Friday, February 16, 2018

لوحات عالميـة – 449

إعـدام توريخـوس ورفـاقه على شاطـئ ملقـا
للفنان الاسباني انطـونيو غيسـبيـرت، 1887

بعض الأعمال الفنّية عبارة عن دعاية. وليس هذا بالشيء الجديد أو المستغرب، إذ لطالما وُظّف الفنّ عبر العصور المختلفة لكي يخدم غرضا سياسيا أو يروّج لرسالة اجتماعية أو أيديولوجية ما.
في عام 1823، قام الجيش الفرنسيّ بغزو اسبانيا. كان ملك فرنسا آنذاك، لويس الثامن عشر، قد أصبح قلقا جدّا من تطوّرات أوضاع جارته الجنوبية، فقرّر أخيرا التدخّل كي يطيح بالحكومة الليبرالية ويعيد الملكيين الإسبان إلى السلطة.
وكان حكم الملك الاسبانيّ فرديناند السابع قد اُسقط قبل ذلك بتسع سنوات. وقبل أن يعيده الفرنسيون إلى السلطة، كان الملك قد تعهّد باحترام الدستور الذي سنّه الليبراليون.
لكن بعد عودته إلى الحكم، قام الملك بإلغاء الدستور وأعلن عن عودة الحكم المطلق. وأدّى ذلك إلى نشوب عدد من الثورات في أرجاء اسبانيا. ثم بدأ فرديناند وأنصاره عهدا وُصف في التاريخ الاسبانيّ بـ "العشرية المشئومة"، فشدّدوا قبضتهم على الحكم وفرضوا رقابة مشدّدة على الصحافة وقاموا بملاحقة وقتل الزعماء الليبراليين واحدا تلو الآخر.
وكان أحد هؤلاء يُدعى خوسيه ماريّا توريخوس. كان هذا الرجل وزيرا للحرب أثناء الحكم الليبراليّ للبلاد. كما كان مؤمنا بالقيم الليبرالية ومناهضا للأنظمة الملكية ذات الحكم الشموليّ التي كانت تحكم أوربّا آنذاك. وكان توريخوس قد قاتل في حروب نابليون وشارك في عدد من الحركات المضادّة للحكم الملكيّ في بلده اسبانيا.
كان الإسبان وقتها توّاقين لمجتمع أكثر حرّية وأمنا. لكن تاريخ البلاد اصطبغ في تلك الفترة وحتى ثلاثينات القرن العشرين بالحروب الأهلية الدامية والمستمرّة.
وعندما تدخّل الجيش الفرنسيّ لإعادة الملكية، فرّ العديد من الجمهوريين الإسبان إلى المنافي. واختار توريخوس أن يلجأ إلى انجلترا التي كان يحظى برعايتها ودعمها. لكن في ديسمبر من عام 1831، قرّر هو وثلاثة وخمسون من رفاقه أن يعودوا من منفاهم في لندن كي يبدءوا تمرّدا ضدّ حكم الملك فرديناند.
وعند وصولهم إلى ملقا، نصب لهم حاكم المدينة شرَكا عندما أوهمهم بأنه سيدعم ثورتهم، بينما كان قد وشى بهم لدى الملكيين. وقد تمّ اعتقال توريخوس ورفاقه بمجرّد وصول السفينة التي أبحروا على متنها إلى شاطئ ملقا. وبعد أسبوع أصدرت السلطة في مدريد حكما بإعدامهم بلا محاكمة.
وقعت تلك الحادثة قبل اكتشاف آلات التصوير. وكانت الطريقة المتاحة للناس آنذاك كي يعرفوا تفاصيل الأحداث المهمّة هي إمّا بسماعها مباشرة من شهود عيان أو بتجسيدها من خلال عيون الرسّامين.
الفنّان انطونيو غيسبيرت رسم واقعة إعدام توريخوس ورفاقه بعد حدوثها بخمسين عاما. وقد سافر الرسّام كثيرا على مدى سنتين وقابل عائلات الرجال القتلى ليعرف المزيد عن شخصيّاتهم وكيف كانت تبدو ملامحهم.
حادثة الإعدام تلك صدمت الإسبان بعنف. وبطبيعة الحال لم يكن مقدّرا للثوّار وقتها أن يوظّفوا هذه اللوحة للدعاية السياسية لأنها لم تكن قد رُسمت بعد، لكنها أصبحت لوحة مهمّة ومقدّرة كثيرا لخصائصها الفنّية الكامنة وباعتبارها صرخة في وجه الحكم الشموليّ.
وقد اختار الفنّان أن يرسم الواقعة على لوحة ضخمة وأن يجعل تعبيرات الأشخاص فيها واقعية بقدر الإمكان، كما استخدم أيضا مخيّلته الخاصّة لرسم بعض التفاصيل. ولهذا الغرض، زار الشاطئ عدّة مرّات وعاين المكان الذي وقعت فيه عملية الإعدام، كما درس طبيعة الطقس السائدة في نفس الوقت من السنة الذي حدثت فيه المذبحة.
في اللوحة، يظهر توريخوس في المقدّمة بهيئة الرجل الرابع من اليمين الذي يرتدي ياقة بيضاء ويمسك بيدي رجلين احدهما يرتدي معطفا رماديّا والآخر عجوز معصوب العينين.
بعض الرجال الواقفين يظهرون وهم معصوبو الأعين. بينما يبدو الكهنة وهم يتلون الصلوات الأخيرة على الرجال الذين ينتظرون موتهم. أما فرقة الإعدام التي ستنفّذ عمليات القتل فتقف خلفهم. والرسّام يعزّز توتّر المشهد بعرض جثث الأشخاص الذين أُطلقت عليهم النار للتوّ.
هذا المشهد المذهل حدث في فجر احد أيّام الشتاء على الشاطئ. الأمواج تبدو هادئة والسماء ملبّدة بالغيوم، وعلى البعد تلوح بعض القرى النائمة في الضباب.
منظر هذه الدراما الإنسانيّة الرهيبة يتباين بحدّة مع جمال وهدوء الطبيعة المحيط. ومن الواضح أن الرسّام ركّز على تصوير الوقفات والتعبيرات التي تعلو الوجوه وعلى الجوّ المشحون بالخوف والرهبة.
رسم غيسبيرت هذه اللوحة في زمن ازدهار الأفكار الرومانسية والقومية في أوربّا، وهو الوقت الذي شهد تشكّل الدول الحديثة وانتشار العنف والحروب الأهلية في غير مكان في أوربّا.
والرسّام نفسه كان ليبراليا. وعلى الرغم من انه توفّي في بدايات القرن الماضي، إلا أن المشاعر التي رسم بها اللوحة والتأثير الذي أحدثته عاشت بعده زمنا طويلا. وما من شكّ في انه أراد أن يكون للوحة مضمون سياسيّ بالإضافة إلى طابعها الفنّي والإبداعيّ.
ويمكن أيضا اعتبار الصورة بمثابة بيان يدافع عن حرّية الإنسان التي سحقها حكم غاشم. والمعروف أن غيسبيرت استلهم مواضيع العديد من لوحاته من أحداث التاريخ الاسبانيّ. وقد رسمها جميعا بأسلوب عاطفيّ وحاول أن يروّج فيها للقضايا والأفكار الليبرالية التي كان يتبنّاها.
ولد انطونيو غيسبيرت في ديسمبر من عام 1834. ودرس الرسم في أكاديمية سان فرناندو، ثم تتلمذ على يد الفنّان خوسيه مادرازو.
وفي ما بعد، أي في عام 1868، أصبح مديرا لمتحف برادو المشهور في مدريد حيث تُعرض اللوحة اليوم. وبعد ذلك بسنوات، انتقل للعيش في باريس التي ظلّ فيها إلى أن توفّي في نوفمبر من عام 1901.