مصادر إلهامه وأنه يكتفي بتأمّل العالم الخارجيّ والحياة عموما، ومن ثمّ يرسم انطباعاته عن ما يراه.
لكن هناك عدّة مصادر أسطورية وأدبية وشعرية يُعتقد أنها أسهمت في تشكيل ثقافته الصُورية وتغذية خياله.
كان، مثلا، صديقا لستيفان مالارميه، كما استوحى بعضا من رسوماته من عالم شكسبير، وممّا لا شك فيه انه تأثّر أيضا بأعمال إدغار آلان بو وفلوبير.
وهناك مفارقة صارخة بين الأسلوب المنزليّ لهذا الرسّام الأنيق الذي كان يعيش حياة هادئة مع زوجته وطفله في شقّة باريسية، وبين الشخصيات الفانتازية، والمخيفة أحيانا، التي كان يضمّنها رسوماته.
وما زاد في غموض أعماله الغريبة حقيقة انه كان دائما يرفض تفسيرها أو شرحها أو الحديث عن أصولها.
في تلك الفترة أيضا كان ريدون منكبّا على قراءة قصص ثيودور غراندفيل المستمدّة من عالم الخيال. وربّما من تلك العوالم الفانتازية خرج هذا العنكبوت العملاق الظاهر في اللوحة بعينين وابتسامة غامضة بينما يبدو منهمكا في رقصة مخيفة.
وكان زميله غوستاف دوريه قد رسم قبل ذلك لوحة اسماها "العنكبوت". ويبدو أن ريدون رسم هذه اللوحة وفي ذهنه أن يغامر بالدخول في عالم المسوخ مستلهما دوريه.
في ذلك الوقت، كان ريدون يعاني من سلسلة من نوبات الاكتئاب. ولهذا السبب، ربّما، رأى بعض النقّاد في لجوئه إلى الرسم بالفحم أسبابا روحية وسيكولوجية.
واستخدام الفحم مثّل نقطة تحوّل كبيرة في تاريخ الرسم. وكانت تلك الخطوة تشكّل قطيعة مع الأسلوب الأكاديمي في الرسم آنذاك. والمعروف أن الفحم يختلف عن اللون الأسود التقليديّ في أن الأوّل يعطي عددا بلا نهاية من الظلال.
جماعة الأنبياء، مثلا، ومن بينهم موريس دونيه وفويار وبيير بونار، كان ريدون على علاقة وثيقة بهم رغم تباين السنّ. وهؤلاء أيضا كانوا يدركون الأهمية الكبيرة للفحم في تطوّر الفنّ فاستخدموه في أعمالهم.
وفي نفس الفترة التي رسم فيها هذه اللوحة، رسم ريدون لوحة أخرى اسماها "الملاك الساقط من عليائه". كان مهتمّا بالملائكة والمخلوقات الغيبية، لكن الكائن المرسوم في اللوحة لا يبدو على هيئة ملاك.
كان مهتمّا برسم الوحوش والمسوخ الغريبة. ويبدو انه كان يتعمّد أن يرسم صورة مجازية للعالم تنسجم مع الصورة الخيالية التي كانت في ذهنه.
وفي كلّ الأحوال، يظلّ ريدون رسّاما متفرّدا لعب دورا مهما في تأسيس الرمزية وتأثّر به السورياليون.
بالنسبة لهذه اللوحة، لا يُعرف على وجه التحديد لماذا رسمها الفنّان ولماذا أعطى العنكبوت بعض خصائص الإنسان، ابتسامته تحديدا. هل أراد مثلا أن يبدو شرّيرا وبشعا؟ أم انه كان يحاول استكشاف الأبعاد الغامضة للأشياء؟
الأمر المؤكّد هو أن "العنكبوت المبتسم" كان بداية انشغاله بفكرة الكائنات المهجّنة التي يبدو أنها تجذّرت في ذهنه نتيجة افتنانه بالنباتات وبعلم الحيوان وعلم الأحياء المجهرية والنظريات الداروينية.
وبعض النقّاد أشاروا إلى أن اللوحة تتضمّن بعض السخرية، ويمكن أن تُقرأ باعتبارها كاريكاتيرا أراد ريدون من ورائه أن ينتقد عصره، بالنظر إلى المصاعب التي واجهها في حياته المبكّرة قبل أن يصل للشهرة التي كان يصبو إليها.
العنكبوت فكرة تكرّرت كثيرا في الثقافة والفنّ منذ القدم. وكثيرا ما يُصوّر على انه مخلوق مفترس وسامّ ومخادع. والعديد من الكتّاب والفنّانين تناولوا في أعمالهم الأسطورة القديمة عن أنثى العنكبوت القاتلة.
لوحة اراكني للرسّام الاسباني الكبير دييغو فيلاسكيز تصوّر أسطورة بطلها عنكبوت. والفيلسوف جان جاك روسّو أوصى ذات مرّة بأن يكون لكلّ إنسان مجاله الخاصّ والمحدّد، تماما مثل العنكبوت، كي نسيطر على ما يمكن أن يصل إليه نفوذنا وتأثيرنا. وفكرة روسّو مشابهة للقول الشائع "إعرف نفسك". أما ديدرو فقد كتب مقارنة فلسفية بين العنكبوت والإنسان.
ولد اوديلون ريدون عام 1840 في بوردو لعائلة متوسّطة الحال. تعلّم الموسيقى منذ وقت مبكّر وكان دائما قارئا نهما. وفي بداياته قضى بضعة أشهر في مرسم الفنّان جان ليون جيروم. كما تأثّر بدافنشي ورمبراندت.
في الحرب العالمية الأولى، عام 1914، تمّ تجنيد ابنه في الجيش الفرنسيّ، وأصبح هو متشائما سوداويّ المزاج. وتوفّي بعد ذلك بعامين، أي في 1916، بينما كان يعمل على انجاز لوحته "العذراء".

Tuesday, May 17, 2016

لوحات عالميـة – 373

عقـوبة البـذخ
للفنان الايطالي جيوفـاني سيغانتيـني، 1891

كان اسم هذه اللوحة في البداية "عقاب الشهوة". وكان يُعتقد بأن هذا الاسم مستفزّ، لذا تمّ تغييره إلى "عقاب البذخ".
واللوحة واحدة من ثلاث لوحات رسمها جيوفاني سيغانتيني، مستلهما إيّاها من مقطع من قصيدة ايطالية بعنوان "نيرفانا" كتبها في القرن الثاني عشر راهب مسيحيّ يُدعى "لويجي ايليكا" يحاكي فيها نصّا هنديّا قديما.
يقول المقطع واصفاً العقوبة الأخروية المخصّصة للنساء اللاتي يرفضن الدور البيولوجيّ للمرأة كأمّ: الأمّ الرديئة في الوادي القاحل تدور دون توقّف في البرد الأبديّ، حيث لا غصن يخضرّ ولا زهرة تتفتّح".
سيغانتيني أصبح يتيما في سنّ الثامنة، وقضى بقيّة طفولته في عهدة أقاربه في ميلانو. وفي سنّ الشباب، عاش على عوائد أعماله الزخرفية، بينما كان يأخذ دروسا مسائية في الزخرفة والرسم الديكوري.
وحوالي العام 1880، اكتشفه متعهّد فنّي يُدعى فيتوريو دي دراغون ودعم مشاركته في معارض محليّة ودوليّة. وقد أصبح معروفا في ألمانيا خاصّة.
وفي عام 1896، أقام معرضا منفردا في ميونيخ، كما كان محطّ إعجاب رسّامين مثل فان غوخ وإنسور ومونك. أما كاندينسكي فقد وصفه بأنه احد أوائل من تبنّوا الروحانية في الفنّ.
أعمال سيغانتيني المبكّرة تتضمّن مشاهد ريفية خارج البيوت. وفي مرحلة تالية، شجّعه راعيه دي دراغون على أن يتبنّى التقسيمية أو النقطية. وكان الهمّ الأساس لهذه المدرسة هو الكيفية التي ترى بها العين الضوء والتجانب وطبقات اللون على رقعة القماش لإنتاج اهتزازات لامعة الألوان.
وقد استخدم الرسّام التقسيمية للإيحاء بالصفات الغامضة والصوفية ولتكثيف ردّ فعل المتلقّي الانفعالي، مع انه كان يسود اعتقاد آنذاك بأن كلّ من يرسم بالأسلوب التقسيميّ أو النقطي يعاني من الهستيريا وأمراض العيون.
في اللوحة نرى مجموعة من النساء وهنّ يعاقبن لارتكابهنّ خطيئة الإجهاض عن وعي أو بدافع الإهمال. أرواحهنّ تطفو على خلفية ثلجية من جبال الألب السويسرية حيث قضى سيغانتيني جانبا كبيرا من حياته.
عظمة وروحانية منطقة الألب كانت مصدر إلهام مستمرّ للرسّام الذي قيل أن آخر كلمات لفظها قبيل وفاته كانت عبارة عن مناجاة لتلك الجبال الباردة.
كان سيغانتيني قد فقد أمّه عندما كان في السابعة، وربّما كانت تحدوه الرغبة في تصوير صدمته الشخصية بفقدان والدته في تلك السنّ الغضّة.
كان يَعتقد أن دور المرأة في الحياة هي أن تكون أمّاً، وأن المرأة التي ترفض مسئوليات الأمومة لا بدّ وأن تكون بالضرورة امرأة شرّيرة وسيّئة وأنانية. وقد استمدّ هذا التصوّر من الأفكار الدينية ومن قداسة مريم العذراء وأيضا من خصوبة الطبيعة.
الشجرة الكبيرة إلى يمين اللوحة قد تكون رمزا دينيّا لشجرة الحياة. فرغم أنها تبدو متيّبسة وميّتة في الشتاء، إلا أنه مقدّر لها أن تولد من جديد وتزهر في فصل الربيع.
القصيدة نفسها التي ألهمت الرسّام توحي بإمكانية التجدّد والتحوّل، والأمّ الرديئة قد تعود في النهاية إلى فطرتها الطبيعية كما تكتسي شجرة ميّتة في فصل الشتاء بالأوراق والأغصان من جديد مع بوادر حلول فصل الربيع.
المعروف أن سيغانتيني أتى من بلد محكوم بالكاثوليكية، وهذا هو السبب في أن معظم أعماله متأثّرة بالأفكار الدينية. ومع ذلك يقال أنه لم يكن في حياته الخاصّة منسجما تماما مع العقيدة الكاثوليكية. فقد رفض، مثلا، أن يتزوّج من رفيقته وأمّ أولاده الأربعة.
ورغم الفكرة المأساوية للوحة، إلا أن التأثير والشعور الذي تثيره طقوسيّ وحالم بسبب الفرشاة الريشية الموظّفة فيها. أما الجوّ الغامض للمنظر فينسجم مع رؤية سيغانتيني الغيبية عن العلاقة ما بين الإنسان وعالم الطبيعة.
ولد جيوفاني سيغانتيني في ترينتينو التي كانت آنذاك جزءا من الإمبراطورية النمساوية المجرية. وقضى أولى سنوات عمره في رعاية أمّه التي مرّت بتجربة اكتئاب شديد بعد موت أخيه الأصغر. وقد اتسمت تلك السنوات بالفقر والجوع وقلّة التعليم نظرا لضعف حيلة الأمّ.
في شبابه المبكّر اكتسب سيغانتيني رزقه من رعي الغنم في الجبال. وكان يقضي ساعات طويلة هناك في عزلة وهو يرسم. ثم انتقل بعد ذلك إلى ميلانو حيث عمل بتدريس الرسم ورسم الصور الشخصية. وفي تلك الفترة كرّس جهده لدراسة الحياة في الجبال وأصبح يوصف بأنه "رسّام جبال الألب".
سيغانتيني معروف جيّدا في ايطاليا وسويسرا والنمسا، لكنه ما يزال شبه مجهول خارج هذه البلدان. والمؤسف أن لوحاته غالبا موجودة في مجموعات فنّية خاصّة ولا يمكن العثور على أيّ منها في أيّ متحف.
وقد قضى هذا الرسّام حياته كلّها في سويسرا كشخص بلا جنسية، رغم انه تقدّم مرارا يطلب نيل الجنسية السويسرية. لكن بعد أن أصبح مشهورا وطاعنا في السنّ وافقت سويسرا على منحه جنسيّتها. لكنه رفضها رغم مشاكله قائلا إن ايطاليا هي موطنه الحقيقيّ.
كان سيغانتيني منجذبا دائما نحو الطبيعة. وشغفه هذا أدّى في النهاية إلى موته، إذ أصيب أثناء إحدى جولاته في الجبال بالتهاب في الغشاء الداخلي للبطن، ولم يكن ممكنا إسعافه أو نقله بسرعة إلى البلدة، فتوفّي في الطريق.

Thursday, March 17, 2016

لوحات عالميـة – 372

عائلـة داريـوس أمـام الاسكنـدر
للفنان الايطالي باولـو فيـرونيـزي، 1565

تصوّر هذه اللوحة حادثة مهمّة ذكرها المؤرّخون القدامى. وأصل القصّة يعود إلى العام 333 قبل الميلاد، عندما ألحق الاسكندر المقدوني الهزيمة بداريوس ملك الفرس وآخر ملوك الدولة الإخمينية في معركة ايسوس.
وقد نجا داريوس من الأسر عندما فرّ من ميدان المعركة. لكنّ والدته وزوجته وابنتيه اُخذوا أسرى. وطبقا لـ بلوتارك، فقد منحهم الاسكندر العفو وعاملهم باحترام.
وفي تفاصيل القصّة أن الاسكندر ذهب إلى خيمة عائلة الملك المهزوم مصطحبا معه هيفاستيون مساعده ومستشاره وصديق طفولته، لتأمينهم وطمأنتهم.
واللوحة تصوّر ذلك المشهد الدرامي المهيب. والدة داريوس تجثو أمام الاسكندر وتتوسّل إليه بأن يُبقي على حياتها وعائلتها. وخلف الأمّ تقف زوجة داريوس وابنتاه، بينما الاسكندر يقف إلى اليمين مرتديا ملابس حمراء ومحاطا بجنوده وحرسه ومشيرا بيده إلى مساعده المقرّب الواقف إلى يساره.
بعض المصادر التاريخية تذكر أن والدة داريوس ركعت أمام هيفاستيون ظنّا منها انه الاسكندر، لكن احد المرافقين لفت انتباهها لذلك الخطأ، فما كان من الاسكندر إلا أن تدخّل مؤكّدا أن لا فرق بينه وبين مساعده.
وخلف الزوجة، يقف رجل ملتح قد يكون مترجما أو مرافقا، كما يمكن رؤية عدد من الجند يراقبون ما يحدث، بالإضافة إلى كلب وقرد وولد يستريح على درع. وهناك أيضا منظر غامض لحصان ضخم يقف في أقصى اليمين.
من الواضح أن الرسّام ركّز بشكل خاص على شخص الاسكندر. لكن اللوحة تمتلئ بالتفاصيل الكثيرة التي ربّما كان الهدف منها ملء الفراغ.
والحقيقة أن لا أحد يعرف إن كان شخص ما كلّف الفنّان فيرونيزي برسم هذه القصّة، أو انه رسمها لأنه قرأ عنها فأعجبته. الاحتمال الأخير مرجّح، لأن الحادثة تتضمّن لفتة فروسية وتنطوي على معنى أخلاقيّ.
فالقائد المنتصر، أي الاسكندر، يظفر بعائلة خصمه، لكنه يعفو عنهم ويعاملهم معاملة لائقة فيحفظ لهم ألقابهم وامتيازاتهم الملوكية. ورغم أن زوجة داريوس، واسمها ستاتيرا، كانت مشهورة بجمالها، إلا أن الاسكندر لم يرغب في الاقتراب منها بل عاملها وابنتيها بكلّ تكريم واحترام.
الرسّام لم يتمسّك بحرفية وصف المؤرّخين للحادثة. فاللقاء بين الاسكندر وعائلة داريوس في اللوحة يجري في قاعة قصر فخم وليس في خيمة. وأعمال الخشب والرخام والديكور تحمل بصمة فينيسيا التي عاش فيها الرسّام ولا علاقة لها بفارس القديمة ولا ببلدان الشرق عامّة.
ويقال بأن فيرونيزي استعار صور بعض معاصريه ليضمّنها في اللوحة، كما جرى العرف في رسم المواضيع التاريخية. فالنساء الجاثيات هنّ زوجة الرسّام وابنتاه، والرجل الذي يقدّمهنّ ويرتدي لباسا بنفسجيّا هو الرسّام نفسه.
التصميم المسرحيّ الذي صنعه فيرونيزي للوحة، والخلفية البيضاء من الرخام، والأرضيّة ذات الألوان الخفيفة، وكلّ تفاصيل الهندسة المعمارية التي تنظّم حركة الشخصيات؛ هذا النوع من التفاصيل هو ما كان يفضّله في أعماله. وقد رسم اسكتشات ومراجعات عديدة للوحة، كما أضاف الشرفة في الخلفية والعديد من الشخوص.
هذه اللوحة اعتُبرت من أعظم لوحات فينيسيا. وقد جذبت إعجاب العديد من الكتّاب، منهم غوته وراسكين وهنري جيمس. غوته، مثلا، ذكرها بإعجاب في سياق حديثه عن وقائع زيارته لفينيسيا في نهاية القرن الثامن عشر. وقد رآها أثناء مكوثه في قصر بالاتزو بيساني موريتا، وأكّد على القصّة التي تقول إن فيرونيزي رسم اللوحة وأهداها لعائلة بيساني كلفتة شكر وعرفان لهم على استضافته في القصر.
نخبة فينيسيا في ذلك الوقت كانوا من الأغنياء والمتعلّمين. وكان هؤلاء معتادين على أن ينفقوا المال ببذخ للتشاوف والتفاخر بثقافتهم وذوقهم في الفنّ والعمارة.
في عام 1664، حاول وكلاء ملكة السويد كريستينا شراء اللوحة، وتفاوضوا مع سفير فينيسيا في روما آنذاك، لكن الثمن المطلوب كان باهظا.
وفي عام 1856، وبعد مفاوضات دامت أربع سنوات، قرّر رئيس الناشيونال غاليري بلندن شراء اللوحة مقابل أربعة عشر ألف جنيه استرليني. واعتُبر اقتناء الغاليري البريطانيّ لها انتصارا ثقافيا، لدرجة أن الملكة فيكتوريا قامت بزيارة خاصّة للغاليري لكي تراها.
اللوحة ضخمة، عرضها خمسة عشر قدما، وطولها ثمانية أقدام. وفي ما بعد، عندما رآها الكاتب هنري جيمس أثناء زيارة له للندن وصفها قائلا: رأيت الاسكندر في إهاب شابّ فينيسيّ وسيم يرتدي بنطالا قرمزيّ اللون. وما من شكّ في أن وجود هذه اللوحة يبعث وهجا دافئا في ليل لندن البارد".
يمكن القول أن جمال هذه اللوحة يكمن في براعة الرسم والتخطيط والتحكّم في الضوء والظلّ واختيار الألوان. ولا عجب في هذا، فرسّامو فينيسيا كانوا يعتبرون فيرونيزي الملوّن الأعظم.
ومع ذلك كان هو اقلّ شخصيات رسّامي عصر النهضة الفينيسية الثلاثة اعتبارا وقيمة، والآخران هما تيشيان وتنتوريتو. ولطالما نُظر إليه، وحتى منتصف القرن الماضي، باعتباره رسّاما ومزيّنا بارعا أكثر منه معلّما عظيما.
صحيح أن بعض لوحاته تمتّع العين وتبهج المشاعر، لكن لا يبدو أن الكثيرين يقفون أمامها طويلا في المتاحف هذه الأيّام، لأن هناك من النقّاد ومن المهتمّين بالرسم من يعتبرون فيرونيزي ولوحاته "موضة قديمة".
المشكلة أن الناس أصبحوا يفضّلون الانفعالات والدراما على الجمال المحض. ولوحات فيرونيزي، على الرغم من جمال ألوانها وتفاصيلها، ليس فيها تلك الدراما المثيرة ولا التعبيرات اللافتة.
في الرسم، أكثر من أيّ شيء آخر، كان فيرونيزي يعرف كيف يمجّد رعاته بإظهار ثرواتهم ومكانتهم ومعرفتهم الواسعة.
وبحسب بعض النقّاد، فإن مذهب المتعة الذي كان يؤمن به الرسّام ورعاته قد يكون السبب في أن الناس في العصر الحديث ينظرون إليه على انه رسّام متصنّع مهتمّ برسم الأماكن الفخمة والحشود الكثيرة أكثر من اهتمامه بالتقاط جوهر ومضمون وروح المشاهد التاريخية التي كان يرسمها.
لكن قد يكون عذره انه درس النحت في بداياته، والنحت يعتمد على الحركات والإيماءات والإشارات. وظلّت تجربته وخبرته تلك في النحت أساسا لأسلوبه في رسم الصور الذي يُفترض انه يعتمد على التعبيرات والمشاعر والانفعالات.

Saturday, March 12, 2016

لوحات عالميـة – 371

صـانعـات التبـغ
للفنان الاسباني غونثـالو مارتينـيز بيلبـاو، 1915

هناك ثلاث ملاحظات أوّلية عن هذه اللوحة. الأولى أنها أشهر أعمال الرسّام غونثالو بيلباو. والثانية أن اللوحة أصبحت منذ ظهورها بمثابة تحيّة ورمز للمرأة العاملة. والملاحظة الثالثة اختيارها لتظهر في فيلم "كارمن" المأخوذ عن أوبرا للمؤلّف الموسيقيّ الفرنسيّ جورج بيزيه.
أمّا المكان الذي يصورّه الرسّام فكان أوّل مصنع للتبغ تمّ افتتاحه في مدينة اشبيلية. وكانت شركة خاصّة قد افتتحت المصنع في بدايات القرن الثامن عشر، أي قبل رسم اللوحة بحوالي قرنين.
المعروف أن اشبيلية أصبحت منذ ذلك الحين مركز تجارة التبغ وذلك بعد أن لاحظ الإسبان أن سكّان أمريكا الأصليين، أي الهنود الحمر، يدخّنون النبتة.
في اللوحة ينقل الفنّان بطريقة واقعية جوّ يوم من أيّام العمل في المصنع. في المقدّمة، نرى أمّين ترضعان طفليهما وسط ابتسامات زميلاتهما، بينما تتابع النساء الأخريات أعمالهنّ الروتينية.
تفاصيل اللوحة وألوانها شديدة الواقعية كما هو واضح. الضوء يغمر الداخل من خلال الممرّ والفتحات الجانبية، وهناك تلاعب جميل بالمنظور. أسلوب مقاربة الرسّام للمنظور يسمح لنا بالنظر عميقا إلى داخل الممرّ حيث تعمل نساء أخريات.
من الأشياء اللافتة للاهتمام في اللوحة الملابس القشيبة المطرّزة للنساء والأزهار في شعورهنّ ونظرات الحنان الامومية والسعادة المنعكسة على الوجوه مانحة إحساسا بالحرّية والقناعة.
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وفي العديد من مدن اسبانيا، عملت جماعات كثيرة من النساء في مصانع التبغ في الأندلس واشبيلية وقادش وبلنسية ومدريد واستورياس وغيرها من المدن.
وكان مصنع التبغ في اشبيلية هو أوّل مصنع يوظّف النساء بدءا من العام 1730م. وكنّ يعملن ابتداءً من سنّ الثالثة عشرة، ولم يكن هناك سنّ محدّد للتقاعد.
كما كان مسموحا للأمّهات العاملات بإحضار أطفالهنّ معهنّ لإرضاعهم ورعايتهم أثناء الاستراحة المخصّصة لذلك.
كان هذا المصنع من اكبر مصانع التبغ في أوربّا، وكان يعمل فيه أكثر من ستّة آلاف امرأة. كانت الرواتب آنذاك زهيدة للغاية. لكن كانت النساء يُمنحن إجازات ولادة وأمومة وتأمينا طبّيا وعلاجا مجّانيا وبدلات وحوافز أخرى.
في ما بعد، تمّ تغيير اسم المصنع إلى "كارمن" على اسم مسرحية جورج بيزيه. وكارمن هو اسم أشهر ماركة سجائر أنتجها المصنع. كما أنه اسم بطلة الأوبرا، وهي فتاة غجرية جميلة تفتن الرجال في إحدى الأساطير التي ارتبطت بمدينة اشبيلية من قديم.
المعروف أن بيزيه استلهم موضوع مسرحيّته الغنائية من آلاف النساء العاملات اللاتي رآهنّ يعملن في المصنع في القرن التاسع عشر.
كانت كارمن امرأة متحرّرة اقتصاديّا، ومن ثم متساوية في علاقتها مع الرجال. غير أن الطبقة البورجوازية كانت تربط بين عمل المرأة وتردّي الأخلاق. وقد راجت في ذلك الوقت أسطورة تقول إن تدخين سيجارة صنعتها امرأة يمكن أن يتسبّب في إثارة الرجل جنسيّا وقد يؤدّي إلى هلاكه.
لوحة بيلباو هذه هي واحدة من سلسلة من اللوحات التي خصّصها لصناعة التبغ في اشبيلية. وهناك من يقول إنه استلهمها من لوحة لاس هيلانديراس "أو أسطورة اراكني" لـ دييغو فيلاسكيز.
بشكل عام، تتحدّث صور بيلباو عن الأخلاقيات وعن الخصوصية المناطقية، كما أنها تحتوي على بعض الرموز. وهي في نفس الوقت تعكس اهتمامه واحترامه للطبقة العاملة التي تسهم بفاعلية في نهوض المجتمع والدفع بالاقتصاد إلى الأمام.
ولد غونثالو مارتينيز بيلباو عام 1860 في اشبيلية لعائلة موسرة. وفي بداياته تتلمذ على يد الفنّان خوسيه اراندا، ثم بدأ مزاولة الرسم وهو في سنّ العشرين. وفي تلك المرحلة بدأ استنساخ بعض لوحات فيلاسكيز وغويا التي سبق أن رآها في متحف البرادو.
لكن، وبإصرار من والده، درس القانون وتخرّج من الجامعة عام 1880. غير انه لم يمارس المحاماة لأنه كان قد قرّر تكريس كلّ وقته وجهده لدراسة الرسم والموسيقى.
ولأنه حقّق نتيجة جيّدة في القانون، أرسله والده إلى ايطاليا وفرنسا. وفي باريس زار عددا من المتاحف ومحترفات الرسّامين الفرنسيين والإسبان الذين كانوا قد تقاعدوا في العاصمة الفرنسية.
مكث الفنّان في ايطاليا ثلاث سنوات قضى معظمها في روما. كما سافر إلى عدّة مدن أخرى مثل نابولي وفينيسيا حيث رسم فيهما مناظر حضرية وريفية قبل أن يعود إلى اسبانيا.
غير أن شخصيّته المتقلّبة حالت بينه وبين العيش في اشبيلية، لذا كان يتنقّل من مكان لآخر بحثا عن طبيعة يرسمها. وكان مكاناه المفضّلان كلا من طليطلة وسيغوفيا.
وفي ما بعد سافر بيلباو إلى المغرب بحثا عن الإلهام ومكث فيها أشهرا، ثمّ عاد مرّة أخرى إلى باريس للبحث عن اتجاهات فنّية جديدة، ولكي يبيع اللوحات التي كان قد رسمها أثناء رحلته إلى المغرب.
وحوالي بدايات القرن الماضي، أصبح أستاذا للرسم في أكاديمية الفنون الجميلة في اشبيلية. ثم عُيّن رئيسا للأكاديمية.
كان بيلباو يعمل بجدّ ونشاط حتى وفاته. وقد كرّس حياته للرسم، وكانت له ارتباطاته وعلاقاته بعالم التبغ الذي رسمه بطريقة لا تخلو من رومانسية. كان ملوّنا عظيما تأثر بالانطباعيين، لكنه لم يتخلَّ عن أسلوبه التقليدي في رسم الطبيعة.
وبعض لوحاته الأخرى يمكن اعتبارها دروسا حيّة في حبّ الإنسان لوطنه ولعمله. وقد استفادت من أسلوبه الواقعيّ المميّز أجيال متتالية من الرسّامين الإسبان.
وعند وفاته في العام 1938 تبرّعت زوجته بمجموعة من أعماله لمتحف الفنّ في اشبيلية، وخُصّصت لتلك الأعمال صالة منفردة.
أما بالنسبة لمصنع التبغ، فمع مرور الزمن دخلت الآلة مجال التصنيع ما أفقد العديد من العمّال وظائفهم. ثمّ شيئا فشيئا بدأ الناس يفتقدون رؤية اولئك النساء بملابسهنّ الزاهية وبأزهارهنّ التي تميّزهنّ.
وفي بداية عام 2003، أعلن مصنع كارمن للتبغ عن إغلاق أبوابه نهائيا بسبب ما قيل عن انخفاض مبيعاته وتدنّي عوائده. وبإغلاقه انتهت حقبة ثقافية واجتماعية مميّزة من تاريخ اسبانيا امتدّت لأكثر من مائتي عام.

Sunday, March 06, 2016

لوحات عالميـة – 370

تابلو رقم 2 (أو توليف رقم 7)
للفنان الهولنـدي بِـيـت مـونـدريــان، 1913

مثل العديد من روّاد الرسم التجريدي، كان دافع بيت موندريان الأساسيّ روحيّا، وكان فنّه مرتبطا جدّا بدراساته الروحانية والفلسفية. وهو من خلال لوحاته كان يهدف إلى تصفية العالم وإعادته إلى جوهره النقيّ.
ولكي يحقّق هذا الهدف، كان يفضّل مبادئ معيّنة، كالاستقرار والثبات والروحانية. وإطاره الفلسفيّ كان أفكار الأفلاطونية الجديدة ونصوص الكتّاب المنتمين للمجتمع الثيوصوفي الهولنديّ الذي كان موندريان احد رموزه منذ عام 1909.
منذ ذلك الوقت، أصبح موندريان مهتمّا بالحركة الثيوصوفية التي أطلقتها هيلينا بلافاتسكي في أواخر القرن قبل الماضي. كانت بلافاتسكي تعتقد أن الإنسان من خلال المعرفة الروحية يمكن أن يتحصّل على معرفة أكثر عمقا بالطبيعة ممّا لو استخدم لذلك أساليب تجريبية. وكلّ أعمال موندريان وحتى نهاية حياته كانت بحثا عن تلك المعرفة واستلهاما لها.
"تابلو رقم 2 أو توليف رقم 7" رسمها موندريان بعد عام من وصوله إلى فرنسا. واللوحة تمثّل احترامه وانجذابه المستمرّ نحو المدارس والأساليب الجديدة في الرسم.
وقد قيل دائما إن من الضروري أن ترى اللوحات الأصلية لموندريان كي تستمتع بتفاصيلها وتقدّر جمالها. والنسخة الأصلية من هذه اللوحة فيها طاقة وجمال لا توفّرهما ولا توصلهما الصور المستنسخة. وربّما ليس من المتيسّر إعطاء وصف كافٍ للجودة التي رُسمت بها، ابتداءً من المزج البارع للألوان والنسيج والطبقات أو غيرها من اللمسات الجميلة، كالنوتات المتألّقة للون الأصفر.
الأسلوب المتّبع في اللوحة استلهمه الرسّام من التكعيبية التحليلية، وقد قام بتجزئة الموتيف، وهو في هذه الحالة شجرة، إلى شبكة من الخطوط السوداء المتداخلة والأسطح اللونية التي يغلب عليها الألوان الصفراء والرمادية والبيضاء وتدرّجاتها، ما يذكّر بألوان التكعيبية.
في الشجرة، وهي احد موتيفات موندريان المفضّلة، كلّ ما هو أفقيّ يرمز للطبيعة، وكلّ ما هو عموديّ يرمز للإنسان. والجذع يمثّل وعي الإنسان في مواجهة التنوّع اللانهائي للعالم الذي تمثّله وترمز إليه الأغصان.
وهذه اللوحة وغيرها توضح أن اهتمام موندريان الأكبر هو أن يتصالح مع البعد الثنائيّ للسطح المرسوم، كما أنها تؤكّد على رفضه للتقليد الذي كان يعتبره محاكاة خادعة للواقع.
ولد بيت موندريان في هولندا لعائلة محافظة وتلقّى تربية بروتستانتية صارمة. كان ثاني أبناء العائلة. وكان والده معلّما في مدرسة. وقد تعرّف على الرسم منذ سنّ مبكّرة جدّا.
وفي عام 1892 دخل أكاديمية الفنّ التشكيليّ في أمستردام، وبعد تخرّجه أصبح أستاذا للرسم ورسّاما. وأعماله المبكّرة تغلب عليها الصفة الانطباعية، ومعظمها كانت مناظر طبيعية ورعوية من بلده الأمّ تصوّر طواحين هواء وحقولا وأنهارا وذلك بأسلوب الانطباعيين الهولنديين.
وبعد ذلك أصبح يرسم لوحات فيها قدر من التجريد عبارة عن مناظر خافتة لأشجار وبيوت غير واضحة المعالم ومنعكسة في مياه ساكنة. وربّما يوفّر البحث في تلك الأعمال المبكّرة دليلا عن جذور التجريدية التي ظهرت مستقبلا عند موندريان.
وعلى كلّ حال كان الفنّان ما يزال يبحث عن أسلوبه الفنّي الخاصّ عندما رأى لوحات بيكاسو وجورج براك في معرض أقيم في أمستردام عام 1911. وقد شجّعه ذلك على أن يذهب إلى باريس للمزيد من الدراسة والاطلاع.
وفي باريس تعلّم شيئا عن النقطية والوحوشية وأظهر تأثيراتهما في بعض لوحاته آنذاك. لكنه ذهب بعد ذلك إلى ما هو ابعد عندما اطلع عن قرب على التجريدية والتكعيبية وأصبح يرسم على منوالهما.
كان موندريان في كتاباته يتحدّث عن الطبيعيّ كما يمثّله الأفقيّ، وعن الروحيّ كما يمثّله العموديّ. وبناءً عليه قد تكون الشجرة في اللوحة استعارة بصرية للبحث عن توازن ما بين الهويتين المتباينتين للطبيعة وللإنسان.
والفكرة الروحية عنده تتمثّل في أن تناغم الكون يتجسّد في الطبيعة. كما أن العناصر الأفقية والعمودية لتوليفاته موضوعة ومرتّبة لخلق سيميترية متوازنة تضاهي التوازن الديناميكيّ لعالم الطبيعة.
يقول احد النقّاد أن مبعث المتعة في النظر إلى لوحات موندريان يعود إلى توازنها غير العاديّ والذي يلفت الاهتمام ويثير الإعجاب. ويضيف إن ما يثيرنا فيها أنها مدهشة وغريبة وغير متصوّرة وغامضة. وتصاميمها مجرّدة، ليس فقط من التجسيد "أي من الصور"، وإنما أيضا من الأشكال والنسيج، بل وحتى من الفراغ الصوريّ الذي نجده في لوحات رسّامين مثل بولوك ودي كوننغ مثلا.
خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، استمرّ موندريان في تبنّي المزيد من التجريد رافضا الخطوط القُطرية. كما أصبح يقلّل من اعتماده على مواضيعه المفضّلة، أي الأشجار ومناظر البحر والعمارة لأنه لم يكن يرى ضرورة لإعادة إنتاج المظهر العابر للأشياء. كان يقرأ ويترجم الأشكال كرموز لدنة أو مطواعة لواقع أكثر عمقا، وكاستعارات بصرية لمعاني الوجود.
عندما بلغ بيت موندريان الحادية والسبعين من عمره، أي في خريف عام 1943، انتقل إلى محترفه الذي انتهى من تأسيسه في مانهاتن والتي كان يعتبرها أفضل مكان أقام فيه.
لكن المؤسف انه عاش فيها لبضعة أشهر فقط قبل أن يتوفّى في فبراير من عام 1944 بالتهاب رئويّ. وقد دُفن في بروكلين بنيويورك، وكان من بين من حضروا جنازته زملاؤه مارك شاغال وفرناند ليجيه ومارسيل دوشان وغيرهم.
وبعد رحيله قام صديقه وراعيه الثريّ هاري هولتزمان بتوثيق محتويات محترفه على فيلم قبل أن يعلن عن افتتاحه للعامّة. كما أسّس هولتزمان جمعية اسماها "وديعة موندريان - هولتزمان"، وعهد إليها بمهمّة نشر الوعي بأعمال الرسّام والتأكّد من أصالة لوحاته.

Thursday, February 18, 2016

لوحات عالميـة – 369

دانتي يقابل بياتريس في بونتي سانتا ترينيتا
للفنان البريطاني هنـري هـوليـداي، 1883

هذه اللوحة الأيقونية هي أهمّ وأشهر أعمال الرسّام هنري هوليداي. وفكرتها مستلهمة من السيرة الذاتية لشاعر القرون الوسطى الايطالي دانتي الليغييري (1265-1321).
وفيها يصوّر الرسّام اللحظة المصيرية التي يقابل فيها دانتي ملهمته بياتريس بوتيناري على ضفاف نهر الآرنو في فلورنسا.
ونفس هذه اللحظة هي التي سبق لدانتي أن ذكرها بتفاصيل شعرية دقيقة في كتابه "لا فيتا نوفا" أو الحياة الجديدة.
كان الرسّام هوليداي مهتمّا كثيرا بدانتي. وكان قد رسم للشاعر وبياتريس لوحة أخرى قبل ذلك وهما طفلان أثناء لقاء لهما في حديقة والدها.
في اللوحة نرى منظرا لشارع في فلورنسا يقع في لوغارنو بمنطقة بونتي سانتا ترينيتا. هنا يقابل دانتي بياتريس التي تظهر مرتدية فستانا أصفر، ترافقها وصيفتاها جيوفانا بفستان أحمر ومونا فانا التي ترتدي فستانا ازرق.
دانتي يظهر في الجزء الأيمن من اللوحة وهو ينظر بخجل وارتباك، بينما تحوّل بياتريس نظرها بعيدا عنه. إنها تتجاهله ولا تردّ تحيّته بعد أن سمعت شائعات عن حبّه لنساء أخريات. والمرأتان الأخريان تحاولان قياس ردّ فعله على إعراض بياتريس عنه.
نظرات النساء وحركات أجسادهنّ تكفي لخلق قصّة درامية. وهذا التبادل البصريّ الذي يركّز بالأخصّ على نظرة الأنثى هو ما ألهم الشاعر بأن يبدأ احتفالية حبّه العظيم.
تذكر المصادر التاريخية أن بياتريس تزوّجت من رجل آخر، وتوفّيت بعد ثلاث سنوات من زواجها وهي في سنّ الرابعة والعشرين. وقد حزن عليها دانتي حزنا عظيما وظلّ مخلصا لها بقيّة حياته وبقيت على الدوام مصدر إلهامه الأوّل وذكرها في معظم أعماله الشعرية، مثل "الحياة الجديدة" و"الكوميديا الإلهية".
وأغلب الظن أن بياتريس لم تحبّ دانتي أبدا وماتت دون أن تقرأ حتى ولو سطر واحد من أشعاره فيها. ويبدو انه أحبّها من بعيد معظم حياته، وعلى الأرجح لم يتقابلا وجها لوجه.
في القرن الثالث عشر، كانت الزيجات المرتّب لها مسبقا هي القاعدة في فلورنسا، خاصّة بين أفراد الطبقات العليا التي كان ينتمي إليها كلّ من دانتي وبياتريس. لذا لم يكد الشاعر يبلغ سنّ الحادية والعشرين حتى تزوّج من فتاة تُدعى جيما دوناتي.
كان حبّ دانتي لبياتريس حبّا مثاليّا وصعب المنال لأنه كان قائما على الاحترام والإعجاب. وهي لم تكن تعلم شيئا عن عمق محبّته لها. ومع ذلك أصبحت هذه المرأة احد أشهر الشخصيّات في الأدب الكلاسيكيّ، بل وحقّقت خلودا أدبيّا نادرا برغم حياتها القصيرة.
يمكن القول أن هذه اللوحة تُعتبر إحدى أكثر الصور استنساخا في عصرها لأسباب من بينها أنها تُظهر امرأتين بملابس شبه شفّافة. وقد ركّز الرسّام التوليف على التعبيرات الأمامية للنساء الثلاث أثناء مرورهنّ من أمام الشاعر المتعفّف الواقف جانبيّا.
التعبيرات التمثالية والرزينة لبياتريس في اللوحة تتباين مع وقفة المرأتين الأخريين اللتين تبدوان وكأنهما تترقّبان ردّ فعل الشاعر. وواضح أنهما تتعاملان مع اللمحة العجلى لبياتريس كما لو أنها تنظر إلى معجب.
أما نظرات دانتي في اللوحة فقد تكون من بين أكثر النظرات إلهاما وأهميّة في تاريخ الأدب. غير أن الكتّاب والرسّامين على مرّ السنين اهتمّوا أكثر بتعبيرات النساء ونظرات عيونهنّ. في ذلك الوقت لم يكن مألوفا أن تحدّق النساء في الرجال بشيء من الاهتمام.
هذه اللوحة كانت نتيجة دراسة متأنّية للرسّام في فلورنسا التي سافر إليها عام 1881. وكان حريصا على تصوير الطابع الحضريّ للمدينة التي عاش فيها دانتي لكي تخرج اللوحة صحيحة ودقيقة من الناحية التاريخية.
ولهذا الغرض أعدّ مخطّطا للموضوع وبضع دراسات. كما أجرى بحثا للمكان، واكتشف أن لوغارنو كانت في القرن الثالث عشر مرصوفة بالطوب وكان فيها دكاكين ومحلات قام بتضمينها في اللوحة. كما اكتشف أن الجسر كان قد دمّره فيضان في عام 1235 بينما كان ما يزال تحت الإنشاء.
كانت تلك الزيارة مصدر إلهام له، إذ عرف كيف أن فنّاني عصر النهضة ارتادوا آفاقا جديدة وتحوّلوا عن النمط القوطي كي يعكسوا عصرهم.
وقد كتب هوليداي عن هذه الصورة في ما بعد يقول: لقد فُتنت بسحر وصف دانتي لحزنه عندما رفضت بياتريس ردّ تحيّته".
كانت بياتريس أكثر من مجرّد ملهمة بالنسبة للشاعر. كانت حبيبة مثالية؛ ذلك النوع من الحبّ الذي يسمو فوق رغبات الجسد. وقد تحدّث عنها في كتاباته. كانت بالنسبة له نوعا من الخلاص وتجسيدا للرحمة والعاطفة. وقد أصبحت في ما بعد دليله الخاصّ إلى الجنّة في كتابه "الكوميديا الإلهية".
قصّة دانتي وبياتريس ألهمت عددا كبيرا من الفنّانين. ومن أشهر هؤلاء الرسّام غابرييل روزيتي. كان دانتي شبحا في منزل روزيتي لأن والده كان، هو الآخر، خبيرا في سيرة حياة الشاعر. وكان الهاجس الذي رافق الأب طوال حياته هو العثور على آثار أو تلميحات ماسونية في أعمال دانتي.
في سنواته المبكّرة، كان روزيتي يعشق شكسبير ووالتر سكوت، لكن في ما بعد أصبح دانتي شيئا خاصّا جدّا بالنسبة له وموضوعا متكرّرا في رسوماته. وفي ما بعد قام بترجمة ديوان "الحياة الجديدة" إلى الانجليزية. وعلى ما يبدو كان يرى في قصّة حبّه لإليزابيث سيدال، الموديل التي تظهر في العديد من لوحاته، قصّة موازية لقصّة حبّ دانتي وبياتريس.
الفنّان هنري هوليداي ولد في لندن عام 1839، وأظهر منذ صغره ميلا واضحا للفنّ وتلقّى دروسا في الرسم على يد وليام توماس.
وقد تأثّر، مثل الكثيرين من أبناء جيله، بالرسّامين ما قبل الرافائيليين، وكان على اتصال مع جان فرانسوا ميليه وهولمان هنت وإدوارد بيرن جونز وروزيتي، كما كان صديقا للناقد جون راسكين الذي دعمه وشجّعه.
حضر هوليداي دروسا في أكاديمية لي. وفي عام 1855 تمّ قبوله في الأكاديمية الملكية.
في ما بعد، ذهب إلى سيلان في بعثة استكشافية، ثم إلى مصر التي رسم فيها سلسلة من اللوحات المائية عن الحضارة الفرعونية القديمة هناك.

Thursday, January 28, 2016

لوحات عالميـة – 368

خـلـق الطيـور
للفنانة الاسبانية ريميـديـوس فـارو، 1957

بعض النقّاد يقلّلون من قيمة الفانتازيا، لكن هذا لا ينفي أنها أداة ضرورية لاكتشاف ذواتنا والعالم من حولنا والعلاقة بين الاثنين.
والسوريالية كانت تستشرف عالم الأحلام والذكريات والروح في محاولة للتعبير عن النفس وعن الوظيفة الفعلية للأفكار.
الرسّامة الاسبانية ريميديوس فارو كانت فنّانة سوريالية مشهورة، وكان أسلوبها يجمع بين الاهتمام العلميّ بعالم الطبيعة والتأثيرات السحرية والدينية في القرون الوسطى.
وفي بعض لوحاتها ثمّة أفكار عن البعث أو الولادة الثانية، وكلّ هذه الاهتمامات كانت انعكاسا لافتتانها بالخيمياء والتصوّف وتحليلات عالم النفس الشهير كارل يونغ. كانت ترى كلّ هذه الأشياء كمصادر لتحقيق الذات وتحوّل أو تغيّر الوعي.
في لوحتها هذه ترسم فارو بومة على هيئة إنسان تجلس إلى طاولة وترسم على الورق طيورا بقلم موصول بآلة كمان تتدلّى من صدرها. الطيور ينيرها ضوء قمر يتسلّل من نافذة جانبية ويمرّ عبر عدسة مكبّرة.
ريش البوم مرسوم ببراعة وبضربات فرشاة دقيقة. وعيناها تبدوان مغمضتين أو نائمتين أو في حالة تأمّل أو تأهّب لاستقبال إشارات الإلهام التي تأتيها من السماء.
وإلى يمينها هناك أجهزة تقطير تستقبل ضوء النجوم وتحوّله إلى ألوان حمراء وصفراء وزرقاء على رقعة تشبه لوحة الألوان التي يستخدمها الرسّام. ويبدو أن الضوء الآتي من القمر والنجوم هو المادّة التي تُخلق منها الطيور وتُنفث فيها الحياة قبل أن تطير بعيدا عبر النافذة.
البومة التي تظهر عليها أمارات الحكمة والوقار تبدو اقرب ما يكون إلى ملامح امرأة بسبب ساقيها الرشيقتين وعينيها الواسعتين. وهي لا تختلف عن ملامح بطلات فارو من الإناث اللاتي يظهرن في رسوماتها.
هذه اللوحة تشهد على الخيال الفنّي الخصب للرسّامة. ويُحتمل أنها تتحدّث عن أصل الحياة عندما يتحوّل ليصبح معجزة حيّة. وبعض النقّاد يرون أن هذه اللوحة تتحدّث عن الكاتب، وربّما عن المبدع بشكل عام، وعن كونه بُوما ليليّا، وأن الإبداعات المكتوبة تشبه الطيور في اللوحة من حيث أنها تكتسب أجنحة ثمّ تطير.
وقد تكون فارو أرادت أن تشير إلى إن الفنّ والطبيعة يعملان يداً بيد وأننا في الحياة نحتاج إليهما معا لدعمنا وبقائنا.
ونظرا لأن الرسّامة تبحث عن إحساس بنفسها أو بذاتها، قد تكون الطيور هي التي تخلق الفنّانة من خلال عملية سيميائية وكلّ واحد منهما يتحوّل إلى الآخر.
معظم أعمال فارو تُفسّر أحيانا كتعبير عن إحباطها من كونها مهمّشة كامرأة وكفنّانة أنثى.
ويقال أنها كانت احد أتباع طريقة صوفية كانت تؤمن بالقوى الروحانية للموسيقى والرقص وبأن ذبذبات الصوت والضوء هي المصدر الذي خُلق منه العالم.
كانت وسيلة فارو لفهم الكون والظواهر تذهب إلى ما وراء المبادئ العلمية. وقد درست عدّة نصوص صوفية وروحانية. وربّما كانت من خلال فنّها تحاول أن تخلق تناغما اكبر بين العلم وبين السحر والأسطورة.
ولدت ريميديوس فارو عام 1913 لعائلة كانت تقدّس الطموحات الفنّية والأكاديمية. وتلقّت تدريبا فنّيا على يد والدها المهندس المعماريّ الذي شجّعها على الاهتمام بالعلم وعلّمها رسم الصور، وهي مهارة استخدمتها طوال حياتها المهنيّة.
في سنّ الخامسة عشرة سجّلت في أكاديمية سان فرناندو المشهورة في مدريد والتي كان يحاضر فيها أشخاص متميّزون مثل ميري كوري وآينشتاين وسلفادور دالي.
ولهذا السبب عرفت فارو الأفكار الجديدة مثل نظريّات سيغموند فرويد التي وسّعت حدود الواقع، وكذلك أفكار اندريه بريتون التي رسمت معالم السوريالية كحركة فنّية وأدبية. كما رأت كنوز متحف برادو وتأثيرات فرانشيسكو دي غويا وإل غريكو وبابلو بيكاسو وجورج براك.
وقد أحضرت معها إلى الرسم معرفة البناء الهندسيّ والاهتمام الكبير بالتفاصيل والخطاب الفلسفيّ وافتتانها بالظواهر الغريبة.
وكانت النتيجة مقاربة شخصيّة للسوريالية ورؤية موحّدة لعالم فانتازي مسكون بمخلوقات خيالية تتحرّك بحرّية داخل وخارج الوعي وتقترح حلولا جديدة وتفسيرات بديلة.
ولوحاتها المبكّرة كانت تتناول أفكارا مثل الجنسانية والقيود المفروضة على المرأة من قبل المجتمع البورجوازي.
في عام 1930 تزوّجت فارو من الرسّام جيراردو ليزراغا، ثم تركته وتزوّجت من الشاعر الفوضويّ بنجامين بيريه.
وفي ما بعد دفعتها الحرب الأهلية الاسبانية إلى الهرب من برشلونة، حيث كانت هناك جزءا من الحركة الطليعية البوهيمية، وذهبت إلى باريس حيث أصبحت جزءا من الحلقة السوريالية وعرضت فيها أعمالها.
وفي باريس أيضا قابلت صديقة عمرها الفنّانة ليونورا كارينغتون. لكن عندما احتلّ النازيّون باريس هربت مع زوجها ومع صديقتها كارينغتون واستقرّوا في المكسيك.
اهتمامات فارو بالاكتشافات العلمية تعكسه عناوين لوحاتها التي تتناول الفضاء والتطوّر والفلك وعلم الوراثة وغيرها. وأبطال لوحاتها يحملون بعضا من ملامحها، كالوجه الذي يأخذ هيئة قلب والعيون اللوزية والأنف الدقيق الطويل والشعر الوفير. وكلّ هذه الملامح تتحرّك في عالم ميتافيزيقيّ.
وبعض النساء في لوحاتها مروّضات وخاضعات ولهنّ اذرع وسيقان وكراسي. أما المشاهد السردية فمليئة بالنباتات والحيوانات الفانتازية.
وفي بعض اللوحات تتحوّر الأشياء لتأخذ خصائص أشخاص ليسوا أحرارا ولا يستطيعون الهرب. وفي لوحات أخرى يبدو الأشخاص مسجونين داخل ملابسهم وأسوارهم وأقنعتهم وكأنهم يتوقون للفرار إلى أزمنة وأمكنة أخرى.
يقول احد النقّاد: مثل الممثّلة التي تلعب أدوارا مختلفة، كانت فارو تستخدم دائما تلك الصور كطريقة لاستكشاف هويّات شخصيّة بديلة بطريقة أصبحت هي سمتها أو ماركتها الخاصّة".
المكسيك، المشهورة بفنّها البدائيّ وبكرم ضيافتها، وفّرت للرسّامة حرّية واسعة لممارسة فنّها السوريالي المتمرّد، وأصبحت وطنها الثاني. وفي السنوات العشر التالية رسمت هناك معظم أعمالها الناضجة. لكن السنوات الأولى هناك اتّسمت بالمصاعب الاقتصادية وبالعزلة الشعورية والإنهاك ومتاعب القلب.
في مرحلة متأخّرة من حياتها أصبحت فارو تعاني من نوبات الاكتئاب. وقد توفّيت في مكسيكو سيتي عن 55 عاما وذلك في الثامن من أكتوبر عام 1963 نتيجة إصابتها بأزمة قلبية.
وبرغم مرور نصف قرن على رحيلها إلا أن فنّها ما يزال يحظى بالرواج والشعبية، خاصّة في المكسيك وفي أمريكا الشمالية.

Sunday, January 10, 2016

لوحات عالميـة – 367

انتحـار لوكـريشيـا
للفنان الهولندي رمبـرانــدت، 1666

وصف فان غوخ رمبراندت ذات مرّة بأنه "رجل غامض جدّا يقول من خلال فنّه أشياء لا توجد لها كلمات في أيّ لغة".
كان الهاجس الذي رافق رمبراندت طوال حياته هو رسم الحياة الداخلية للآخرين. العمق السيكولوجي في معظم صوره مصدره موهبة استثنائية من التعاطف، مع مقدرة غير عاديّة على إسقاط مشاعر الرسّام نفسه على الموضوع.
ومن الواضح أن رمبراندت استجمع كلّ مواهبه الشخصية ووضعها في هذه اللوحة الحزينة والمؤثّرة التي تشبه الصرخة والتي رسمها في نهايات حياته.
وهو هنا يصوّر حادثة موت لوكريشيا التي تسبّبت في نشوب ثورة أطاحت في النهاية بالملكية في ايطاليا وأسّست لقيام جمهورية روما.
وقبل الحديث عن اللوحة يحسن التوقّف قليلا عند قصّة هذه المرأة والدور المهمّ الذي لعبته في تاريخ الرومان.
كانت لوكريشيا امرأة تنحدر من عائلة من نبلاء روما. وقد حدثت قصّتها في القرن السادس قبل الميلاد وذكرها المؤرّخ سانت اوغستين في كتابه "مدينة الربّ" في معرض دفاعه عن النساء المسيحيات اللاتي اغتصبن في روما ولم يقدمن على الانتحار.
تذكر القصّة أن زوج لوكريشيا، واسمه كولاتينوس، تفاخر ذات ليلة أمام زملائه من الجنود بأن عفاف زوجته وإخلاصها يفوق ذاك الذي لزوجات زملائه جميعا. وقد أرادوا أن يختبروا كلامه فذهبوا من فورهم إلى روما، وهناك اكتشفوا أن لوكريشيا ووصيفاتها كنّ يقضين الليل في غزل الصوف.
وكان من بين أولئك الجنود سيكستوس ابن الإمبراطور الرومانيّ تاركوينيوس طاغية روما في ذلك الوقت. ويبدو انه أعجب كثيرا بجمال لوكريشيا عندما رآها لأوّل مرّة، فقرّر بعد أيّام أن يعود إلى بيتها. وقد استقبلته كضيف كريم، لكنه خالف أصول الضيافة بدخوله غرفتها الخاصّة وتهديدها بأن يقتلها إن لم تسلّم له نفسها. وعندما قاومته قال لها: إن لم تنامي معي سأقتلك وأضعك في غرفة نومك مع خادمك الميّت". وفي النهاية اغتصبها سيكستوس رغما عن إرادتها.
وفي اليوم التالي استدعت لوكريشيا والدها وزوجها وأخبرتهم بما حدث. ورغم أنهم اعتبروها ضحيّة بريئة ومغلوبا على أمرها، إلا أنها أصرّت على أن تُنهي حياتها لكي تستعيد شرفها. فاستلّت سكّينا من خزانتها وغرسته في قلبها وماتت.
والدها وزوجها اللذان استولى عليهما الغضب والحزن ممّا حدث أقسما، مع اثنين من اقرب أصدقائهما، على الأخذ بثأرها. وقد تسبّب اغتصابها في النهاية في قيام ثورة أطاحت بطغيان الملكية وأسهمت في تأسيس جمهورية روما.
وهناك لوحات فنّية كثيرة صوّرت حادثة انتحار لوكريشيا. ومن بين أشهر من رسموها كلّ من تيشيان وديورر ورافائيل وبوتيتشيللي وغيرهم. ومعظم اللوحات التي رُسمت للمرأة قبل رمبراندت ركّزت على لوكريشيا كرمز للفضيلة الأنثوية، والبعض الآخر ركّز على انتهاك الجسد أكثر من انتهاك العواطف.
غير أن لوحة رمبراندت هذه متميّزة، ويمكن اعتبارها عملا شخصيّا جدّا لأسباب سيرد ذكرها بعد قليل.
في اللوحة، تُمسك لوكريشيا بالخنجر بيد، وباليد الأخرى تجذب حبلا يُفترض أن يقرع الجرس في غرف البيت الأخرى ليوقظ عائلتها وخدمها ويدفعهم لأن يأتوا. وهناك خطّ من الدم يتدفّق نزولا من الجرح الذي في بطنها.
ورغم أنها غرست الخنجر في جسدها، إلا أن هناك لحظة هدوء معلّقة في الصورة. الدموع المتدفّقة من عينيها والفراغ المظلم بين شفتيها يعطي الصورة توتّرا ويضفي على المشهد جوّا من الكرب والرعب.
تنظر إلى عيني لوكريشيا فيما الحياة تتسرّب من جسدها بعد أن طعنت نفسها، فتُذهل من القوّة التعبيرية الهائلة التي تختزنها هذه الصورة. التوتّر المحيط بالمنظر يلتقط المعضلة الأخلاقية لامرأة أجبرت على أن تختار بين الحياة أو الشرف: النظرات في عينيها، طبقات الألوان السميكة، الأثر الذي تركه الجرح في بطنها.
حرّية رمبراندت في التعامل مع الطلاء هي ما يدفع الناظر لأن يُعجب بالصورة. كما أن تحكّمه في درجات وأنواع اللون مذهل. هناك أيضا تأثيرات الضوء الرائعة والإيحاءات التعبيرية. والحقيقة انك كلّما نظرت إلى اللوحة، كلّما اندهشت أكثر لقوّتها التعبيرية أكثر من التكنيك المستخدم فيها. وربّما كان أجمل ما قيل في وصف اللوحة أن المرأة إذ تقتل نفسها فإن السكّين تتحوّل إلى فرشاة والدم إلى طلاء.
بالنسبة لرمبراندت، هذه الصورة لها معنى عميق جدّا. وهي، على مستوى ما، صرخة رجل فقد حبيبته بسبب قسوة وتسلّط المجتمع. وهناك من يقول إن اللوحة ليست في واقع الأمر سوى بورتريه لرفيقته هندريكا ستوفيلس التي تظهر هنا كموديل والتي دخلت حياته بعد وفاة زوجته الأولى.
لم يكن رمبراندت حرّا ليتزوّج بسبب وصيّة زوجته "ساسكيا" له بألا يتّخذ امرأة أخرى بعد وفاتها. فاضطرّ إلى الدخول في علاقة حبّ مع هندريكا وعاشا كزوج وزوجة إلى أن أصبحت حاملا. وبعد أن علمت الكنيسة بذلك أجبرت المرأة على أن تعترف أنها كانت تعيش مع الرسّام كمومس، ثم طُردت من الكنيسة وفقدت مكانتها في المجتمع. ونتيجة لذلك خسر رمبراندت نفسه عددا كبير من رعاته، وهذا كان احد أسباب إفلاسه. وكان عليهما أن ينتقلا إلى مكان بعيد إلى أن توفّيت هندريكا عام 1663.
رمبراندت حمّل المسئولية عن موت هندريكا لأولئك الذين هاجموها وشوّهوها. وبعد موتها بثلاثة أعوام رسم هذه اللوحة التي يحاول فيها تذكّر ذلك الحبّ الضائع. في ذهن رمبراندت، كانت لوكريشيا أشبه ما تكون بهندريكا من حيث أنهما كانتا ضحيّتين مظلومتين لأشخاص ذوي سلطة ونفوذ في المجتمع.
هذه اللوحة تعزّز مكانة رمبراندت كأشهر رسّام واقعيّ هولنديّ. كما أنها تدلّل على براعته في استخدام تقنية الشياروسكورو، أي إضفاء طابع ثلاثيّ الأبعاد على وجه وجسد الشخصية. مهارة الرسّام أيضا تتجلّى في إظهار حالة المرأة الداخلية ومشاعرها المنعكسة في عينيها وتعبيرات وجهها عن الفضيلة والعفاف ومعنى الشرف والواجب.
حادثة اغتصاب لوكريشيا وانتحارها لم تلهم الرسّامين فقط، بل اجتذبت أيضا العديد من الشعراء والموسيقيين والكتّاب الذين رأوا فيها رمزا للعفّة والإخلاص الزوجي. شكسبير مثلا ألّف مسرحية عن القصّة استند فيها إلى معالجة اوفيد للحادثة. وفي الكوميديا الإلهية، تظهر لوكريشيا لدانتي في المكان المخصّص لنبلاء روما من أهل الفضائل والخصال الحميدة. كما كانت القصّة موضوعا لأوبرا للموسيقيّ البريطانيّ بنجامين بريتن.
في نهايات حياته، عانى رمبراندت من الفقر المدقع واضطرّ لبيع قبر زوجته الأولى ساسكيا، ثم ماتت هندريكا بالطاعون عام 1663، وبعدها بخمس سنوات مات ولده تايتوس، وظلّ بعد ذلك وحيدا.
ورغم أن تلك الفترة اتّسمت بالقلق والعزلة والديون والوحدة والحزن، إلا أنه عمل ببراعة وإتقان وقوّة انفعالية استثنائية. كانت تلك أكثر سنوات حياته إنتاجا. وخلالها رسم أعمالا يعتبرها الكثيرون أعظم لوحاته، بل ومن أشهر الصور التي ظهرت في تاريخ الرسم الأوربّي كلّه.
الجدير بالذكر أن رمبراندت رسم للوكريشيا لوحتين: الأولى موجودة في الناشيونال غاليري بلندن، والثانية "أي هذه" من مقتنيات معهد مينيابوليس للفنون بالولايات المتّحدة.

Friday, January 01, 2016

لوحات عالميـة – 366

عائلة بيلووي أو بورتريه عائلي
للفنان الفرنسي إدغــار ديغـــا، 1858

قد يبدو هذا البورتريه غريبا بالنسبة للذين اعتادوا رؤية أعمال إدغار ديغا المشهور بتابلوهاته الفخمة عن راقصات الباليه وسباقات الخيول وأنشطة الحياة الاجتماعية في باريس منتصف القرن التاسع عشر.
ومع ذلك يُعتبر البورتريه إحدى التحف التي رسمها ديغا في حياته المبكّرة وصوّر فيها طبيعة التوتّرات العائلية التي تعزل كلّ فرد من أفراد العائلة عن الآخر. وقد وظّف فيها الخبرة والمعرفة التي اكتسبها في ايطاليا أثناء دراسته هناك.
كان ديغا قد غادر باريس إلى ايطاليا لمواصلة دراسته للرسم في يوليو من عام 1856. وقد أقام في ايطاليا ثلاث سنوات، وهناك واتته فكرة رسم هذه اللوحة التي بدأ رسمها في نابولي عندما كان في زيارة عمّته "شقيقة والده" لورا وزوجها البارون جينارو بيلووي وابنتيهما غيوليا وجيوفانا. ثم أتمّ رسمها عندما عاد إلى باريس.
كان عمر ديغا وقتها أربعة وعشرين عاما. ويمكن أن يقال عن اللوحة أنها دراسة في العلاقات الإنسانية. وبعض النقّاد وصفها بأنها اقرب صورة لأجواء روايات القرن التاسع عشر.
كانت عمة الرسّام قد أسرّت له أن الحياة مع زوجها صعبة جدّا وأنه لا يملك وظيفة مهمّة وأن ذلك قد يقودها قريبا إلى القبر. كانت حاملا آنذاك، ويقال أن ظروفها ومن ثمّ موت الطفل وهو رضيع قد تكون وراء إحساس العائلة بالتعاسة والتوتّر المنزلي. وكلّ هذه الصراعات وفّرت الخلفية والمضمون لهذه اللوحة.
وأحد الجوانب المهمّة في كون اللوحة متفرّدة ومتميّزة هو توليفها الذي يقدّم بورتريها عائليا مرسوما على نفس المستوى الفخم للدراما التاريخية. وهناك سبب آخر، وهو أن مضمونها يمكن ترجمته كوثيقة أو كدراسة سيكولوجية. وهناك عامل إضافي وهو الطريقة التي اتّبعها الرسّام في اختيار أوضاع الشخصيات وأماكنها بحيث أن كلّ شيء يوحي بالهجر والتباعد بين الوالدين وكذلك بالولاءات المتضاربة والمنقسمة لأطفالهما.
في اللوحة تشغل المرأة الجزء الأكبر من المكان. وقد رسمها بهيئة نبيلة ومتقشّفة وبفستان يرمز للحداد. في ذلك الوقت لم يكن قد مرّ على وفاة والدها سوى فترة قصيرة، وهو يظهر في صورة على الجدار الذي خلفها. وبتضمين ديغا لبورتريه جدّه في الصورة كان يريد الربط بين أجيال عائلته. وقد استعار هذا التقليد من عصر النهضة حيث جرت العادة على أن يتضمّن البورتريه صورا للأسلاف.
حركة العمّة مرتبطة بحركات ابنتيها، بينما يبدو الأب منفصلا عن عائلته، ارتباطه بالتجارة والأعمال والعالم الخارجيّ يشي به موقعه على طرف الطاولة.
في اللوحة لا احد ينظر إلى احد. والزوج/الأب لا يفعل شيئا تقريبا، ويبدو بعيدا عن عائلته من الناحية الشعورية والعاطفية. ظهره للناظر ووجهه في الظلّ. الأمّ وقورة بشكل لافت مع إحساس بالسيطرة. وهذه السّمة تتباين مع حالة الانطواء النسبيّ للأب. التعبيرات العميقة على وجه الأمّ توحي بالمشاكل العاطفية داخل العائلة.
الابنة غيوليا تقف ويداها معقودتان في ظلّ أمّها. وعلى العكس منها، تبدو جيوفانا في المنتصف تماما، مستقلّة ونصف جالسة. الأولى رسمها الفنّان داخل مثلّث الأمّ كي يوحي بعلاقتها العاطفية القويّة بوالدتها. الابنة الثانية لا علاقة وثيقة بينها وبين أبويها، وجهها باتجاه أبيها، لكن نظراتها لا تقابل نظراته. بشكل عام، الأعين تعطي انطباعا بعدم الاستلطاف أو التقبّل، والنظرات مليئة بالبرود.
الأبعاد الواسعة والألوان الرصينة وألعاب المنظور المفتوح (الأبواب والمرايا) كلّها عناصر تسهم في تعزيز جوّ التنائي والانقباض. ومن خلال ملاحظة ديغا الشخصية القويّة وطريقة بنائه للتوليف استطاع أن يعطي كلّ شخص دليلا على سمات شخصيّته وأن يربط بين الحياة الشخصية لهؤلاء الأشخاص في فنّه.
بعد أن عاد الرسّام إلى باريس كتبت إليه عمّته تقول: لا بدّ وأنك الآن سعيد جدّا بعودتك إلى عائلتك بدلا من وجودك أمام وجه حزين مثل وجهي ووجه كريه كوجه زوجي".
بؤس عائلة بيلووي لم يكن بالأمر الشاذّ أو الخارج عن المألوف. الحقيقة أن التباعد والهجر بين الجنسين كان دائما حالة متكرّرة في أعمال ديغا في سبعينات القرن التاسع عشر.
وبورتريهاته ومشاهده بشكل عام يصوغها وجوده الاجتماعيّ. كان مهتمّا برسم شخصية الإنسان وجوهره السيكولوجي. الجديد هنا انه رسم أجواء التوتّر والتنائي التي رآها وعايشها داخل عائلته هو.
احد النقّاد كتب تعليقا بليغا عن هذه اللوحة عندما قال: ربّما لو قضيت مع هذه العائلة أسابيع أو أشهرا ما كنت ستفهمها مثلما ستفهمها وأنت تنظر إلى هذه اللوحة التي صوّر الرسّام جوّها النفسيّ والمزاجي بمهارة واقتدار.
مفهوم المعنى المركّب في الرسم رافق ديغا في جميع مراحل حياته. هو نفسه كان احد أعظم رسّامي البورتريه في زمانه. لكن كانت له دائما طريقته الساحرة في تناول المشاهد والقصص المنزلية التي لم يَخبَرها هو بنفسه بحكم انه اختار أن يظلّ أعزب طوال حياته.
ولد إدغار ديغا في باريس. وكان معروفا برسوماته الانطباعية رغم انه لم يكن متماهيا مع الكثير من أفكار الانطباعيين، كما أن طبيعته كانت تنفر من الرسم في الهواء الطلق. وقد كانت علاقته صعبة مع كلود مونيه الذي ظلّ مخلصا للانطباعية طوال حياته.
كان ديغا اكبر إخوته الخمسة. والده كان موظّفا مصرفيّا، ولم يشجّعه على أن يصبح رسّاما، إذ كانت لدى الأب خطط أخرى وكان يريد منه أن يتخصّص في القانون. وقد درس في الجامعة ونال درجة البكالوريوس في الأدب.
كميل بيسارو أحد زملاء ديغا قال عن حرصه على الإجادة والإتقان أن ديغا دائما ما يشقّ طريقه إلى الأمام وكثيرا ما يجد تعبيرا ما في كلّ شيء يحيط به.
الغريب انه في نهايات حياته كان يداوم على شراء لوحات سيزان وفان غوخ وديلاكروا وال غريكو، وكأنه كان يريد تقوية علاقته مع زملائه الذين كان معجبا بهم وليؤكّد على فكرة الاستمرارية أو السيرورة في الفنّ. وفي النهاية استطاع أن يجمع أكثر من عشرين لوحة كانت هي بالنسبة له بمثابة عائلته التي حُرم منها.
في أخريات حياته فقد ديغا بصره تماما ولم يعد قادرا على رؤية اللوحات، بل كان يكتفي بتمرير أصابعه فوقها. وكان كثيرا ما يُرى وهو يمشي لوحده في شوارع باريس متّكئا على عصا ومثيرا تعاطف المارّة وشفقتهم.

موضوع ذو صلة: ديغا والحياة الحديثة