Friday, June 09, 2017

لوحات عالميـة – 396

فـنّ الرّسـم
للفنان الهولندي يوهـان فيـرميـر،1666

لّلون أهميّة خاصّة في لوحات فيرمير. كان دائما يفضّل اللازورد أو الفيروزي المستخلص من حجر سماويّ شديد الزرقة. والفيروز الذي استخدمه في هذه اللوحة هو الأغلى في العالم. أما كيف استطاع استخدام هذا اللون رغم تكلفته الباهظة، فأمر ما يزال إلى اليوم لغزا.
يقال أحيانا أن أفضل لوحات فيرمير هي ديكوراته المنزلية التي تظهر فيها امرأة واحدة تزاول نشاطا منزليّا ما، مثل "خادمة الحليب" و"امرأة تُمسك ميزاناً" وغيرهما.
ومع ذلك فإن هذه اللوحة، أي "فنّ الرّسم"، كانت وما تزال احد أشهر أعماله. وبعض مؤرّخي الفنّ يعتبرونها أكثر أعماله فتنةً وإثارةً للاهتمام. وكلّ تفصيل فيها يمتصّ ويعكس الضوء بطريقة مختلفة. وهي تدلّ على طموح الرسّام ومدى قدرته على الابتكار والتنفيذ المتقن.
ويمكن أيضا اعتبار اللوحة احتفاءً بالرّسم. السمة المسرحية فيها واضحة، تؤكّدها الستارة البارزة الضخمة إلى اليسار والتي تنسحب إلى الخلف كما لو أنها تكشف عن خشبة مسرح. وعندما تنظر إلى ما وراء الستارة، سترى غرفة أو محترفا تضيئه أنوار ساطعة.
ومن الواضح أن الغرفة أكثر أناقة مما تبدو عليه ورش الرسّامين عادة. فهي تحتوي على ثريّا ذهبية وأثاث رائع وبلاط من الرخام الفخم. والطريقة التي صوّر بها فيرمير الأرضية الرخامية والنجفة الضخمة هي مثال على حرفيّته ومعرفته بالمنظور.
واللوحة بكلّ ما تشتمل عليه من تفاصيل هي محاولة فيرمير للإجابة على سؤال قديم طالما شغل الكتّاب والرسّامين والنحّاتين وهو: ما مكانة الرسّام في المجتمع؟ هل هو حرفيّ كالنجّار والبنّاء والحدّاد، أم مفكّر مبدع حاله حال الشاعر والمعماريّ والفيلسوف؟
وإجابة فيرمير على هذا السؤال هي أن الرسم يشبه الفنون الأخرى من حيث انه قادر على تجسيد الأفكار والمشاعر والتأثير في عقل وقلب المتلقّي من خلال اللون والخطّ والضوء والظلّ.
في اللوحة، نرى فنّانا يرسم امرأة ترتدي فستانا ازرق وتقف بجوار نافذة، وعلى الجدار خلفها تظهر خارطة كبيرة للأراضي المنخفضة. الديكور الهولنديّ الجميل من القرن السابع عشر الذي تضيئه أنوار ناعمة رُسمت تفاصيله ببراعة.
والرسّام الظاهر في اللوحة يُعتقد أنه فيرمير نفسه، وهو يرسم في نسخة متخيّلة من مرسمه، أمّا المرأة فقد تكون ابنته.
الرسّام يجلس أمام اللوحة مرتديا ملابس سوداء أنيقة مع فتحات على الأكمام والظهر. وهذا اللباس كان غالي الثمن في زمن فيرمير ولم يكن يقتنيه سوى نخبة المجتمع. وقد ظهر في لوحات قليلة، منها بورتريه رسمه بيتر بول روبنز لنفسه.
والملاحظ أن فيرمير صوّر الرسّام من الخلف للتأكيد على عالمية الحرفة، وربّما للإشارة إلى انه، هو نفسه، ظلّ غير معروف أثناء حياته رغم انه جلب الشهرة والمجد لبلده.
ويُفترض أن المرأة في اللوحة تجسّد شخصية "كلييو" ملهمة التاريخ في الأساطير. وما يرجّح هذا الاحتمال هو إكليل الغار الذي يعلو رأسها، كما أنها تمسك بيد بوقاً وبالأخرى نسخة من كتاب يُعتقد انه لهيرودوت.
كان المنظّرون يرون أن أنبل التعبيرات الفنّية هي تلك التي يجسّدها الرسم التاريخيّ، وهو مصطلح يتضمّن المواضيع التاريخية والدينية والأسطورية.
وبوضع الرسّام ملهمة التاريخ في وسط اللوحة، فإنه إنّما يؤكّد على أهميّة التاريخ بالنسبة للفنون البصريّة، ومن ضمنها الرّسم.
المرأة والخريطة والقماش المطرّز والستارة والنجفة والقناع الجبسيّ على الطاولة، كلّها رموز توصل معنى وأهميّة فنّ الرّسم.
فالقناع يُستخدم عادة كرمز للمحاكاة أو التقليد، ومن ثم للرّسم. والخريطة الضخمة في مؤخّرة الغرفة تشير إلى تاريخ هولندا الحديث، وهي من تصميم رسّام الخرائط الهولنديّ المشهور كلاس فيشر. وفيها تظهر الأقاليم السبعة عشر التي كانت تتألّف منها هولندا، مع عشرين مدينة رئيسية.
كانت خارطة فيشر قد أصبحت متقادمة عندما رسم فيرمير اللوحة. فاستصلاح الأراضي غيّر طبيعة تضاريس البلاد، كما أثّرت التغييرات السياسية على حدودها.
وقد تكون الفكرة من وراء وضع الخريطة هي الإشارة إلى أيّ مدى يمكن أن تصل شهرة الرسّام وذيوع اسمه، مع انتقال أعماله من مدينة لأخرى.
هناك أيضا الثريّا الذهبية الفخمة في السقف والتي يتوسّطها من أعلى رسم لنسر برأسين يقال انه كان رمزا لأمجاد أسرة هابيسبيرغ الملكية. والأثاث الفخم في الصورة يمكن أيضا أن يكون رمزا للرخاء المادّيّ الذي يحقّقه كلّ رسّام موهوب.
وربّما أراد فيرمير من رسم الخريطة والثريّا أن يشير إلى أن الفنّان يجلب الشهرة لوطنه ولمدينته، من خلال معرفته بالتاريخ وقدرته على رسم المواضيع والأفكار المهمّة. وكانت مثل هذه الأشياء مثار إعجاب الهولنديين وتقديرهم في زمانه.
لكن يمكن أن يكون هذان الرمزان انعكاسا للذوق الذي كان سائدا في عصر فيرمير، بالإضافة إلى أنهما يتضمّنان عنصر حنين إلى الأيّام التي كانت هولندا فيها بلدا موحّدا.
وهناك من يقول إن تأكيد فيرمير على التاريخ يمكن أن يعني أيضا أن قوّة الرسّام تتمثّل في قدرته على تحويل الأشياء الموقّتة والعابرة إلى أبدية وخالدة، وبالتالي يحقّق لنفسه من خلالها الذيوع والخلود.
كان فيرمير يحبّ هذه اللوحة كثيرا وكانت لها مكانة خاصّة في نفسه، لدرجة انه رفض أن يبيعها أثناء حياته حتى عندما كان مثقلا بالديون.
وفي عام 1676، تنازلت عنها أرملته لوالدتها للحيلولة دون بيعها من اجل سداد ديون الدائنين. لكن في العام التالي بيعت معظم لوحات فيرمير في مزاد في مدينة ديلفت. ولم يُعرف من اشترى هذه اللوحة بالتحديد.
ثم تبيّن أن ثَريّا يُدعى جيرارد فان سويتن ابتاعها ثم تنازل عنها لأخيه الذي اشتراها منه في ما بعد أمير نمساويّ. وأخيرا اشترى اللوحة ادولف هتلر بمبلغ مليوني مارك ألماني وضمّها إلى مجموعة متحف لينزر.
وقد نجت اللوحة مع غيرها من الأعمال الفنّيّة من غارات الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية بعد أن أخفيت في منجم للملح.
وفي نهاية الحرب أعادها الأمريكيون للحكومة النمساوية. وفي عام 1958 نُقلت إلى متحف تاريخ الفنّ في فيينا حيث ظلّت فيه إلى اليوم.

Tuesday, June 06, 2017

لوحات عالميـة – 395

الفقـهـاء
للفنان النمساوي لودفيـك دويتـش، 1905

كان للرسومات الاستشراقية اثر كبير في تطوّر العلاقة بين الشرق والغرب. وقد سافر العديد من الرسّامين الأوربّيين إلى بلدان الشرق وأسّسوا لهم فيها محترفات، وبعضهم تزوّجوا من نساء عربيات وتعلّموا لغات المنطقة وفتحوا دروبا للمعرفة والتفاهم بين الشرق والغرب.
جاذبية الرسم الاستشراقي استمرّت من خلال لوحات عدد من رسّامي القرنين الثامن والتاسع عشر. وكان لهذا النوع من الرسم أتباع كثيرون في الشرق والغرب ممّن كانوا منجذبين إلى الواقعية والأسلوب والتفاصيل والرسائل التي كان يتضمّنها.
وقد أرضى استشراق القرن التاسع عشر فضول العامّة من الأوربّيين الذين كانوا توّاقين لمعرفة الشرق، خاصّة بعد حملة نابليون على مصر ثم نشر كتاب "وصف مصر" الذي تناول جغرافية وتاريخ وعادات وتقاليد المصريين.
ومن بين الرسّامين الأوربّيين الذين ذهبوا إلى مصر وصوّروا بعضا من جوانب الحياة فيها الرسّام النمساوي لودفيك دويتش الذي زار مصر خمس مرّات ما ببن عامي 1883 و 1904.
وقد ضمّن دويتش لوحاته صورا لحرّاس القصور النوبيين ومواكب المحمل في شوارع القاهرة ومضيئي الشموع في بدايات الليل والأضرحة وحواة الأفاعي والدلالين ورعاة الأغنام وغيرهم.
لكن في أواخر عام 1890 بدأ الرسّام تنفيذ سلسلة من الأعمال التي تناول فيها طبقة العلماء والمثقّفين في صور تأمّلية يظهر فيها أشخاص متعلّمون وهم يقرءون رسائل أو كتبا أو مخطوطات.
وقد اعتُبرت تلك اللوحات دليلا على نضج دويتش وتوسّع معرفته ببلدان المنطقة وازدياد أهمية التعليم في مصر بسبب إصلاحات محمّد علي التي سبقت ذلك التاريخ بعقود.
في هذه اللوحة، يرسم دويتش ثلاثة علماء دين وهم يتأمّلون مخطوطات من أنواع مختلفة في غرفة تحتوي على خزانة كتب خشبية مع نقوش ارابيسك بديعة. وأرضية الغرفة مزيّنة بسجّادة كردية أو فارسية مع صندوق خشبيّ مطعّم باللآليء.
الرجال الثلاثة يرتدون الملابس التقليدية التي تتألّف من عمامة وطربوش وجبّة أو قفطان، بالإضافة إلى أحذية مغربية حمراء. وظهور الثلاثة بأحذيتهم هي إشارة إلى أنهم لا يجتمعون في مسجد، وإنّما على الأغلب في منزل خاصّ.
الأسطح المصقولة والواقعية الشديدة التي تميّز فنّ دويتش، ومن ضمنه هذه اللوحة، كان وراءها مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي جمعها الرسّام في القاهرة مع المئات من قطع الديكور الأخرى. وقد أخذ كلّ هذه الأشياء معه إلى فرنسا كي يزيّن بها مرسمه الباريسيّ. وكان من عادته أن يضع اسكتشات لوحاته في القاهرة ثم يكمل رسمها عندما يعود إلى باريس.
وعلى الرغم من مكانة دويتش المهمّة في الرسم الاستشراقي الأوربّي، إلا أن تفاصيل حياته ما تزال قليلة أو غامضة. لكن من المعروف انه يتحدّر من عائلة يهودية معروفة، وكان والده يعمل في البلاط النمساويّ.
وقد درس في أكاديمية فيينا للرسم عام 1872، ثم استقرّ في باريس اعتبارا من عام 1878. وكان قد سبقه إلى هناك مواطنه الرسّام الاستشراقي المعروف رودولف ارنست.
وفي باريس، درس دويتش على يد رسّام المواضيع التاريخية جان بول لوران، قبل أن يختطّ لنفسه أسلوب رسم واقعيّا وذا سمات لا تخلو من الفخامة والدراماتيكية.
وقد هيمنت مواضيعه الاستشراقية على فنّه، وبفضل تلك المناظر المفصّلة التي رسمها عن الحياة اليومية في مصر اكتسب نجاحا كبيرا وثناءً غير مسبوق أهّله لنيل ميدالية ذهبية من معرض أقيم في باريس عام 1900.
وفي مرحلة تالية، استبدل أسلوبه الأكاديميّ الصارم بآخر أكثر تحرّرا وتلقائية.
ودويتش يُعتبر اليوم أكثر رسّام استشراقيّ نمساويّ يبحث هواة الأعمال الفنّية عن أعماله. وكثيرا ما تباع لوحاته بأسعار مرتفعة. ومعظمها موجودة الآن في مجموعات خاصّة.
إحدى لوحاته واسمها صلاة الفجر ، بيعت قبل فترة بأكثر من نصف مليون جنيه استرليني، وفيها يظهر رجلان يؤدّيان الصلاة داخل احد مساجد القاهرة الفاطمية.
ومن بين أفضل لوحات دويتش الأخرى واحدة بعنوان النذور ، ويظهر فيها جانب من جامع السلطان حسن بالقاهرة مع أشخاص يرتدون ملابس أنيقة ويحملون عددا من الهدايا إلى داخل المسجد. وقد بيعت هذه اللوحة بمليوني جنيه استرليني، كما بيعت لوحته الأخرى حارس القصر بحوالي هذا السعر.