Saturday, August 13, 2005

لوحـات عالميـة - 14


الفـــردوس
للفنان الأمريكي جيفـري بيـدريـك، 1987

ولد جيفري بيدريك في العام 1960 ولقيت موهبته الفنية اعترافا مبكرا، أي منذ حوالي منتصف السبعينات.
انتج الفنان لوحات فنية كثيرة تعالج مواضيع متعدّدة ومتنوّعة، كما أقام معارض عديدة داخل الولايات المتحدة وخارجها.
وبيدريك مصنف ضمن قائمة اشهر ألفي فنان ومصمّم في القرن العشرين.
لوحته الفردوس Elysium هي اشهر أعماله الفنية وأكثرها رواجا وتداولا، وهو في اللوحة يجمع بين تأثيرين مختلفين: الأول يتمثل في أسلوب فنان الفانتازيا الكبير ماكسفيلد باريش، والثاني أسلوب زميله السوريالي نك هايد.
فكرة هذه اللوحة استمدها الفنان من الأسطورة الإغريقية القديمة عن حدائق الفردوس Elysian Fields التي يذكر هوميروس أن بها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت من صنوف المتع والملذات.
وطبقا للأساطير اليونانية يقع الفردوس في أقصى الطرف الغربي من الأرض على ضفاف نهر اوقيانوس.
في تلك البقعة التي يذهب إليها الصالحون والأتقياء بعد موتهم لا عواصف ولا ثلج ولا حرارة ولا برد، بل هواء منعش معتدل تحمله نسائم المحيط، وأنهار من حليب وعسل وبساتين من أعناب وفاكهة من كل صنف ولون.
والفردوس هو مستقر الأرواح وارض الأبطال والشعراء والكهان الذين لا يموتون بل يحيون حياة أبدية.
هنا عاش اخيل مستمتعا بالصيد والطعام والشراب الوفير، وفي حدائق الفردوس كان يتجوّل هرقل بصحبة غيره من الأبطال والشعراء مستمتعين بالمروج الخضراء والفاكهة اللذيذة والهواء المنعش الواهب للحياة وأشعة الشمس الأرجوانية وأنغام الموسيقى التي تتردّد أصداؤها في سماء الفردوس.
من الواضح أن حدائق الفردوس تشبه ما رسخ في أذهان معظم الناس عن الجنّة، فلا يدخلها سوى كل تقيّ صالح، أما الأشرار الفاسدون فيذهبون إلى "تارتاروس" حيث يتعرّضون هناك لعذاب النار الأبدية.
في اللوحة المتوهجة بالأزرق وظلاله، تبدو الجنة معلنة أمجاد الإله، والسماوات لاهجة بجمال صنع يد الخالق، وكأن العالم الروحي يشبه في بهائـه وتساميه العالم الطبيعي، حيث الجبال والمروج والتلال والأنهار والحدائق والسهول والبحيرات.
والفارق الوحيد بين العالم الروحي والطبيعـي هو أن عناصر العالم الأول ليست ثابتة أو استاتيكية وإنما محكومة بخصائص عالم الروح.
تحـدّث عن حدائـق الفردوس الكثير من الفلاسفة والكتـاب أمثال هوميـروس وفرجيل ودانتي وفريدريش شيللر وأطلـق الفرنسيون هذا الاسـم على اكبـر شوارع عاصـمتهم: الشانزيليزيه Champs-Élysées
لوحة الفردوس لـ جيفري بيدريك حقّقت رواجا كبيرا في فترة وجيزة، بسبب فرادة موضوعها وجمال تنسيق العناصر والألوان فيها وعلى نحو يبعث في النفس الراحة والسكينة.

موضوع ذو صلة: رحلة إلى شانغريلا

Friday, August 12, 2005

لوحـات عالميـة - 13


الفتاة ذات القرط اللؤلؤي
للفنان الهولندي يـوهـان فيـرميــر، 1666

كلّ ما يمكن ذكره عن هذه اللوحة الشهيرة هو أنها اشتريت لاول مرة في بدايات العام 1882 في مزاد بمدينة لاهاي لحساب مجموعة دي تومب التي كانت مفتوحة للعامة.
هذه اللوحة الرائعة أصبحت اليوم بحالة سيّئة بسبب ظروف الحفظ الرديئة وعمليات الترميم المكثفة التي خضعت لها.
وعندما أعيد اكتشاف هذه اللوحة أصبحت مشهورة جدّا لدرجة أن يعض نقاد الفن المتحمسين أطلقوا عليها "موناليزا الشمال".
ولحسن الحظ ما تزال النسخة الأصلية من اللوحة تحتفظ بما يكفي لان يستمتع الناظر بمشاهدة عمل فنّي نادر وغريب معا.
تقف الفتاة أمام خلفية محايدة، مظلمة إلى حد ما، تاركة أثرا قويا ذا بعد ثلاثي.
وعند النظر إلى اللوحة جانبيا، تبدو الفتاة وهي تنظر إلينا بينما افترّت شفتاها قليلا كما لو أنها على وشك أن تقول شيئا. انه الأسلوب المخاتل والغامض الذي يتّسم به الفن الهولندي.
في اللوحة تميل الفتاة رأسها قليلا إلى جنب كما لو أنها مستغرقة في التفكير، ومع ذلك تظلّ نظراتها ثابتة.
وهي هنا ترتدي معطفا بنيا يميل إلى الصفرة ومن دون زركشة، بينما توفّر الياقة البيضاء المشعّة عنصر تباين واضح مع ألوان المعطف.
أما العمامة الزرقاء فتوفر تباينا آخر مع شريط القماش الليموني المنسدل من رأسها حتى منكبيها.
استخدم فيرمير في هذه اللوحة الألوان الأصلية للحدّ من نطاقات تدرّج الألوان. وجاء غطاء رأس الفتاة ذا تأثير غريب إلى حد ما.
في تلك الأيام كان غطاء الرأس موضة شائعة عند النساء الأوربيات.
وخلال الحرب ضد الأتراك ثبت أن أساليب الحياة واللباس الخاصة بـ "أعداء المسيحية" أي الأتراك كانت أمورا ُينظر إليها بافتتان شديد.
في هذه اللوحة هناك ملمح ملحوظ وخاص ألا وهو قرط اللؤلؤ الضخم على شكل دمعة الذي يتدلى من أذن الفتاة وقد ظهر جزء منه باعثا بريقا ذهبيا في ذلك الجانب من العنق الذي يقع في الظلّ.
ومن الواضح أن قرط اللؤلؤ في لوحة فيرمير هو رمز للعفة والطهر، ولذلك معنى روحيّ مستمدّ من قصّة النبي اسحق الذي أرسل إلى ريبيكا العفيفة قرطا من اللؤلؤ تعبيرا عن محبّته لها.
وبالإضافة إلى القرط، يظهر أن غطاء الرأس الذي تضعه الفتاة هو تأكيد آخر على البعد الشرقي للقصّة.
وربما تكون اللوحة قد ُرسمت بمناسبة زواج هذه المرأة الشابة.
وفي النهاية لا بد وان يعجب المرء بالتكنيك الفني الذي اتبعه فيرمير في اللوحة من حيث وضع الألوان بطريقة متجاورة وإذابتها لتجنّب رسم خطوط مستقيمة ولإنتاج تأثير ظلي جميل.

Wednesday, August 10, 2005

لوحـات عالميـة – 12

منحوتة طائـر فـي الفضـاء
للنحّات الروماني كونستانتين برانكوزي، 1940

قليلة هي الأعمال التجريدية التي تحوّلت من كونها مرتبطة بزمن وعصر معيّن لتصبح مع مرور السنوات تحفا فنية خالدة تتحدّى عوامل النسيان والتقادم.
وهذه المنحوتة توفّر نموذجا لذلك. فكلّ ما فيها يضفي شعورا بالتحليق والفخامة.
وقد عمل النحّات على صقل وتنعيم النحاس إلى أن ذابت مادّية التمثال في لمعانه البرونزي المنعكس.
كان كونستانتين برانكوزي في بداياته نجّارا وبنّاءً للحجر. وعندما وصل إلى باريس في مستهلّ القرن الماضي كان متأثّرا بالفنّ الشرقي والأفريقي. وبدأ في تعلّم أسس النحت على يد رودان.
لكنه بدأ ينأى بنفسه عن أسلوب النحّات الفرنسي تدريجيا، ليختار أسلوبا أكثر بساطة واقلّ من حيث العناصر، سعيا وراء ما كان يعتبره شكلا نقيّاً.
منحوتات برانكوزي تتّسم بالحميمية وبالأناقة البصرية وغلبة الطابع التجريدي عليها. وهناك من يعتبرها من أهمّ إبداعات حركة النحت الحديث.
كان النحّات معروفا بحرصه على أن يلتقط بنفسه صورا فوتوغرافية لمنحوتاته لدواعي حصرها وتوثيقها.
وقد عمل معه في إحدى الفترات النحّات الياباني نوغوتشي الذي تعلّم على يد برانكوزي أساليب وتقنيات الحفر على الحجر والخشب.
وفي باريس كوّن صداقات مع عدد من الرسّامين المعروفين في ذلك الوقت مثل موديلياني ودوشان وماتيس وهنري روسّو.
كان اسم برانكوزي قد بدأ في الانتشار والذيوع بفضل اجتهاده وعصاميّته بالإضافة إلى دعم رعاته الذين ساندوه وآزروه.
وفي الثلاثينات، كلّفه احد مهراجات الهنود بالذهاب إلى الهند للقيام بأعمال النحت في احد المعابد الهندوسية.
كما تجوّل في العديد من العواصم الأوربية مثل ميونيخ وفيينا وبودابست. وزار نيويورك مرارا حيث عرض فيها عددا من أعماله.
بدأ برانكوزي الاشتغال على فكرة "الطائر أثناء طيرانه" منذ بداية أربعينات القرن الماضي. واستغرقه ذلك عشر سنوات كاملة. وكان يركّز في عمله على حركة الطائر أكثر من خصائصه وسماته الجسدية.
في هذه المنحوتة لا نرى أجنحة أو ريشا، بل جسم مستطيل يأخذ الرأس فيه شكلا بيضاويا شبيها بذلك الذي للطائرة.
ومن الواضح أن تطلّعات الفنان الروحية وتوقه للتسامي فوق العالم المادي وقيوده الكثيرة تجسّدت في هذا العمل النحتي الجميل.
المعروف أن برانكوزي أنجز ضمن هذه السلسلة ستّ عشرة منحوتة من البرونز والرخام تمّ صقلها وتنعيمها بعناية وإتقان.
وقبيل وفاته في العام 1957، أوصى بأن يؤول الاستديو الخاصّ به إلى متحف باريس للفنون شريطة أن يُضمّ الاستديو بالكامل إلى المتحف. وهناك اليوم من يشبّه مكانة برانكوزي في النحت بمكانة بيكاسو في الرسم الحديث.

لوحـات عالميـة – 11


الأرجــوحـــة
للفنان الفرنسي جان اونوريه فراغونار، 1765

تعتبر مشاهد المجون والتخّلع والولع بالنساء تجسيدا لروح مدرسة الروكوكو في الفن الأوربي.
كان جان اونوريه فراغونار تلميذا لـ شاردان ومن ثم لـ بوشيه، قبل أن يرحل إلى إيطاليا حيث تعلق هناك بفنّ الباروك .
وفي هذا الوقت تخصّص في رسم عدد كبير من اللوحات التي تعالج مواضيع وشخصيات تاريخية.
وعند عودته إلى باريس، سرعان ما غيّر فراغونار أسلوبه الفني واتجه إلى رسم مواضيع ايروتيكية، والى هذه المواضيع بالتحديد تنتمي لوحته الأشهر الأرجوحة.
ما أن أنهى فراغونار رسم لوحته هذه حتى أصبحت حديث نقاد الفن في أوربا، ليس فقط بسبب تكنيكها الفني وانما أيضا بسبب الفضيحة التي خلفها.
ففي اللوحة يظهر نبيل شاب وهو يحدّق في تنّورة السيدة المتأرجحة على الشجرة، بينما يبدو في الخلفية الكاهن العاشق الذي اضطرّها بملاحقاته المتحرّشة إلى اللوذ بذلك المكان المرتفع.
وبنفس هذه الروح أنجز فراغونار عددا من لوحاته الأخرى الشهيرة مثل قبلات مسروقة، و خدعة الرجل الأعمى.
وبعد زواجه في 1769 ، بدأ فراغونار رسم لوحات تصوّر مشاهد عائلية وطفولية وحتى دينية.
بالنسبة للكثير من النقاد، تعتبر لوحة الأرجوحة تجسيدا لروح النظام الملكي عشية قيام الثورة الفرنسية.

Tuesday, August 09, 2005

لوحـات عالميـة – 10

نسـاء يجمعـن الحصــاد
للفنان الفرنسي جان فرانسوا ميلليه، 1857

يمكن تصنيف ميلليه باعتباره فنّانا واقعيا. وهذا ما يوحي به عالمه المتجسّد في لوحاته.
ولوحته هنا تعتبر بإجماع معظم نقّاد الفنّ إحدى روائع الفن الكلاسيكي العالمي. ويمكن للمرء بسهولة أن يتعرّف على أسلوب هذا الفنان الذي يعطي أهمّية فائقة للتفاصيل، كالملابس وحركة الجسد وتوزيع اللون.
نساء يجمعن الحصاد تصوّر مجموعة من النساء المجهولات وهنّ منهمكات في جمع بقايا البذور المتخلفة عن موسم الحصاد في حقل مذهّب قبيل ساعة المغيب.
هذه اللوحة أثارت جدلا واسعا في فرنسا وقتها. فبعض نقاد الفن لم يستحسنوا فكرة أن ُيصوّر الفلاحون في هيئة من الاحترام والهيبة أو أن تصبح هذه الطبقة المجهولة والمتواضعة والمهمّشة موضوعا رئيسيا في عمل فنّي.
ومن هنا تنبع أصالة هذا الفنّان الذي رفض المسلّمات الكلاسيكية وأصرّ على تصوير المفردات البسيطة للحياة اليومية. ولهذا السبب ُسمّي "مصوّر الفلاحين".
اللوحة أهداها لمتحف اللوفر الفرد شوشارد الذي كان قد دفع في بدايات القرن الماضي حوالي المليون فرنك فرنسي من اجل استردادها من الولايات المتحدة.
ينحدر جان فرانسوا ميلليه من عائلة فلاحية صغيرة. ولم يكن مستغربا أن يكرّس فنّه لتصوير حياة الريف وأن يخلع على الفلاحين الذي يظهرون في رسوماته صفات البطولة والنبل والكرم.
تأثير ميلليه على الفنّ الأوربّي كان هائلا. فقد شجّع بودين واثّر كثيرا في مونيه وبيسارو. بل إن فان غوخ نفسه استوحى أفكار بعض لوحاته من صور ميلليه.
وهناك من النقّاد من يقول إن ميلليه بأسلوبه الفني المتفرّد كان هو الملهم الأول لأتباع المدرسة الفنية الجديدة التي جاءت بعده مباشرة ، أي الانطباعية.
وأخيرا، في "نساء يجمعن الحصاد" أجواء ضبابية وألوان دافئة، رغم أن المشهد نفسه يعبّر عن صورة من صور العوز والفقر المدقع.

Monday, August 08, 2005

لوحـات عالميـة – 9

مولـد فيـنـوس
للفنان الإيطالي سانـدرو بوتيتشيـللي، 1485

تعتمد هذه اللوحة في موضوعها على أسطورة كلاسيكية هي أسطورة فينوس. في القرن الخامس عشر، كان الإيطاليون يحاولون توظيف الفنّ والأدب من اجل استعادة أمجاد روما. وكانوا مقتنعين بالحكمة المتفوّقة للقدماء، لدرجة أنهم كانوا يعتقدون بأن الأساطير الكلاسيكية تتضمّن بعض الحقائق العميقة والغامضة.
وكان الشخص الذي عهد إلى الرسّام بوتيتشيللي بمهمّة رسم الأسطورة هو أحد أفراد عائلة ميديتشي الغنيّة والمتنفّذة بغرض الاحتفاظ بها في منزله.
وقد أمر ذلك النبيل أحد أصدقائه بأن يشرح للفنّان رؤية الأقدمين لـ فينوس إلهة الجمال وهي تخرج من البحر في اليوم الأول للخلق، حسب الأسطورة.
في ذلك الوقت، أي في عصر النهضة، كانت معظم اللوحات التي تُرسم لنساء تُصوّر العذراء، وفيها تظهر بمظهر محتشم مع ابتسامة ملائكية ورأس منحنٍ لأسفل.
كان كلّ الفنّ تقريبا ذا طبيعة دينية، ولم يكن الرسّامون يجرؤون على رسم نساء عاريات، وعندما يفعلون فإنهنّ غالبا يُصوّرن كرمز للغواية والخطيئة.
ومع ذلك خرج بوتيتشيللي عن هذه القواعد الصارمة ورسم فينوس، ليس فقط باعتبارها إلهة جميلة وعفيفة ورمزا لقدوم الربيع وللأساطير الوثنية، وإنما رسمها عارية أيضا.
كان الرسّام وقتها منشغلا برسم لوحات دينية وأسطورية لأسرة ميديتشي. لكنه قرّر أن يرسم هذه اللوحة معتمدا على ما كان قرأه عن فينوس في العديد من المصادر. ويُحتمل انه تأثّر ببعض معاصريه الذين كانوا يعيدون اكتشاف الفنّ الإغريقي القديم وأفكار اليونان عن الجمال.
ومن بين هؤلاء كان هناك كاتب اسمه ليون البيرتي يُعتبر نموذجا لكتّاب عصر النهضة الايطالي. وقد كتب مقالا معبّرا فيه عن افتتانه بتمثال قديم لفينوس اكتُشف تحت احد البيوت القديمة. كما تحدّث عن أهميّة مراعاة المعايير الرياضية لشكل الإنسان وعن الأفكار الكلاسيكية التي تتحدّث عن الإتقان والحركة.
بالنسبة لالبيرتي، كانت الحركة ترمز للطاقة، لذا نجد حركة في العديد من أجزاء هذه اللوحة مثل أوراق أشجار البرتقال في الخلفية وخصلات الشعر التي تعبث بها الرياح والأزهار المتطايرة في الجوّ والأمواج المتهادية برقّة على الشاطئ وكذلك الملابس.
كان يُنظر إلى مولد فينوس باعتباره رمزا للغموض الذي انتقلت من خلاله رسالة الجمال الإلهي إلى أهل الأرض.
وبإمكان المرء أن يتخيّل كيف اعدّ بوتيتشيللي نفسه لإنجاز هذه المهمّة بطريقة مقنعة. فـ فينوس، طبقا للأسطورة الإغريقية، خرجت من البحر على صدفة دفعتها الرياح إلى الشاطئ وسط شلال احتفاليّ من الأزهار والورود المذهّبة. وعندما لامست قدماها الأرض، استقبلتها إحدى الحوريات بعباءة أرجوانية اللون لتغطّي عريها.
فينوس بوتيتشيللي تتمتّع بوجه ذي تقاطيع جميلة جدّا لدرجة انه يصرفنا عن ملاحظة الطول غير الطبيعي لعنقها والانحدار الحادّ لمنكبيها والطريقة الغريبة، نوعا ما، التي ُثبّت بها ذراعها الأيسر إلى جسدها.
لكن ذلك لا يقلّل من جمال وهارمونية التصميم الذي يعمّق الإحساس برقّة وهشاشة هذا الكائن الذي حطّ على شواطئ أهل الأرض كمنحة من السماء، بحسب الأسطورة.
وقد صوّرها الفنّان بطريقة توحي بالحركية والفورية من خلال سلسلة جميلة ومعقدة من الانحناءات والالتواءات، في نفس اللحظة التي تخطو فيها خارج صدفتها العملاقة باتجاه الشاطئ.
وقفة فينوس في اللوحة تذكّر بفينوس دي ميدتشي، وهو تمثال من الرخام يعود للأزمنة الكلاسيكية. وقد توفرت لبوتيتشيللي فرصة دراسة ذلك التمثال عن قرب.
أنجز الرسّام هذه اللوحة بدرجة عالية من الحرفية. وفينوس التي رسمها كانت أوّل لوحة ضخمة تُرسم في فلورنسا عصر النهضة. وحتى التقنية التي استخدمها في استخلاص الألوان كانت ثورية في زمانه، خاصّة الأزرق وبياض البيض، وقد حصل على نتائج رائعة.
اللوحة تشبه جدارية في سطوعها وتلقائيّتها. وقد حُفظت بطريقة استثنائية، والدليل أنها ما تزال إلى اليوم تبدو بنفس الوضوح الذي رُسمت به قبل قرون، إلا إذا استثنينا بعض التشقّقات القليلة والبسيطة.
في نهاية القرن الخامس عشر، قام الراهب المشهور سافونارولا بحملته المشئومة لإحراق "الأشياء التافهة" وتدمير المتع والكماليات الباذخة واللا أخلاقية كالمجوهرات وأدوات الشعر و"اللوحات الهابطة".
لكن لأن الرسّام كان صديقا لعائلة ميديتشي، فقد نجت اللوحة من ألسنة النيران وظلّت في سلام بمنزل العائلة خارج فلورنسا. وقبل عشرين عاما تمّ ترميمها وأعيدت إليها ألوانها اللامعة عندما أزيلت عنها طبقات الورنيش التي أضيفت إليها في القرن التاسع عشر وأدّت إلى اصفرارها وشحوب ألوانها.
مولد فينوس لوحة جميلة ومعبّرة وهي مألوفة كثيرا لدى مصمّمي برامج الكمبيوتر. وما تزال شركة ادوبي للرسوميات تستخدم هذه التحفة الفنّية في التعريف ببرنامجها ذي الشعبية الكبيرة ايللوستريتور. كما وُظّفت مشاهد وأجزاء من اللوحة في العديد من الكتب والروايات والأفلام السينمائية.

Sunday, August 07, 2005

لوحـات عالميـة – 8

مسافـر فـوق بحـر مـن ضبــاب
للفنان الألماني كاسبـار ديفيـد فريـدريــش، 1818

يقال أحيانا أنه ما من لوحة في تاريخ الفنّ كلّه استطاعت أن تحظى باهتمام الفلاسفة والمؤرّخين وأدباء الحداثة بمثل ما حظيت به هذه اللوحة.
فالرسّام استطاع أن يختزل مشاعر ومزاج عصر بأكمله من خلال وقفة الرجل ونظرته المتأمّلة بعمق.
صحيح أن العالم مفتوح أمامه إذ يقف في ذلك المكان المرتفع الذي يُفترض انه يرى منه كل شيء أمامه وتحته. ومع ذلك فالعالم ما يزال بالنسبة له لغزا يلفّه الضباب ويستعصي على الفهم.
ومعظم المشهد محجوب عن أنظارنا. والمسافر هنا مكشوف جزئيا فقط. حيث أننا لا نراه سوى من الخلف. وليس هناك ما يدلّ على حقيقة تعابيره سوى طريقته في الوقوف التي ربّما تكون المؤشّر الوحيد على مزاجه.
يقول بعض النقاد إن الشخص الواقف أمامنا ليس سوى الفنان نفسه. لكنّ كلّ ما نراه هو رجل غارق في لقاء تأمّلي مع الطبيعة.
والطبيعة هنا لا تكشف سوى عن جزء يسير منها. ورحلة المسافر إلى هذا المكان توفّر له أفقا أوضح وأكثر رحابة ممّا هو متوفّر أسفل.
ومع ذلك، ليس هناك وضوح تام، إذ يتعذّر رؤية ما وراء الضّباب وإن كان بالإمكان محاولة التنبّؤ بما يخفيه.
ورغم مرور كلّ هذه السنوات على ظهور اللوحة، فإنها ما تزال تحتفظ بهالتها وجاذبيّتها وصِلَتها الوثيقة بروح ومزاج عصر الحداثة وما بعدها. وقد أصبحت ترمز إلى غربة الإنسان المعاصر وإلى المستقبل المجهول ومعاناة الإنسان الذي يجد نفسه تائها وهو يبحث عن هدف للوجود أو معنى للحياة.
ولد كاسبار فريدريش في العام 1798 م. وطوال حياته كان شخصا تقيّا متأمّلا مع شيء من التشاؤم والسوداوية.
توفيت أمّه وهو في السابعة من عمره، وبعد ستّ سنوات توفي شقيقه بينما كان يحاول إنقاذ كاسبار من الغرق.
هذا الحادث ترك أثرا عميقا على شخصية الفنان، فظلّ طوال حياته واقعا تحت هاجس الموت والطبيعة والخالق.
وفي بقعة منعزلة من الطبيعة الجميلة وجد كاسبار بعض العزاء والإلهام.
كان يسافر إلى ساحل البلطيق ويزور منطقة الجبال هناك. ويبدو أن تلك المناظر الجليلة وفّرت له موضوعات وأفكارا غنيّة للرسم.
وخلال أسفاره، كان فريديريش يرسم لوحات ذات موتيفات محدّدة مثل أقواس قزح وأشجار السنديان الضخمة التي كان يراها كثيرا في تلك البقعة.
ولأنه وُهب القدرة على ملاحظة الطبيعة وتأمّلها، فقد كان ميّالا للتعبير عنها بعيني مؤمن تقيّ، ما أنتج لوحات ذات قوّة تعبيرية وروحية هائلة.
ويقال إن أعظم انجازات فريدريش هو قدرته على تحويل مناظر الطبيعة إلى كشوفات سايكولوجية وروحية وتعبير مبدع عن الذات. ولوحاته هي من ذلك النوع الذي يُشعِر الإنسان بالتوق الشديد واستدعاء التطلعات والأحلام البعيدة.
وقد رسم هذه اللوحة وكأنه يدعو المتلقي إلى النظر للعالم من خلال عدسة الفنان وإدراكه الخاص.
كان فريدريش مفتونا بفكرة الالتقاء بالطبيعة في حال من التأمّل والعزلة. وكثيرا ما كان يرسم شخوص لوحاته من الخلف، وهو ما أصبح ملمحا مهمّا من ملامح التجربة الرومانتيكية في نظرتها إلى الطبيعة والفنّ.
في اللوحة يركّز الفنان على عناصر التباين. فالطبيعة هنا لا تكشف عن أيّ جمال ظاهري ملفت، بل تعمّد الرسّام التأكيد على رؤيته الخاصة لوظيفة الفن، وهي إبراز الطريقة التي تجعلنا من خلالها الطبيعة نتوق لشيء لا يمكن بلوغه، قد يكون الجنّة الكامنة في طفولتنا حسب التفسير الفرويدي.
وقد عُرف عن فريدريش انه كان مهجوسا بفكرة الموت وما بعد الحياة. وهو في جميع أعماله تقريبا يؤكّد على أن الموت لا ينتظرنا في المقبرة فقط، بل يترصّدنا خلف السحب الداكنة أو أمام قارب اختفى نصفه في السديم أو وراء المدخل المؤدّي إلى أعماق الغابة.
بحلول منتصف القرن التاسع عشر، كانت لوحات فريدريش قد نُسيت تماما تقريبا، وظلّت مجهولة حتى بداية القرن العشرين عندما أعاد الرسّامون الرمزيون اكتشافها ووجدوا أنها زاخرة بالرؤى والمعاني العميقة. ومن أشهر من تأثروا به السويسري ارنولد باكلين والنرويجي يوهان دال.
ومن المؤسف أن بعض أشهر لوحاته تعرّضت للتدمير والتلف عندما استهدفت طائرات الحلفاء بعض المتاحف في درسدن وميونيخ خلال الحرب العالمية الثانية.
الجدير بالذكر أن لوحات كاسبار فريدريش وموسيقى بيتهوفن أسهمت معا وبشكل كبير في التعبير العميق عن الرومانتيكية الألمانية.

موضوع ذو صلة: مكان الإنسان في المنظر الطبيعي