Saturday, March 12, 2016

لوحات عالميـة – 371

صـانعـات التبـغ
للفنان الاسباني غونثـالو مارتينـيز بيلبـاو، 1915

هناك ثلاث ملاحظات أوّلية عن هذه اللوحة. الأولى أنها أشهر أعمال الرسّام غونثالو بيلباو. والثانية أن اللوحة أصبحت منذ ظهورها بمثابة تحيّة ورمز للمرأة العاملة. والملاحظة الثالثة اختيارها لتظهر في فيلم "كارمن" المأخوذ عن أوبرا للمؤلّف الموسيقيّ الفرنسيّ جورج بيزيه.
أمّا المكان الذي يصورّه الرسّام فكان أوّل مصنع للتبغ تمّ افتتاحه في مدينة اشبيلية. وكانت شركة خاصّة قد افتتحت المصنع في بدايات القرن الثامن عشر، أي قبل رسم اللوحة بحوالي قرنين.
المعروف أن اشبيلية أصبحت منذ ذلك الحين مركز تجارة التبغ وذلك بعد أن لاحظ الإسبان أن سكّان أمريكا الأصليين، أي الهنود الحمر، يدخّنون النبتة.
في اللوحة ينقل الفنّان بطريقة واقعية جوّ يوم من أيّام العمل في المصنع. في المقدّمة، نرى أمّين ترضعان طفليهما وسط ابتسامات زميلاتهما، بينما تتابع النساء الأخريات أعمالهنّ الروتينية.
تفاصيل اللوحة وألوانها شديدة الواقعية كما هو واضح. الضوء يغمر الداخل من خلال الممرّ والفتحات الجانبية، وهناك تلاعب جميل بالمنظور. أسلوب مقاربة الرسّام للمنظور يسمح لنا بالنظر عميقا إلى داخل الممرّ حيث تعمل نساء أخريات.
من الأشياء اللافتة للاهتمام في اللوحة الملابس القشيبة المطرّزة للنساء والأزهار في شعورهنّ ونظرات الحنان الامومية والسعادة المنعكسة على الوجوه مانحة إحساسا بالحرّية والقناعة.
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وفي العديد من مدن اسبانيا، عملت جماعات كثيرة من النساء في مصانع التبغ في الأندلس واشبيلية وقادش وبلنسية ومدريد واستورياس وغيرها من المدن.
وكان مصنع التبغ في اشبيلية هو أوّل مصنع يوظّف النساء بدءا من العام 1730م. وكنّ يعملن ابتداءً من سنّ الثالثة عشرة، ولم يكن هناك سنّ محدّد للتقاعد.
كما كان مسموحا للأمّهات العاملات بإحضار أطفالهنّ معهنّ لإرضاعهم ورعايتهم أثناء الاستراحة المخصّصة لذلك.
كان هذا المصنع من اكبر مصانع التبغ في أوربّا، وكان يعمل فيه أكثر من ستّة آلاف امرأة. كانت الرواتب آنذاك زهيدة للغاية. لكن كانت النساء يُمنحن إجازات ولادة وأمومة وتأمينا طبّيا وعلاجا مجّانيا وبدلات وحوافز أخرى.
في ما بعد، تمّ تغيير اسم المصنع إلى "كارمن" على اسم مسرحية جورج بيزيه. وكارمن هو اسم أشهر ماركة سجائر أنتجها المصنع. كما أنه اسم بطلة الأوبرا، وهي فتاة غجرية جميلة تفتن الرجال في إحدى الأساطير التي ارتبطت بمدينة اشبيلية من قديم.
المعروف أن بيزيه استلهم موضوع مسرحيّته الغنائية من آلاف النساء العاملات اللاتي رآهنّ يعملن في المصنع في القرن التاسع عشر.
كانت كارمن امرأة متحرّرة اقتصاديّا، ومن ثم متساوية في علاقتها مع الرجال. غير أن الطبقة البورجوازية كانت تربط بين عمل المرأة وتردّي الأخلاق. وقد راجت في ذلك الوقت أسطورة تقول إن تدخين سيجارة صنعتها امرأة يمكن أن يتسبّب في إثارة الرجل جنسيّا وقد يؤدّي إلى هلاكه.
لوحة بيلباو هذه هي واحدة من سلسلة من اللوحات التي خصّصها لصناعة التبغ في اشبيلية. وهناك من يقول إنه استلهمها من لوحة لاس هيلانديراس "أو أسطورة اراكني" لـ دييغو فيلاسكيز.
بشكل عام، تتحدّث صور بيلباو عن الأخلاقيات وعن الخصوصية المناطقية، كما أنها تحتوي على بعض الرموز. وهي في نفس الوقت تعكس اهتمامه واحترامه للطبقة العاملة التي تسهم بفاعلية في نهوض المجتمع والدفع بالاقتصاد إلى الأمام.
ولد غونثالو مارتينيز بيلباو عام 1860 في اشبيلية لعائلة موسرة. وفي بداياته تتلمذ على يد الفنّان خوسيه اراندا، ثم بدأ مزاولة الرسم وهو في سنّ العشرين. وفي تلك المرحلة بدأ استنساخ بعض لوحات فيلاسكيز وغويا التي سبق أن رآها في متحف البرادو.
لكن، وبإصرار من والده، درس القانون وتخرّج من الجامعة عام 1880. غير انه لم يمارس المحاماة لأنه كان قد قرّر تكريس كلّ وقته وجهده لدراسة الرسم والموسيقى.
ولأنه حقّق نتيجة جيّدة في القانون، أرسله والده إلى ايطاليا وفرنسا. وفي باريس زار عددا من المتاحف ومحترفات الرسّامين الفرنسيين والإسبان الذين كانوا قد تقاعدوا في العاصمة الفرنسية.
مكث الفنّان في ايطاليا ثلاث سنوات قضى معظمها في روما. كما سافر إلى عدّة مدن أخرى مثل نابولي وفينيسيا حيث رسم فيهما مناظر حضرية وريفية قبل أن يعود إلى اسبانيا.
غير أن شخصيّته المتقلّبة حالت بينه وبين العيش في اشبيلية، لذا كان يتنقّل من مكان لآخر بحثا عن طبيعة يرسمها. وكان مكاناه المفضّلان كلا من طليطلة وسيغوفيا.
وفي ما بعد سافر بيلباو إلى المغرب بحثا عن الإلهام ومكث فيها أشهرا، ثمّ عاد مرّة أخرى إلى باريس للبحث عن اتجاهات فنّية جديدة، ولكي يبيع اللوحات التي كان قد رسمها أثناء رحلته إلى المغرب.
وحوالي بدايات القرن الماضي، أصبح أستاذا للرسم في أكاديمية الفنون الجميلة في اشبيلية. ثم عُيّن رئيسا للأكاديمية.
كان بيلباو يعمل بجدّ ونشاط حتى وفاته. وقد كرّس حياته للرسم، وكانت له ارتباطاته وعلاقاته بعالم التبغ الذي رسمه بطريقة لا تخلو من رومانسية. كان ملوّنا عظيما تأثر بالانطباعيين، لكنه لم يتخلَّ عن أسلوبه التقليدي في رسم الطبيعة.
وبعض لوحاته الأخرى يمكن اعتبارها دروسا حيّة في حبّ الإنسان لوطنه ولعمله. وقد استفادت من أسلوبه الواقعيّ المميّز أجيال متتالية من الرسّامين الإسبان.
وعند وفاته في العام 1938 تبرّعت زوجته بمجموعة من أعماله لمتحف الفنّ في اشبيلية، وخُصّصت لتلك الأعمال صالة منفردة.
أما بالنسبة لمصنع التبغ، فمع مرور الزمن دخلت الآلة مجال التصنيع ما أفقد العديد من العمّال وظائفهم. ثمّ شيئا فشيئا بدأ الناس يفتقدون رؤية اولئك النساء بملابسهنّ الزاهية وبأزهارهنّ التي تميّزهنّ.
وفي بداية عام 2003، أعلن مصنع كارمن للتبغ عن إغلاق أبوابه نهائيا بسبب ما قيل عن انخفاض مبيعاته وتدنّي عوائده. وبإغلاقه انتهت حقبة ثقافية واجتماعية مميّزة من تاريخ اسبانيا امتدّت لأكثر من مائتي عام.

Sunday, March 06, 2016

لوحات عالميـة – 370

تابلو رقم 2 (أو توليف رقم 7)
للفنان الهولنـدي بِـيـت مـونـدريــان، 1913

مثل العديد من روّاد الرسم التجريدي، كان دافع بيت موندريان الأساسيّ روحيّا، وكان فنّه مرتبطا جدّا بدراساته الروحانية والفلسفية. وهو من خلال لوحاته كان يهدف إلى تصفية العالم وإعادته إلى جوهره النقيّ.
ولكي يحقّق هذا الهدف، كان يفضّل مبادئ معيّنة، كالاستقرار والثبات والروحانية. وإطاره الفلسفيّ كان أفكار الأفلاطونية الجديدة ونصوص الكتّاب المنتمين للمجتمع الثيوصوفي الهولنديّ الذي كان موندريان احد رموزه منذ عام 1909.
منذ ذلك الوقت، أصبح موندريان مهتمّا بالحركة الثيوصوفية التي أطلقتها هيلينا بلافاتسكي في أواخر القرن قبل الماضي. كانت بلافاتسكي تعتقد أن الإنسان من خلال المعرفة الروحية يمكن أن يتحصّل على معرفة أكثر عمقا بالطبيعة ممّا لو استخدم لذلك أساليب تجريبية. وكلّ أعمال موندريان وحتى نهاية حياته كانت بحثا عن تلك المعرفة واستلهاما لها.
"تابلو رقم 2 أو توليف رقم 7" رسمها موندريان بعد عام من وصوله إلى فرنسا. واللوحة تمثّل احترامه وانجذابه المستمرّ نحو المدارس والأساليب الجديدة في الرسم.
وقد قيل دائما إن من الضروري أن ترى اللوحات الأصلية لموندريان كي تستمتع بتفاصيلها وتقدّر جمالها. والنسخة الأصلية من هذه اللوحة فيها طاقة وجمال لا توفّرهما ولا توصلهما الصور المستنسخة. وربّما ليس من المتيسّر إعطاء وصف كافٍ للجودة التي رُسمت بها، ابتداءً من المزج البارع للألوان والنسيج والطبقات أو غيرها من اللمسات الجميلة، كالنوتات المتألّقة للون الأصفر.
الأسلوب المتّبع في اللوحة استلهمه الرسّام من التكعيبية التحليلية، وقد قام بتجزئة الموتيف، وهو في هذه الحالة شجرة، إلى شبكة من الخطوط السوداء المتداخلة والأسطح اللونية التي يغلب عليها الألوان الصفراء والرمادية والبيضاء وتدرّجاتها، ما يذكّر بألوان التكعيبية.
في الشجرة، وهي احد موتيفات موندريان المفضّلة، كلّ ما هو أفقيّ يرمز للطبيعة، وكلّ ما هو عموديّ يرمز للإنسان. والجذع يمثّل وعي الإنسان في مواجهة التنوّع اللانهائي للعالم الذي تمثّله وترمز إليه الأغصان.
وهذه اللوحة وغيرها توضح أن اهتمام موندريان الأكبر هو أن يتصالح مع البعد الثنائيّ للسطح المرسوم، كما أنها تؤكّد على رفضه للتقليد الذي كان يعتبره محاكاة خادعة للواقع.
ولد بيت موندريان في هولندا لعائلة محافظة وتلقّى تربية بروتستانتية صارمة. كان ثاني أبناء العائلة. وكان والده معلّما في مدرسة. وقد تعرّف على الرسم منذ سنّ مبكّرة جدّا.
وفي عام 1892 دخل أكاديمية الفنّ التشكيليّ في أمستردام، وبعد تخرّجه أصبح أستاذا للرسم ورسّاما. وأعماله المبكّرة تغلب عليها الصفة الانطباعية، ومعظمها كانت مناظر طبيعية ورعوية من بلده الأمّ تصوّر طواحين هواء وحقولا وأنهارا وذلك بأسلوب الانطباعيين الهولنديين.
وبعد ذلك أصبح يرسم لوحات فيها قدر من التجريد عبارة عن مناظر خافتة لأشجار وبيوت غير واضحة المعالم ومنعكسة في مياه ساكنة. وربّما يوفّر البحث في تلك الأعمال المبكّرة دليلا عن جذور التجريدية التي ظهرت مستقبلا عند موندريان.
وعلى كلّ حال كان الفنّان ما يزال يبحث عن أسلوبه الفنّي الخاصّ عندما رأى لوحات بيكاسو وجورج براك في معرض أقيم في أمستردام عام 1911. وقد شجّعه ذلك على أن يذهب إلى باريس للمزيد من الدراسة والاطلاع.
وفي باريس تعلّم شيئا عن النقطية والوحوشية وأظهر تأثيراتهما في بعض لوحاته آنذاك. لكنه ذهب بعد ذلك إلى ما هو ابعد عندما اطلع عن قرب على التجريدية والتكعيبية وأصبح يرسم على منوالهما.
كان موندريان في كتاباته يتحدّث عن الطبيعيّ كما يمثّله الأفقيّ، وعن الروحيّ كما يمثّله العموديّ. وبناءً عليه قد تكون الشجرة في اللوحة استعارة بصرية للبحث عن توازن ما بين الهويتين المتباينتين للطبيعة وللإنسان.
والفكرة الروحية عنده تتمثّل في أن تناغم الكون يتجسّد في الطبيعة. كما أن العناصر الأفقية والعمودية لتوليفاته موضوعة ومرتّبة لخلق سيميترية متوازنة تضاهي التوازن الديناميكيّ لعالم الطبيعة.
يقول احد النقّاد أن مبعث المتعة في النظر إلى لوحات موندريان يعود إلى توازنها غير العاديّ والذي يلفت الاهتمام ويثير الإعجاب. ويضيف إن ما يثيرنا فيها أنها مدهشة وغريبة وغير متصوّرة وغامضة. وتصاميمها مجرّدة، ليس فقط من التجسيد "أي من الصور"، وإنما أيضا من الأشكال والنسيج، بل وحتى من الفراغ الصوريّ الذي نجده في لوحات رسّامين مثل بولوك ودي كوننغ مثلا.
خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، استمرّ موندريان في تبنّي المزيد من التجريد رافضا الخطوط القُطرية. كما أصبح يقلّل من اعتماده على مواضيعه المفضّلة، أي الأشجار ومناظر البحر والعمارة لأنه لم يكن يرى ضرورة لإعادة إنتاج المظهر العابر للأشياء. كان يقرأ ويترجم الأشكال كرموز لدنة أو مطواعة لواقع أكثر عمقا، وكاستعارات بصرية لمعاني الوجود.
عندما بلغ بيت موندريان الحادية والسبعين من عمره، أي في خريف عام 1943، انتقل إلى محترفه الذي انتهى من تأسيسه في مانهاتن والتي كان يعتبرها أفضل مكان أقام فيه.
لكن المؤسف انه عاش فيها لبضعة أشهر فقط قبل أن يتوفّى في فبراير من عام 1944 بالتهاب رئويّ. وقد دُفن في بروكلين بنيويورك، وكان من بين من حضروا جنازته زملاؤه مارك شاغال وفرناند ليجيه ومارسيل دوشان وغيرهم.
وبعد رحيله قام صديقه وراعيه الثريّ هاري هولتزمان بتوثيق محتويات محترفه على فيلم قبل أن يعلن عن افتتاحه للعامّة. كما أسّس هولتزمان جمعية اسماها "وديعة موندريان - هولتزمان"، وعهد إليها بمهمّة نشر الوعي بأعمال الرسّام والتأكّد من أصالة لوحاته.