Sunday, March 06, 2016

لوحات عالميـة – 370

تابلو رقم 2 (أو توليف رقم 7)
للفنان الهولنـدي بِـيـت مـونـدريــان، 1913

مثل العديد من روّاد الرسم التجريدي، كان دافع بيت موندريان الأساسيّ روحيّا، وكان فنّه مرتبطا جدّا بدراساته الروحانية والفلسفية. وهو من خلال لوحاته كان يهدف إلى تصفية العالم وإعادته إلى جوهره النقيّ.
ولكي يحقّق هذا الهدف، كان يفضّل مبادئ معيّنة، كالاستقرار والثبات والروحانية. وإطاره الفلسفيّ كان أفكار الأفلاطونية الجديدة ونصوص الكتّاب المنتمين للمجتمع الثيوصوفي الهولنديّ الذي كان موندريان احد رموزه منذ عام 1909.
منذ ذلك الوقت، أصبح موندريان مهتمّا بالحركة الثيوصوفية التي أطلقتها هيلينا بلافاتسكي في أواخر القرن قبل الماضي. كانت بلافاتسكي تعتقد أن الإنسان من خلال المعرفة الروحية يمكن أن يتحصّل على معرفة أكثر عمقا بالطبيعة ممّا لو استخدم لذلك أساليب تجريبية. وكلّ أعمال موندريان وحتى نهاية حياته كانت بحثا عن تلك المعرفة واستلهاما لها.
"تابلو رقم 2 أو توليف رقم 7" رسمها موندريان بعد عام من وصوله إلى فرنسا. واللوحة تمثّل احترامه وانجذابه المستمرّ نحو المدارس والأساليب الجديدة في الرسم.
وقد قيل دائما إن من الضروري أن ترى اللوحات الأصلية لموندريان كي تستمتع بتفاصيلها وتقدّر جمالها. والنسخة الأصلية من هذه اللوحة فيها طاقة وجمال لا توفّرهما ولا توصلهما الصور المستنسخة. وربّما ليس من المتيسّر إعطاء وصف كافٍ للجودة التي رُسمت بها، ابتداءً من المزج البارع للألوان والنسيج والطبقات أو غيرها من اللمسات الجميلة، كالنوتات المتألّقة للون الأصفر.
الأسلوب المتّبع في اللوحة استلهمه الرسّام من التكعيبية التحليلية، وقد قام بتجزئة الموتيف، وهو في هذه الحالة شجرة، إلى شبكة من الخطوط السوداء المتداخلة والأسطح اللونية التي يغلب عليها الألوان الصفراء والرمادية والبيضاء وتدرّجاتها، ما يذكّر بألوان التكعيبية.
في الشجرة، وهي احد موتيفات موندريان المفضّلة، كلّ ما هو أفقيّ يرمز للطبيعة، وكلّ ما هو عموديّ يرمز للإنسان. والجذع يمثّل وعي الإنسان في مواجهة التنوّع اللانهائي للعالم الذي تمثّله وترمز إليه الأغصان.
وهذه اللوحة وغيرها توضح أن اهتمام موندريان الأكبر هو أن يتصالح مع البعد الثنائيّ للسطح المرسوم، كما أنها تؤكّد على رفضه للتقليد الذي كان يعتبره محاكاة خادعة للواقع.
ولد بيت موندريان في هولندا لعائلة محافظة وتلقّى تربية بروتستانتية صارمة. كان ثاني أبناء العائلة. وكان والده معلّما في مدرسة. وقد تعرّف على الرسم منذ سنّ مبكّرة جدّا.
وفي عام 1892 دخل أكاديمية الفنّ التشكيليّ في أمستردام، وبعد تخرّجه أصبح أستاذا للرسم ورسّاما. وأعماله المبكّرة تغلب عليها الصفة الانطباعية، ومعظمها كانت مناظر طبيعية ورعوية من بلده الأمّ تصوّر طواحين هواء وحقولا وأنهارا وذلك بأسلوب الانطباعيين الهولنديين.
وبعد ذلك أصبح يرسم لوحات فيها قدر من التجريد عبارة عن مناظر خافتة لأشجار وبيوت غير واضحة المعالم ومنعكسة في مياه ساكنة. وربّما يوفّر البحث في تلك الأعمال المبكّرة دليلا عن جذور التجريدية التي ظهرت مستقبلا عند موندريان.
وعلى كلّ حال كان الفنّان ما يزال يبحث عن أسلوبه الفنّي الخاصّ عندما رأى لوحات بيكاسو وجورج براك في معرض أقيم في أمستردام عام 1911. وقد شجّعه ذلك على أن يذهب إلى باريس للمزيد من الدراسة والاطلاع.
وفي باريس تعلّم شيئا عن النقطية والوحوشية وأظهر تأثيراتهما في بعض لوحاته آنذاك. لكنه ذهب بعد ذلك إلى ما هو ابعد عندما اطلع عن قرب على التجريدية والتكعيبية وأصبح يرسم على منوالهما.
كان موندريان في كتاباته يتحدّث عن الطبيعيّ كما يمثّله الأفقيّ، وعن الروحيّ كما يمثّله العموديّ. وبناءً عليه قد تكون الشجرة في اللوحة استعارة بصرية للبحث عن توازن ما بين الهويتين المتباينتين للطبيعة وللإنسان.
والفكرة الروحية عنده تتمثّل في أن تناغم الكون يتجسّد في الطبيعة. كما أن العناصر الأفقية والعمودية لتوليفاته موضوعة ومرتّبة لخلق سيميترية متوازنة تضاهي التوازن الديناميكيّ لعالم الطبيعة.
يقول احد النقّاد أن مبعث المتعة في النظر إلى لوحات موندريان يعود إلى توازنها غير العاديّ والذي يلفت الاهتمام ويثير الإعجاب. ويضيف إن ما يثيرنا فيها أنها مدهشة وغريبة وغير متصوّرة وغامضة. وتصاميمها مجرّدة، ليس فقط من التجسيد "أي من الصور"، وإنما أيضا من الأشكال والنسيج، بل وحتى من الفراغ الصوريّ الذي نجده في لوحات رسّامين مثل بولوك ودي كوننغ مثلا.
خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، استمرّ موندريان في تبنّي المزيد من التجريد رافضا الخطوط القُطرية. كما أصبح يقلّل من اعتماده على مواضيعه المفضّلة، أي الأشجار ومناظر البحر والعمارة لأنه لم يكن يرى ضرورة لإعادة إنتاج المظهر العابر للأشياء. كان يقرأ ويترجم الأشكال كرموز لدنة أو مطواعة لواقع أكثر عمقا، وكاستعارات بصرية لمعاني الوجود.
عندما بلغ بيت موندريان الحادية والسبعين من عمره، أي في خريف عام 1943، انتقل إلى محترفه الذي انتهى من تأسيسه في مانهاتن والتي كان يعتبرها أفضل مكان أقام فيه.
لكن المؤسف انه عاش فيها لبضعة أشهر فقط قبل أن يتوفّى في فبراير من عام 1944 بالتهاب رئويّ. وقد دُفن في بروكلين بنيويورك، وكان من بين من حضروا جنازته زملاؤه مارك شاغال وفرناند ليجيه ومارسيل دوشان وغيرهم.
وبعد رحيله قام صديقه وراعيه الثريّ هاري هولتزمان بتوثيق محتويات محترفه على فيلم قبل أن يعلن عن افتتاحه للعامّة. كما أسّس هولتزمان جمعية اسماها "وديعة موندريان - هولتزمان"، وعهد إليها بمهمّة نشر الوعي بأعمال الرسّام والتأكّد من أصالة لوحاته.