Sunday, June 19, 2011

لوحات عالميـة – 280

أنـا والقـريـة
للفنّان الروسي مـارك شاغـال، 1911


يحتلّ مارك شاغال مكانة فريدة في عالم الرسم. وطوال حياته، كان فنّانا مستقلا. ولطالما انتُقد على قلّة الواقعية في فنّه.
كان من عادته أن يملأ لوحاته بصور لملائكة وعشّاق وحيوانات طائرة وعازفي كمان وديَكة وعمّال سيرك. ويمكن القول إن مناظره تعكس إيمانه القويّ بالمعجزات وتعبّر عن جمال الخليقة وعن الحكمة اللانهائية للخالق.
لوحته هنا هي تمثيل حالم للماشية والمراعي والمزارع والبيوت الريفية البسيطة التي لم تبارح ذاكرته منذ كان طفلا. تنظر إلى هذا اللوحة فيساورك إحساس بأنها لعبة صاغها وأبدعها عقل طفل.
رسم شاغال اللوحة بعد عام من وصوله إلى باريس وكان في ذلك الوقت في الخامسة والعشرين من عمره.
وفي اللوحة يستذكر بعضا من تفاصيل مجتمعه الأصلي في فيتبسك التي كانت آنذاك جزءا من أراضي روسيا قبل أن يجري ضمّها في ما بعد إلى أراضي جمهورية بيلاروس أو روسيا البيضاء.
في القرية، كان الفلاحون والحيوانات يعيشون جنبا إلى جنب في اعتماد متبادل. الربيع الذي ترمز له شجرة الحياة أسفل اللوحة هو نوع المكافأة التي يجنيها الفلاحون على شراكتهم.
في المجتمع الذي جاء منه شاغال، كانت الحيوانات تشكّل نوعا من الصلة التي تربط البشر بالكون. والأشكال الدائرية الكبيرة في اللوحة ترمز إلى دوران الشمس، وكذلك إلى شكل القمر والأرض.
وقد استوحى الرسّام معمارية اللوحة من المساحات المتكسّرة للتكعيبية. لكن لوحة شاغال هي نسخة شخصية خاصّة به.
في مقدّمة المنظر نرى رجلا ذا وجه اخضر يلبس صليبا حول عنقه وتعلو رأسه قبّعة، بينما يمسك بيده غصن شجرة ويحدّق مباشرة في رأس ماعز ضخم انطبعت على وجهه صورة ماعز اصغر تحلبه امرأة. وفي الخلفية يظهر عدد من البيوت وكنيسة ومزارع يرتدي ملابس سوداء وامرأة في وضع مقلوب.
عندما كان صبيّا، كان الرسّام شغوفا بالهندسة من خطوط وزوايا ومثلّثات ومربّعات.. إلى آخره. وقد قال في إحدى المرّات إن هذه الأشكال تحمله إلى آفاق بعيدة وساحرة.
في باريس، استخدم شاغال بُنى هندسية كان يوظّفها في لوحاته تعبيرا عن حنينه إلى وطنه الأصلي. وإذا صحّ أن التكعيبية كانت في الأساس فنّا للمجتمع الطليعي الحضري، فإنه يمكن اعتبار "أنا والقرية" حكاية ساحرة تجسّد حنين الإنسان إلى بساطة العيش في الأرياف حيث تختلط الكائنات بعضها ببعض في تناغم وانسجام.
يقول شاغال: بالنسبة للتكعيبيين، فإن اللوحة هي عبارة عن سطح مغطّى بالأشكال في ترتيب معيّن. وبالنسبة لي، اللوحة هي سطح مغطّى بتصاوير للأشياء ولا أهمّية فيها للمنطق".
بعض مؤرّخي الفنّ يشيرون إلى شاغال باعتباره شاعرا وحالما كبيرا. وطوال حياته كان يلعب دور اللا منتمي والفنّان غريب الأطوار. وبفضل خياله الواسع وذاكرته الممتازة، تمكّن من استخدام موتيفات ومواضيع قويّة في لوحاته مثل مَشاهد الريف وحياة الفلاحين.
حياة مارك شاغال وأسلوبه الفنّي رسما له في أذهان الكثيرين صورة مواطن عالمي ما يزال يعيش بداخله طفل. وكثيرا ما يبدو على هيئة شخص غريب وضائع بسبب الأحداث الغريبة والمتناقضة التي كان شاهدا عليها.
وقبل سنوات من وفاته في فرنسا عام 1985، كان شاغال قد شهد تبدّد الآمال العريضة التي كان يعقدها على الثورة الروسية والخيبة الكبيرة التي انتهت إليها تلك الثورة. ووصل إحباطه إلى منتهاه عندما علم بالمصير المشئوم الذي آلت إليه قريته التي نشأ فيها وصوّر أجواءها الساحرة في لوحاته. إذ تسببّت الحرب العالمية الثانية في تدمير القرية تدميرا تامّا وقتل غالبية سكّانها.