الكــابـــوس
للفنان السويسري جون هنـري فوزيـلي، 1782
قد تكون هذه اللوحة مألوفة للبعض. فقد ظهرت في الكثير من أفلام ومسلسلات الرعب والدراما البوليسية، كما ظهرت على غلاف رواية ميري شيلي الشهيرة فرانكنشتاين. بالإضافة إلى ظهورها المتكرّر على غلاف أكثر من كتاب علمي يتحّدث عن الكوابيس والأحلام المزعجة.
وقد اعتبرت اللوحة في حينها عملا تشكيليا مبتكرا، لأنها تتحدّث عن طبيعة الأحلام وعالم اللا وعي، وهي فكرة لم يكن احد من الرسّامين قد تطرّق لها من قبل.
في اللوحة نرى امرأة ترتدي ملابس بيضاء وتنام على سرير في غرفة ذات ستائر حمراء داكنة.
طريقة اضطجاع المرأة ووضعية رأسها ويديها تدلّ على أنها تمرّ بحالة نوم غير مريحة تبدو معها بلا حول ولا قوّة.
لكننا لا نحتاج لمعرفة السبب، ففوق صدر المرأة مباشرة يجثم كائن قبيح المنظر جامد النظرات أشبه ما يكون بالغول.
وإلى يسار الغرفة نرى مخلوقا آخر اسود اللون غريب الهيئة أشبه ما يكون بالحصان وقد راح يرمق المرأة بعينين تلمعان في الظلمة.
ورغم بشاعة ملامح الوحش إلى اليمين وهيئته الغريبة، فإنه لا يبدو في وضع من يحاول إيذاء المرأة أو المساس بها. بل انه اقرب ما يكون إلى حال التفكير والتأمّل.
صورة الوحشين الظاهرين في اللوحة قد يكون الرسّام استوحاهما من الكتب القديمة التي تورد قصصا عن مخلوقات بهيئات نصف بشرية.
ولكي نفهم جوّ اللوحة ومضمونها بشكل أفضل، لا بدّ أوّلا من الحديث قليلا عن جون فوزيلي وعن ملامح وسمات العصر الذي عاش فيه.
ولد هذا الفنان في سويسرا لكنه قضى معظم حياته في بريطانيا التي عمل فيها رسّاما وشاعرا وناقدا.
في تلك الأيام كانت الحضارة القوطية تعيش ذروة ازدهارها. ومعلوم أن الأفكار والقيم التي اتسمت بها الحقبة القوطية نتجت كردّ فعل على الاتجاه العقلاني الذي جاء به وكرّسه عصر التنوير الأوربي والكلاسيكية الجديدة.
كانت الثيمات الرائجة في الأدب والفن القوطي، أي ابتداءً من النصف الثاني من القرن الثامن عشر، تتمثل في الموضوعات الفانتازية وعلم الغيب وظواهر ما فوق الطبيعة.
وقد شاعت في ذلك الوقت قصص كثيرة تتحدّث عن الموتى الذين يرفضون أن يرتاحوا في قبورهم، وعن الجنّيات اللاتي يغرّرن بالبشر، والوحوش التي تتخّذ صورة مسوخ بشرية مثل فرانكنشتاين وغيره.
كما راجت في تلك الحقبة حكايات متواترة عن كائنات شرّيرة تخرج في آخر الليل لتغتصب النساء وهن نائمات.
ويظهر أن فوزيلي استمدّ من الفولكلور والطبّ والمخيال الشعبي السائد آنذاك عناصر وظّفها في رسم هذه اللوحة المشحونة بالرعب والترقّب.
ورغم الشعور بالخوف الذي يثيره جوّ اللوحة، فإن لباس المرأة المستفز نوعا ما، وطريقة اضطجاعها، ربّما يوحيان بمزيج من الإحساس بالألم والإغواء والمتعة الحسية.
وهناك من يقول بأن المرأة في اللوحة ليست سوى عشيقة الفنان التي كان قد وقع في حبّها عندما كان يعيش في زيوريخ.
لكن المهم أن لوحة "الكابوس" حققت نجاحا باهرا منذ أن عرضت لأوّل مرّة في العام 1982م.
بل لقد بلغ من شعبيّتها أن فوزيلي اضطرّ إلى رسم عدّة نسخ منها بناءً على طلب بعض زبائنه.
والمعروف أن العالم الشهير سيغموند فرويد، رائد مدرسة التحليل النفسي، كان يعلق هذه اللوحة في عيادته بفييّنا جنبا إلى جنب مع لوحة رمبراندت "درس في التشريح".
وقد ظلت لوحة فوزيلي مثارا للعديد من التفسيرات والقراءات المتباينة من قبل علماء النفس الذين رأوا فيها موضوعا خصبا لتنظيراتهم واجتهاداتهم.
بعضهم رأى فيها تجسيدا لرغبة لم يتم إشباعها، بينما رأى فيها البعض الآخر مظهرا من مظاهر الغيرة التي يتحوّل فيها عشيق المرأة إلى وحش مترصّد تحت ثقل شعوره بالحقد والميل للانتقام.
وهناك من نقاد الفنّ من يرجّح بأن اللوحة ألهمت سيلفادور دالي رسم لوحته بعنوان "امرأة نائمة وحصان وأسد".
وبوحي من هذه اللوحة أيضا كتب الشاعر ايراسموس داروين قصيدته "الحديقة النباتية".
في ما بعد، أصبحت الكوابيس والأحلام المزعجة موضوعا مفضّلا في العديد من الأعمال السينمائية والدرامية والأدبية.
وغالبا ما لا تتغيّر العناصر الموظّفة من اجل إنتاج مشهد يحبس الأنفاس ويزرع الرعب والهلع في قلب المتلقي. فهناك دائما رجل أو امرأة مستلقية بعينين نصف مفتوحتين. وعبر النافذة المواربة يلوح من بعيد منظر غيمة تمرّ متثاقلة أمام قمر شاحب. وعندما يبدأ الكابوس يظهر في المشهد آلة موسيقية "بيانو غالبا" ويد سوداء تحاول فتح الباب وحيوان ميّت وجنس وموسيقى وموت، إلى آخره..
ترك جون هنري فوزيلي عند وفاته حوالي ستّين لوحة أشهرها الكابوس، والساحرات الثلاث وحلم الراعي.
ومواضيع لوحاته تشبه كثيرا مواضيع لوحات معاصره الفنان والشاعر وليام بليك، حيث الفانتازيا والرعب والجنس والسحر هي العناصر المهيمنة.
وقد كان فوزيلي منجذبا كثيرا إلى شكسبير وجون ميلتون صاحب الرواية المشهورة الفردوس المفقود. وأعمال هذين الاثنين تضجّ هي الأخرى بقصص الشياطين والملائكة والبيوت المسكونة والقلاع المظلمة والسحرة والمجانين والأشباح والعنف والجريمة.