حالـة إلهــام
للفنان الفرنسي غِـيـوم سِيـنـيـاك، 1911
الذي ينظر إلى هذه اللوحة ويستوقفه تناغم ألوانها ورقّة تفاصيلها قد يظنّ أنها لوحة منسيّة أو غير معروفة لـ ويليام بوغورو. وهذا الانطباع ليس في مكانه تماما، مع أن له ما يبرّره.
فـ غِيوم سينياك كان احد الرسّامين الذين تتلمذوا على بوغورو وتأثروا كثيرا بأسلوبه الأكاديمي وبطريقة اختياره لمواضيع لوحاته.
ومن هنا قرب الشبه بين لوحات الاثنين.
وربّما كان هذا احد الأسباب المهمّة في أن اسم سينياك غير معروف كثيرا اليوم. فلوحاته تكاد تكون نسخة طبق الأصل عن لوحات بوغورو. وهذه السمة لوحدها كفيلة بأن تجعل منه رسّاما يفتقر إلى الأصالة والتجديد إلى حدّ ما.
لكنْ قد يكون عذر سينياك هو انه لم يجد في زمانه رسّاما جديرا بالمحاكاة والتقليد خيرا من أستاذه الذي لا يتردّد بعض النقاد اليوم في وصفه بأنه احد أعظم الرسّامين الذين عرفهم تاريخ الفنّ.
وعلى كلّ، فقد كان سينياك مشهورا كثيرا في عصره وكان احد الفنانين الذين كانوا يعرضون أعمالهم بانتظام في صالون باريس ونال على بعضها العديد من الجوائز.
من جهة أخرى، كان هواة الفنّ وجامعو التحف الفنية من الأوربيين والأمريكيين مفتونين كثيرا باقتناء مناظره التي لا تنقصها الرومانسية وسعة الخيال.
ومنذ تسعينات القرن الماضي انتعش الطلب مجدّدا على لوحاته في وقت أعيد الاعتبار للفنّ الأكاديمي ورموزه الكبيرة.
والحقيقة أن لوحات سينياك كلها جميلة وتروق للعين، ما يجعل اختيار واحدة منها بالذات أمرا في غاية الصعوبة. والمشكلة الأكبر تتمثّل في أن معظم لوحاته عارية. وحتى في اللوحات الأقل عُريا، عمد الرسّام إلى إلباس نسائه ثيابا شفّافة تكشف عن مفاتنهن أكثر مما تستر.
لكنْ، والتزاما بنهج المدوّنة، استقرّ الاختيار على هذه اللوحة رغم أنها ليست أشهر أعمال الرسّام.
اللوحة تصوّر امرأة شابّة تجلس في حالة تأمّل وسط طبيعة خضراء. ويبدو أن المرأة بانتظار الإلهام الذي يأخذ هيئة ملاك صغير بجناحين وملامح بريئة. الملاك يجلس على الطرف العلوي للكرسي الذي تجلس عليه المرأة، بينما يوشوش في أذنها بكلمات قد تكون المفتاح الذي يساعدها على رسم لوحة أو كتابة قصيدة ما.
وجه المرأة ذو ملامح جميلة تذكّرنا بالجمال المثالي الذي كان الرسّامون يستقونه من النماذج الرومانية واليونانية القديمة.
الألوان هنا دافئة ومتناغمة، والخطوط ناعمة، والملابس المنسدلة مرسومة بطريقة غاية في البراعة والرقّة.
وممّا يلفت الانتباه في اللوحة أيضا الأسلوب المتناسب الذي رسم به الفنّان الكتفين وانثناء الجسد وميلان الرأس قليلا إلى اليسار.
اللوحة ذات لمسة رخامية ناعمة. ويبدو فيها واضحا تأثر سينياك بأسلوب مواطنه الرسّام نيكولا بوسان وبرسّامي عصر النهضة الايطالي الذين كانوا يولون أهمية كبيرة للتوليف المتناغم والتوازن الدقيق والمحسوب بين الخطوط والألوان والظلال.
غير أن بوغورو يظلّ الحاضر الأكبر في كلّ تفصيل وفي كلّ ضربة فرشاة، بل وحتى في الفكرة التي تتناولها هذه اللوحة.
لوحات سينياك الأخرى تصوّر، هي أيضا، نساءً صامتات أو متأمّلات في طبيعة زهرية لا تخلو أحيانا من صور لنوافير وكراسي وأباريق من الرخام.
ومن الملاحظ انه أعطى بعض نسائه شيئا من ملامح نساء ميكيل انجيلو، غير انه وضعهم في قلب الطبيعة كأنما ليخلّد جمالهم الشائك والمثالي.
بعض مناظر سينياك تنطق بالبراءة. وبعضها الآخر لا يخلو من فتنة وغواية.
وربّما لهذا السبب، هي تروق للتقليديين والحداثيين على حدّ سواء.
فكرة التأمّل والإلهام في الرسم تعود إلى نهايات القرن التاسع عشر ونهايات القرن العشرين.
في ذلك الوقت كان الرسّامون يركّزون على الأفكار والانفعالات الذهنية المختلفة كالتأمّل والصمت والإلهام والتذكّر والعزلة وغيرها من الحالات التي تتناول المسائل العاطفية والروحية.
وأحيانا كانت رسوماتهم مرتبطة بتأثيرات دينية أو شعرية أو فلسفية.
وكان بعض الأدباء والفلاسفة يعتقدون بأن التأمّل في الوجوه الخفيّة للحياة هو أساس الوعي والإبداع.
وبعضهم كان يرى أن الفنّ بحدّ ذاته هو نوع من التأمّل الذي يمتّع العقل ويثري الحواسّ. كما أن الأعمال الفنية العظيمة ليست سوى نتاج للتأمّل الذي يفضي بدوره للإلهام ومن ثم الإبداع.
ومن أشهر فنّاني تلك الحقبة ممن صوّروا التأمّل والعزلة في رسوماتهم كلّ من ويليام همرشوي واوديلون ريدون وغيرهما.