سيمفـونيـة الـرعـاة
للفنان الإيطالي جـورجيـونـي، 1509
يعتبر جورجيوني الرسّام الأكثر غموضا في تاريخ الفن الأوربّي. إذ لا يُعرف عنه أو عن حياته الكثير. غير أن العديد من النقاد يتفقون على أنه كان شخصية متميّزة في زمانه. وبالإضافة إلى كونه رسّاما، كان جورجيوني شاعرا وأديبا وموسيقيا وكان مقرّبا من أوساط النبلاء والعائلات الأرستقراطية في فينيسيا.
و"سيمفونية الرعاة" ليست إحدى أجمل لوحاته فحسب، بل وإحدى التحف الفنية الكبيرة التي أنتجها عصر النهضة الإيطالي. ويقال إن تيتيان، تلميذ جورجيوني وأقرب أصدقائه، أكمل رسم هذه اللوحة بعد وفاة جورجيوني المفاجئة عن عمر لا يتجاوز الرابعة والثلاثين. وليس مستغربا أن تُنسب اللوحة أحيانا الى تيتيان بالنظر الى التشابه الكبير بين أسلوب الإثنين.
موضوع اللوحة هو امتداد للفكرة اليونانية القديمة عن "أركاديا" وعن تقاليد الحياة الرعوية والريفية، حيث يتعايش الإنسان مع الطبيعة جنبا إلى جنب في وئام وانسجام. وقد بُعثت هذه الفكرة من جديد في المراحل الأخيرة من عصر النهضة وبدايات عصر الباروك.
وكان من عادة الفنانين في ذلك الوقت رسم مناظر لطبيعة مثالية تصوّر حياة الرعاة، لكنها لا تخلو من أفكار ترمز للأدب والشعر والموسيقى والربيع والجمال والحبّ والحقيقة. وغالبا ما يتم توظيف شخصيات خيالية وأسطورية مثل الآلهة والحوريّات اللاتي يظهرن إما عاريات أو مرتديات ملابس كلاسيكية.
في مقدّمة اللوحة نرى أربعة أشخاص: رجلين بملابس أنيقة وامرأتين عاريتين. الرجلان يبدوان كما لو أنهما يجريان تدريبات على الموسيقى.
وإلى اليمين تجلس إحدى المرأتين وظهرها للناظر بينما تمسك بآلة ناي. في حين تنشغل الأخرى، إلى اليسار، بملء إناء زجاجي شفاف من مياه حوض.
وثمّة احتمال بأن يكون الماء والزجاج رمزا للصفاء والنقاء اللذين ينظر إليهما كتجسيد لحقيقة الفن.
من الواضح أن الرجلين لا يهتمّان كثيرا بوجود المرأتين. وهذا يطرح سؤالا عن حقيقة وجودهما، إذ قد تكونان مجرّد صورة ذهنية، أي أنهما لا توجدان سوى في خيال الرجلين.
وربّما أرادهما الرسّام رمزا للإلهام أو الإبداع. وقد يكون حضورهما في اللوحة استدعاءً لبعض الأساطير القديمة التي تتحدّث عن الحوريات اللاتي يجتذبهن سحر الموسيقى وجمال الأنغام.
في المشهد ليس هناك ما يدلّ على حوار أو تبادل للكلام. والاتصال بين الشخصيات الأربع يتم فقط من خلال الموسيقى والعزف.
وفي خلفية اللوحة نرى راعيا بمعيّة قطيعه ومنزلا يقوم على ربوة تعلوها سماء غائمة.
ورغم غموض هذه اللوحة فإنها تروق للعين والمشاعر. فالألوان فيها دافئة والأضواء ناعمة. ومن الواضح أن جورجيوني لا يعير اهتماما كبيرا بالخطوط بل يركّز على مناطق اللون. كما أن المنظر الضبابي للتلال في الخلفية يعطي المشهد عمقا، ما يذكّرنا بمناظر دافنشي الحالمة.
ومن التفاصيل الأخرى التي تجذب الانتباه في اللوحة أسلوب الرسّام المتفرّد في تمثيل الأضواء الذهبية المشعّة وفي تعامله مع عنصري الضوء والظل.
ويمكن القول إن "سيمفونية الرعاة" نموذج لمناظر عصر النهضة التي تصوّر أجواءً رعوية حالمة لا تخلو أحيانا من إحساس بالحزن والتوق الممزوج بشيء من الغموض والشاعرية.
والمتمعّن في تفاصيل اللوحة لا بدّ وأن يتذكّر لوحة مانيه المشهورة غداء على العشب Manet's Luncheon on the Grass، التي قد يكون الفنان الفرنسي رسمها وفي ذهنه لوحة جورجيوني.
كان جورجيوني مشهورا بوسامته اللافتة وحضوره الطاغي. وقد تتلمذ على يد بلليني وكان الاثنان، بالإضافة إلى تيتيان، يمثلون نخبة رسّامي فينيسيا في نهايات القرن الخامس عشر وبدايات السادس عشر.
ويعتبر كتاب جورجيوني للكاتب هيربرت كوك من بين أفضل المراجع التي تتحدّث عن حياة وأعمال هذا الفنان وتسلّط الضوء على إسهامات فينيسيا في فنّ عصر النهضة الإيطالي.