Thursday, December 14, 2017

لوحات عالميـة – 434

الكمـان القـديـم
للفنان الأمريكي وليـام هـارنيـت، 1887

في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كان رسم الطبيعة هو الاتجاه الغالب على الرسم في أمريكا، بالنظر إلى جمال وتنوّع الطبيعة الأمريكية التي كانت تغري الفنّانين برسمها، بالإضافة إلى مضامينها المجازية والروحية. ولهذا السبب لم يكن رسم الحياة الساكنة يحظى سوى بالقليل من الاهتمام.
ومن بين الرسّامين الأمريكيين الذين اختاروا أن يتخصّصوا في تصوير الحياة الصامتة وليام هارنيت، الذي أصبح في ما بعد احد أشهر الرسّامين الذين برعوا في هذا النوع من الرسم. كان هارنيت يُلّقب بأبي الحياة الصامتة في أمريكا، وكانت لوحاته مشهورة في زمانه، وما يزال لها جاذبية حتى اليوم.
كان هارنيت بارعا في فنّ الإيهام الذي نشأ أوّل الأمر في فرنسا، ويعني رسم الأشياء بأحجامها الحقيقية وبواقعية شديدة في فراغ ثلاثيّ الأبعاد باستخدام المنظور، مع تفاصيل دقيقة وألوان حقيقية ونسيج مقنع، لدرجة أن المظهر العامّ للأشياء المرسومة يبدو قريبا جدّا من الواقع.
هذه اللوحة تُعتبر تحفة هارنيت بلا منازع. وقد اعتبرها النقّاد وقتها انجازا كبيرا وغير عاديّ في مجال التلوين. كما أعيد استنساخها عشرات المرّات طوال مائة عام وبأشكال مختلفة.
وموضوعها بسيط ومعقّد في الوقت نفسه، فقد رسم الفنّان آلة كمان ونوتة موسيقية أمام خلفية تتشكّل من باب خشبيّ قديم وقصاصة جريدة وظرف رسالة ازرق.
اللوحة تبدو حديثة جدّا والأشياء فيها مرتّبة بعناية. وبراعة الرسّام تظهر في تصويره الدقيق للنسيج والخشب والطلاء المهتريء.
والصورة تتضمّن طبقات متعدّدة من المعاني، كالعلاقة ما بين الوهم والواقع، وما بين القديم والحديث، وما بين المؤقّت والدائم. وفي قلب كلّ هذه المعاني مرور الزمن المعبّر عنه بعلامات البِلى والتقادم.
وهناك أيضا النوتة الموسيقية وهي لإحدى أغاني الموسيقيّ الايطاليّ فينسنزو بلليني التي تتحدّث كلماتها عن التغييرات الدنيوية. الكمان الصامت والمرسوم بحجمه الحقيقيّ أصبح باليا ويعلوه الغبار لكثرة ما استُخدم، لكنه ما يزال يذكّر بالماضي ومُتَعه.
كان هارنيت يقول انه يريد للوحاته أن تحكي قصصا، حقيقية كانت أو مجازية. وكان الحنين إلى الماضي احد سمات العصر الذي عاش فيه. كان الناس وقتها يحنّون إلى زمن منقضٍ كانت فيه الحياة بسيطة وسهلة. ولهذا السبب تتواتر في لوحاته صور تذكّر بذلك الماضي الغابر، كالأقلام والشموع والآلات الموسيقية ونحوها.
والعناصر الموسيقية، بشكل خاصّ، تتكرّر كثيرا في لوحات الفنّان، كما لو أنها تعبير عن تقديره العالي للموسيقى، جنبا إلى جنب مع أكداس الكتب والصفحات الممزّقة.
وعُمر الكمان في هذه اللوحة هو احد مفاتيحها الرئيسية. واختياره يعكس فكرة هارنيت القائلة بأن الأشياء الجديدة لا يمكن رسمها بدقّة، على عكس الأشياء القديمة التي يمكن رسمها بطريقة تُظهر عمرها المعتّق والطويل.
عندما عرض الرسّام لوحته هذه لأوّل مرّة أثارت الكثير من الجدل. وقد وُضع عليها حرّاس كانت مهمّتهم منع الجمهور من الاقتراب منها أو إتلافها أثناء محاولتهم معرفة ما إذا كانت قصاصة الجريدة حقيقة أم أنها مجرّد خدعة.
كما أثارت اللوحة نقاشا حول جماليات الأعمال التي تحاكي الواقع بشدّة. والصورة تعيد إلى الأذهان الأسطورة الإغريقية التي تتحدّث عن منافسة بين الرسّامين زيوكسيس وباراسيوس حول أيّ منهما رسوماته أكثر واقعية من الآخر.
بعد سنوات من انجاز الفنّان رسم هذه اللوحة، ابتاعها منه فرانك توكفاربر الذي كان خبيرا في الطباعة الحجرية بالألوان. وقد بنى على منوالها لوحة بنفس الاسم ضمّنها سبعة عشر حجرا وطبعها على المعدن والزجاج والورق.
ولد وليام هارنيت في عام 1848 لأبوين من أصل ايرلنديّ. وبدأ عمله في الرسم في نيويورك عام 1869، حيث عمل كحفّار على الفضّة. ثم درس في الأكاديمية الوطنية للتصميم في نيويورك. وفي عام 1874، رسم أولى لوحاته. وكان زبائنه من أبناء الطبقة الوسطى غالبا.
كان هارنيت زميلا للرسّام المشهور توماس ايكنز الذي كان يعمل معه في فيلادلفيا. وقد زار في ما بعد فرنسا وانجلترا وألمانيا، حيث عاش في ميونيخ أربع سنوات درس خلالها الرسم.
بعض النقّاد اليوم يقولون إن لوحات هارنيت غير مقنعة وأن شهرته لم تصمد أمام امتحان الزمن رغم براعته. ويضيفون أن واقعيّته المفرطة ربّما أكسبته شعبية كبيرة في عصره، لكنها أصبحت اقل إثارةً للإعجاب هذه الأيّام.
كما أن الأشياء في رسوماته الصامتة تفتقر إلى الدفء والحميمية. ومقارنة صوره بلوحات الطبيعة العظيمة في عصره تكشف عن تواضع لوحاته مفاهيمياً، مع أن بعضها يقترب من الشاعريّ والغيبيّ وما فوق الواقعيّ أحيانا.
المعروف أن وليام هارنيت عانى في أواخر حياته من مرض مزمن بالكلى وتوفّي في سنّ مبكّرة وعمره لا يتجاوز الرابعة والأربعين.