Thursday, December 26, 2013

لوحات عالميـة – 339

الطبيعـة تكشـف عن نفسهـا أمـام العِلـم
للفنان الفرنسي لـوي ارنسـت بـاريـاس، 1899

في القرن التاسع عشر الميلادي، كانت الطبيعة تُصوّر على هيئة امرأة جميلة وعارية، وسادت فكرة تقول إن الإنسان يجب أن يكتشف الطبيعة ويزيل عنها النقاب وينتصر عليها ويصبح سيّدا لها. وكلّ هذه الأفعال تتضمّن معنى التملّك والسيطرة.
ولم يكن علماء وفنّانو ذلك الوقت يدركون أن نظرتهم الايروتيكية للطبيعة ستقود إلى مشاكل خطيرة. وبالفعل فقد أدّى سعي البشر لأن يستغلّوا الطبيعة ويكتشفوا أسرارها إلى تخريبها وسقوطها.
ومع الاكتشافات المتوالية تقلّص الإحساس بالدهشة من الطبيعة وتضاءل شعورنا بالمقدّس فيها. وكلّما اكتشفنا الطبيعة أكثر كلّما أصبحت اقلّ غموضا. وربّما يكون الإنسان قد ملّ من الطبيعة ولذا يقوم بانتهاكها.
هيراكليتوس الفيلسوف الإغريقي من القرن الخامس قبل الميلاد قال "إن الطبيعة تحبّ أن تخفي نفسها". لكن ربّما كان من الأفضل لو أن الطبيعة حافظت على تغطية جسدها، عندها ستتضاءل شهوة البشر لانتهاكها ونهشها.
في هذا التمثال يصوّر النحّات لوي ارنست بارياس الطبيعة بهيئة امرأة تلفّ نفسها برداء بينما تزيح خمارها الفضّي عن الجزء الأعلى من جسدها لتكشف عن وجهها وعن كتفيها وصدرها العاري.
الوضعية الحسّية للمرأة وطيّات الملابس الجميلة وألوان الأسطح الثريّة تعكس الأنماط الطبيعية التي هي إحدى سمات الأسلوب الحديث في النحت.
بعض النقّاد يقولون إن التمثال يمزج بين المجاز القديم عن خمار ارتيميس أو ايزيس والذي يُترجَم على انه رغبة الطبيعة في إخفاء أسرارها والفكرة الحديثة عن الطبيعة "الأنثى" التي تكشف نفسها طواعية للرجال "العلماء" دون عنف أو مكر.
هذا التمثال يمكن أن يُفهم على انه رمز للتطوّر التكنولوجي والاختراقات التي حلّت الكثير من ألغاز العالم. لكن هناك من يقول إنه يرمز للتحوّل في مفاهيمنا عن الطبيعة التي أتت بالثورة العلمية والتي حوّلت الطبيعة من مَعلم نشط وملهِم إلى جسد مذعن وبلا عقل.
والتمثال ينتمي إلى عصر الإحياء العظيم للنحت الملوّن الذي أطلقته الاكتشافات الجغرافية والأثرية. وهو مصنوع من الرخام العالي الجودة ومن الأحجار الثمينة التي جُلبت من أماكن بعيدة مثل مقالع الحجارة في الجزائر وشمال أفريقيا.
شخص المرأة مصنوع من الرخام بينما معظم لباسها مصنوع من العقيق. الحجارة نفسها مستمدّة من الطبيعة. ولولا التقدّم التكنولوجي ما أمكن استخلاصها وتطويعها، وهذا جزء لا يتجزّأ من رسالة التمثال. بل لقد قيل إن المرأة لا ترمز للطبيعة بأنوثتها أو بعريها وإنما بالرخام الفاخر والعقيق والحجارة الثمينة الموظّفة في صنعها.
من التفاصيل التي تلفت الانتباه في التمثال السمات الزخرفية الغنيّة كالتأثير المرقّش للرخام الأحمر في الرداء واللازورد النفيس في العيون والعقيق في الخمار والمرمر والمرجان في الفم والشفتين.
عينا المرأة تنظران إلى الأرض في حياء بينما ترفع يديها لتزيل الخمار الذي يغطّي بقيّة جسدها. الغموض في التمثال يتجلّى في الخمار وفي فعل رفعه. رفع الخمار عن الجسد يرتبط عادة بالرؤى الطبّية والعلمية وأحيانا يُعتبر رمزا لعفّة وطهر الأنثى. غير انه في الطقوس الدينية وفي مناسبات الحداد يخفي جنسانية المرأة.
أيضا المرأة ذات الخمار يمكن أن تكون رمزا للبحث عن غموض الأصول والبدايات وحقائق الميلاد والموت. فرويد فسّر أسطورة رأس ميدوسا كرمز للمرأة المحجّبة التي تحيل نظراتها الرجال إلى حجارة. لذا عندما يكشف الرجال خمار ميدوسا فإنهم يواجهون رعب النظر إلى أعضائها الداخلية.
بعض النقّاد اتهموا النحّات بأنه كاره للنساء. لكن هؤلاء يتجاهلون تاريخ استخدام الرموز في النحت وأن النحت نفسه هو رمز لتطوّر العلم. والنحّات يعكس عالم الطبيعة كما اكتشفه العلم.
كُلّف بارياس بتشييد التمثال عام 1889 ليزيّن مدرسة الطبّ في بوردو. وعُرض لأوّل مرّة أمام الجمهور في الصالون عام 1893. وقد استنسخ التمثال مرارا باعتباره تحفة شعبية وهو متوفّر بوسائط مختلفة ومقاسات شتّى.
ولد ارنست بارياس في ابريل من عام 1841م. كان أبوه رسّام بورسلين وشقيقه الأكبر رسّاما معروفا. وقد بدأ ارنست عمله كرسّام. لكن في ما بعد تحوّل إلى النحت ودرس على يد بيير كافالييه. ثم انتظم في مدرسة الفنون الجميلة في باريس ثم في الأكاديمية الفرنسية في روما. وتلقّى بارياس العديد من الجوائز والأوسمة وعمل أستاذا في مدرسة الفنون وانتخب عضوا في مجلس المتاحف الوطنية.

Wednesday, December 18, 2013

لوحات عالميـة – 338

رجـل بعمـامـة حمـراء
للفنان الهولندي يان فـان آيك، 1433

البورتريه الشخصيّ هو نوع من الرسم الذي يحاول فيه الفنّان أن ينقل من خلاله للآخرين صورة عن نفسه. أحيانا يحيط صورته الشخصية بالأسئلة الفلسفية عن الذات، وأحيانا يوظّفها للتباهي بمهارته وموهبته.
وقد كرّس الرسّامون الأوائل جانبا من نتاجهم لتصوير أنفسهم. رمبراندت، مثلا، خلع على كلّ صورة رسمها لنفسه مسحة شكسبيرية، فرسم نفسه على هيئة ملك شرقيّ قديم وعلى صورة الفيلسوف الإغريقي سقراط وكرجل بلاط وكشخص ثمانينيّ أشيب الشعر وبلا أسنان.
والبورتريهات الشخصية تتضمّن أيضا نوعا من الحرّية الوجودية، لأنها تشير إلى أن كلّ شخص يمكن أن يحتوي عالما من الهويّات المتباينة والمختلفة. فما بالك بالفنّان الذي كثيرا ما يتخيّل نفسه في حيوات أشخاص مشهورين أو أسطوريين. بل إن فنّانا مثل ديورر رسم نفسه ذات مرّة بملامح المسيح.
القرن السابع عشر، أي عصر رمبراندت وروبنز وبيرنيني وكارافاجيو، كان ولا شكّ العصر العظيم لفنّ البورتريه. ولم يحدث قبل ذلك أن شعر الرسّامون بحضورهم القويّ أو بأهمّيتهم. وأكثر الصور الشخصية خلودا في تاريخ الرسم تعود إلى تلك الفترة بالذات.
ورغم أن عصر النهضة بدأ في ايطاليا أصلا، إلا أن هذه الحركة امتدّت إلى جميع أرجاء أوربّا إلى أن وصلت إلى بلجيكا حيث كان الرسّام يان فان آيك يعيش ويعمل. في ذلك الوقت كان فان آيك أفضل فنّان هولندي بلا منازع. وما يزال يُلقّب حتى اليوم بوالد اللوحات الزيتية. مستوى الحرفية الذي وصل إليه هذا الرسّام في استخدام ألوان الزيت كان غير مسبوق وغير عاديّ. ويُعتبر هو وروبرت كامبين مؤسّسي ما عُرف بالفنّ الجديد في هولندا القرن الخامس عشر، الذي تميّز بالأسلوب الطبيعي للألوان الزيتية الصاخبة والتفاصيل الدقيقة والنسيج البارع ووهم فراغ الأبعاد الثلاثية.
في هذه اللوحة، يرسم فان آيك بورتريها لرجل لا اسم له ولا وظيفة، ولا توجد تفاصيل تشير إلى هويّته. لكنّ نظراته الحادّة والثابتة المتّجهة إلى الخارج تدلّ على انه شخص يعرف مكانه جيّدا في العالم. وبسبب النظرات المتشكّكة والشفتين المطبقتين بصرامة، ثمّة من يعتقد أن هذا هو الرسّام نفسه. كان من عادة الرسّامين وقتها أن يقدّموا أنفسهم للناس كأشخاص واثقين وذوي كبرياء وفخورين بكونهم فنّانين.
من ناحية أخرى، يمكن القول أن هذا ليس فقط بورتريها للرسّام، وإنما أيضا للعمامة الفخمة الحمراء اللون التي تستقرّ على رأسه بإحكام. هذا النوع من اللباس مناسب لشخص بمثل مكانة الرسّام الاجتماعية.
ما من شك في أن هذه اللوحة تثير إحساسا ما بالغموض. فالشخص الظاهر فيها يبدو كما لو انه خارج لتوّه من العتمة. وجهه ورأسه يحدّدهما الضوء الذي يسقط من الجهة اليسرى والذي استخدمه الرسّام بأسلوب دراماتيكي.
النظرات المخترقة والقويّة تجذب الاهتمام. واللون الأحمر الغامق للعمامة يشعل اللوحة حيوية وصخبا. تعبيرات الرجل متقشّفة ورأسه كبير قليلا بالنسبة للجذع، وهاتان سمتان من سمات فنّ آيك عموما. ولا يبدو أن الرجل من مكانه هذا ينظر إلى مرآة، إذ من المستحيل بالنسبة له من هذه الزاوية المائلة أن يكون واقفا أمام نافذة أو مرآة.
ترى هل اللوحة عن الهويّة؟ عن فكرة الوعي بالذات؟
من الواضح أن اللوحة تتضمّن تحليلا جادّا ومفصّلا لخطوط الجسد، لكنّها لا تحوي الكثير عن أفكار الشخص أو عن مزاجه. ويمكن القول إن الصورة لا تُظهر فان آيك وهو ينظر إلى نفسه بقدر ما تتحدّث عن طبيعة النظر. وهناك احتمال أن تكون اللوحة ترويجا للرسّام أو لإثبات البراعة التي يتعامل بها مع الألوان الزيتية التي كانت شيئا مستحدثا في ذلك الوقت.
بعض النقّاد يعتبرون أن هذا البورتريه يمثّل ذروة أسلوب فان آيك المغرق في الواقعية، لكن دون انفعال. لاحظ كيف أن كلّ ثنية في الملابس وكلّ شعاع ضوء وكلّ نسيج ناعم رُسم بمهارة كبيرة. الرسّام لم يُغفل أيضا التجاعيد حول عينيه والعروق التي يمكن رؤيتها بوضوح والظلال حول ذقنه، أي علامات تقدّمه في العمر.
كان فان آيك قد تخلّى آنذاك عن تقنية التيمبرا ، أي استعمال الألوان المصنوعة من البيض والتي تجفّ سريعا وتدوم طويلا، وبدأ تذويب ألوانه في زيت بذور الكتّان، ما جلب مزيدا من الإحكام والتحكّم في التفاصيل.
فان آيك كان معروفا في زمانه بأنه رسّام الملوك واللوردات والأمراء ورجال الكنيسة. وما تبقّى من لوحاته اليوم لا يتجاوز بضعا وعشرين لوحة. وطبعا هناك العديد من الأعمال الأخرى التي تُعزى إليه دون دليل واضح. في بلاط بورغوندي، حيث كان يعمل، راجت عنه شائعة تقول انه بارع في الفنون الظلامية، أي أعمال السحر والشعوذة. والعمامة الحمراء تخلع عليه ولا شكّ إهاب ساحر أو كاهن أو معلّم روحانيّ.
بورتريه "رجل بعمامة حمراء" يمكن رؤيته اليوم معلّقا في إحدى صالات الناشيونال غاليري بلندن إلى جوار لوحة فان آيك الأشهر بورتريه عائلة ارنولفيني. ولا يزال الإطار الأصلي للبورتريه موجودا ويحمل نقشا يقول "رسمني فان آيك في 21 أكتوبر من عام 1433م". وأسفل النقش كُتبت عبارة "أفعل ما بوسعي" التي يبدو أنها شعار شخصيّ للرسّام. ونفس هذا الشعار يظهر في بعض لوحاته الأخرى مثل البورتريه الذي رسمه لزوجته.
الجدير بالذكر أن الرسّام روبرت كامبين اقتفى خطى صديقه ومواطنه فان آيك في هذا البورتريه فرسم لنفسه بورتريها مشابها يظهر فيه وهو يرتدي عمامة حمراء.

موضوع ذو صلة: رسالة حبّ إلى لوحة

Friday, December 06, 2013

لوحات عالميـة – 337

فينـوس أمـام المـرآة
للفنان الإسباني دييـغـو فـيلاســكيــز، 1651

كانت فينوس، إلهة الحبّ في الأساطير القديمة، موضوعا نادرا في الرسم في اسبانيا القرن السابع عشر، لأنه لم يكن يحظى بموافقة الكنيسة الكاثوليكية. كانت الكنيسة راعيا أساسيّا للفنون في ذلك الوقت. وكان تصوير العري أمرا محفوفا بالمخاطر. محاكم التفتيش بدورها كان لها عيون مبثوثة في كلّ مكان. وأيّ شخص يُضبط متلبّسا برسم لوحة "فاسدة"، كان يُستدعى ويُغرّم ويُطرد من الكنيسة ويُنفى خارج مدينته أو بلدته لمدّة عام. وقد انتهى الأمر بالعديد من اللوحات العارية إلى إتلافها ومعاقبة رسّاميها من قبل تلك المحاكم.
الرجل الذي كلّف فيلاسكيز برسم هذه اللوحة كان نبيلا اسبانيّا يُُدعى الماركيز ديل كاربيو. وقيل انه أراد بطلبه هذا أن يتحدّى تعليمات الكنيسة. وربّما كانت حظوته لدى العرش الاسبانيّ هي التي مكّنته من طلب رسمها دون خوف من أن يتعرّض لأذى محاكم التفتيش. وهناك من يرجّح أن اللوحة وُضعت في مرحلة لاحقة في مكان خاصّ وبعيد عن الأعين في محاولة لتجنّب غضب تلك المحاكم رغم أن الفنّان رسم المرأة من الخلف، ربّما توخّياً للسلامة.
فيلاسكيز يصوّر هنا امرأة عارية مستلقية على فراش من الحرير الرمادي وظهرها للناظر، بينما يظهر وجهها في المرآة التي يمسك بها كيوبيد. الموديل في اللوحة يُعتقد أنها ممثّلة مسرحية كانت من بين خليلات الملك الاسباني فيليب الرابع.
من أهمّ السمات التي يمكن ملاحظتها في هذا العمل الاقتصاد الواضح في استخدام الألوان وغلبة اللون الأحمر الشفّاف. ثم هناك كيوبيد الذي يبدو على غير العادة بلا سهم. وهو لا يفعل شيئا، بل يكتفي بالإمساك بالمرآة وتأمّل جمال الإلهة. وقد استخدم الرسّام طبقات من الطلاء الأبيض الرصاصيّ لإضفاء لمعان على بشرة المرأة ثمّ أضاف إليها ظلالا ناعمة من الأصفر والبنّي والأحمر.
خلافا لمعاصريه من الرسّامين الايطاليين والهولنديين، لم يضمّن فيلاسكيز اللوحة منظرا طبيعيا أو خادمة، واكتفى فقط بالملاك المجنّح الصغير، وهو – أي الملاك - الدليل الوحيد على أن الفنّان كان يرسم شخصية أسطورية أو إلهة وليست امرأة حقيقية.
فينوس في اللوحة، بخصرها الصغير ومؤخّرتها الناتئة قليلا، لا تشبه العاريات الايطاليات الأكثر امتلاءً واستدارة اللاتي كنّ يُستلهمن من التماثيل الرومانية القديمة.
الصورة التي تظهر منعكسة في المرآة تتحدّى قوانين البصريات. يقال مثلا انه ليس بوسع المرأة أن ترى وجهها بهذه الوضعية، وإنّما بطنها وصدرها أو وجه الناظر أو الرسّام، وبالتالي قد يكون بذهنها أن تقيس مدى تأثير جمالها على من ينظر إليها. وقيل أيضا إن وجهها في المرآة يبدو أكبر ممّا ينبغي مرّتين.
ومن الملاحظ أيضا أن الصورة في المرآة لا تكشف عن الجانب الآخر من وجه فينوس، بل تسمح فقط برؤية انعكاس غامض ومشوّش لملامح وجهها. وبالتالي، قد يكون المعنى الكامن في اللوحة هو التأكيد على الجمال الذي تختزنه الذات، وليس عرض صورة عارية لفينوس أو لأيّة امرأة أخرى. كما قد نكون إزاء صورة مجازية عن الحبّ وعن الغموض الذي يجذبنا إليه.
في احد أيّام شهر مارس من عام 1914، تعرّضت هذه اللوحة للتلف على يد امرأة كندية تُدعى ميري ريتشاردسون. كانت المرأة في زيارة للناشيونال غاليري بلندن حيث توجد اللوحة. وعندما وصلت إلى مكانها، توقّفت أمامها لبضع دقائق وهي تتأمّلها. ثم قامت فجأة بتحطيم الزجاج الواقي الذي يحميها واخترقتها بساطور. وقد ترك الهجوم بعض التلفيات والقطوع في اللوحة. لكن أمكن إصلاحها بعد ذلك.
كانت ريتشاردسون عضوا في جماعة متشدّدة تنادي بمنح المرأة حقّ الاقتراع. وقد سبق لها أن قامت بتنفيذ عدد من الأعمال الإرهابية، بما فيها تحطيم منازل وإشعال حرائق وتفجير محطّة للسكك الحديدية.
تشويه فينوس كان جزءا من حملة تمّ تنظيمها في نفس ذلك العام واستهدفت عددا من أعمال الفنّ تحت ذريعة مساواة النساء بالرجال. وفي ما بعد، قالت المرأة إن دافعها من وراء الهجوم هو أنها كانت ترى أن المجتمع والغاليري كانا يُحكمان من قبل سلطة ذكورية وطاغية.
الغريب في الأمر أن ريتشاردسون كانت طالبة في كلّية الفنون. وبعد مرور أربعين عاما على تلك الحادثة، شرحت سبب إقدامها على محاولة إتلاف اللوحة بقولها إنها لم تحبّ الطريقة التي كان الزوّار من الرجال ينظرون بها إلى المرأة، إذ كانوا يتأمّلونها طوال اليوم بعيون زائغة وأفواه فاغرة.
كان فيلاسكيز معلّما كبيرا في تمثيل نسيج الأسطح وكانت له فرشاة وصفية شفّافة. ومن الواضح انه كان يفكّر كثيرا قبل الرسم. اللمسات التلقائية والمظهر المحكم في جميع لوحاته دليل على التأنّي والتفكير والممارسة الطويلة.
وفي الفترة التي رسم أثناءها هذه اللوحة، كان نتاجه قد قلّ بشكل ملحوظ. وربّما كان لذلك علاقة بالأوضاع المتوتّرة في البلاط، إذ كانت الملكة ايزابيلا قد توفّيت، وبعدها بعامين لحقها وريث العرش الشابّ بلتاسار كارلوس، ثم لم يلبث الفرنسيون أن ألحقوا هزيمة قاسية بالجيش الاسباني.
طبقا لإحصائيات بعض دور النشر، تُعتبر هذه أكثر لوحة فنّية تمّ توظيفها في الكتب والروايات. ومن بين الكتب المعروفة التي ظهرت اللوحة على أغلفتها ملوك وذوّاقة لجوناثان براون وتزوير فينوس لمايكل غروبر والأنثى العارية لليندا نيد بالإضافة إلى رواية في مديح النساء المسنّات للكاتب الهنغاري ستيفن فيزينسي وكتاب لفريدريك دي أرماس يتحدّث فيه عن العصر الذهبيّ للفنّ الاسباني.
يقال إن فيلاسكيز رسم أربع لوحات عارية على امتداد فترة اشتغاله بالرسم، وهذه هي اللوحة العارية الوحيدة الباقية من أعماله. والعديد من النقّاد يعتبرونها، مع فينوس اوربينو لـ تيشيان، أكثر صور فينوس جمالا في تاريخ الرسم الأوربّي.
الجدير بالذكر أن للوحة "فينوس أمام المرآة" أسماء عديدة أخرى عُرفت بها، منها "فينوس وكيوبيد" و"حمّام فينوس". وبعد أن نُقلت اللوحة إلى انجلترا عام 1813، أصبحت تُعرف بـ "فينوس روكبي" بالنظر إلى أنها كانت جزءا من مجموعة جون موريت في قاعة روكبي بلندن. وبعد مائة عام تقريبا، أي في 1906، اشتراها الناشيونال غاليري حيث ظلّت فيه إلى اليوم.

Sunday, December 01, 2013

لوحات عالميـة – 336

تمثـال هيـرمـافـرودايـت النـائمـة
القرن الثاني الميلادي

في الأساطير اليونانية، كان هيرمافرودايت ابنا لهيرميس وأفرودايت. وقد امتزج جسده بجسد سالميسيس حورية الماء فأنتجا مخلوقا خنثويّا "أي نصفه ذكر ونصفه الآخر أنثى" هو هيرمافرودايت.
أفرودايت كان لها قصص حبّ عديدة مع الآلهة. فقد تزوّجت من هيفيستوس إله النار والمعادن، ولكنها في ما بعد ضُبطت متلبّسة بالنوم مع آريس إله الحرب. وكانت قائمة عشّاقها تتضمّن كلا من ديونيسوس "أو باخوس" إله الخمر وهيرميس إله السفر والتجارة الذي أنجبت منه هيرمافرودايت.
في هذا التمثال الذي يعود تاريخه إلى القرن الثاني الميلادي، نرى هذا الكائن ذا المظهر الأنثوي، أي هيرمافرودايت، وهو مستند إلى أريكة ومستغرق في نوم عميق. وضع الاستلقاء هذا مقتبس إلى حدّ ما من الصور القديمة المرسومة لفينوس ولغيرها من الإناث العاريات. الأرداف المكشوفة والوركان المستديران تدعونا لنتجوّل حولها ونلمح جانبا من جمالها.
عندما تنظر إلى التمثال من الخلف، ستظنّ انك أمام شخصية امرأة. لكن هذا الشعور سرعان ما يتبدّد عندما تنظر إلى التمثال من الأمام وتلمح عضوه الذكري.
طبيعة هيرمافرودايت المتشكّلة من مزيج من ملامح الذكر والأنثى كانت موضوعا شعبيّا في الفنّ منذ حوالي عام مائة قبل الميلاد. وفي حين أن الجسد المكشوف يوفّر للمتلقي فرصة للتلصّص واستراق النظر، فإن طبيعته الجنسية المختلطة تثير أسئلة معمّقة حول ماهيّة الرغبة والإثارة وتشير إلى الازدواجية الجنسية والاتحاد المقدّس بين الرجل والمرأة.
عُثر على هذا التمثال عام 1608 عندما كان عمّال يحفرون لوضع أساسات كنيسة سانتا ماريا ديلا فيتوريا في روما. وهو نسخة رومانية من تمثال إغريقي من البرونز يعود تاريخه إلى القرن الثاني قبل الميلاد. وعندما علم الكاردينال سيبيوني بورغيزي ابن شقيق البابا بولس الخامس بهذا الاكتشاف، ذهب إلى موقع الحفر وأمر بجلب التمثال إلى بيته في فيللا بورغيزي حيث خصّص له هناك غرفة خاصّة على مقاسه.
وبعد سنوات، عهد بورغيزي إلى النحّات المشهور جيان لورنزو بيرنيني بمهمّة نحت فراش نوم من الرخام للتمثال. الفراش الوثير الذي نحته بيرنيني كي تنام عليه الخنثى العارية واقعيّ جدّا، لدرجة أن زوّار متحف اللوفر، حيث يوجد التمثال اليوم، يتفحّصون الفراش بأيديهم ظنّا منهم انه مصنوع من الحرير الطبيعي.
وفي عام 1807، اشترى هذا التمثال مع العديد من القطع الأخرى من مجموعة بورغيزي النبيل برينسيبي كاميلو بورغيزي الذي كان متزوّجا من بولين بونابرت. ثم نُقل التمثال إلى متحف اللوفر حيث ظلّ هناك حتى اليوم. وفي عام 1863، ألهم التمثال الشاعر والمسرحيّ الانجليزي تشارلز سوينبيرن كتابة قصيدة مشهورة بعنوان هيرمافرودايت.
في الأساطير اليونانية لم تُعط هيرمافرودايت الكثير من الأهمية حتى الحقبة الهلنستية. ويُرجّح أن فكرة هذه الكائنات ذات الخصائص الذكورية والأنثوية المختلطة جاءت إلى الإغريق من الشرق عن طريق قبرص.
المعروف أن اوفيد هو أوّل من أشار إلى هيرمافرودايت في كتابه "التحوّلات"، إذ يحكي قصّة الحورية سالميسيس مع الشابّ الجميل الذي وقعت في حبّه. ثم يذكر انه كان لهذه الحورية نافورة ذات تأثير سحريّ رهيب تقع بالقرب من ضريح هاليكارناسوس في عاصمة كاريا في آسيا الصغرى. ويقال إن كلّ من يشرب من ماء النافورة يصبح ضعيفا ويتحوّل مع مرور الأيام إلى خنثى. ويبدو أن اوفيد يجعل سبب الخنوثة كامنا في الماء أو الهواء، في حين يذهب المؤرّخ سترابو الذي أتى في ما بعد إلى أن سببها يُعزى إلى الغنى الفاحش أو طريقة العيش.
العالِم فيتروفيوس ، الذي جاء في مرحلة تالية، سعى لتصحيح هذا الخطأ. وهو يروي كيف أن المستوطنين الإغريق في كاريا أسّسوا تجارة بالقرب من النافورة التي كانت معروفة بنقاء مياهها. ثمّ وفدت إلى تلك المنطقة قبائل بدائية. وتدريجيا فقدَ أفراد تلك القبائل أساليبهم الفظّة والمتوحّشة. ومن هنا اكتسبت هذه المياه سمعتها الغريبة، ليس لأنها تتسبّب في الخنوثة أو فقدان العفّة، وإنّما لأنها خفّفت من الطبيعة المتوحّشة لأولئك البرابرة.
وفي عام 1995، اكتُشفت قصيدة رثائية باليونانية تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد. وهي تعرض وجهة نظر مختلفة عن الحورية والفتى العفيف اللذين ذكرهما اوفيد. فالحورية في القصيدة تصبح هي المربّية التي تعتني بالشاب وتروّض عقول الرجال الجامحين. كما أن نافورة سالميسيس لا تضعف الرجال وإنما تهذّب طباعهم كي يحترموا القيم العائلية للزواج.
التصاوير الفنّية لهيرمافرودايت تُعتبر أقدم من الأوصاف الأدبية. وبعض اللوحات والمنحوتات التي تعود للحقبة الهلنستية غالبا ما تصوّر وبطريقة هزلية مشاهد لآلهة الجبال والغابات وهي تتسلّل باتجاه ما تعتقد انه حورية نائمة، لتفاجأ في نهاية الأمر بعضوها الذكري المنتصب.
هناك اليوم تماثيل عديدة ومتناثرة حول العالم للخنثى العارية النائمة. ولكن نسخة متحف اللوفر تظلّ الأكثر شهرة. ويمتلك متحف بورغيزي في روما نسخة أخرى من هذا التمثال اقلّ شهرة عُثر عليها عام 1781. وهناك أيضا نسخة أخرى رومانية في متحف أوفيزي. وفي كلّ من متحف برادو في مدريد والمتروبوليتان في نيويورك نسخة من البرونز بالحجم الطبيعي للتمثال.

Wednesday, November 20, 2013

لوحات عالميـة – 335

رقـص في ملهـى المـولان دو غاليـت
للفنان الهولندي إيـزاك لازاروس إزرييـلـز، 1905

كانت باريس في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين العاصمة الثقافية للعالم الغربيّ. وبالإضافة إلى جمال طبيعتها وعظمة تاريخها، اشتهرت بأنها مدينة الفنّ بسبب احتضانها بعضا من أفضل وأشهر المتاحف والغاليريهات في العالم. ولهذا السبب اجتذبت باريس أجيالا من المثقّفين والأدباء والفنّانين من جميع أنحاء العالم. ومن أشهر هؤلاء كلّ من إرنست همنغواي وبابلو بيكاسو وفان غوخ وغيرهم ممّن قصدوا باريس ليزدهروا في أجواء الإبداع فيها ويتلقّوا منها الإلهام.
الرسّام الهولندي ايزاك إزرييلز كان، هو أيضا، احد الأشخاص الذين جاءوا إلى باريس وأقاموا فيها وعشقوا مطاعمها ومقاهيها وزحامها وصخبها. كان إزرييلز يشعر في باريس انه في بلده، لدرجة انه مكث فيها عشر سنوات كاملة وكان له محترفه الذي أقامه بالقرب من ضاحية مونمارتر المشهورة بحياة الليل وكثرة المطاعم والملاهي فيها.
كان إزرييلز يواظب على زيارة تلك الأماكن للتسلية أو الرسم. وكانت له عينان حسّاستان ترصدان التفاعل بين الأشخاص الذين كان يرسمهم بضربات فرشاته العريضة مضفيا عليهم أجواء من السعادة. ولأن المقاهي تقع في قلب الحياة الاجتماعية والثقافية لباريس، فقد كرّس الرسّام عددا من لوحاته لتصوير الناس الذين يؤمّونها والتفاعل في ما بينهم. وهذه اللوحة هي واحدة من سلسلة من اللوحات التي كُلّف الفنّان برسمها من قبل إحدى دور الموضة المشهورة آنذاك.
وفي اللوحة يظهر رجل وامرأة يجلسان قبالة بعضهما على طاولة في مقهى مشهور في المولان دو غاليت. إزرييلز يترك للناظر أن يخمّن فيم يتحدّث هذان الشخصان أو يفكّران. وفي الخلفية يظهر أشخاص يجلسون إلى طاولات أو يرقصون. لاحظ أن الفنّان استخدم اللون الأسود مخالفا الانطباعيين الفرنسيين الذي كانوا يتجنّبون استخدامه حتى في رسم الظلال.
كانت المقاهي توفّر وسطا مناسبا لاجتماع الفنّانين والأدباء. والكثيرون منهم استلهموا أفكارا ومواضيع لأعمالهم من بيئة وأجواء المقاهي. ومن أشهر من رسموها كلّ من إدغار ديغا وإدوار مانيه وفيليكس فالوتون وفان غوخ وجان بيرو وسواهم. وعندما تنظر إلى هذه اللوحات ستشعر بأجواء المقاهي وتخمّن نوعية الأحاديث والهمسات بين الأشخاص وتكاد تسمع أصوات الكؤوس والأواني على الموائد وحركات وإيماءات الناس الذين يجلسون ويتحرّكون في مختلف الاتجاهات رغم أنهم يبدون أحيانا بلا وجوه.
المعروف أن هذا المقهى بالذات، أي المولان دو غاليت، كان مكانا مفضّلا لكبار الرسّامين آنذاك مثل هنري تولوز لوتريك ورينوار وبيكاسو الذين كانوا يتردّدون عليه بانتظام.
كان إزرييلز في ذلك الوقت يحاكي زملاءه من الرسّامين في لندن وباريس الذين كانوا يتردّدون على صالات الرقص والمقاهي والمسارح ويجدون في مظاهر الحياة الحضرية المختلفة مواضيع تثير اهتمامهم وتحرّضهم على رسمها.
وأثناء إقامته في باريس، تعرّف الرسّام على إميل زولا ومالارميه وعلى الرسّامة بيرتا موريسو والرسّام اوديلون ريدون. ورغم انه بات مألوفا وصف أسلوبه بالانطباعي، إلا أن عمله كان شبيها بعمل سيزان من حيث تركيزه على بقع الألوان السميكة واستخدام الفراغات.
ولد ايزاك إزرييلز في لاهاي بهولندي في فبراير من عام 1865. وتعلّم الرسم على يد والده جوزيف إزرييلز الذي كان رسّاما مشهورا في زمانه. وكان الأب معروفا بأسلوبه الانطباعي. كما كان بيتهم مزارا للكتّاب والفنّانين والموسيقيين وجامعي الفنّ في لاهاي. وكان من بين ضيوفهم كلّ من ادوار مانيه وماكس ليبرمان وغيرهما.
وقد بدأ ايزاك تعليمه في الخارج عام 1878 بزيارة عائلية إلى باريس ستصبح في ما بعد حدثا سنويا. ثم انتظم في أكاديمية لاهاي للفنون، حيث عمّق مهاراته وقابل جورج برتينر الذي أصبح صديق عمره وزميله.
وقد اتبع الرسّام نموذج فان غوخ وسافر إلى بلجيكا وتجوّل في المناجم ودرس حياة العمّال فيها. ثم اظهر التزاما بتصوير مظاهر الحياة الحديثة. ولم يلبث أن تحوّل إلى شوارع امستردام ومقاهيها ونوادي الليل فيها مستلهما من أجوائها مواضيع للوحاته.
زار ايزاك إزرييلز برفقة والده كلا من اسبانيا وشمال أفريقيا عام 1893. وقد وفّرت لهما تلك الزيارة مصدر إلهام مهم. وعند عودته إلى امستردام رسم مجموعة من مناظر الطبيعة المفتوحة مع تركيز خاص على تأثير الضوء واللون.
الأعوام العشرة التي قضاها إزرييلز في باريس من عام 1903 إلى 1913 انتهت فجأة عندما دخلت أوربّا في حرب عالمية كارثية. وقد أمضى الرسّام العامّين الأوّلين من الحرب في لندن ثم انتقل إلى بيرن في سويسرا. وعندما انتهت الحرب عاد إلى لاهاي حيث استقرّ فيها نهائيا إلى حين وفاته في أكتوبر 1934م.

Thursday, November 14, 2013

لوحات عالميـة – 334

بـورتـريـه جنـدي ألمـانـي
للفنان الأمريكي مـارسـدن هـارتـلـي، 1914

يقال أن مارسدن هارتلي كان أوّل فنّان أمريكي يرسم لوحة تجريدية. ولم يحدث هذا في أمريكا بل في ألمانيا حيث كان يدرس الرسم. كان عمره آنذاك سبعة وثلاثين عاما.
وقد درس هارتلي الرسم في فرنسا أوّلا، حيث اطلع على أعمال سيزان وعلى الرسم التكعيبي. ثم ذهب إلى ميونيخ فـ درسدن وبرلين حيث تأثّر بكاندنسكي وماكس بيكمان وعرف عن كثب كلا من اوغست ماكا وفرانز مارك.
هذا البورتريه التجريديّ رسمه هارتلي عندما كان يقيم في ألمانيا عام 1913. وهو عبارة عن مرثيّة منه لصديقه المقرّب الليفتانت كولونيل الألماني كارل فون فريبورغ الذي قُتل في بدايات الحرب العالمية الأولى.
وبدلا من رسم صورة واقعية لصديقه، استخدم هارتلي الرموز المتصلة بهويّة فريبورغ وحياته الشخصية، ثم مزجها في قطع مثل أجزاء اللغز.
واللوحة تتضمّن مزجا بين التكعيبية والتعبيرية الألمانية من خلال ضربات الفرشاة الخشنة والاستخدام الدراماتيكي للألوان الساطعة.
وكان هارتلي قد أقام علاقة وثيقة مع الجنديّ القتيل. لكن موته في الحرب أصاب الرسّام بصدمة كبيرة. وفي ما بعد، عمد إلى إضفاء طابع مثاليّ على علاقتهما. ويبدو أن هارتلي لم يُشف أبدا من آثار موت صديقه. وهناك إشارات كثيرة إلى الجنديّ في العديد من أعمال الرسّام الأخرى.
هذه اللوحة تتألّف من عناصر من لباس الجندي القتيل كالميداليات والشارات العسكرية والصليب المعدني، الإضافة إلى أرقام ورموز وأعلام.
في أسفل اللوحة إلى اليسار، تظهر الأحرف الأولى من اسم فريبورغ، بالإضافة إلى رقم 24 أي عمره عندما قتل في المعركة، وفي الوسط يظهر رقم 4 أي رقم الفوج الذي كان يتبعه.
وفي أعلى اللوحة، تظهر أنماط من مربّعات بيضاء وسوداء تشبه لوح شطرنج، وهي اللعبة التي كان يفضّلها فريبورغ.
في اللوحة أيضا يعبّر هارتلي عن الفخامة العسكرية بإظهار النسيج المقصّب على كتف السترة العسكرية الخاصّة.
في ميونيخ، جمع الرسّام الفنّ الشعبي البافاري. وفي ذلك الوقت كان عمله مزيجا من التجريد والتعبيرية الألمانية المطعّمة بنسخته الشخصيّة والخاصّة من التصوّف.
والكثير من لوحاته التي رسمها في ألمانيا استلهمها من المواكب والمهرجانات العسكرية الألمانية الني كان يراها. لكن نظرته لهذا الموضوع تغيّرت بعد نشوب الحرب العالمية الأولى، أي عندما لم تعد الحرب مسألة رومانسية وإنّما حقيقة مؤلمة.
أهمّ لوحات هارتلي رسمها في السنتين الأوليين من الحرب عندما كان يعيش في برلين. كانت المدينة تمتلئ بالعديد من الرسّامين الطليعيين من جميع أنحاء العالم. وخلال تلك الفترة، أنتج سلسلة رسوماته التجريدية التي تعكس، ليس فقط اشمئزازه من فظاعات الحرب، وإنما أيضا افتتانه بالقوّة وبالاستعراضات العسكرية التي رافقت الدمار الذي أحدثته الحرب.
ولد مارسدن هارتلي في يناير من عام 1877م في لويستونفيل بولاية مين الأمريكية التي كان والده الانجليزي قد استقرّ فيها. كان ترتيبه الأخير في عائلة من تسعة أطفال. وقد تلقّى دروسا في الرسم في معهد كليفلاند للفنّ بعد انتقال عائلته للعيش في اوهايو. ثم انتقل بعد ذلك إلى نيويورك حيث درس في مدرسة نيويورك للفنّ على يد الرسّام الكبير وليام ميريت تشيس.
وفي نيويورك، انجذب هارتلي إلى الفريد ستيغليتز ومجموعته من الفنّانين الطليعيين الذين كانوا يعرضون أعمالهم في غاليري ستيغليتز.
وقد قام الرسّام بعدّة رحلات إلى أوربّا. ثم قضى وقتا في المكسيك وفي برمودا، قبل أن يعود مجدّدا إلى مسقط رأسه في ولاية مين.
كان هارتلي يكتب الشعر والمقالة والقصّة القصيرة. كما كان معجبا كثيرا بالرسّام البيرت رايدر وربطته به علاقة صداقة وثيقة. وقد ألهمته تلك الصداقة، بالإضافة إلى اطلاعه على قصائد الشاعر الصوفيّ والت ويتمان وكتابات فلاسفة التسامي الأمريكيين مثل ثورو وإيمرسون، بأن ينظر إلى الفنّ باعتباره بحثا روحيّا.
لوحاته الأخيرة بسيطة ومباشرة. وهي تصوّر عمالا يعملون بجدّ، وطبيعة جبلية من ولايته. وقد استمرّ يرسم في مين مناظر ريفية إلى حين وفاته في سبتمبر من عام 1943م.

Wednesday, November 06, 2013

لوحات عالميـة – 333

مقصـورة فـي المسـرح الايطـالـي
للفنانة الفرنسية إيفـا غـونـزاليـس، 1874

شكّل الثلث الأخير من القرن التاسع عشر بداية خروج فرنسا من فترة الاضطرابات السياسية التي استمرّت عشرين عاما. وترافق ذلك مع بدء شيوع فكرة المجتمع الراقي. الوهج والإثارة اللذان اتسمت بهما الحياة الباريسية في نهايات ذلك القرن تعكسها لوحات رينوار ومعاصريه من الفنّانين الانطباعيين الذين كانوا حريصين على تصوير مظاهر الحياة الجديدة وإقبال الباريسيين على ارتياد حفلات المسرح والأوبرا والباليه.
وفي ذلك الوقت، تضاعف عدد سكّان المدينة وزاد عدد المسارح والمقاهي وصالات الموسيقى. وأصبحت مقصورات المسرح في باريس أماكن مفضّلة تقصدها طبقات المجتمع العليا لإزجاء الوقت وتبادل الأحاديث. وكانت تلك المقصورات توفّر للمتردّدين على المسرح الفرصة لكي يراهم الآخرون وهم في أفضل حالاتهم.
الرسّامون الانطباعيون، مثل ميري كاسات وإدغار ديغا، كانوا منجذبين إلى فكرة المسرح. غير أن اللوحة الأكثر احتفاءً بالنسبة لهذا النوع من الرسم هي لوحة جان بيير رينوار بعنوان مقصورة المسرح. كان رينوار، على وجه الخصوص، حريصا على الإمساك بروح التغيير والحداثة التي كانت تشهدها باريس. ولوحته تلك أصبحت رمزا للوجه المتغيّر للمدينة.
وقد ألهمت اللوحة فنّانين آخرين برسم لوحات مشابهة عن المسرح. ومن بين هؤلاء ايفا غونزاليس التي ترسم في لوحتها هنا شخصين، رجلا وامرأة، بالقياس الطبيعي وهما يقفان في مقصورة بالمسرح بينما تظهر وراءهما خلفية داكنة.
المرأة الشابّة تشي وقفتها بالوقار والتواضع. يدها اليمنى مسنودة إلى حافّة المقصورة، بينما اليد الأخرى التي ترتدي قفّازا تمسك بمنظار من العاج. صدر المرأة مرسوم بطريقة بارعة باستخدام طبقة من الطلاء الكثيف الذي يظهر طراوة وكمال الجسد في وهج الشباب. الفستان الأزرق الناعم مرسوم، هو الآخر، بمهارة. الرجل الذي يقف إلى يسارها يبدو بملابس أنيقة وملامح وسيمة تشبه ملامح الفرسان. كما انه يبدو واثقا وغير مهتم بالنظر إلى الآخرين وإنما أن يكون هو محطّ أنظارهم. وعلى حافّة المقصورة إلى اليسار، هناك باقة ورد تذكّر بشكل الباقة التي تظهر في لوحة أوليمبيا لمانيه.
كان الذهاب إلى المسارح يوفّر فرصة للنميمة وتطوير وترويج الشخصية. فالمسرح هو المكان الذي يمكن أن يراك فيه الآخرون ويتفاعلوا معك. وهو أيضا مكان مناسب لانهماك الجنسين في الغزل ولعرض آخر الأزياء. وفي ذلك العصر، كان الناس مهجوسين بمن نسمّيهم اليوم بالمشاهير أو الشخصيات البارزة من ممثّلين وفنّانين وغيرهم.
باريس كانت آنذاك مليئة بالأزياء وبقصص الحبّ ولعبة السلطة. وكان الأغنياء يستأجرون المقصورات لفترات طويلة وبعضهم كان يورّثها لأبنائه وحتى لأحفاده. حتى بنات الهوى كنّ يستأجرنها لإبرام الصفقات مع الزبائن المحتملين. وكانت هذه الأماكن مادّة لرسّامي الكاريكاتير بسبب "إيتيكيتها" المعقّد ولأنها تتيح إمكانية التلوّن والخداع. ومجلات الموضة كانت تختار المسارح كخلفية لصور سيّدات المجتمع اللاتي كن يعرضن آخر وأحدث الأزياء.
ولدت الرسّامة إيفا غونزاليس في باريس عام 1849م. ووالدها كان روائيا وكاتبا مسرحيّا من أصل اسباني، ولكنه اكتسب في ما بعد الجنسية الفرنسية. وقد نشأت منذ طفولتها في عالم الأدب والموسيقى، إذ كان بيت والدها ملتقى لكبار الكتّاب والنقّاد والفنّانين.
بدأت غونزاليس الرسم في عمر السادسة عشرة. وقبل بلوغها العشرين أصبحت تلميذة عند إدوار مانيه واستخدمها كموديل له ولغيره من الرسّامين الانطباعيين. وتأثير مانيه عليها وإعجابها به يبدو واضحا من خلال اختيارها للتباينات الحادّة والفرشاة الشاحبة والنسيج ذي الألوان الخفيفة والخلفية الداكنة.
وفي محترفه، تعرّفت غونزاليس على الرسّامة بيرتا موريسو. كانت موريسو تعمل مع مانيه وكان يصوّرها في لوحاته. ويبدو انه كانت هناك منافسة صامتة بين الرسّامتين. وبالإمكان اكتشاف غيرة موريسو من إيفا من خلال رسائل الأولى لشقيقتها. وقد غضبت من الكيفية التي رسم بها مانيه كلا منهما. فقد رسمهما شابّتين وبنفس الملابس وتقريبا نفس الجمال. وما أزعج موريسو هو انه رسمها وهي مستندة إلى أريكة في وضعية ساكنة تقريبا، بينما رسم إيفا كفنّانة تعمل بنشاط ودأب. موريسو لم تكن تعتبر نفسها تلميذة لمانيه، بل كانت ترى في نفسها ندّا له. كانت ذات شخصية قويّة وأكثر ثقة بنفسها من إيفا غونزاليس. وهناك أيضا عامل العمر، إذ كانت غونزاليس اصغر سنّا من موريسو بثمان سنوات على الأقلّ.
الشخصان الظاهران في هذه اللوحة هما زوج إيفا هنري غويرود وشقيقتها جان، واللذان سيصبحان زوجين بعد وفاة إيفا. كانت إيفا غونزاليس قد تزوّجت من هنري، الذي كان رسّاما هو الآخر، عام 1869. وفي عام 1883، أي بعد شهر من عيد ميلادها الرابع والثلاثين، ولدت إيفا بطفل. لكنها توفّيت بسبب تعقيدات ما بعد الولادة أو ما يُعتقد انه حمّى النفاس. وجاءت وفاتها بعد وفاة معلّمها إدوار مانيه بستّة أيّام. وبعد عامين من رحيلها، أقيم لها معرض تذكّري في الصالون عُرضت فيه أكثر من ثمانين لوحة من أعمالها.

Thursday, October 10, 2013

لوحات عالميـة – 332

نهر ماس عند بلدة دوردريخت
للفنان الهولندي البيـرت كـاب، 1650

كان البيرت كاب رسّاما مفتونا بالأنهار وبالسفن والمراكب التي تمخر مياهها. وهو معروف، على وجه الخصوص، بمناظره الفخمة عن الريف الهولندي. وبعض النقّاد يصفونه بأنه المعادل الهولندي لـ كلود لوران الرسّام الفرنسي.
المعلومات المتوفّرة عن حياة هذا الفنّان قليلة جدّا. لكن كان كلّ أفراد عائلته تقريبا من الرسّامين. وقد ورث عن والده ثروة طائلة.
نشاط كاب كرسّام اقتصر على العقدين الرابع والخامس من القرن السابع عشر، أي الفترة التي عُرفت بالعصر الذهبيّ للرسم الهولنديّ. في ذلك العصر، كان تجّار البحر يسيّرون السفن ويكسبون رزقهم من اتجارهم بالسلع والبضائع في جميع أنحاء العالم. وهذه الطبقة من التجّار كان أفرادها يشترون الفنّ لمتعتهم الخاصّة. وقبل ذلك، كان الأغنياء والأمراء وحدهم هم القادرين على شراء الأعمال الفنّية ورعاية الفنون.
لوحات كاب الكثيرة عن البحر توحي بأنه كان كثير الأسفار داخل هولندا وفي البلدان والمدن الواقعة على ضفاف نهر الراين. وبسبب تأثيرات الضوء الايطالية في لوحاته، ساد اعتقاد بأنه قد يكون قضى بعض الوقت في ايطاليا وخالط رسّامي الطبيعة الايطاليين في ذلك الوقت.
هذه اللوحة تُعتبر مثالا ممتازا لرسم الطبيعة خلال عصر الباروك الهولندي. والرسّام يعطي من خلالها لمحة عن ما كانت عليه هولندا في منتصف القرن السابع عشر. وما نراه أمامنا هو احتفال بانتهاء حرب الثمانين عاما في يوليو من عام 1646م.
في ذلك الوقت رسا أسطول ضخم يحمل عشرات الآلاف من الجنود في نهر ماس قبالة بلدة دوردريخت لغرض رسمي وهو بدء مناقشة بنود معاهدة مونستر التي وُقّعت بعد ذلك بعامين وأنهت كافّة الأعمال العدائية مع اسبانيا وأعلنت بموجبها هولندا دولة مستقلّة.
النهر يبدو هنا مكانا لنشاط كبير. في المقدّمة يظهر احد الشخصيّات المهمّة مرتديا سترة سوداء مع وشاح برتقالي وقد وصل للتوّ في مركب صغير، بينما يقف في استقباله على السفينة الكبيرة عدّة أشخاص آخرين بينهم رجل يقرع طبلا. وإلى اليسار، يظهر زورق ثان على متنه شخصيّات أخرى.
الأضواء المشرّبة بصفرة تتخلّل تفاصيل المشهد البانورامي مضفية وهجا ذهبيّا على كلّ شيء. الماء مرسوم بعناية. وهو لا يبدو مكدّرا أو مضطربا. الأفق المنخفض يفتح على سماء واسعة مملوءة بالغيوم. وأكثر السفن في النهر ترفع أشرعتها وأعلامها كما لو أنها على وشك المغادرة.
ضوء الصباح الباكر يغمر المباني التي تلوح عن بعد ويخلق أنماطا جميلة على الأشرعة والغيوم ويضيف إلى المشهد طابعا دراماتيكيا. والأعلام ذات الخطوط الحمراء والزرقاء والبيضاء هي أعلام الجمهورية الهولندية.
الشعور العام الذي تثيره اللوحة هو مزيج من الأمل والتفاؤل، تعزّزه أضواء الصباح في الميناء ومنظر الغيوم والأشرعة المرسومة تفاصيلها بعناية.
الرجل بالملابس الحمراء في القارب الصغير إلى اليمين ربّما يكون راعي هذا المهرجان الاحتفاليّ. ويمكن أن يكون هو الشخص الذي كلّف الرسّام بتوثيق هذا الحدث التاريخيّ الهامّ.
طبيعة كاب تستند إلى الواقع والى ابتكاره وتصوّره الخاصّ لما تعنيه الطبيعة الساحرة. ومن الواضح أن تصويره البارع لدوردريخت يختلف كثيرا عن تصوير زميله يان فان غوين للبلدة التي رآها أكثر هدوءا.
من المرجّح أن يكون كاب وضع اسكتشات أوّلية للوحة في نفس المكان، لكنّه نفّذها في محترفه. وقد كان من عادته أن يوقّع لوحاته، لكنه نادرا ما كان يضمّنها أيّة تواريخ. وهناك عدد من اللوحات التي تُنسب إليه مع أنها يمكن أن تكون من عمل معلّمين آخرين من رسّامي الطبيعة الهولندية.
ولد البيرت كاب عام 1620 في دوردريخت. وورث عن أبيه الرسّام حبّه للطبيعة وللحيوانات التي تظهر كثيرا في رسوماته. وقد تولّى عددا من الوظائف الحكومية في بلدته. لكن يبدو انه توقّف عن الرسم نهائيّا تقريبّا في عام 1658، أي بعد زواجه من أرملة ثريّة تُدعى كورنيليا بوسمان. وفي العام التالي للزواج، أصبح شمّاس كنيسة بعد اعتناقه مذهب كالفن. ولأنه أصبح ثريّا، لم يعد مضطرّا لأن يكسب رزقه من رسم اللوحات وبيعها. وقد توفّي كاب في دوردريخت في أكتوبر من عام 1691م.

Thursday, October 03, 2013

لوحات عالميـة – 331

أمّ وطفلها على شاطئ البحر
للفنان النرويجي يوهـان كريستـيان دال، 1840

الذي يرى هذه اللوحة الرائعة لأوّل وهلة قد يظنّها لـ كاسبار ديفيد فريدريش. ففيها ذلك المزيج من الضوء والبحر والسفن والبشر الذي كان فريدريش يرسمه ويضمّنه ذكريات وحالات ذهنية معيّنة.
والحقيقة أن هذا الافتراض له ما يبرّره. إذ يُرجّح أن يكون يوهان كريستيان دال رسم هذه اللوحة إكراما لذكرى فريدريش الذي كان معلّمه وصديقه الأثير. وقد ضمّن اللوحة عناصر مأخوذة من لوحات الأخير الذي توفّي في نفس ذلك العام. كما أن اللوحة تستدعي ليالي فريدريش على الشاطئ الصخريّ المقمر لبحر البلطيق.
في اللوحة نرى امرأة جالسة بصحبة طفل وظهرهما للناظر. المرأة ترتدي تنّورة واسعة وملابس ضدّ الجوّ العاصف، بينما تنظر هي والطفل إلى البحر أمامهما ويراقبان قارب صيد يُفترض أنه يحمل والد الطفل. ومن الواضح أن الاثنين، أي المرأة والطفل، ينتظران بشوق عودة الأب.
وفي أعلى المشهد، يطلّ القمر من وراء الغيوم الثقيلة ملقياً بوهجه الأرجواني على البحر إلى الأسفل وخالقاً نقطة ارتكاز قرب وسط اللوحة تضيء طريق عودة الأب.
هذه اللوحة تمسك بروح الليل وبضوء القمر الذي كثيرا ما استُخدم كرمز للتوق والحبّ، وهي فكرة تناسب هذه الصورة تماما. كما أن المشهد يأخذنا إلى قلب المخيّلة الرومانسية الألمانية. في ذلك الوقت، كتب الفيلسوف آرثر شوبنهاور مقالا تحدّث فيه عن القمر "رفيق الأرض الفضّي في الليل" وعن هالة الغموض التي ظلّ يفتن بها البشر منذ بدء الخليقة.
دال نفسه كتب يقول عن هذه اللوحة: ركّزت على أن أصوّر الضوء الشاحب للقمر في انعكاسه على المشهد إلى أسفل. السلام يعمّ كلّ المكان. المنظر نفسه جميل: ضوء القمر في الغيوم، الانعكاسات على الماء والليل الهادئ".
ولد يوهان كريستيان دال في النرويج عام 1788م وسافر إلى الدانمرك وهو في سنّ الثالثة والعشرين. وقد سجّل في الأكاديمية الملكية للفنون. ثمّ غادر الدانمرك في رحلة أخذته بعد ذلك إلى ايطاليا ثم ألمانيا. لكنّه أثناء ذلك لم ينس بلده أبدا، بل زارها مرارا ورسم اسكتشات عديدة لطبيعتها الوعرة والمتجهّمة. وفي عام 1824 أصبح دال أستاذا في أكاديمية درسدن للفنون.
وفي ذلك الوقت، قابل دال فريدريش الذي كان له تأثير كبير عليه. وهذا واضح من الطبيعة الليلية التي تتكرّر كثيرا في أعمال الاثنين. وقد أصبحا بسرعة صديقين. وتوطّدت صداقتهما أكثر بعد أن انتقل دال للعيش في منزل فريدريش. وكان كلّ منهما بمثابة الأب لأطفال الآخر.
كانا ملازمين لبعضهما البعض لدرجة انه لا يُذكر اسم احدهما إلا مقترنا باسم الآخر. وكانا يرسلان أعمالهما معا إلى نفس المعارض، كما كانا ملتزمين بقوّة بالرومانسية الألمانية.
لكن كانت هناك بعض الاختلافات البسيطة بين أسلوبيهما. كان دال، مثلا، يرسم بسرعة وأحيانا بوجود زوّار في بيته. وعلى العكس من ذلك، كان فريدريش يرسم بعد أيّام من التأمّل وبعد أن يتخيّل تفاصيل المشهد أمامه. وكان دائما يفضّل المحترف الفارغ حيث لا احد يمكن أن يصرفه أو يشتّت اهتمامه.
ومن الناحية الشخصية، كان دال شخصا دافئا اجتماعيا، بينما كان فريدريش انطوائيا ومتحفّظا بسبب تأثّره بنشأته البروتستانتية الصارمة. كان فريدريش يركّز على تأمّل الخلاص ويبحث عن المقدّس في الطبيعة. دال كان مختلفا عنه. كانت مواضيعه المفضّلة هي حبّ العائلة والعودة الآمنة إلى الوطن وما إلى ذلك. وبشكل عام، كان دال يركّز على التجربة الشخصية وليس على الحقائق الكونية أو الكلّية.
وقد وصف دال ذات مرّة فريدريش بأنه شخص لا يتكلّم كثيرا، لكنّه كان يبدو سعيدا دائما. كان فريدريش يكبره بخمسة عشر عاما وكان وقتها في أوج شهرته. وقد أحسّ دال بأنه قريب من فريدريش أكثر من أيّ شخص آخر.
عاش دال حياة هادئة، وإن لم تكن تخلو من المنغّصات. تزوّج أوّلا عام 1820 وأنجب أربعة أطفال. وقد توفّيت زوجته أثناء ولادتها بطفلهما الأخير عام 1827م. وبعد ذلك بعامين، توفّي ولده وابنته بالحمّى القرمزية. وفي العام التالي، تزوّج من إحدى تلميذاته. لكنها ماتت في نهاية تلك السنة وهي تضع مولودها الأوّل. وبعد ذلك عهد إلى خادمة بتربية ابنه وابنته من زواجه الأوّل.
هذه اللوحة قد لا تكون تحيّة لـ فريدريش فقط، بل أيضا إحياءً لذكرى المرأتين اللتين كانتا تعنيان لـ دال الشيء الكثير، وكذلك لأطفاله الذين كان عليهم أن يموتوا وهم في سنّ مبكّرة.
لكن رغم المآسي التي قد تكون مرتبطة باللوحة، فإنها تحمل بعض الرموز المتفائلة: حركة الطفل المفرحة، والغيوم التي تتبدّد لتكشف عن ضوء القمر وتفسح المجال للحظة من لحظات السعادة.
توفّي يوهان كريستيان دال في درسدن بألمانيا عام 1857 عن عمر ناهز السبعين. وبعد ستّين عاما من وفاته أعيدت رفاته إلى النرويج حيث دُفنت هناك.

Saturday, September 28, 2013

لوحات عالميـة – 330

على شاطئ البحر المتوسّط
للفنان الفرنسي هنـري ليبـاسـك، 1921

بعض الرسّامين كانوا ملء السمع والبصر أثناء حياتهم، ولكن نادرا ما يتذكّرهم احد هذه الأيّام. وهنري ليباسك هو أحد هؤلاء. كان معاصرا وصديقا لكبار الفنّانين في زمانه مثل رينوار وبول سينياك وبيير بونار. كان يرسم اللون والضوء ويعبّر من خلال الرسم عن رؤيته الخفيفة والمرحة للحياة.
مناظر ليباسك تشي بحبّه للحياة والجمال والسلام الذي كان يسكن نفسه. تنظر إلى لوحاته فلا تجد فيها سوى صور لنساء منهمكات في أداء أعمالهنّ المنزلية أو في القراءة، أو صور لأطفال يعزفون الموسيقى أو يمشون على الشاطئ أو يقرءون أو يلهون. ولهذا السبب نالت أعماله إعجاب وثناء النقّاد والجمهور وكانت تُستقبل استقبالا حسنا. وعادة ما يلقبّه النقّاد برسّام السعادة.
نشأ الفنّان في بيئة ريفية. ولا بدّ وأنه عانى الكثير من الصعاب قبل أن يتحقّق حلمه بأن يصبح رسّاما. مواضيعه عبارة عن طبيعة وأزهار وحياة ساكنة وأشخاص. وكان مشهورا بأنه رسّام الريف وموانئ الشواطئ الفرنسية من النورماندي إلى كان وغيرهما.
وقد كان معروفا بتفرّده وبشخصيّته الحميمة وإحساسه العميق بالضوء واللون. وتأثّر بألوان الانطباعيين، وخاصّة بيسارو الذي زامله في المدرسة.
اكتشف ليباسك طبيعة جنوب فرنسا التي أقام فيها لفترة بعد أن سبقه إلى هناك سيزان ورينوار وفان غوخ وماتيس وبيكاسو. وقد نقل إلى لوحاته مشاهد لأشجار الزيتون والسماء الزرقاء والأسطح الحمراء وأزهار عبّاد الشمس ومزارع الكروم التي اشتهرت بها تلك النواحي.
في هذه اللوحة، رسم الفنّان اثنتين من بناته مع طفليهما وهم يستريحون على تلّة تطلّ على شاطئ البحر في إحدى القرى الهادئة في الجنوب الفرنسي. وقد استخدم ألوانا متناغمة وشفّافة تنمّ عن براعته في التلوين وفي توظيف الألوان والضوء.
ومن الملاحظ أن الرسّام اغفل في هذه اللوحة، كما في غيرها من أعماله، تفاصيل الوجوه والملامح. وقد كان من عادته استخدام هذا التكنيك، أي ترك شخوصه مجهولين وبلا ملامح، مقابل التركيز أكثر على تعبيرات الأطراف وحركات الأجساد.
ولد هنري ليباسك في شومبانييه في سبتمبر من عام 1865م. وفي عام 1885 ذهب إلى باريس ليدرس في معهد الفنون الجميلة. وقد تشكّلت رؤيته الفنّية بعد مخالطته لرسّامين أصغر منه سنّا مثل فويار وبيير بونار مؤسّس جماعة الأنبياء.
وفي مرحلة تالية تعرّف على كلّ من جورج سورا وبول سينياك وعرف منهما أهميّة نظرية الألوان. كما ربطته علاقة وثيقة مع ماتيس حيث كانا يشتركان في نفس الأفكار الفنّية والتطلّعات، وقد شارك الاثنان معا في تأسيس ما عُرف بصالون الخريف عام 1903م.
قضى الرسّام في الريفييرا الفرنسية حوالي ثلاثين عاما متنقّلا من بلدة لأخرى. وكان يرسم الحدائق والبيوت وضفاف الأنهار والشواطئ، أي تلك الأماكن التي اعتاد الجلوس أو العيش فيها. وشيئا فشيئا استطاع أن يطوّر أسلوبا خاصّا به يتّسم بالبساطة والتلقائية.
وقد جرّب النقطية والوحوشية عددا من السنوات. وكثيرا ما صُنّف كوحوشي بسبب صداقته الطويلة مع ماتيس. ثم اكتشف تيرنر وأسلوبه أثناء زيارة له إلى لندن.
توفّي هنري ليباسك في بلدة لو كانيه شمال كان في أغسطس من عام 1937م. وأعماله موجودة في المتاحف الفرنسية وفي غيرها من المتاحف العالمية في أمريكا واليابان ونيوزيلندا واسبانيا وغيرها.

Wednesday, September 18, 2013

لوحات عالميـة – 329

سيّـدة فـي حمّـامها
للفنان الفرنسي فرانسـوا كلـوويـه، 1571

كانت العلمانية والفردانية والإنسانوية هي الأفكار الرئيسية التي أتى بها عصر النهضة. وقد شكّل ذلك العصر الذي امتدّ من القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر ولادة ثانية لأوربّا ودّعت معها القارّة الركود الاقتصادي والتخلّف السياسي الذي خبرته طوال العصور الوسطى، وبدأ عصر من النموّ المالي والازدهار الاقتصادي والاجتماعي.
وأثناء عصر النهضة، استدعى فرانسيس الأوّل ملك فرنسا عددا من الرسّامين الايطاليين وكلّفهم بمهمّة تزيين قصره في فونتينبلو. وكان من بين الغرف التي أمر الملك باستحداثها غرفة حمّام، وهذا كان يعدّ ترفا نادرا في أوربّا في ذلك الحين.
الرسّامون الذين وفدوا من ايطاليا باشروا عملية التزيين، فرسموا في غرف الزينة واللباس والاستحمام صورا لحوريّات وعرائس بحر وإلهات عاريات يمرحن بين حدائق ونوافير. وثمّة احتمال بأن تلك المناظر هي التي ألهمت ولادة نوع جديد من الرسم يصوّر نساء يتحمّمن في أماكن مرتّب لها جيّدا.
وهذه اللوحة من عصر النهضة الفرنسي هي ولا شكّ إحدى أشهر لوحات هذا النوع من الرسم. وهي تصوّر امرأة تجلس في حوض ماء مغطّى بقماش ابيض. اليد اليمنى للمرأة ترتاح على لوح يحمل فاكهة، بينما تسحب بيدها اليسرى طرف قماش الطاولة إلى أعلى لتكشف عن كلمات منقوشة بالرومانية على حافّة المغطس الخشبي.
وخلف المرأة مباشرة يقف طفل يمدّ يده إلى طبق الفاكهة محاولا الإمساك ببعض حبّات العنب. الفاكهة يمكن أن تكون رمزا لعبور الزمن أو سرعة وتيرة الحياة.
وإلى اليسار تظهر مربّية ترضع طفلا، في إشارة إلى الحياة المنزلية.
وفي الخلفية تبدو خادمة رُسمت طيّات ملابسها بعناية وهي تمسك بإناء ماء. والى جوارها لوحة مرسوم عليها حيوان اليونيكورن الخرافي الذي يرمز غالبا إلى العذرية، بالإضافة إلى شجرة.
اللوحة تعكس إلى حدّ كبير عقيدة وثقافة عصر النهضة. وتفاصيلها توحي بأن المرأة تنتمي إلى طبقة اجتماعية رفيعة. فالناس العاديّون لا يملكون رفاهية الاستحمام مع فاكهة، كما أن وجود الخادمات يدلّ على الغنى. وهناك أيضا اللؤلؤ والخواتم والأساور التي ترتديها، وكلّها من علامات الثراء.
يقال إن المرأة هي ماري توشيت التي كانت الخليلة المفضّلة لشارل التاسع، بينما يذهب آخرون إلى أنها ديان دو بواتييه عشيقة الملك هنري الثاني. وهناك رأي ثالث يقول إن المرأة قد لا تكون حقيقية وأن الفنّان ربّما يكون رسمها من خياله كتجسيد لرؤيته عن قيم الجمال المثالي.
وضعية جلوس المرأة يُحتمل أنها مستعارة من الموناليزا. أمّا الفاكهة والديكور والمجوهرات والستائر القرمزية على الجانبين، وكذلك العري الناعم، فمرسومة بأسلوب يمزج بين رسم الطبيعة الهولندية وأسلوب التأنّق الايطالي أو الماناريزم.
كلوويه هو اسم عائلة من الرسّامين يتحدّرون من جان كلوويه الكبير، وهو رسّام هولنديّ الأصل أتى إلى فرنسا في بداية القرن الخامس عشر. ولا احد يعرف شيئا عن كلوويه الأكبر أو عن أعماله. غير أن المشهور أكثر هو فرانسوا كلوويه الذي يُعتقد أنه ابنه الأكبر. وقد نجح الأخير واشتهر كرسّام، ثمّ اختير عام 1541 رسّاما للبلاط في فرنسا.
كان فرانسوا في الأساس رسّام بورتريه. وقد عُرف على وجه الخصوص بلوحاته ذات التفاصيل الواقعية والدقيقة وبمهارته الكبيرة في التلوين. وأحد أفضل أعماله الأخرى هو البورتريه الذي رسمه للملك فرانسيس الأوّل.

Wednesday, September 11, 2013

لوحات عالميـة – 328

حيـاة ساكنـة.. أقنعـة 3
للفنان الألماني إميـل نـولـدي، 1911

خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، بدأت أهميّة الثقافات غير الغربية في الظهور، متجسّدة في الحركة الفنّية المعروفة بالبدائية. في ذلك الوقت كان الفنّانون قد تمكّنوا من التعرّف على الفنّ القديم من أفريقيا. وكانوا يحرصون على زيارة المتاحف كي يرسموا اسكتشات للقطع الأثرية القديمة للاستفادة من تأثيرها وتوظيفه في أعمالهم.
وبعض هؤلاء عمدوا إلى استخدام السخرية والتشاؤم والرعب كي يوسّعوا تعريف مفهوم الفنّ البدائي. وكانت الأقنعة احد العناصر المهمّة قي هذا النوع من الفنّ. وكانت تُستخدم في الاحتفالات للمبالغة في تصوير الملامح. وأشهر الأمثلة عن الأقنعة ظهرت في اليونان القديمة. ويبدو أن الإنسان ابتكرها مع غيرها من الأشياء البدائية لغرض ديني أو كأداة للسحر أو كوسيط بين الإنسان والقوى المجهولة المحيطة به كي يتغّلب على خوفه منها.
في هذه اللوحة، يرسم اميل نولدي، باستخدام ألوان زاهية وثقيلة، خمسة أقنعة مستمدّة من الفنّ البدائي. احد الأقنعة استوحاه من فينيسيا والآخر من جزر سليمان والثالث من البرازيل. القناع المقلوب على رأسه بلون احمر استلهمه من مهرجانات شمال أوروبّا. وكلّ الأقنعة، عدا الأوسط، ذات ملامح شيطانية وتثير إحساسا بالعدوانية والصدمة والخوف. القناع ذو اللون الأصفر يبدو مبتسما تقريبا وهو يحدّق في الناظر. وقد استخدم الرسّام فرشاة خشنة وألوانا سميكة ومكثّفة وساطعة لكي يعزّز فكرة البدائية ويعمّق تأثيرها الانفعالي.
كان نولدي يهتمّ بالخصائص الانفعالية للألوان وتبايناتها. وكان يرى أن كلّ لون يمسك بروح ومعنى ما ويعكس مزاجا معيّنا، سعيدا أو حزينا.
وقد ركّز في هذه اللوحة وفي غيرها من لوحات الأقنعة على الإزعاج السيكولوجي، خاصّة بعد أن رأى اقتراب نذر الحرب العالمية الوشيكة. غير أن هناك من النقّاد من لاحظ أن أقنعته لا تتضمّن أيّة تعليقات اجتماعية أو سخرية من الناس، إذ لم يكن الرسّام مهتمّا كثيرا بتصوير معاناة أو قسوة الإنسان.
لكن ممّا لا شكّ فيه أن نزوع نولدي لرَسْم الأقنعة كان انعكاسا لاهتمامه بالثقافات الأصلية وطقوسها وتعاطفه مع الثقافات غير الأوربّية بشكل عام. وقد درس أقنعة ثقافات مختلفة. وكان يقول انه لا بدّ من رسم أقنعة بتعبيرات شتّى. لكنه في هذه اللوحة اكتفى برسم تعبيرات متجهّمة. والأقنعة كلّها تقريبا تبدو شرّيرة وكما لو أن عيونها المجوّفة تفتقر إلى الشخصية والى الارتباط الإنساني، أضف إلى ذلك أن الشفاه والعيون في بعضها ملطّخة بالأحمر الذي قد يكون رمزا للعدوانية والدم.
الأقنعة يمكن أن تقود إلى إعادة تعريف الذات والمظهر والكشف عن الطبيعة الإنسانية ومعنى الموت. والرسّامون الذين يميلون إلى رسمها يريدون أيضا أن يقولوا للمتلقّي انه برغم الأقنعة التي نظنّ أننا نختفي وراءها، إلا أنها في الحقيقة تكشف المزيد عن أنفسنا.
وبعض الفنّانين، ومنهم بيكاسو، أعطوا وجها "أو بالأحرى قناعا" للسلوكيات المخيفة والنواحي السلبية في الطبيعة الإنسانية كالطمع والغضب والشهوة وحبّ السلطة وما إلى ذلك. أي أن القناع يعمل على حجب القبح، وتلك إحدى غاياته الأساسية.
بيكاسو اخذ فكرة نولدي عن الأقنعة خطوة ابعد عندما رسم لوحته المشهورة آنسات افينيون. وفي هذه اللوحة المرسومة بأسلوب هو مزيج من التجريدية والتكعيبية، تظهر خمس نساء بملامح بدائية وأقنعة منفّرة.
ولد اميل نولدي، واسمه الأصليّ اميل هانسن، في بلدة نولدي على الحدود الألمانية الدانمركية في أغسطس من عام 1867 لأبوين مزارعين. وفيما بعد اختار اسم البلدة اسما لعائلته. وقد درس الرسم في برلين ثم أصبح عضوا في جماعة فنّية تُدعى "الجسر". وكان من بين من تأثّر بهم من الرسّامين كلّ من فان غوخ وادفارد مونك وجيمس انسور.
في بدايات حياته، زار نولدي نيو غينيا ومكث فيها عامين. وكان لتلك التجربة اثر كبير في انه أصبح يفضّل مواصفات وسمات الفنّ القبلي والبدائي، مثل تشويه الشكل والأنماط الجزئية والألوان المتباينة بقوّة.
وأعماله بعد زيارته تلك كانت عبارة عن تأمّلات عن الناس الذين يعيشون في تناغم مع الطبيعة. وقد درس الأقنعة في متحف برلين للأجناس البشرية. وهو كان ضدّ عرض القطع الأثرية البدائية في المتاحف كأمثلة انثروبولوجية، وإنما كفنّ له أصالته وقدرته القويّة على إثارة الانفعالات. في تلك الفترة، ظهر لأوّل مرّة المفهوم المثاليّ عن الهمجيّ النبيل ، أي الإنسان البدائيّ الذي لم تلوّثه الحضارة والذي يرمز إلى الخيرية التي فُطر عليها الإنسان.
ونولدي في بدائيّته يشبه إلى حدّ ما غوغان وبيكاسو. غير أن شهرته كرسّام تعبيري تضاءلت أمام تلك التي لزميله النرويجي ادفارد مونك، مع انه كان يعتبر التعبيرية أسلوبا ألمانيا خالصا.
في بواكير شبابه، كان نولدي مؤيّدا للحزب النازي. وقد عبّر عن آراء سلبية في زملائه من الفنّانين اليهود. لكن في أواخر حياته، تعرّض لقمع السلطات النازية كما مُنع من الرسم عام 1941م باعتباره فنّانا منحلا. لكنه مع ذلك رسم لوحات كثيرة حرص على إخفائها عن الأعين. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وسقوط النازية، أعيد للرسّام الاعتبار ومنح وسام الاستحقاق الألماني.

Thursday, September 05, 2013

لوحات عالميـة – 327

سـوزانـا والقـاضيـان
للفنان الايطالي غـويـدو رينـي، 1625

القصص الدينية كانت دائما محلّ إعجاب واهتمام الرسّامين. وإحدى أشهر تلك القصص هي قصّة سوزانا والقاضيين التي كانت رائجة كثيرا في الرسم خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر.
هذه القصّة هي مزيج من الايروتيكية والإثارة البصرية والعفّة الأنثوية وقانون الرجل الذكوري. وكلّ من رسمها من الفنّانين رأوا فيها فرصة لإبراز الجسد العاري بنفس الروح التي كانوا يرسمون بها شخصيات أنثوية مشهورة أخرى مثل داناي ولوكريشيا. وقد تحوّلت القصّة التي أوردتها النصوص الدينية كمثال على عفاف الأنثى، تحوّلت من خلال الرسم إلى احتفال بالعري والإثارة الجنسية.
أحداث القصّة وقعت في بابل، وملخّصها أن امرأة يهودية تُدعى سوزانا (أو شوشانا كما تنطق بالعبرية) كانت متزوّجة من رجل على دينها يقال له يواكين. وكانت هذه المرأة تتمتّع بجمال مبهر. كما كانت على درجة من الأخلاق والعفاف بفضل تنشئة والديها المتديّنين لها.
وقد حدث في ذلك الوقت أن عُيّن للمدينة قاضيان مسنّان جديدان كي يفصلا في منازعات الناس بعد أن تقاعد سلفاهما. وكان هذان الرجلان يمرّان في مشوارهما اليومي إلى المحكمة بالقرب من بيت سوزانا. وقد لمحاها مرارا وهي تخرج من منزلها إلى الحديقة الملحقة به.
وشيئا فشيئا أصبح القاضيان مفتونين بجمال المرأة. وسرعان ما تطوّر هذا الشعور إلى نوع من الرغبة في الانفراد بها والتمتّع بجمالها. في البداية، كان كلّ منهما حريصا على أن يخفي حقيقة مشاعره عن الآخر. لكن عندما عرفا أنهما واقعان معا في هوى المرأة، اتفقا على أن يترجما ذلك الشعور إلى فعل وأن يظفرا ببغيتهما مهما كانت الصعاب.
وذات يوم وبينما كانا مارّين من ذلك المكان، نظرا من ثقب باب الحديقة خلسة ورأيا سوزانا وهي تستعدّ للاستحمام. فدخلا دون أن تلحظهما وكمنا وراء إحدى الأشجار. وعندما باشرت خلع ملابسها خرجا من مخبئهما واقتربا منها في اشتهاء. ثم اخبراها أن الأبواب مغلقة وان لا احد يراهم وهدّداها بأنها إن لم تقدّم لهما نفسها طواعية فإنهما سيشهدان ضدّها في المحكمة ويدّعيان أنهما رأياها تمارس الزنا مع شابّ في الحديقة. لكن المرأة رفضت كلام العجوزين الداعرين وزجرتهما بعنف فغادرا المكان وقد أعدّا في نفسهما خطّة.
في اليوم التالي، عُقدت المحكمة برئاسة القاضيين وأمرا بإحضار سوزانا ووجّها لها تهمة الخلوة مع شابّ وارتكاب جريمة الزنا، زاعمين أنهما رأيا الشابّ وهو يهرب. وقد صدّق الناس مزاعم الرجلين على أساس أنهما قاضيان متديّنان ويريدان حماية الفضيلة. ثم صدر الحكم على سوزانا بالموت. وقد بكت المرأة بصوت عال مؤكّدة براءتها ودعت الربّ بأن يكشف الحقيقة وأن يدافع عنها.
وبقيّة القصّة معروفة. فقد أرسل الله فتى شابّا إلى المحكمة وبدأ يصرخ قائلا: أنا بريء من دم هذه المرأة. ويجب استجواب الرجلين قبل الإقدام على قتل امرأة بريئة".
ولم يكن ذلك الشابّ سوى دانيال، الشخصيّة التي تظهر كثيرا في النصوص القديمة والذي يقترن اسمه بجملة من المعجزات والكرامات من بينها القصّة المشهورة التي تحكي عن نجاته من الموت افتراسا في عرين الأسود.
وقد أمر دانيال بأن يُفصل الرجلان عن بعضهما وأن يُسأل كلّ منهما عن تفاصيل ما رأياه. فاختلف وصفهما للشجرة التي ادّعيا أن المرأة التقت بالعاشق المزعوم تحتها. هذا الاختلاف في الوصف اثبت أنهما كانا يكذبان، فتأكّدت براءة المرأة ونجت من الموت رجما، بينا حُكم على الرجلين بالموت.
الرسّام غويدو ريني يصوّر في هذه اللوحة اللحظة التي باغت فيها القاضيان المرأة وهي تستحم. وقد رسم الفنان العجوزين في حالة تسلّل كما ابرز حسّية جسد المرأة. الرجل إلى اليسار يضع إصبعه على فمه لحثّها على أن لا تصرخ أو تبدي مقاومة بينما يزيح بيده الأخرى الرداء عن جسدها. الرجل الآخر يبدو أكثر هدوءا واقل تهديدا بينما يكتفي بسماع ما يقوله رفيقه وبالنظر عن قرب إلى جسد المرأة.
سوزانا تبدو هنا بهيئة جميلة وبالقليل من الملابس. لاحظ كيف أن الفنّان رسمها بوضع إغراء. ملامحها لا تبدو خجولة وليس على وجهها أيّ اثر للرعب أو الضعف، بينما يظهر الرجلان بملامح خبيثة ومتآمرة. حسّية العارية في شخصية سوزانا يعمّقها حقيقة أن من مارس التحرّش عجوزان يُفترض أنهما على درجة من التقى والورع.
اللوحات الأخرى المرسومة عن القصّة تتضمّن عادة معمارا أو نحتا كلاسيكيا. والبعض الآخر يركّز على الدراما والعري. وهناك من الفنّانين من رسموها لكي يظهروا قوّة تديّن المرأة وإخلاصها وثقتها بأن الربّ سيخلّصها، بينما رسمها آخرون ليركّزوا على انحلال تلك الفئة من الناس الذين يستخدمون القانون لأغراضهم الشخصيّة.
الفنّان الأمريكي توماس هارت بينتون رسم سوزانا بهيئة عصرية ونقل القصّة إلى فترة الكساد العظيم. ولم ينس أن يرسم نفسه في اللوحة كأحد الرجلين المتلصّصين.
قصّة "سوزانا والقاضيان" لها أيضا حضور قويّ في الموسيقى والأدب. الموسيقيّ فريدريش هاندل ألّف قطعة استوحاها من القصّة. وفي إحدى الأوبرات الأمريكية تنتقل سوزانا إلى القرن العشرين، وإلى الجنوب الأمريكي تحديدا. لكن خاتمة الأوبرا لا تبدو سعيدة، إذ يحلّ مكان القاضيين واعظ منافق يقوم باغتصاب سوزانا في نهاية المطاف.

Thursday, August 29, 2013

لوحات عالميـة – 326

الأمّ الصغيرة أو مادونا الشوارع
للفنان الايطالي روبيـرتـو فيـروتـزي، 1897

تُعتبر هذه اللوحة من بين أشهر اللوحات في العالم ومن أكثرها استنساخا ورواجا. كان روبيرتو فيروتزي يريد رسم صورة ترمز للأمومة ولهذا اسماها في البداية "مادونينا" التي تعني بالإيطالية الأمّ الصغيرة، ولم يكن بذهنه أبدا أن يرسم صورة دينية. لكن مع مرور السنوات أصبح الناس ينظرون إلى اللوحة كصورة ايقونية للعذراء وطفلها الرضيع. وربّما كان هذا الخلط سببا إضافيا في الشهرة والشعبية الدائمة التي اكتسبتها.
الموديل في اللوحة اسمها انجيلينا. كانت وقتها في الحادية عشرة من عمرها. والطفل الذي تحمله هو شقيقها الأصغر ذو الأشهر العشرة. كان الرسّام قد رأى الفتاة والطفل في فينيسيا ذات شتاء. كانت ترتدي ملابس ثقيلة وتحمل شقيقها إلى صدرها لحمايته من البرد.
ورغم أنها كانت ما تزال صغيرة السنّ، إلا أنها كانت تُظهر إحساسا عميقا بالأمومة وهي تحتضن الطفل. كان فيروتزي في ذلك الوقت في الأربعينات من عمره، وقد رأى انجيلينا فذهل لجمالها وبراءة ملامحها وقرّر أن يرسمها هي وشقيقها.
وعندما عُرضت اللوحة في بينالي فينيسيا من ذلك العام سرعان ما اكتسبت ثناء النقّاد واستحسان الجمهور ونال عليها الرسّام جائزة. وشيئا فشيئا، أصبحت اللوحة تُعامَل بشيء من القداسة واستنسخت آلاف المرّات لمناسبات أعياد الميلاد والزواج وغيرها من المناسبات الدينية والاجتماعية. وعلى مرّ السنين ظهرت منها نسخ معدّلة أضيف إليها غيوم وهالات مقدّسة كي تدعم التفسير الديني لها.
كان فيروتزي يريد تصوير لحظة من لحظات الحنان والعطف بين أخت وشقيقها، فرسم صورة خالدة تتحدّث إلى جميع الناس بعفويّتها وصدقها. الفتاة تظهر في اللوحة وهي تحمل شقيقها النائم على كتفها بسلام وتقف على أعتاب احد البيوت وكأنها تتوسّل من أهله المأوى أو الطعام. وأهمّ ما يلفت الانتباه في الصورة هو وجه الفتاة ذو الملامح الجميلة وعباءتها الخضراء وغطاء رأسها الذهبي وكذلك الملامح الملائكية للطفل النائم.
بعد بضع سنوات من رسم هذه اللوحة، تزوّجت انجيلينا وهي في سنّ التاسعة عشرة وغادرت مع زوجها ايطاليا إلى الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الأولى حيث استقرّا في كاليفورنيا. وقد عاشا هناك حياة مريحة وأنجبا عشرة أطفال. وفي عام 1929 توفّي زوج انجيلينا فجأة عن اثنين وأربعين عاما بعد إصابته بمرض مفاجئ.
وقد كافحت انجيلينا بعده كثيرا من اجل إعالة ورعاية أسرتها الكبيرة. لكن بفعل التعب والإجهاد، أصيبت بانهيار عصبيّ وقضت بقيّة حياتها في مصحّة نفسية. وقد اخذ أبناؤها الأصغر سنّا وأودعوا في ملجأ للأيتام. لكنهم ظلوا أوفياء لأمّهم حتى وفاتها في عام 1972.
إحدى بنات انجيلينا، واسمها ميري، أصبحت راهبة. وكانت تلحّ عليها أسئلة بشأن ماضي عائلتها وظروف موت والدها وجنون أمّها. كما كانت تتساءل عن أقارب والديها في ايطاليا وهل ما يزال احد منهم على قيد الحياة وماذا بإمكانهم أن يخبروها عن أسلافها.
وقد ذهبت ميري بالفعل إلى ايطاليا عام 1970م وعرفت مكان اثنتين من شقيقات والدتها، أي خالاتها. كانت الاثنتان في الثمانينات من عمرهما وكانتا قد فقدتا الأمل في معرفة ما الذي حدث لشقيقتهما بعد أن هاجرت مع زوجها إلى أمريكا.
إحدى الأختين أظهرت لميري صورة خاصّة لأمّها عندما كانت صبيّة وأخبرتها أن والدتها كانت موديل لوحة رُسمت في نهاية القرن قبل الماضي. وكانت ميري قد رأت نسخا من اللوحة، لكن لم يخطر ببالها أن المرأة التي تظهر فيها يمكن أن تكون أمّها.
عائلة ميري في الولايات المتحدة أدهشها الاكتشاف وقرّرت أن تتأكّد من القصّة. وبعد البحث والتقصّي، عرفوا مكان ابن شقيق الرسّام الذي كان ما يزال حيّا. واعتمادا على مذكّرات الرسّام الشخصية، ظهر دليل دامغ على أن والدة ميري كانت هي فعلا المرأة التي تظهر في اللوحة. كما تمّ التعرّف على الطفل الذي معها، وهو شقيقها الرضيع جيوفاني الذي كان عمره آنذاك عاما واحدا.
أثناء حياتها، لم تخبر انجيلينا أطفالها أبدا بأمر اللوحة وفضّلت أن تُبقي ذلك الأمر طيّ الكتمان لأسباب غير معروفة. غير أن عائلتها لا تبدو الآن سعيدة بعنوان اللوحة أي "مادونا الشوارع"، ربّما لأنه يشير بشكل غير مباشر إلى الدعارة. وترى العائلة أن العنوان الأصلي، أي الأمّ الصغيرة، يُعتبر أفضل.
وما يزال أحفاد انجيلينا يبحثون عن اللوحة الأصلية دون نتيجة. وهم يؤكّدون أنهم لا يطالبون بملكيّتها، وإنما يريدون رؤيتها ولمس ألوانها وتفاصيلها بحكم أن الرسّام كان يعرف جدّتهم وجدّهم عن قرب.
ويقال إن اللوحة الأصلية اختفت من ايطاليا أثناء الحرب العالمية الثانية وأنها قد تكون ضاعت أثناء رحلة بحرية في المحيط الأطلنطي. لكن هناك رأيا آخر يقول إن اللوحة قد تكون أخذت طريقها إلى إحدى المجموعات الفنّية الخاصّة في أمريكا.
كان روبيرتو فيروتزي معروفا في ايطاليا في السنوات الأخيرة من القرن الماضي. وقد ولد في فينيسيا عام 1853 لأب يعمل محاميا، ودرس الرسم في سنّ مبكرة. وفي مرحلة تالية انتظم كطالب في جامعة بادوا. لوحته هذه هي أشهر أعماله، لكنّ له أعمالا أخرى اقلّ شهرة تتوزّع على متحفي فينيسيا وتورين. وقد توفّي الرسّام في فينيسيا في فبراير عام 1934.

Thursday, August 22, 2013

لوحات عالميـة – 325

تـلال حمـراء ، بحيـرة جورج
للفنانة الأمريكية جـورجـيـا اوكِـيـف، 1927

كانت جورجيا اوكيف شخصيّة رئيسية في تاريخ الفنّ ولعبت دورا مهمّا في تطوير الرسم الحديث. وقد فتنت حياتها النقّاد ومؤرخّي الفنّ وعشّاق الرسم منذ ظهورها على المشهد الفنيّ في نيويورك في بدايات القرن العشرين.
صحيح أن اوكيف دخلت المخيّلة الشعبية بفضل مناظرها ذات الرمزية الحسّية، لكن يُنظر إليها أوّلا وأخيرا كرسّامة للأشياء والأمكنة. والناس يتذكّرونها اليوم بصورها المكبّرة للأزهار المتفتّحة ورسوماتها الايقونية لعظام الحيوانات وصور الحياة الصامتة عن الفواكه والصدف والصخور والعظام. كانت تنتقل بحرّية من موضوع لآخر كي تؤكّد على أن الفنّ متجذّر في أشكاله التجريدية الأوليّة.
كانت اوكيف قد تزوّجت من الفريد ستيغليتز عام 1924م، وكان زوجها صاحب أوّل غاليري أمريكي يجلب إلى الولايات المتحدة لوحات رسّامي الحداثة الأوربّيين مثل ماتيس وسيزان وبيكاسو ولوتريك وغيرهم.
وفي سنوات ما بين الحربين العالميّتين الأولى والثانية، شكّل ستيغليتز حول نفسه دائرة من الرسّامين عُرفت باسم أصدقاء ستيغليتز. وكانت تضمّ أسماء أصبحت معروفة في ما بعد. كان هؤلاء طليعيين أمريكيين يرسمون الطبيعة بالأسلوب التجريدي الحديث وبدرجات متفاوتة.
هذه اللوحة، بألوانها الساطعة وأشكالها المبسّطة ولمعانها الدراماتيكي، تكشف عن افتتان جورجيا أوكيف بالعلاقات بين عناصر الطبيعة التي كانت تلاحظها. ويبدو أن ذكرياتها عن السنوات التي كانت تدرس فيها في ولاية تكساس، وكذلك رحلتها القصيرة إلى نيومكسيكو في عام 1917، كان لهما اثر مهمّ في إلهامها هذه اللوحة التي تصوّر الجمال الصارخ لمناطق الغرب الأمريكي.
اللون الأحمر المذهل في اللوحة يعكس ذكريات الرسّامة عن غروب الشمس في فصل الخريف بمنطقة بحيرة جورج. وشكل اللوحة يشي بمعرفة أوكيف ودراستها المتأنّية لأطروحة كاندينسكي عن الروحانية في الفنّ. وقد مزجت أفكاره عن اللون والشكل ومعانيهما الرمزية والروحية في مجموعة أفكارها ومعتقداتها الخاصّة.
السهل الأحمر في المقدمة يظهر صلبا وبلا حدود. وهو يشير إلى اعتقاد كاندينسكي بأن الأحمر لون ذو شخصية قويّة ومتوهّجة. الشمس الملوّنة بقوس قزح تشعّ إلى الخارج في موجات ناعمة ومتّحدة المركز من الأصفر والأزرق وفي ظلال من الأرجواني مفصّلة بضربات فرشاة ليّنة.
قبل عام من رسمها "تلال حمراء"، كانت اوكيف قد صُنّفت ضمن مجموعة من الفنّانين الرؤيويين الذين كان لهم هدف مشترك هو البحث عن الخصائص الغامضة في الطبيعة والتي يمكن للفنّان أن يجد فيها وسيلة للتعبير عن مكنونات نفسه.
كان التجريد بالنسبة لـ اوكيف وسيلة لتوصيل الأفكار والمشاعر التي لا يمكن وصفها. وكان يسمح لها بالتعبير عن التجارب غير المحسوسة، سواءً كانت نوعية الضوء أو اللون أو الصوت أو الاستجابة للأشخاص والأمكنة. وكانت، مثل غيرها من التجريديين، تعتقد أن التجريد يمنح الرسّام فرصة أفضل لرؤية العالم بطريقة جديدة ومختلفة. ومن خلال لغتها التجريدية الخاصّة، كانت اوكيف تسعى لإعطاء شكل بصريّ للأشياء التي تشعر بها وتريد أن تقولها، لكن تُعجزها الكلمات عن ذلك.
ظلّت اوكيف ترسم طوال حياتها ولم يوقفها شيء عن العمل. وكان من عادتها أن تلفّ نفسها بملابس سميكة وتنتظر في ليالي الشتاء إلى أن ترى شروق الشمس كي ترسمه، أو تصعد فوق سلّم إلى سطح منزلها ليلا كي تراقب النجوم قبل أن تنقلها إلى قماش الرسم. ورغم تنوّع أعمالها وفرادة أسلوبها، إلا أنها لم تحصل على الاعتراف الذي تستحقّه إلا بعد أن تجاوزت الثمانين من عمرها. وقد وُصفت في بعض الأحيان بأنها رسّامة سبقت عصرها بفضل رؤيتها المتفرّدة وموهبتها الاستثنائية.

Wednesday, August 07, 2013

لوحات عالميـة – 324

الرحـلة الأخيـرة
للفنان الروسي فاسيـلي بيـروف، 1865

يُعتبر فاسيلي بيروف مؤسّس تيّار الواقعية النقدية في الفنّ الروسي. وقد عاش في عصر اتسم بالتغيير الاجتماعي والانتعاش الاقتصادي. وفنّه يحمل نقدا حادّا لمظاهر المدنيّة الحديثة. لكنّه كثيرا ما يُنتقد بسبب تركيزه على الجوانب المظلمة من الحياة.
والناس إذ يتذكّرون هذا الرسّام اليوم إنّما يتذكّرونه بلوحاته التي تصوّر الطبقة الطفيلية وفساد الإدارة البيروقراطية واستبداد الساسة وجشع التجّار ونفاق رجال الدين.
كان بيروف مدافعا دائما عن الناس العاديّين ومراقبا دقيقا لأنماط السلوك الإنساني بشكل عام. ولوحاته تستثير تعاطف الناس مع حياة الأفراد الذين يعانون من الإذلال وفقدان الكرامة الإنسانية بسبب قسوة المجتمع.
في هذه اللوحة، ينقل الرسّام إحساسا بمعنى الفقد أو الموت. إذ نرى امرأة، برفقة طفليها، وهي تنقل جثمان زوجها إلى مثواه الأخير في كفن موضوع فوق عربة يجرّها حصان.
وجه الأرملة غير واضح في الصورة لأنها تعطي ظهرها للناظر. لكنّ كتفيها المنحنيين يتحدّثان ببلاغة عن حزنها وعمق مأساتها. وضعية جلوسها متناغمة مع حركة الحصان الذي يجرّ العربة. والحصان، هو الآخر، كأنّما يحسّ بعمق الفجيعة على فراق صاحبه.
ومن الواضح أن لا أصدقاء يرافقون الميّت في رحلته الأخيرة في هذه البرّية الباردة والخاوية والمغطّاة بالثلج باستثناء زوجته وطفليه الذين يبدون متجمّدين من شدّة البرد. وثلاثتهم متوحّدون في هذه الصورة من صور الإحساس بالحزن.
الابن، إلى اليسار، يرتدي قبّعة ومعطفا وفي عينيه وملامحه آثار حزن وإنهاك، بينما تحتضن أخته التابوت. شكل الطبيعة الخاوية والمتجهّمة والسماء المنخفضة والسحب الداكنة والثقيلة والأطراف المتجمّدة للغابة، كلّها عناصر تعزّز درجة الإحساس بحزن وكآبة المنظر. وهناك أيضا غلبة اللون الرمادي بتدرّجاته المختلفة والذي يعطي انطباعا بالبرد القاتل.
اللوحة بسيطة في شكلها وكاملة في مضمونها، أي لا شيء فيها ناقص أو زائد عن الحاجة. وهي لا تحكي فقط قصّة حزينة عن مصير عائلة فقيرة تُركت وحيدة بعد رحيل معيلها، بل أيضا عن مصير ملايين الفلاحين والمحرومين الذين يعانون ظروفا مماثلة.
موضوع اللوحة استوحاه بيروف من قصيدة للشاعر الروسي نيكراسوف يتحدّث فيها عن جنازة تقام لرجل في منتصف فصل الشتاء. لكن يقال أن اللوحة أكثر إثارة للحزن من القصيدة، إذ لا جيران هنا ولا معارف أو أصدقاء.
ويُرجّح أن الرسّام رأى مرارا جنازات لفلاحين وعمّال في رحلاته ومشاويره اليومية من وإلى بلدته. كما أن معرفته القويّة بظروف معيشة الطبقة العاملة مكّنته من أن ينجح في تحويل فكرة عاديّة ومألوفة إلى عمل فنّي من الطراز الرفيع يجسّد مأساة الإنسان. وقد وضع عدّة اسكتشات تمهيدية للوحة وتجوّل في العديد من القرى وراقب مناظر الخيول التي تجرّ عربات الجليد التي تنقل الأشخاص أو أكفان الموتى.
كان بيروف أوّل فنّان روسي يرسم صورة حقيقيّة عن الحزن والفقر المدقع وقسوة حياة الفلاحين وسكّان الأرياف. وقد اكتسبت لوحته هذه شهرة عالميّة وحقّقت نجاحا كبيرا بين معاصريه. ونال عليها جائزة جمعية تشجيع الفنون، كما عُرضت مرارا في معارض فنّية داخل روسيا وخارجها.
ولد فاسيلي بيروف في يناير من عام 1834، وتعلّم الرسم في مدرسة موسكو للفنّ. وفي ما بعد زار ألمانيا وفرنسا ورسم بعد عودته إلى موسكو مناظر مستوحاة من أجواء الشوارع الأوربّية. وهو معروف بتوليفاته الواضحة والبسيطة التي يميّزها لجوؤه المتكرّر للون الواحد، أو المونوكروم، رغم انه كان معلّما بارعا في التلوين. وقد تلقّى الرسّام لقب أكاديمي ثم عُيّن أستاذا للرسم بمدرسة موسكو للفن. وظلّ يمارس التدريس إلى حين وفاته بالسلّ في يونيو 1882.

Wednesday, July 31, 2013

لوحات عالميـة – 323

ايليونورا دي توليدو وابنها جيوفاني دي ميديتشي
للفنان الايطالي انـوليـو برونـزينـو، 1545

بعض اللوحات التاريخية، خاصّة إن كانت من عصر النهضة، ليست جميلة فحسب، وإنّما تعطي نظرة متعمّقة في حياة الناس الذين تصوّرهم وفي ظروف العصر الذي عاشوا فيه.
ولدت ايليونورا دي توليدو عام 1522م. والدها كان نبيلا اسبانيّا وكان يعمل نائبا للملك في نابولي. وقد تزوّجت ايليونورا من كوسيمو دي ميديتشي عام 1539 وأنجبت له ثمانية أطفال. وهي في هذه اللوحة تظهر مع ابنها الأوّل جيوفاني الذي سيصبح في ما بعد كاردينالا.
هذا، على الأرجح، هو العمل الأكثر شهرة لـ انوليو برونزينو الذي اشتهر ببورتريهاته التي رسمها لأسرة ميديتشي والتي كانت، أي البورتريهات، تخدم غرضا سياسيّا محدّدا هو إضفاء الشرعية على الأسرة كحكّام لفلورنسا والتأكيد على مكانة سلالتهم.
كان زواج ايليونورا وكوسيمو دي ميديتشي زواج مصلحة. في ذلك الوقت، كان الحكم يُرتّب من خلال لعبة التحالفات والمصالح والأوراق العائلية. ولأن أفراد أسرة ميديتشي كانوا جددا على الحكم، فقد كان هذا الزواج جذّابا لمجموعة متنوّعة من الأسباب السياسية والعائلية. فأسلاف ايليونورا القشتاليون وفّروا لأسرة ميديتشي الدم الأزرق الذي كانوا يحتاجونه وكان ينقصهم حتى ذلك الحين. وقد وضعهم الزواج على قدم المساواة مع غيرهم من العائلات الملكية الأوروبّية الأخرى. ومن خلال والدها، قدّمت ايليونورا لميديتشي صلة قويّة بإسبانيا التي كانت آنذاك تسيطر على فلورنسا، بحيث وفّر الزواج فرصة لكوسيمو لإظهار الولاء الكافي لإسبانيا.
وقبل هذا الوقت، كانت سلالة ميديتشي يتهدّدها خطر الانقراض. لكن ايليونورا، بإنجابها ورثة عديدين للعرش، أسّست شرعية لخطّ هذه العائلة الأسطورية. ومع ذلك، هناك احتمال بأن المرأة التي تحدّق من هذه اللوحة لم يكن أمامها سوى القليل من الخيارات بالنسبة لزواجها.
ايليونورا كان عمرها اثنين وعشرين عاما عندما رسمها برونزينو. ومع ذلك يكاد يخلو وجهها ووجه طفلها البالغ من العمر عامين من أيّ تعبيرات أو انفعالات. وهي في الصورة تظهر قبل كلّ شيء كأمّ، لأن عائلة ميديتشي كانت بحاجة إلى ورثة من الذكور بعد مقتل سلف كوسيمو، أي شقيقه اليساندرو، دون أن ينجب أطفالا. دور ايليونورا باعتبارها أمّاً يشير إليه الرّمان، رمز الخصوبة، المطرّز على ملابسها. ووجود الطفل في اللوحة يُقصد منه الإشارة إلى أن حكم كوسيمو سيحقّق الاستقرار في الدوقيّة لأن له ولدا سيخلفه.
في البورتريه نرى ايليونورا بجمالها الأرستقراطي الذي يمازجه قدر من الشعور بالحزن. وضعيّتها قد يكون الرسّام استوحاها من لوحة الموناليزا. لكن الملمح الذي يلفت الانتباه أكثر من غيره في اللوحة هو فستان المرأة ذو الزخارف والأنماط والتفاصيل الجميلة. اللباس أحيانا قد يكون شكلا من أشكال توظيف المنتج. وهو هنا إعلان عن إحياء الدوق، أي زوج ايليونورا، لصناعة الحرير في فلورنسا. وهذا الرسم المفصّل والبالغ الدقّة للنقوش والمنسوجات بمثل هذه البراعة قد لا نجد له مثيلا سوى في رسومات آنغر وماتيس.
الروايات من تلك الفترة تكذّب المظهر الرسميّ الصارم لـ ايليونورا والذي تظهر عليه في العديد من البورتريهات. يقال مثلا أنها كانت محبّة للقمار وتتنقّل من قصر إلى قصر كما كانت توظّف عشرة نسّاجين للعمل على ملابسها. وقد تكون احتاجت للملابس الجميلة كي تخفي مظهرها المريض. إذ عند استخراج رفاتها وأطفالها في بدايات القرن الماضي، كشفت فحوص الطبّ الشرعي عن أن نقصا شديدا في نسبة الكالسيوم في جسمها ربّما سبّب لها عددا كبيرا من الأمراض بالإضافة إلى آلام الأسنان المزمنة.
ويبدو أنها كانت تحبّ هذا الفستان أكثر من غيره بدليل ظهورها فيه في بورتريهات رسمية متعدّدة. وعندما نُبش قبرها، خلص البعض إلى أنها كانت ترتدي نفس هذا الفستان في جنازتها. وهو الآن محفوظ بعهدة غاليريا ديل كوستيوم أو متحف الأزياء في فلورنسا.
برونزينو كان رسّاما وشاعرا مرموقا. ومعظم من رسمهم من فلورنسا كانوا ينتمون إلى النخب الثقافية والاجتماعية. وهو كان يرسمهم محاطين بكتاب أو تمثال صغير أو أثاث بزخارف محفورة.
في فلورنسا، كانت الفنون قد بدأت تلعب دورا حيويّا في تأكيد هويّة هذه المدينة. وكان كوسيمو دي ميديتشي يدرك المزايا السياسية والاقتصادية لتسليط الضوء على رعاية أسرته للفنون والآداب.
ولد انوليو برونزينو لعائلة فقيرة في فلورنسا عام 1503. وبرونزينو هو اسم مستعار وليس حقيقيّا. وهذا كان تقليدا شائعا في دوائر الثقافة والفنّ في ذلك العصر. وقد يكون اللقب بسبب شعره الذهبيّ، لكنه أيضا يستدعي الإحساس النحتيّ لشخوص لوحاته.
تتلمذ برونزينو على يد الرسّام الفلورنسي جاكوبو دي بونتورمو وعملا معا على جداريات عديدة. وفي عام 1539، أصبح الرسّام المهيمن في بلاط عائلة ميديتشي واستمرّ كذلك إلى حين وفاته عام 1572. وإحدى العلامات الفارقة في فنّه هي طريقته في رسم ملامح الوجه الهادئة التي تعكس الاعتداد بالنفس، وهي السمة التي كانت سائدة بين أفراد الطبقة النبيلة في فلورنسا آنذاك.
وقد رسم برونزينو العديد من البورتريهات لأسرة ميديتشي. ويمكن اعتبار تلك اللوحات بمثابة تعبير عن "حقّهم الإلهي" في أن يكونوا سلالة حاكمة. وكان برونزينو نفسه مؤمنا بذلك. وقد ألّف أشعارا تمجّد أرباب نعمته وتصفهم بالملوك والقدّيسين.
وجود ايليونورا في حياة أسرة ميديتشي قلّل إمكانية أيّ تهديد محتمل من بلدها اسبانيا ووفّر قدرا من الاستقرار السياسي لحكم أسرة زوجها. وقد ساعدت كوسيمو في إدارة شئون الدولة وكانت تكمّله وتؤازره بكلّ ما أوتيت من قوّة. وبعض الباحثين الموثوقين يصوّرونها كامرأة عطوفة وقويّة الشخصية وذكيّة، خاصّة في إشرافها على تربية أطفالها.
وبسبب اجتهادها وحمايتها لأبنائها، وُصفت ايليونورا من قبل بعض المؤرّخين كنموذج للاسترشاد والسلوك المرغوب فيه. بالداسار كاستيليوني أشار إليها في كتابه المشهور رجل البلاط وصوّرها كامرأة مثالية من عصر النهضة. فقد "كانت تعمل نائبة للحاكم في غيابه، وكانت محطّ إعجاب الجميع كامرأة ذات ذوق رفيع ومؤمنة بالمثل العليا".
توفّيت ايليونورا دي توليدو عام 1562. ومنذ وفاتها، كان هناك اتجاه لدى المؤرّخين لإغفال أهمّيتها في تاريخ فلورنسا. ولا يتمّ تذكّرها اليوم إلا باعتبارها قرينة ميديتشي المحبّة لحياة الراحة والترف. ولعدّة قرون بعد وفاتها، راجت أسطورة تقول إن ابنها جيوفاني الظاهر معها في اللوحة تعرّض للقتل عند بلوغه التاسعة عشرة على يد شقيقه غارسيا ذي الستّة عشر عاما إثر خلاف نشب بينهما عام 1562. ويقال إن والدهما كوسيمو عاقب غارسيا على فعلته وذلك بقتله بسيفه وإن ايليونورا توفّيت بعد الحادث بفترة قصيرة حزنا على ولديها. لكن الطبّ الشرعي اثبت من خلال استخراج الجثث وفحصها أن جيوفاني مات وهو وأمّه بعد إصابتهما بالملاريا عام 1562.

Thursday, July 25, 2013

لوحات عالميـة – 322

بورتـريه سيّـدة
للرسّام الهولندي روهيـير فـان ديـر وايـدن، 1460

تُعزى شعبية وشهرة هذه اللوحة للأناقة البسيطة وللأنماط التي تخلقها الشخصية، وليس بالضرورة لفخامة رسمها. ورغم أن ملامح المرأة فيها غير مريحة إلى حدّ ما، إلا أنها تتمتّع بجمال غريب. التوليف مشيّد من الأشكال الهندسية التي تشكّل خطوط حجاب المرأة وعنقها ووجهها وذراعيها ومن مسارات الضوء الذي ينير وجهها وغطاء رأسها.
فان دير وايدن رسم هنا امرأة في العشرينات من عمرها تقريبا، ترتدي فستانا اسود أنيقا مع وشاح احمر صغير وغطاء رأس كبير اصفر اللون ينسدل منه حجاب شفّاف على جبينها. وقد ركّز الرسّام اهتمامه على أربع سمات أساسية هي غطاء الرأس واللباس والوجه واليدان.
نظرات المرأة متّجهة إلى أسفل في تواضع. والتعبيرات تنمّ عن تقوى، رغم أن هذا لا يتوافق مع اللباس الباذخ نسبيّا. وهي تظهر في زاوية مائلة قليلا، مع أنها تقف في منتصف اللوحة. الرأس مضاء بعناية بحيث لا يترك تباينات قويّة على البشرة.
رَسْم الشخصيّة تمّ وفقا للفكرة المثالية القوطية، فهي نحيلة وأطرافها طويلة وكتفاها ضيّقان. الوجه رقيق وطويل والحاجبان خفيفان والشعر مربوط بإحكام. شكل غطاء الرأس وخطّ الشعر الدقيق يعطيان الشخصية مظهرا نحتيّا.
الرسّام نقل إلى اللوحة جمال المرأة غير الطبيعيّ وأناقتها القوطية وتواضعها وسلوكها المتحفّظ من خلال مظهرها الهشّ وعينيها الخفيضتين وأصابعها الاسطوانية المتشابكة بإحكام وكأنها في وضعية الصلاة.
التصوير الشائك للأصابع هو أكثر العناصر تفصيلا في هذه اللوحة. لاحظ كيف أن أصابع اليدين مطويّة في طبقات بطريقة تضاهي الشكل الهرميّ للجزء العلويّ من اللوحة.
في القرن الخامس عشر، كانت النساء يرتدين الحجاب من باب الاحتشام ولإخفاء فتنة الجسد. لكن في اللوحة، الحجاب له تأثير عكسيّ، فقد تمّ تأطير الوجه بغطاء الرأس الغريب للفت الانتباه إلى جمال المرأة.
وضَع فان دير وايدن لنفسه جماليّاته الخاصّة ولم يلتزم بالقيم المثالية التقليدية لعصره. كان، مثلا، يهتمّ بمزاج التعبّد الحزين، وهي سمة مهيمنة على العديد من بورتريهاته.
في اللوحة، تبدو الخلفية مسطّحة وتفتقر إلى الاهتمام بالتفاصيل. وهذا ملمح شائع في الأعمال ذات الطبيعة التعبّدية أو الدينية. ومثل معاصره يان فان إيك، كان فان دير وايدن يستخدم أسطحا داكنة لتركيز الاهتمام على الموديل أو الشخصيّة المرسومة.
المرأة الظاهرة في اللوحة غير معروفة الهويّة. لكن بعض مؤرّخي الفنّ خمنّوا شخصيّتها، وقيل إن وجهها يشبه وجه ماري الابنة غير الشرعية لـ فيليب الطيّب ملك بورغوندي.
كان روهيير فاندر وايدن، بالإضافة إلى كلّ من فان ايك وروبرت كامبن، يمثّلون طليعة جيل ما عُرف بعصر النهضة الشمالية في بدايات القرن الخامس عشر. ومن الواضح أن فان دير وايدن عمل على هذا البورتريه ورسمه بنفس تقاليد معاصريه مثل فان ايك وكامبن.
وكان من عادته أن يشير إلى المكانة الاجتماعية لأشخاصه من خلال طريقته في رسم الوجوه والأيدي. وخلافا لـ فان ايك الذي كان يرسم الوجوه على طبيعتها، كان فان دير وايدن يعمد إلى تحسين المظهر الجسدي وتجميل طبيعة وشكل الشخصية.
وقد حظي الفنّان بتقدير عال من الأجيال اللاحقة من الرسّامين لبراعته في رسم الشخصيات. وممّا يلفت الانتباه أن بورتريهاته النسائية متشابهة كثيرا من حيث المفهوم والملامح.
وعلى الرغم من أنه لم يكن يلتزم بالأعراف المثالية، إلا انه كان يجامل موديلاته. فقد كان يرسمهنّ بملابس عصرية للغاية، وغالبا بوجوه مستديرة ومنحوتة تقريبا على نحو يذكّر بالتماثيل الطبيعية.
هذه اللوحة هي من مقتنيات المتحف الوطني للفنون في واشنطن منذ عام 1937. والمتحف يصفها بأنها أشهر البورتريهات النسائية التي يمتلكها.

Monday, July 22, 2013

لوحات عالميـة – 321

الملـك العجـوز
للفنان الفرنسي جـورج رول، 1936

يُصنّف جورج رول من بين أكثر الرسّامين التعبيريين موهبة. وقد جرّب الوحوشية قبل أن يتبنّى الأشكال التعبيرية ثم الرمزية، متأثّرا بمعلّمه الرسّام الرمزي غوستاف مورو. كان رول تلميذ مورو المفضّل. وأعماله الأولى، وبينها مواضيع دينية وبورتريهات، نفّذت بطريقة تشبه كثيرا لوحات أستاذه.
مواضيع رول محدودة وتتألّف غالبا من المواضيع الدينية والطبيعة الحزينة، ومن وقت لآخر كان يرسم باقات الأزهار. لكنه رسم أيضا لوحات قاتمة عن بائعات الهوى والفقراء.
"الملك العجوز" هي احد أكثر أعمال جورج رول نضجا، وهي بلا شك تحفته الفنّية بألوانها اللامعة وخطوطها السوداء الثقيلة.
كان الرسّام يبحث عن مواضيع مناسبة لإحساسه بالسخط والتقزّز إزاء شرور البورجوازية. والملك العجوز، الذي يمثّل نموذجا ايقونيّاً للسلطة، يعكس تغيّرا في نظرة الفنّان الانفعالية والأخلاقية. ورغم أن اللوحة لا تشير إلى سياق تاريخيّ معيّن، إلا أن هيئة الملك تذكّر بملوك آشور وبابل وبالنقوش المصرية القديمة. وتصوير الشخصية جانبيّاً يضاهي الصور الموجودة على النقود المعدنية الرومانية واليونانية القديمة.
الألوان اللامعة والخطوط السوداء السميكة والمستمدّة من تصاميم النوافذ المعشّقة تثير إحساسا بالسلطة وبغموض الملوك القدامى. الحاكم أو الملك في اللوحة لا يحمل سيفا أو أيّ سلاح آخر يرمز للسلطة الدنيوية، وإنما يمسك بما يشبه الزهرة البيضاء التي ترمز عادة إلى هشاشة الحياة وحتمية الفناء ودورة الولادة والموت.
ومثل معظم لوحات الرسّام، فإن "الملك العجوز" ممزوجة بإحساس بالتناقض المأساوي الذي توحي به قوّة الملك وضعفه في نفس الوقت.
بدأ جورج رول رسم هذه اللوحة خلال الحرب العالمية الأولى التي أطاحت بالملكيّات القديمة في أوربّا. وأكمل رسمها أثناء السنوات المضطربة التي سبقت نشوب الحرب العالمية الثانية التي جلبت معها للبشرية فظائع اكبر. وقد اشترى اللوحة متحف كارنيغي للفنّ في بداية تلك الحرب عندما بدا أن رؤية رول المأساوية تذكّر بظلمات وكوارث القرن العشرين.
أسلوب الفنّان يتسم بكثرة استخدامه للألوان الباذخة وضربات الفرشاة السميكة، وهي تقنيات اكتسبها من دراسته تصميم الزجاج ومن التعليم الذي تلقّاه على يد مورو. وهناك أيضا استخدامه للتباينات الحادّة والجانب الانفعالي في أعماله، وهما ملمحان يُعزيان إلى تأثير فان غوخ عليه.
ولد جورج رول عام 1871 في باريس لعائلة فقيرة. وقد شجّعته أمّه على دراسة الرسم في سنّ مبكّرة. وعندما انتظم في كليّة الفنون الجميلة بباريس كان من بين زملائه هنري ماتيس. وقد قرّبته تلك العلاقة من الاتجاه الوحوشي الذي كان ماتيس زعيما له، فرسم لوحات تغلب عليها السمات الوحوشية كالألوان الساطعة والتصميم البسيط.
كان رول يكتب الشعر والنثر، وكانت الطبيعة البشرية دائما في مركز اهتمامه. وفي بعض الأوقات، انجذب إلى الروحانيات والى الأفكار الوجودية للفيلسوف جاك ماريتان الذي احتفظ معه بصداقة وثيقة إلى أن توفّي.
في عام 1902، عانى الرسّام من مرض خطير. وأصبحت رسوماته تعكس اهتمامه العميق بمعاناة الإنسان وتدهور حال المجتمع. ثم رسم عدّة لوحات مكرّسة لانتقاد المحاكم والمهرّجين والمومسات. ولم يلبث أن كرّس وقته بالكامل لرسم اللوحات الدينية.
وفي نهايات حياته، احرق أكثر من ثلاثمائة من لوحاته يقال أن قيمتها اليوم تساوي ملايين الدولارات. وكانت حجّته في ذلك التصرّف الغريب انه لن يعيش بما فيه الكفاية كي يكملها.
توفّي جورج رول في باريس في فبراير من عام 1958 عن 87 عاما. وقد أقيمت له في مناسبات مختلفة معارض تذكّرية في العديد من العواصم الأوربّية وفي اليابان.

Monday, July 15, 2013

لوحات عالميـة – 320

تحيّـة للمـربّـع
للفنان الأمريكي جوزيـف البيـرز، 1953

كان جوزيف البيرز شاعرا ورسّاما ونحّاتا ومعلّما ومنظّرا للفنّ. والبعض ينظر إلى لوحاته باعتبارها مصدرا مهمّا لأيّ شخص يرغب في معرفة كيف تتفاعل الألوان مع بعضها وكيف تؤثّر في بعضها البعض.
البيرز كان يعتبر المربّع أكثر الأشكال ثباتا وحياديّة. وكان يريد من المتلقي أن يفهم التناقض المثير بين الحقيقة الماديّة والتأثير السيكولوجي للألوان، أي ما نسمّيه الخداع البصري للألوان. وقد رسم مئات اللوحات بدرجات ألوان مختلفة ومتفاوتة كي يؤكّد على أن إدراك الألوان مسألة نسبيّة ولا تتسم بالثبات.
موضوع هذه اللوحة هو أيضا عن العلاقة بين الألوان المتجاورة وتأثيرها على العين البشرية. وهي واحدة من سلسلة لوحات بدأها الرسّام عام 1951م. اللوحة فيها هندسة وإحكام، واختيار الألوان فيها لم يكن أمرا عشوائيا من قبل الرسّام. ويقال إن النسخة الأصلية منها أكثر جمالا ممّا توصله صورها المستنسخة التي قد لا تنقل نوعيّة الألوان والأضواء فيها.
في اللوحة، رسم الفنّان مربّعا كبيرا بلون اخضر خفيف. ثم رسم بداخله مربّعا آخر اصغر قليلا بلون رماديّ. ثم كرّر هذه الخطوة مرّتين وانتهى إلى مربّعين إضافيين بلونين أبيض وأصفر لينتهي بأربعة مربّعات.
المربّعات الأخضر والرماديّ والأصفر تبدو أكثر قتامة في أجزائها السفلية. بينما تُرك المربّع الثالث أبيض تماما. وكلّ لون يخترق جوهر الألوان الأخرى، كما أن لمعانه يوفّر هويّة للون الآخر الذي يليه. وفي كلّ هذه المربّعات لا شيء محايد أو متجانس أو متماثل. وكلّها تحتوي على ألوان ذات كثافة متباينة.
الرسّام يريد أن يبرهن على أن الألوان عندما تتجاور تنتج تأثيرات بصرية متغيّرة وكلّ منها يغيّر الآخر ويؤثّر فيه. كما أن نفس اللون مع خلفية مختلفة وبمجاورة ألوان أخرى يبدو مختلفا. هذا الخداع اللوني يثبت أننا نرى الألوان وكأنها لا تمتّ لبعضها البعض بصلة.
ولد جوزيف البيرز في مارس من عام 1888 لعائلة من أصل ألماني. درس الرسم في برلين وميونيخ، ثم سجّل كطالب في جامعة بوهاوس المشهورة. وقد رُقّي في ما بعد إلى درجة أستاذ بنفس الجامعة. وفيها تعرّف إلى رسّامَين أصبحا مشهورين في ما بعد هما كاندينسكي وبول كلي.
ومع إغلاق بوهاوس بضغط من النازيين عام 1933، هاجر البيرز إلى أمريكا حيث عمل مدرسّا للفنّ في عدد من جامعاتها. كما أسّس برامج لتعليم الرسم كان لها تأثير واسع في أمريكا وأوربّا. وقد تلقّى جوائز كثيرة ودرجات علمية شرفية عديدة في مراحل مختلفة من حياته. وكان البيرز أوّل رسّام حيّ يقام له معرض تذكّري في متحف المتروبوليتان في نيويورك. ومن أشهر تلاميذه في أمريكا كلّ من ساي توومبلي وروبيرت روشنبيرغ.
اليوم يتذكّر الناس جوزيف البيرز باعتباره منظّرا ورسّاما تجريديّا. وقد استمرّ يرسم ويكتب حتى وفاته في شهر مارس من عام 1976م.

Wednesday, June 19, 2013

لوحات عالميـة – 319

السيّـد انـدروز وزوجتـه
للفنان البريطاني توماس غينسبورو، 1750

تتمتّع هذه اللوحة بشعبيّة كبيرة في بريطانيا وقد أصبحت مع مرور الأيّام رمزا للحياة في تلك البلاد خلال القرن الثامن عشر. كما أنها تحفة الرسّام توماس غينسبورو بلا منازع.
اللوحة تصوّر زواج روبرت اندروز من فرانسيس كارتر في نوفمبر من عام 1748م، أي قبل رسمها بعامين. وقد أراد الزوج على ما يبدو أن يكون هذا البورتريه احتفالا بذكرى ذلك الزواج.
الزوجان اندروز كانا ينتميان لعائلتين موسرتين. وربّما يكونان أرادا من خلال صورتهما هذه أن يُظهرا مقدار ثرائهما. وبناءً عليه، فإن البورتريه لا يحتفل بذكرى زواج العروسين الشابّين فقط، وإنما يبرهن أيضا على أن اتحادهما خلق ثروة معتبرة يملكانها الآن معا.
الزوج يقف إلى أقصى يسار اللوحة ممسكا ببندقيّته وإلى جواره كلبه. كما انه يبدو غير مكترث بشيء وهو يضع يده في جيبه بينما ترك أزرار قميصه مفتوحة. طريقته في الوقوف وهندامه لا يتركان شكّاً في علوّ مكانته في المجتمع.
زوجته فرانسيس كان عمرها ثمانية عشر عاما آنذاك. وتظهر جالسة على مقعد من الخشب وهي ترتدي فستانا أزرق لامعا تبدو فيه كالدمية وفردتي حذاء فضّيتين. سَمْت المرأة، مثل زوجها، يوحي بالثروة والاحترام والثقة بالنفس.
الطبيعة التي يقف عليها الزوجان هي جزء من مزرعة روبرت في سافولك. ومن الواضح أن الألوان الخضراء والذهبيّة للحقول الخصبة وللمزرعة المرتّبة بعناية رُسمت كلّها بطريقة جميلة. ورغم أننا إزاء بورتريه، إلا أن الطبيعة تأخذ أكثر من نصف مساحته. وهذا تذكير ضمني بأن الأرض هي أساس ثروة الزوجين وسلطتهما السياسية وأن ما نراه هو عبارة عن زواج رُتّب له مسبقا، على غرار ما كان شائعا في أوساط الارستقراطيين الانجليز في ذلك الوقت.
التركيز على الطبيعة يسمح للرسّام بأن يعرض بعض مهاراته في رصد الطقس المتغيّر وإبراز تفاصيل المنظر الطبيعيّ، وهو شيء كان جديدا آنذاك. وقد نجح غينسبورو في المزج بين رسم الطبيعة ورسم البورتريه الارستقراطي الذي كان بارعا فيه. ويقال انه كان ينوي أن يجعل السيّدة في اللوحة تمسك بكتاب أو طائر اصطاده زوجها لأن هناك في حضنها فراغا لم يُملأ.
من الأشياء اللافتة للاهتمام في المنظر أن الزوجين يبدوان غريبين إلى حدّ ما على هذا المكان، إذ لا تشبه ملابسهما ملابس المزارعين كما أن ألوانها متباينة مع ظلال وألوان الطبيعة من حولهما. وما هو أغرب من هذا هو غياب العمّال الذين أنتج جهدهم ثروة الزوج وزوجته عن عموم المنظر، ما يضفي على البورتريه غموضا إضافيّا. لكن قد يكون الرسّام تعمّد إغفال العمّال كي لا يصرف انتباه الناظر عن حضور الشخصين المهمّين في اللوحة.
في خلفية المنظر تظهر غيوم عاصفة تتجمّع في الأفق كما لو أنها إشارة إلى بداية عصر الثورة الصناعية التي سرعان ما قوّضت احتكار طبقة ملاك الأراضي للاقتصاد ولأدوات الإنتاج.
هذا النوع من الرسم كان يُسمّى بورتريه المحادثة، وهو مصطلح يطلق على لوحات يظهر فيها شخصان بكامل طولهما وهما يتحدّثان أو يمارسان نشاطا اجتماعيّا ما ضمن منظر طبيعيّ.
الرسّام توماس غينسبورو ينتمي إلى عصر كان من ابرز شخصيّاته الرسّام جون كونستابل والمؤلّفان الموسيقيّان فون وليامز وإدوارد إيلغار. كان غينسبورو نفسه مغرما بالموسيقى التي درسها في احد نوادي العزف. وقد اكتشف أن متعة رسم لوحة تشبه المقطع الأوّل من معزوفة أو لحن، أي انك تستطيع أن تخمّن ما الذي سيأتي بعد ذلك.
في ذلك العصر شاعت فكرة تُصوّر الريف الانجليزي على انه جنّة أو "اركاديا" من نوع ما. وقد روّج لهذه الصورة أناس من سكّان المدن كانوا ينظرون إلى الريف كمكان صالح للرؤية أكثر منه للعيش أو السكن. وظهرت فكرة "انجلترا الريفية الخالدة" لأوّل مرّة عندما أصبح الريف أوّل مكان يتمّ اختياره لمشاريع التصنيع والتحديث.
الزوجان اندروز كان لديهما كلّ ما يتمنّيانه ويحلمان به في حياتهما. لكن المحزن هو أن فرانسيس، بعد أن منحت زوجها تسعة أطفال، ماتت وهي بعدُ في سنّ صغيرة نسبيّا، أي في الخامسة والأربعين. وقد تزوّج بعدها روبرت مرّة ثانية وعاش حياة طويلة إلى ما بعد الثمانين. وعندما توفّي دُفن إلى جوارها في إحدى مقابر لندن.
بورتريه "السيّد اندروز وزوجته" كان غير معروف حتى بداية ثلاثينات القرن الماضي. كان البورتريه مملوكا لعائلتي الزوجين طوال مائتي عام. وعندما عُرض للبيع عام 1960 قرّر الناشيونال غاليري بلندن ابتياعه وضمّه إلى مجموعته من اللوحات والأعمال الفنّية.

Thursday, June 06, 2013

لوحات عالميـة – 318

زهــرة
للفنان الأمريكي تومـاس انشـوتـز، 1907

يعتبر توماس انشوتز احد أكثر الرسّامين الأمريكيين أهميّة وموهبة في القرن الماضي. تأثيره يظهر جليّا، خاصّة في أعمال العديد من تلاميذه مثل جون غلاكنز وروبيرت هنري وتشارلز تشيلر. وأكثر أعماله يمكن اعتبارها جسرا بين واقعية معلّمه توماس ايكنز وواقعيّة رسّامي مدرسة آشكان الذين كان بعضهم من تلاميذه.
ولد انشوتز في أكتوبر من عام 1851 في كنتاكي. ويُعرف عنه انه واحد من الرسّامين الذين أسهموا في تأسيس مدرسة داربي للفنّ. كما انه معروف بنيله العديد من الجوائز وبصداقته الوثيقة بـ توماس ايكنز. وفي احد الأوقات سافر انشوتز إلى باريس حيث درس الرسم في أكاديمية جوليان لبعض لوقت.
جرّب الفنّان الرسم بالألوان المائية، كما استخدم الكاميرا في تصوير البيئات الطبيعية ووظّف الصور كدراسات للوحاته. ورغم أنه رسم المناظر الطبيعية، إلا انه كان مشهورا أكثر ببورتريهاته التي أكسبته اسما ومكانة.
من أفضل أعمال انشوتز لوحاته التي تصوّر نساء في حالات تأمّلية. وأشهرها هذه اللوحة التي رسمها عندما كان يزاول التدريس في أكاديمية بنسلفانيا للفنون الجميلة. وفيها يصوّر "ريبيكا ويلن" ابنة رئيس الأكاديمية.
هذا البورتريه يتضمّن تقدير الرسّام للأسلوب الأكاديمي الذي كان يتبنّاه كلّ من معلّمه توماس ايكنز والفنّان جون سنغر سارجنت في تنفيذ بورتريهاتهما التي كانت تتّسم بعمقها السيكولوجي. كما تشي اللوحة بتأثّر الرسّام بأسلوب كلّ من دييغو فيلاسكيز وجيمس ويسلر.
المرأة وقت الراحة كانت موضوعا مفضّلا في الرسم في ذلك الوقت. وتشبيه المرأة الجميلة بالزهرة كان من الأفكار الشائعة في الرسم الأمريكي أواخر القرن التاسع عشر. والفكرة تعكس التعريف الذي كان سائدا آنذاك عن مجال المرأة المناسب، وعن البيت من حيث كونه مكانا للراحة وتجسيدا للجمال والبيئة الداخلية المتناغمة.
المرأة في اللوحة تبدو في حالة تأمّل، لكنّها واعية من الناحية الذهنية والانفعالية، أي أنها ليست مجرّد شيء جميل فحسب. ملامح وجهها تشي بقدر من الانزعاج والتوتّر، ربّما تأفّفا من حياة الراحة والرفاهية، أو بسبب المشاكل التي ترتبط عادة بأسلوب حياة العائلات المنعّمة والثريّة.
قضى انشوتز حياة طويلة ومثمرة كمدرّس ومن ثمّ كرسّام. ويبدو أن التزامه بمهنة التدريس أثّر سلبا على نتاجه الفنّي، إذ لا يتجاوز عدد لوحاته المائة وثلاثين لوحة زيتية.
ورغم أن كثيرا من أعماله هي بورتريهات وصور للشواطئ، إلا أن لوحاته الواقعيّة عن المصانع ومظاهر الحياة الحضرية كانت مصدر إلهام للكثير من تلاميذه الذين أصبحوا في ما بعد رسّامين مشهورين. ومن أشهر تلك الأعمال لوحته ظهيرة عمّال الحديد التي يصوّر فيها قسوة الحياة في المصانع واعتُبرت وقتها انتقادا صريحا لظاهرة التصنيع.
في نهايات حياته، اعتنق توماس انشوتز الفكر الاشتراكي، ثم تقاعد من التدريس في خريف عام 1911 نظرا لتدهور صحّته. وتوفّي في يونيو من العام التالي.

Wednesday, May 29, 2013

لوحات عالميـة – 317

بورتريه غابرييل ديستريه وإحدى شقيقاتها
مدرسة فونتينبلو، 1594

كان هنري الرابع أول ملوّك سلالة بوربون على فرنسا. وقد اعتلى العرش عام 1589م. كان مفاوضا بارعا وجنديّا مقداما في ميادين الحروب. وقد حقّق مستوى من التماسك والوحدة في بلد مزّقتها الصراعات الدينيّة. ولكي يدعم تحالفاته السياسيّة، فقد تأرجح بين الكاثوليكية والبروتستانتية عددا من المرّات وعُرف بتسامحه مع هذين الفرعين المتنازعين دوما من المسيحيّة.
تزوّج هنري الرابع مرّتين: الأولى من ابنة عمّه الكاثوليكية مارغريت دي فالوا، والثانية من ماري دي ميدتشي. لكنّ غابرييل ديستريه كانت المرأة التي مارست عليه النفوذ الأقوى. فقد كانت خليلته وأمّا لأبنائه الثلاثة. كانت عائلة هذه المرأة انتهازية ومتعطّشة للسلطة. وهناك جدل كبير حول ما إذا كانت غابرييل قد استُغلّت من قبلهم أو أنها كانت هي نفسها تطمح لأن تصبح ملكة على فرنسا.
في تلك الأيّام، كان من عادة الملوك أن يتخذوا لأنفسهم عشيقات حتى عندما يكونون متزوّجين من نساء أخريات. وكانت غابرييل، قبل أن يتعرّف عليها هنري، متزوّجة من شخص آخر. لكن الملك ألغى زواجهما ثم خلع عليها لقب ماركيزة ودوقة.
وعندما أصبحت عشيقة للملك عام 1591، كان هو ما يزال متزوّجا من زوجته الأولى الملكة مارغريت. وكانت غابرييل وقتها إحدى أجمل نساء فرنسا. كما كانت امرأة ذكيّة وعمليّة، لذا وثق بها هنري كثيرا وكان يحرص على الاستماع إلى نصائحها. وقد منحها خاتم التتويج ووعدا منه بالزواج. لكنّ الموت هو الذي وقف في طريقها. فقد توفّيت فجأة وهي تضع مولودها الرابع.
في هذه اللوحة التي لا يُعرف اسم الفنّان الذي رسمها، تظهر غابرييل إلى اليمين وهي تجلس عارية في حمّام، بينما تمسك بخاتم التتويج الذي كان هنري قد منحها إيّاه كتعبير عن حبّه لها قبل موتها بوقت قصير. وإلى اليسار، تجلس قبالتها، عارية أيضا، شقيقتها دوقة فيلار. وتبدو الأخيرة وهي "تقرص" ثدي غابرييل في إشارة إلى حملها بطفلها الأوّل من هنري. وما يعزّز هذا الافتراض وجود خادمة في الخلفية تخيط ثياب طفل.
المرأتان تبدوان شديدتي الشبه ببعضهما البعض. خلفيّة الغرفة ثريّة بالألوان والرموز. هناك مثلا جزء من لوحة معلّقة على الجدار الخلفيّ تصوّر جسد شخص عار، كتعبير عن الحبّ. وهناك أيضا الاستخدام البارع لتقنية "الترومب لوي" التي تخلق إيهاما بصريّا تبدو فيه الأجسام ذات بعد ثلاثي. وهناك أيضا الأسلوب الواقعيّ في رسم القماش والستائر التي تؤطّر المشهد.
حسّية هذه اللوحة جعلتها ذات شعبيّة كبيرة في زمانها ولم تفقد فتنتها منذ القرن السادس عشر. ورغم أن الرسّام ظلّ مجهولا، إلا أنها تُعزى إلى أسلوب مدرسة فونتيبلو الثانية. لكنّها أيضا تتضمّن تأثيرات من عصر النهضة الايطاليّ ومن الفنّ الهولنديّ. وقد أصبحت اللوحة من مقتنيات متحف اللوفر اعتبارا من عام 1937م.
أثناء ولادة غابرييل لطفلها الرابع، هرع الملك لرؤيتها في باريس. لكنّها توفّيت في اليوم التالي، أي في احد أيّام ابريل من عام 1599م عن ستّة وعشرين عاما. وقد حزن عليها كثيرا ولبس الثياب السوداء حدادا وأمر بأن تقام لها جنازة تليق بملكة. كان لدى هنري رغبة بجعل غابرييل زوجته وملكته. وكانت هي تنتظر منه أن يطلّق زوجته مارغريت كي يتزوّجها.
كانت غابرييل والملك محبّين ومخلصين لبعضهما البعض. وقد وقفت هي بجانبه أثناء الحروب الدينيّة. ولأنها كانت كاثوليكية، فقد أقنعت الملك البروتسانتي بالتحوّل إلى الكاثوليكية بحكم أن غالبيّة الفرنسيين هم من الكاثوليك. وكانت ترافقه في حملاته العسكرية. حتى عندما كانت حاملا كانت تصرّ على البقاء بجانبه قريبا من ميدان المعركة كي ترعاه وتهتمّ به.
ورغم أنها كسبت تعاطف الملك، إلا أنها لم تكن تحظى بشعبيّة عند أبناء الطبقة الارستقراطية الفرنسية. وقد عبّر هؤلاء عن غضبهم من علاقتها بالملك بنشر كتابات تشير إلى أن المشاكل التي تعاني منها البلاد كانت بسبب تلك العلاقة. ولهذا السبب راجت شائعة بعد وفاتها تقول إن موت غابرييل لم يكن بسبب الولادة المتعثّرة وإنما لأن شخصا ما لم يكن يريد لها أن تصبح ملكة قام بدسّ السمّ لها. المعروف أن هنري اغتيل، هو نفسه، في احد شوارع باريس بعد بضع سنوات من وفاتها.
غابرييل ديستريه تُذكر في التاريخ الفرنسيّ بأغنية مشهورة بعنوان غابرييل الجميلة. وبعد موتها نُشر كتاب بعنوان "المذكّرات السرّية لـ غابرييل ديستريه" يُعتقد بأن من كتبه كان احد أصدقائها.

Wednesday, May 22, 2013

لوحات عالميـة – 316

سينيشيو، أو رأس إنسـان
للفنان السويسـري بـول كْـلِـي، 1922

من الصعب فهم أهميّة بول كلي بالنسبة لفنّ القرن العشرين. في بدايات ذلك القرن، كان عالم الفنّ يمرّ بتحوّلات مهمّة. بيكاسو وكاندينسكي وفان غوخ كانوا يمهّدون الطريق للفنّ التجريدي والتكعيبي وما بعد الانطباعي الذي سيترك بصمته على نصف قرن من الرسم.
وكان كلي احد أهمّ الأسماء المتنفّذة في ذلك الوقت برسوماته شبه البدائية والمليئة بالمعنى وبالغموض. كان مشهورا بتفسيراته التجريدية والسريالية وباستخدامه المبتكر للون والشكل. وقد رفعه حجم عمله وتعقيده إلى مصّاف عباقرة الفنّ في القرن الماضي. كان كثير الإنتاج وعمل بأساليب مختلفة ومتعدّدة وأنتج آلاف الأعمال.
ومن المفارقات انه لا توجد لـ كلي أيّة تحفة فنّية تميّزه عمّن سواه من الرسّامين. كما لا توجد لوحة يمكن القول أنها هي بالذات التي دفعته إلى الواجهة وجعلت منه فنّانا مشهورا.
وعلى الأرجح، لم يكن هو مهتمّا بمثل هذه الأمور. فقد كان شاغله الأكبر تطوير عمله وتجريب أكثر من أسلوب فنّي. ومع مرور الزمن، أصبحت كلّ أعماله تحفا فنّية وكلّ قطعة لها مكانها الخاصّ في لوحة انجازاته الكبيرة.
"رأس إنسان" هي مثال جميل على فنّ بول كلي الذي يبدو أحيانا مبسّطا وطفوليّ السمات، لكنّه مليء بالمعاني والدلالات. وقد اختار الدائرة شكلا أساسيّا وقسّمها إلى نطاقات لونية وهندسية. ثمّ رسم شكلا مستديرا احمر اللون للعينين الشبيهتين باللوز. وشيئا فشيئا تتطوّر الارتباطات بالشخص وتصير أكثر وضوحا، فيصبح الخطّ العمودي أنفاً والمربعات فماً والدائرة رأس طفل. أي أن الرسّام ابتكر شخصيّته من خلال المكوّنات والأشكال الهندسية.
رسم كلي اللوحة أثناء ما كان يسمّيه بفترة بوهاوس، أي عندما كان يمارس التدريس في بوهاوس في غرب فيمار التي كانت آنذاك عاصمة لألمانيا. وقد عمل هناك أكثر من عشر سنوات أنتج خلالها فنّا متميّزا. كانت تلك المرحلة بالنسبة له فترة تجريب واستكشاف للألوان والمواضيع الجديدة.
أهمّ خصائص هذه اللوحة هي الألوان الجميلة وتبايناتها البارعة والمثيرة للاهتمام، خاصّة مع الخلفية البرتقالية. بناؤها البسيط والمسطّح يعكس اهتماما طالما فتن كلي لسنوات طويلة، وهو التعبير الطفوليّ. كان كلي يحاكي الأعمال الفنّية للأطفال عمدا ويضمّن فنّه تأثيرات طفولية. وكان يؤمن بأن تطوّر الإنسان في مرحلة الطفولة هو تطوّر عام في جميع الثقافات، وأن تعبير الطفل عن ذاته يفسّر جوهر هذه الفكرة.
ولد بول كلي في ديسمبر من عام 1879 في سويسرا. ودرس الرسم في ميونيخ لمدّة ثلاث سنوات. ثمّ أصبح عضوا في جماعة من التعبيريين الألمان عُرفوا باسم الفارس الأزرق وكان يتزعّمهم كاندينسكي وفرانز مارك. كان أسلوب الرسّام متأثّرا بالتعبيرية والتكعيبية والسريالية. وقد قارن فنّه ذات مرّة بجذور شجرة تجمع ما يأيتها من الأعماق وتناوله للأشجار الأخرى.
عنوان هذه اللوحة (أي سينيشيو) يشير إلى اسم نوع من النباتات السامّة من ذوات الأزهار الدائرية، كما يمكن أن يحيل إلى اسم الفيلسوف الروماني المشهور سينيكا. وقد عُرف عن كلي انشغاله برنين الكلمات ولعبت العناوين دورا مهمّا في أعماله، سواءً كانت ساخرة أو شاعرية أو حزينة.
وسينيشيو تُعتبر جزءا من سلسلة من اللوحات التي يتناول فيها الفنّان مواضيع المسرح والممثّلين والغموض الكامن في التعبير الفنّي وفي البشر. وأحد التفسيرات المعطاة للوحة هو أن هناك شبها ما بين الأزهار والوجه الذي يمكن اعتباره زهرة الجسد الإنساني.
زاول كلي التدريس في بوهاوس حتى عام 1930 عندما حصل على وظيفة في أكاديمية دوسلدورف للفنون الجميلة. لكن بعد خمسة أعوام فُصل من عمله الأخير وأجبر على الرحيل مع زوجته إلى بيرن. وفي سويسرا عانى من المرض كثيرا لكنه استمرّ يبدع أعمالا مدهشة إلى حين وفاته عام 1940 وهو في سنّ الستّين.
الاتجاهات الحديثة في الرسم تدين بالكثير من الفضل لـ بول كلي وضربات فرشاته البسيطة، ولكن المليئة بالمعاني، والتي ما يزال يتردّد صداها إلى اليوم في أساليب الكثير من الرسّامين حول العالم. أشكاله التجريدية ورموزه المرحة تعبّر عن أكثر الموضوعات تنوّعا التي رسمها من خياله الخصب والمليء بحبّ الأدب والموسيقى والشعر. وقد تمكّن من أن يقف متميّزا عن الحشود بلوحاته التي يسهل على العين المدرّبة التقاطها وتمييزها عن لوحات سواه.
كما أن التعرّف على أعماله هو احد الأمور المهمّة بالنسبة لأيّ محبّ للفنّ وكذلك للمؤرّخين والطلاب، لأنه يشكّل جسرا ما بين الأساليب الفنّية السابقة والأعمال التي تُنتج اليوم.