Tuesday, July 17, 2018

لوحات عالميـة – 468

ثـلاث عـازفـات
لمعلّم رسم البورتريهات النصفية للنساء، 1530

في النصف الأوّل من القرن السادس عشر، كان يعيش في جنوب هولندا عدد من الرسّامين الذين كانوا يعملون ويوقّعون لوحاتهم بألقابهم لا بأسمائهم الحقيقية.
كانوا يختارون لأنفسهم صفات تناسب نوعية الرسم الذي برزوا فيه، مثل "معلّم رسم الطيور" و"معلّم رسم البورتريهات النصفية للنساء" وما إلى ذلك.
وكانت هناك محاولات مبكّرة لتحديد أسماء أولئك الرسّامين دون جدوى. ورغم شعبيّتهم إلا أن هويّاتهم ظلّت غير معروفة.
وأحد أشهر هؤلاء كان رسّاما أطلق على نفسه لقب "معلّم رسم بورتريهات النساء النصفية". لكن لا يُعرف عنه الكثير. ولا احد يعرف على وجه اليقين إن كان شخصا واحدا أو مجموعة من الرسّامين الذين كانوا يتشاركون ورشة جماعية.
كان هذا المعلّم يعمل في مدينة انتويرب. وقيل أيضا أنه عاش وعمل في مدينة ميشلين ضمن الدائرة المثقّفة التي كانت تحيط بمارغريت، الحاكمة النمساوية لهولندا، في بدايات ذلك القرن. وعلى الأرجح، كانت له ورشة كبيرة يديرها ويعمل تحت إشرافه رسّامون متعدّدون.
ويبدو من أسلوبه انه تلقّى تدريبا في الرسم على يد الفنّان يواكيم باتينير بسبب تماثل لوحاتهما المرسومة على الخشب. أما من يظهر في رسوماته غالبا فبعض نساء الطبقة الارستقراطية بملابسهنّ الأنيقة وهنّ يقرأن أو يعزفن الموسيقى أو يجلسن داخل ديكورات منزلية.
والمعلّم يرسمهنّ بنصف طول كما يوحي لقبه. وكثيرا ما كان يضيف إلى البورتريه منظرا طبيعيا تعبيريّا. ومن الواضح انه كان يرسم لوحاته بأسلوب القصر ولمصلحة بعض جامعي الفنّ في زمانه.
وعدد اللوحات المنسوبة للمعلّم يربو فوق المائة. كما أن أسلوبه، من ناحية الذوق والمزاج، يعكس أسلوب رسّامي مدينة بورغيس، مثل ادريان آيزنبرانت وآمبروزيوس بنسون وغيرهما. كما أن لوحاته تعبّر عن الخصائص والقيم الإنسانية والفنّية لعصر النهضة الشمالية.
وبعض لوحاته مرسومة ببراعة فائقة، لذا لاقت استحسانا وتقديرا واسعين من معاصريه. ويقال أن إحداها رُسم منها خمس عشرة نسخة وما تزال جميعها باقية إلى اليوم. وتظهر فيها امرأة عصرية بملابس جميلة وهي تكتب بينما تظهر خلفها نافذة.
لكن أشهر لوحات معلّم رسم البورتريهات النصفية للنساء هي هذه اللوحة التي يصوّر فيها ثلاث نساء يرتدين ملابس عصرية من القرن السادس عشر وهنّ يؤدّين وصلة موسيقية. وبينما تمسك إحداهنّ في يدها بنوتة موسيقية، تعزف الأخريان على آلتي لوت "عود" وفلوت أو ناي.
النساء الثلاث يشتركن في نفس السمات، فملامحهنّ متقاربة كثيرا وملابسهنّ بديعة بألوانها المتناغمة وزخارفها النفيسة. وكلهنّ رُسمن بأسلوب حديث، مع خاصّية لمعان تشبه تلك التي تظهر في اللوحات المرسومة للقصور.
السمت المهذّب للنساء والوجوه البيضاوية الشكل والمرسومة على هيئة قلوب والرموش المقوّسة والشفاه المحدّدة كانت دائما خصائص المرأة النموذج التي استخدمها الرسّام في جميع لوحاته. وهناك فرضية غير مؤكّدة تقول أن رسّاما مختلفا قد يكون هو الذي رسم الأيدي.
وربّما تكون الطبيعة الأنيقة للنساء ومواضيع اللوحات نفسها من بين الأسباب التي جعلت من هذه اللوحات مصدر إلهام لبعض الموسيقيين والشعراء.
وبحسب احد المؤرّخين، فإن النساء في هذه اللوحة يؤدّين أغنية مشهورة من ذلك الزمان لحنّها موسيقيّ يُدعى كلود دي سيرميزي وكتب كلماتها شاعر اسمه كليمنت ماروت.
المعروف انه توجد من هذه اللوحة اليوم نسخ متعدّدة، لكن أشهرها هي الموجودة في متحف الارميتاج الروسيّ.

Friday, June 01, 2018

لوحات عالميـة – 467

تحـوّل في الطريـق إلى دمشـق
للفنان الايطالي كارافـاجيـو، 1601

ترك كارافاجيو أثرا كبيرا على فنّ الباروك بأسلوبه الخاصّ والمبتكر الذي يتميّز بالإضاءة والحركة والدراما والتوتّر والفخامة.
كان الفنّانون قبل كارافاجيو يرسمون مناظر دينية مثالية، وذلك بإضافة هالات إلى الأشخاص أو ملائكة تطير في الهواء وتفاصيل من عوالم أخرى.
أما كارافاجيو فقد أصرّ على أن يتعامل مع القصص الدينية بشكل مختلف وذلك بتركيزه على الواقع والجسد والانفعال.
في هذه اللوحة، يصوّر الرسّام قصّة دينية وردت في الكتب القديمة عن قدّيس يُدعى سول كان مشهورا باضطهاده للمسيحيين. وسول هذا هو الذي سيتحوّل في ما بعد إلى بولس الرسول أحد كتبة الإنجيل.
تذكر القصّة أن سول كان فرّيسا وكان يعيش في مدينة القدس بعد صلب المسيح. وقد أقسم على أن يبيد جميع المسيحيين الجدد. ثم جاءته أوامر من كبار الكهنة بالذهاب إلى دمشق والتعامل بشدّة مع أتباع المسيح فيها.
لكن مفاجأة حدثت له في الطريق بالقرب من دمشق، إذ فوجئ – بحسب القصّة - بضوء قويّ يأتي من السماء ويُسقطه عن ظهر حصانه. ثم سمع صوت المسيح يقول له: لماذا تضطهدني؟!" وأثناء تخبّطه، اكتشف سول انه لم يعد يرى. ثم جاءه الصوت مرّة ثانية يقول له: الآن انهض واذهب إلى دمشق وسأخبرك ما الذي ستفعله هناك".
وكارافاجيو يرسم لحظة السقوط تلك من على ظهر الحصان والفوضى التي رافقت ذلك. والرسّام يختار لهذه الدراما خلفية مظلمة لكي يركّز اهتمام الناظر على تلك اللحظات المثيرة التي مرّ بها سول المتمدّد على الأرض في ذهول وصدمة. ويُفترَض انه رأى المسيح في تلك اللحظة التي أعماه فيها النور القادم من السماء.
والضوء يضرب الحصان ويسقط على سول المتمدّد على الأرض والرافع يديه والمغمض عينيه بينما سيفه وخوذته ملقيان على الأرض.
ووسط هذه المعمعة هناك أقدام كثيرة. الخادم المرتبك والذي لا يظهر منه سوى رأسه وقدماه يحاول الإمساك برسن الحصان لمنعه من دوس سول.
الحصان يحتلّ معظم مساحة اللوحة، وهو يثير إحساسا بالتوتّر يعمّقه رفعه لأحد حافريه في الهواء كما لو انه يريد تحاشي أن يخطو فوق صاحبه. ونظرات الحصان تبدو متعاطفة، بينما نصفه في الظلمة ونصفه الآخر في الضوء. والرمزية هنا واضحة، وفيها إيحاء برحلة سول من الظلام إلى النور أو من الكفر إلى الإيمان.
بحسب القصّة، فإن هذه الحادثة كانت إيذانا بالتحوّل الروحيّ الذي سيطرأ على سول فيتحوّل بعد قليل من كونه مضطهِدا للمسيحيين إلى قدّيس يحمل اسم بولس الرسول. ووضع سول المثير للشفقة يوحي بأن ما نراه هو ولادة روحية جديدة.
وعلى الرغم من أن هذه الصورة لا تشبه أيّ صورة أخرى، إلا أنها برأي الكثيرين اقلّ لوحات كارافاجيو حيوية ودراماتيكية.
تقول القصّة أن سول بقي أعمى ثلاثة أيّام امتنع خلالها من تناول أيّ طعام أو شراب. وعندما وصل إلى دمشق، كان المسيح قد ظهر لرجل صالح فيها يُدعى انايناس وأمره بأن يقابل سول. ورغم انه كان خائفا من الأخير بسبب سمعته السيّئة كقاتل بلا رحمة للمسيحيين، إلا انه قابله في النهاية. وأثناء اللقاء استردّ سول بصره ثم تحوّل إلى بولس الذي تذكر الأدبيات المسيحية أنه أسهم إسهاما كبيرا في نشر المسيحية.
استخدم كارافاجيو في اللوحة تقنية الكياروسكورو، أي توظيف الضوء والظلّ، لتركيز الأنظار على مناطق معيّنة في الصورة. وهذا الأسلوب أصبح علامة مميّزة له ومصدر إلهام لأجيال عديدة من الرسّامين الذين أتوا بعده.
المعروف أن هذه القصّة استهوت العديد من الفنّانين الذين صوّروها، ومن أهمّهم لوكا جوردانو و غويدو ريني و آدم الزهايمر وغيرهم.
بسبب رحلة بولس تلك، أصبحت عبارة "تحوّل في الطريق إلى دمشق" شائعة في اللغة. وتُستخدم عادة لتعكس تغيّرا كبيرا أو أساسيّا ومفاجئا في حياة شخص ما بسبب لحظة واحدة. وأحيانا تُستخدم العبارة لتعني النقطة التي يحدث فيها تغيير دراماتيكيّ ودائم في أفكار ومعتقدات شخص ما بسبب تدخّل إعجازيّ وخارق للعادة.
لوحات كارافاجيو الدينية اعتُبرت دائما أفضل ما في روما من فنّ. كان أسلوبه يروق للكنيسة والكهنة. ولسوء الحظ أدّى مزاجه العنيف لأن يفرض على نفسه المنفى في السنوات الأخيرة من حياته. ورغم موته في سنّ الثامنة والثلاثين، إلا أن الكارافاجيوية عاشت طويلا بعده وتأثّر بها معظم رسّامي عصر الباروك.
هذه اللوحة هي إحدى لوحتين أمر برسمهما المونسنيور الايطاليّ سيراسي، وزير خزانة البابا كليمنت الثامن، كي تزيّنا كنيسة ماريّا ديل بوبولو في روما.
وكلا اللوحتين ما تزالان في مكانهما إلى اليوم مع لوحات أخرى لرافائيل وكاراتشي وبيرنيني. لكن مقارنةً بلوحات هؤلاء الثلاثة، تبدو لوحة كارافاجيو حديثة جدّا من حيث الشكل والمضمون.

Thursday, May 24, 2018

لوحات عالميـة – 466

وادي يوسـاميتـي
للفنان الأمريكي البيـرت بيـرستـادت، 1864

أسهمت صور الطبيعة الأمريكية في صوغ الهويّة الوطنية للأمريكيين في منتصف القرن التاسع عشر. وكانت المناظر البانورامية الضخمة للغرب الأمريكيّ، كما تظهر في الرسم، مؤشّرا على فترة الرخاء والوفرة المنتظَرة.
البيرت بيرستادت كان أوّل رسّام أمريكيّ يُمسك بالقوّة الرمزية لجبال روكي وسييرا نيفادا ويوساميتي. وقد كرّسته مناظره تلك كواحد من أفضل رسّامي طبيعة الغرب الأمريكيّ.
في صيف عام 1863، ذهب بيرستادت إلى الساحل الغربيّ لأمريكا وقضى في تلك النواحي بضعة أسابيع أنجز خلالها دراسات في الطبيعة المفتوحة لوادي يوساميتي في كاليفورنيا. وعندما رأى الوادي لأوّل مرّة ذُهل من جماله وكتب إلى صديق له يصفه بأنه "جنّة عدن الأمريكية".
لوحاته التي رسمها للوادي، على وجه الخصوص، اعتبرها الكثيرون صورة لجنّة لم تطأها أقدام بشر من قبل، وأصبحت محفّزا على ضرورة حماية تلك الطبيعة البكر.
وفي عام 1864، وقّع الرئيس ابراهام لنكولن قانونا يقضي بحماية الجمال الطبيعّي لوادي يوساميتي والمحافظة عليه كمتنّزه عامّ للناس. وحتى ذلك الوقت، كانت كاليفورنيا ما تزال مكانا نائيا وخطيرا ويصعب الوصول إليه بالنسبة لمعظم الناس.
وقبل ذلك كانت بعثة استكشافية قد وصلت إلى يوساميتي وبُهر أفرادها بجمال الطبيعة فيه بعد أن نجحوا في إخضاع القبيلة الهندية التي كانت تقطنه. وبعد فترة قصيرة بُني فندق متواضع هناك لاستقبال السيّاح.
وقد سافر بيرستادت مرارا إلى المنطقة مع بعثات أخرى. وكانت لوحاته الفخمة للمكان تمثّل تجربة شخصية متفرّدة ورأى أن الوادي ينافس جبال الألب والهمالايا في جمال طبيعته. وقيل إن لوحاته حوّلت المكان إلى رمز ومنحت أفراد الطبقة الوسطى لمحة عن الوادي وشجّعتهم على زيارته ورؤيته عيانا.
رسم بيرستادت خمسا وعشرين لوحة لوادي يوساميتي، وجميعها تُظهِر المنطقة كمكان فطريّ لم يتلوّث بعد بآثار الحضارة والتصنيع.
في هذه اللوحة، يرسم الفنّان منظرا مثاليا للطبيعة تظهر فيه مجموعة من الغزلان وهي ترعى بسلام. ولا بدّ أن فكرة الجنّة كانت في عقله، لذا رسم برّية مثالية لا تعيش فيها سوى الحيوانات.
وقد أضفى على المنظر لمسة لامعة من خلال وهج الشمس الغاربة المصطبغ بالألوان الصفراء والبرتقالية المنعكسة على المكان بأكمله.
هذه اللوحة وغيرها أضفت طابعا رومانسيّا على يوساميتي باعتباره مكانا رعويا وفطريا وخالدا وغير مأهول، ما يخلع عليه طابعا من القداسة والسموّ.
وبفضل رسومات بيرستادت، أصبح للمكان تاريخ وبات محطّة سياحية وموضوعا فنيّا وأيقونة للبراري الأمريكية. كما شجّعت لوحاته الناس على المجيء لزيارة الوادي واستغلال التجربة الروحية التي يوفّرها للزائر.
بعد أن رسم الفنّان اللوحة بفترة قصيرة، عُرضت في متحف المتروبوليتان، ثم بيعت بمبلغ لا يتجاوز الألفي دولار، لكنه كان أعلى مبلغ يُدفع للوحة في ذلك الوقت. وكان الذي اشتراها شخص يقال له جون لينوكس أراد أن يضيفها إلى مجموعته الخاصّة. لكن بعد موته اشترتها مكتبة نيويورك، ثم تنقّلت بين العديد من الأيدي إلى أن استقرّت في متحف الفنّ التشكيليّ في بوسطن منذ عام 1947 وحتى اليوم.
كان البيرت بيرستادت وهو يرسم لوحاته يتطلّع لأن يحافظ على هذه الجنّة الجميلة. لكن بعد بضع سنوات اُنشيء أوّل خطّ للسكك الحديد يمرّ عبرها ودخلت السياحة لأوّل مرّة مناطق الغرب الأمريكيّ.
ولد البيرت بيرستادت في ألمانيا وبدأ تعلّم الرسم في دوسلدورف، ثم سافر إلى ايطاليا ومكث فيها أربع سنوات للدراسة، قبل أن يهاجر مع عائلته إلى الولايات المتّحدة.
ويبدو انه اكتسب حبّ الطبيعة بعد أن زار وهو صغير الطبيعة الجبلية لمنطقة جبال الألب السويسرية. والمعروف أن بيرستادت أصبح عضوا في مدرسة هدسون للرسم واشتهر خاصّة ببراعته في توظيف الضوء الطبيعيّ وفي رسم الطبيعة الفسيحة من نقاط منخفضة وبكثير من التفاصيل.
في زمن الرسّام، كان يسود اعتقاد بأن رسم مناظر الطبيعة الآمنة والهادئة والخالية من البشر يرقى لأن يكون بيانا ضدّ الحرب الأهلية والجرائم التي يرتكبها البشر بحقّ أنفسهم وبحقّ الطبيعة. والمعروف أن تلك الفترة اتّسمت بالتوتّر والاضطراب ولم يمرّ وقت طويل حتى اندلعت الحرب الأهلية الأمريكية.
بعد عدّة سنوات، عاد بيرستادت إلى وادي يوساميتي مرّة أخرى، وحزن كثيرا عندما وجد أن الناس لوّثوا المكان الذي ساعد هو في اكتشافه وفي الترويج له من خلال صوره.

Friday, May 18, 2018

لوحات عالميـة – 465

الساحـرات الثـلاث
للفنان السويسري جون هنـري فوزيـلي، 1782

ماكبث هي إحدى أهمّ وأشهر مسرحيات شكسبير. وقد كتبها حوالي عام 1616. وهي تستند إلى أحداث حقيقية وقعت في اسكتلندا في القرن الحادي عشر.
كان شكسبير قد قرأ تاريخ الملك الاسكتلنديّ ماكبث في بعض المصادر. ولأن القصّة حافلة بالدراما والمفاجآت والمفارقات، فقد رأى أنها تناسب المسرح. ثم أضاف إليها أعمالا لها علاقة بالسحر الذي كان على ما يبدو موضوعا ساخنا ومفضّلا في نهاية القرن السادس عشر وبداية السابع عشر، لدرجة انه يقال أن جيمس الأوّل ملك انجلترا كان مهتمّا كثيرا بمطاردة الساحرات وتحدّث عنهنّ في كتابه الوحيد الذي ألّفه.
الرسّام جون هنري فوزيلي كان احد ابرز رموز الحركة الرومانسية. وكان في نفس الوقت يمارس الكتابة ويهوى المسرح. ولطالما انجذب إلى أعمال شكسبير مثل "ماكبث" و"هاملت" و"حلم ليلة في منتصف الصيف" ونقل إلى لوحاته بعضا من أجوائها.
في الفصل الأوّل من مسرحية ماكبث، تظهر لماكبث ثلاث ساحرات يخبرنه انه سيصبح ملكا على اسكتلندا. لكن عندما يتحالف مع شخص آخر يُدعى بانكو لقتل دنكان، ملك اسكتلندا آنذاك، تتغيّر القصّة لتأخذ منحى آخر.
وفي احد المشاهد الرئيسية في المسرحية، يقف كلّ من ماكبث ومساعده بانكو في ميدان المعركة وهما يعتمران خوذتين ويمسكان بسيفين يقطران دما بعد أن قتلا الملك. وأمامهما يقف فرسانهما المسلّحون بالسيوف والرماح، ثم يعلن ماكبث انه قد أصبح ملكا على اسكتلندا.
وهنا تظهر الساحرات الثلاث مرّة أخرى ليحملن إلى ماكبث نبوءتهنّ المشئومة بسقوط حكمه الوشيك. وهذه هي اللحظة التي يرسمها فوزيلي في اللوحة. إذ يصوّر الساحرات جانبيّا وهن يضعن أصابعهنّ في أفواههنّ، وأعينهنّ مبحلقات، وكلّ منهنّ ترتدي غطاء رأس ولباسا فضفاضا. الوقت ليل على الأرجح، وشعر إحداهنّ المتطاير يوحي بأن الجوّ عاصف.
وقد اختار الرسّام أن يعطيهنّ الهيئة التقليدية للساحرات، فهنّ دميمات وبملامح ذكورية تقريبا ومظهرهنّ رثّ واثنتان منهنّ تغمغمان بكلام بينما الثالثة تبتسم. ومن الواضح أن الرسّام لم يكن مهتمّا بتجسيد الشخصيات بدقّة بقدر اهتمامه بأن يترك أثرا في نفس الناظر وأن يثير لديه شعورا بالرهبة.
بحسب المسرحية، فإن ماكبث عندما يلاحظ المنظر المزعج للساحرات الثلاث وهنّ يلقين عليه بالتعويذة التي تتنبّأ بمصيره المحتوم فإنه يتراجع مرعوبا وهو ما يزال ممسكا بالخنجر الدامي الذي قتل به الملك.
هذه اللوحة ليست الوحيدة التي استلهمها فوزيلي من أحداث مسرحية ماكبث، بل رسم مشاهد أخرى من المسرحية من بينها لوحة لزوجة ماكبث وهي تمشي أثناء نومها وتعترف دون وعي بضلوعها في قتل الملك. وشكسبير يوظّف فكرة انعدام النوم كعقاب للمذنب.
لم يكن فوزيلي الرسّام الوحيد الذي استوحى من ساحرات ماكبث موضوعا للوحاته، بل كان هناك رسّامون آخرون منهم الكسندر كولن وجون مارتن وغيرهما.
قصّة ماكبث هي عبارة عن تحالف بين مجرمين متعطّشين للسلطة وتتحكّم في سلوكياتهم مشاعر إنسانية متناقضة من حزن وشجاعة وغضب وطموح وجنون .. الخ.
كان فوزيلي قد قرأ بعض كتابات شكسبير أثناء دراسته في زيوريخ، وقام وقتها بترجمة ماكبث إلى الألمانية. كان منجذبا إلى تعامل شكسبير مع المواضيع الفانتازية والخارقة، وألهمته هذه المواضيع رسم بعض أشهر لوحاته. وبعد أن وصل إلى انجلترا حضر عرضا للمسرحية في احد مسارح المدينة.
احد النقّاد في ذلك الوقت كتب معلّقا على هذه اللوحة أن الفنّان يرسم جيّدا لكن خياله محدود". وفي ما بعد وُظّفت اللوحة من قبل رسّامي الكاريكاتير في عديد من المناسبات للسخرية من رجال السياسة في بريطانيا.
وممّا يجدر ذكره أن اللوحة ظلّت في مجموعة فنّية خاصّة لأكثر من قرنين. ثم اقتنتها مكتبة هنتنغتون البريطانية التي تضمّ عددا من أهمّ اللوحات الانجليزية التي تعود إلى القرن الثامن عشر. والمعروف أن فوزيلي رسم ثلاث نسخ من هذه اللوحة مع تغييرات بسيطة، واحدة منها في زيوريخ والأخريان في لندن.
منذ أواخر القرن الثامن عشر، توقّف معظم الناس في أوربّا عن الإيمان بالساحرات والأشباح. وكانت هذه المخلوقات الخرافية مرتبطة بالقصص الريفية أو الشعبية أو الدينية.
لكن هذه القصص بُعثت من جديد في السنوات الأخيرة مع ظهور روايات تتناول الخفاء والفانتازيا والسحر، مثل "هاري بوتر" و"سيّد الخواتم" وغيرهما. شكسبير نفسه استلهم قصص الساحرات من الفلكلور الانجليزيّ ومن أساطير الإغريق وبلدان شمال أوربّا.
ولد جون هنري فوزيلي في سويسرا عام 1741 ودرس الرسم في ميونيخ. وفي عام 1760 انتقل إلى لندن وعمل ناقدا. وبناءً على نصيحة الرسّام جوشوا رينولدز، ذهب إلى روما لدراسة الرسم وقضى هناك ثمان سنوات.
وعندما عاد إلى انجلترا عزّز حضوره في المشهد الفنّي وأصبح رسّاما معروفا. ورسوماته التي تتناول مواضيع سيكولوجية وغيبية كانت مثارا لسخرية الكثيرين، وبعضهم اعتبروه مجنونا، لكنها صنعت منه فنّانا مشهورا، وهو أيضا كان ناجحا في الترويج لنفسه.
اعتبارا من عام 1790، عمل فوزيلي محاضرا في الأكاديمية الملكية، وكان من بين تلاميذه كلّ من جون كونستابل ووليام بليك.

Thursday, May 10, 2018

لوحات عالميـة – 464

صيـد اليـوم
للفنان الايطالي اوجيـن فـون بـلاس، 1880

كانت فينيسيا في القرن الثامن عشر جزءا من الإمبراطورية المجريّة النمساوية. وكانت وجهة مفضّلة للأثرياء الأوربّيين الباحثين عن مناظر البحر والطبيعة الجميلة. كما كانت مقصدا للتجّار من أماكن شتىّ بسبب ازدهارها الاقتصاديّ ومكانتها الماليّة بين الحواضر الأوربّية.
ولهذه الأسباب ازدهرت حركة الرسم في المدينة وقصدها الكثير من الفنّانين من أوربّا وأمريكا الشمالية الذين اجتذبتهم بيئتها البحرية وأسلوب حياة سكّانها الذي يتّسم بالوفرة والهدوء والاستقرار.
وكان من بين هؤلاء الرسّام اوجين فون بلاس المولود في بلدة قرب روما لأبوين قَدِما من النمسا. وقد انتقل إلى فينيسيا مع عائلته وهو صغير بعد أن أصبح والده، الرسّام هو الآخر، أستاذا في أكاديمية الفنون الجميلة في المدينة.
وقد درس فون بلاس على يد والده ثم في أكاديميّتي فينيسيا وروما لعدد من السنوات. ولأن فينيسيا كانت محطّة يتوقّف فيها السيّاح الأجانب، ومع ازدهار سوق الرسم فيها، أصبح كلّ من يزور المدينة يحرص على اقتناء المناظر التي تصوّر الحياة اليومية لأهلها والمعالم السياحية الجميلة التي تزخر بها.
كان شغف فون بلاس بفينيسيا قويّا، وهذا واضح من صُوره العديدة المرسومة بأسلوب أكاديميّ والتي تعكس حيوية هذه المدينة وأناسها. وقد أصبح جزءا من حلقة من الرسّامين الذين تخصّصوا في رسم المناظر الفينيسية حصرا، مثل روتارو وباوليتو بالإضافة إلى الرسّام الانجليزيّ لوك فيلدز.
لكن وبخلاف الرسّامين الآخرين، لم يرسم فون بلاس بيئة المدينة البحرية ولا ساحاتها الفسيحة، بل ركّز على رسم ما يجري في أفنية البيوت الحميمة وبين الأزقّة حيث الحياة بسيطة وعفوية.
وكلّ رسوماته تقريبا تتناول أسلوب حياة الناس، خاصّة النساء اللاتي يشغلن مساحة واسعة في صوره، ويظهرن وهنّ يقرأن الرسائل أو يغسلن أو يخطن الملابس أو يحملن سلال الأزهار أو يجلبن الماء إلى البيوت أو يقطفن الفواكه أو يقفن في الشرفات متحدّثات أو ملوّحات بأيديهنّ أو مناديلهنّ.
في هذه اللوحة، يرسم فون بلاس زقاقا قديما تصطفّ على جانبيه البيوت، وفي جزء منه تظهر مجموعة من النساء وهنّ يتحدّثن إلى بائع سمك يمرّ بالجوار، وغير بعيد عنه امرأة تحمل إنائي ماء.
الشابّ ينظر إلى الفتاة بقدر من الاهتمام بينما تكتفي هي بالابتسام. والمنظر يعكس حيوية مثل هذه الأماكن والطبيعة البسيطة للناس الذين يقطنونها. المرأة التي تحمل الماء هي زوجة الفنّان، وهي تنتمي إلى عائلة ايطالية ثريّة، وتظهر كموديل في معظم صوره.
وواضح من اللوحة اهتمام الرسّام بتصوير تعبيرات الوجوه والحركات وأنواع الأقمشة الملوّنة والزاهية التي ترتديها النساء. وقد كانت براعته في رسم أشكال متباينة من النسيج والأنماط مثار إعجاب الكثيرين في زمانه.
كما أن اللمعان الذي يشعّ من صوره يذكّر بلوحات مواطنه الأشهر تيشيان الذي كان يضع عدّة طبقات من اللون بحيث تنتج ألوان بشرة لامعة وقريبة من الواقع.
وغالبا ما كان فون بلاس يحيط مناظره بإطار تاريخيّ فخم، فينقل إليها الأعمدة المتآكلة والأشجار المزهرة والحجارة المشيّدة بعناية. وكان أحيانا يضيف عناصر زخرفية إلى صوره كالأزهار والفواكه والشوارع المرصوفة بحجارة مصقولة.
والأشخاص الذين يظهرون في لوحاته يضيفون حياة إلى المعالم القديمة وكأنّهم يخلقون تواصلا بين الأجيال ويمثّلون رمزا للحفاظ على التقاليد الراسخة للمدينة.
كان فون بلاس يتمتّع بشعبية كبيرة في انجلترا، حيث عرض بعض أعماله في الأكاديمية الملكية. كما كان أيضا معروفا في العديد من البلدان الأوربّية وعرَض لوحاته في فيينا وسانت بطرسبورغ وبروكسل وبرلين وباريس وغيرها.

Wednesday, May 02, 2018

لوحات عالميـة – 463

فـلـورا
للفنان الايطالي فرانسيـسكو ميـلـزي، 1517

يُوصف فرانسيسكو ميلزي بأنه أنجب تلاميذ ليوناردو دافنشي. عندما قابله الأخير لأوّل مرّة اجتذبته أخلاقه ومظهره الحسن. ويصفه المؤرّخ فاساري بأنه كان وسيما وبعيدا عن المشاكل. وقد أصبح أبرز تلاميذ المعلّم وأقربهم إلى نفسه بعد أن لمس فيه سرعة التعلّم وحضور البديهة.
ولأن ميلزي ينتسب لعائلة موسرة من نبلاء ميلانو، فقد اُسندت إليه في ما بعد مسئوليات اجتماعية أخرى، ما اضطرّه أحيانا للانقطاع عن دروسه في الرسم. لكنه كان لا يلبث أن يعود بفضل تدخّلات ليوناردو.
عاش ميلزي في بيت دافنشي بدءا من عام 1506، وتعلّم ومارس مهارات الرسم في محترفه من خلال استنساخ لوحات المعلّم الأصلية. وبسرعة صار تلميذه المفضّل وأكثرهم إخلاصا له.
وقد وصف ميلزي دافنشي بالمحبّ والعطوف ورافقه في رحلة في أرجاء ايطاليا. كما ذهب معه في رحلته الأخيرة إلى فرنسا وظلّ معه هناك حتى وفاته. وقيل انه كان الوحيد الذي مثّل عائلة الرسّام في الجنازة وهو الذي ابلغ عائلته في ايطاليا عن موته.
يقال أحيانا أن ليوناردو كان يختار للعمل في ورشته شبابا شديدي الوسامة وأنه كان يختارهم لجاذبيّتهم وليس لموهبتهم. والدليل أن أحدا منهم لم يحقّق شهرة كبيرة. وكان ميلزي استثناءً. وقد شبّه الأخير حبّ الأستاذ له ولزملائه الآخرين بحبّ الأب لأبنائه وبأنه كان يهتمّ بهم ويرعاهم كما لو أنهم أفراد في عائلة واحدة.
وقد جرت العادة أن يعمل عدّة تلاميذ على لوحة واحدة، لذا لم يكن مستغربا أحيانا أن تُنسب لوحات دافنشي الأقلّ شهرة إلى بعض تلاميذه.
لكن لوحات ميلزي كانت مختلفة عن تلك التي لزملائه. فبعضها تبدو كاملة وذات نوعية عالية. ومن أهمّ أعماله هذه اللوحة التي تذكّر للوهلة الأولى بلوحات دافنشي بألوانها الناعمة والأنيقة والمتناغمة وبنصف الابتسامة الغامضة المرتسمة على فم المرأة، أي أنها تحمل كافّة سمات مدرسة ليوناردو.
في الأساطير الكلاسيكية، كانت فلورا أمّا لجميع النباتات والأزهار، وهي التي تُرضِع وتمنح الحياة، لذا يظهر ثدياها عادة في الرسم عاريين. كما أنها مغطّاة دائما بالأعشاب والأزهار. وهي في اللوحة تنظر إلى الأزهار الحوضية التي تُعتبر رمزا للخصوبة.
الموديل أو المرأة الظاهرة في اللوحة كانت سيّدة تعمل في بلاط الملك الفرنسيّ فرانسيس الأوّل آخر رعاة ليوناردو.
وعلى الأرجح، ظلّت الصورة في المجموعة الخاصّة بملوك فرنسا حتى منتصف القرن السادس عشر. وكان يُعتقَد أنها لدافنشي، لكن ثبت في ما بعد أن ميلزي هو الذي رسمها. وهناك بضع لوحات أخرى غيرها رُسمت في القرن السادس عشر وكانت تُنسب لدافنشي، لكنها اليوم أصبحت تُنسب لتلميذه.
يُشار إلى ميلزي على انه كان الشخص الأوّل المسئول عن جمع وترتيب مذكّرات ليوناردو في كتاب والمحافظة عليها في عهدته.
وقد ورث جميع أعمال أستاذه العلمية والفنّية، بالإضافة إلى مخطوطاته ومجموعاته الأخرى. كما عُهد إليه بمهمّة إدارة بيته وقد فعل ذلك بإخلاص.
بعض المؤرّخين يشيرون إلى أن ميلزي كان مجرّد رسّام هاوٍ كرّس حياته وفنّه لخدمة معلّمه وكان يمارس الرسم كنوع من التسلية وإزجاء الفراغ . المؤرّخ فاساري لم يتحدّث في كتابه أبدا عن موهبته الفنّية، لكنه ارجع له الفضل في الحفاظ على تراث معلّمه.
وهناك من ينسب له لوحة أخرى لطالما قيل إنها لدافنشي وهي امرأة بعقد جميل "أو لا بيل فيرونيير" التي تصوّر امرأة تُدعى لوكريشيا كريفالي. لكن لا دليل قاطعا حتى الآن يثبت صحّة هذه الفرضية.