تشكيــل رقــم 8
للفنان الروسي فاسيلي كاندينسكي، 1923
لوحات كاندينسكي ليست من ذلك النوع الذي يروق للعين أو يريح الأعصاب. بل إن بعضها محيّر ومزعج ومشوّش للذهن. والمفارقة هي أن نسخا كثيرة من لوحات هذا الفنّان التي تستعصي على الفهم أو التفسير وجدت طريقها اليوم إلى كلّ مكان تقريبا؛ من ردهات المستشفيات إلى غرف الجلوس بالمنازل إلى المكاتب وحتى إلى جدران المقاهي والمطاعم الكبيرة.
ومن السهل التعرّف على لوحات كاندينسكي وتمييزها عن لوحات سواه بدوائرها الملوّنة وزواياها وخطوطها المتعرّجة والمنحنية والمتقاطعة والمتوازية وبأصواتها وغيومها الأثيرية وذبذباتها وهالاتها المضيئة والمتوهّجة.
وينظر بعض النقاد الى كاندينسكي باعتباره احد أكثر الفنانين أصالة ونفوذا في القرن العشرين.
وقد أدّت نظريته حول "الضرورة الداخلية لتفسير الأفكار الانفعالية" إلى ظهور أسلوب تجريدي جديد في الرسم يرتكز على الخصائص اللاتمثيلية للون والشكل.
وتشكيلات كاندينيسكي كانت ذروة جهوده لإبداع "لوحات فنية نقية" توفّر نفس القوّة الانفعالية التي توفّرها المؤلفات الموسيقية.
كان كاندينسكي ينظر إلى التشكيلات باعتبارها تلخيصا لأفكاره ومواقفه الفنية، فهي تشترك في العديد من السمات التي تجسّد الأشكال التعبيرية للوعي والسموّ التمثيلي من خلال التصوير المجرّد.
ومثلما تحدّد السيمفونيات الموسيقية معالم معيّنة من تطوّر مهنة المؤلف، فإن تشكيلات كاندينسكي كانت تمثل ذروة رؤيته الفنّية في مرحلة معيّنة من مراحل مسيرته الفنية.
في لوحته هنا، يركّز كاندينسكي على الإيقاع الهندسي للتشكيل. وقد أعاد رسم هذه اللوحة عشر مرّات في العام 1923 كي يعكس من خلالها تأثير البنائية التي استوعبها في روسيا فبل أن يعود إلى ألمانيا لمزاولة التدريس.
وفي التوليف انتقل الفنان من اللون إلى الشكل باعتباره العنصر التشكيلي المهيمن. فالأشكال المتباينة توفر التوازن الديناميكي للعمل، والدائرة الكبيرة في أعلى اللوحة إلى اليسار تقابلها شبكة من الخطوط المحدّدة والدقيقة في الجزء الأيمن.
والفنان يستخدم ألوانا مختلفة داخل الأشكال لتنشيط بنائها الهندسي: دائرة صفراء بهالة زرقاء مقابل دائرة زرقاء بهالة صفراء.
أما الخلفية فمهمّتها تعزيز ديناميكية وعمق التشكيل، فيما تتراجع الأشكال وتتقدّم ضمن هذا العمق منتجة تأثير دفع وجذب ديناميكيا.
وبرأي بعض النقاد، فإن الفضل يعود لـ كاندينسكي في رسم أوّل لوحات تجريدية في تاريخ الفنّ ليصبح بعد ذلك رائد التجريدية في العالم، بل ومنظّرها الأوّل بلا منازع . لكن طموحه الفنّي ذهب به إلى أبعد من ذلك، فقد أراد استدعاء الصوت من خلال حاسّة الإبصار ومن ثم إيجاد معادل فنّي لسيمفونية لا تثير فقط العين وإنما الأذن أيضا.
كان كاندينسكي يؤمن بأن الكون واقع تحت تأثير ذبذبات صادرة عن قوى ما فوق الطبيعة وعن هالات الضوء والطاقة و"أشكال من الأفكار". وهي نفس آراء بعض الحركات الغامضة وشبه الدينية مثل الثيوصوفية التي تمارس طقوسا من التأمّل الروحي والفلسفي.
لقد أنجز كاندينسكي تجريدا صافيا عندما استبدل القلاع والأبراج العالية التي كانت تظهر في مناظره الطبيعية بكتل لونية أو بـ "أنغام وجمل موسيقية تؤلف معا أغنية "بصرية"، كما كان يراها.
وبهذه الطريقة نفسها رسم تكويناته الملتفّة مستخدما ضربات "متعدّدة الأصوات والنغمات" قوامها الأصفر الدافيء ذو التدرّجات الداكنة الذي تمّت موازنته برُقع من الأزرق "الرنّان" أو الأسود "الصامت".
موضوع ذو صلة: كاندينسكي.. العين تسمع والأذن ترى