منظـر لـ ديـلـيـفـت
للفنان الهولنـدي يـوهـان فيـرميــر، 1660
لوحة أخرى لـ فيرمير يعتبرها الكثير من النقاد ومؤرّخي الفن احد أفضل الأعمال التشكيلية الغربية التي تصوّر طبيعة الحياة في مدينة بحرية.
بل أن الروائي الفرنسي مارسيل بروست يعتبرها أجمل لوحة وقعت عليها عيناه.
والمدينة التي اختارها فيرمير موضوعا لهذه اللوحة هي ديليفت، مدينة الفنان التي ولد فيها وعاش وتوفّي.
وفي العصور اللاحقة أصبح اسم هذه المدينة مرادفا لاسم هذا الفنان العظيم الذي خلـّد في رسوماته الكثير من مظاهر الحياة اليومية فيها، ابتداءً من البيوت ذات الديكورات الزخرفية المتوهّجة وانتهاءً بالوجـوه التي طالما أحبّها وألفها.
رسم فيرمير هذه اللوحة حوالي منتصف القرن السابع عشر، وهي الفترة التي شهدت ذروة ازدهار الفنون والثقافة في هولندا.
في ذلك الوقت، كان فيرمير يعتبر ثاني أشهر رسّام هولندي بعد رمبراندت، وكان رسم المدن تقليدا شائعا لدى عدد غير قليل من الرسّامين الهولنديين.
ومن الواضح أن فيرمير بذل جهدا كبيرا في رسم اللوحة التي تشهد كل تفاصيلها بقوّة ملاحظة الفنان وبراعته في الإمساك بتأثيرات الضوء والظل.
وهذا واضح من خلال طريقة تمثيل الغيم والانعكاسات المائية التي تضفي على المشهد إحساسا بالفورية والحيوية والتلقائية.
واللوحة تزخر بالكثير من التفاصيل: بوّابتان إلى اليمين والوسط يتخللهما صفّ من البيوت. هناك أيضا برجا الكنيستين القديمة والحديثة وبعض سفن الصيد الراسية في مياه القنال. وفي الجزء الأمامي من اللوحة إلى اليسار، نرى عددا قليلا من الرجال والنساء واقفين على الشاطئ.
جوّ اللوحة يعطي انطباعا بأن فيرمير قد يكون رسم اللوحة في صباح يوم بارد. وتبدو الغيوم كما لو أنها تنقشع ببطء بعد ليلة ممطرة، فيما الشمس ترسل وهجها اللامع على صفحة الماء وأسطح البيوت الممتدّة على الشاطئ.
أكثر ما يلفت الانتباه في هذا المنظر الأثيري البديع هو الأسلوب الواقعي الذي وظّفه فيرمير في رسمه. وربّما لهذا السبب يعتبر بعض النقاد هذه اللوحة نموذجا ممتازا للوحة الوصفية التي يمكن للإنسان أن يستمتع بالنظر إليها والتمعّن في جمالياتها دونما حاجة إلى الكثير من الشرح أو التحليل.
وقد قيل في بعض الأوقات أن كثافة وعمق الألوان في اللوحة والتأثيرات البصرية المبهرة التي استخدمت في رسمها تجعل من عملية استنساخها أو تقليدها أمرا شبه مستحيل.
"منظر لـ ديليفت" ليست مجرّد لوحة عن الحياة في مدينة بحرية وإنما يمكن اعتبارها معلما يجسّد روح وشخصية هذه المدينة وسجّلا يؤرّخ لأسلوب وشكل الحياة الذي كان سائدا فيها قبل أربعة قرون.
ممّا يجدر ذكره أن فيرمير مات فقيرا معدما، وبعد وفاته ضاع اسمه في غياهب النسيان، وطوال مائتي عام لم يعد احد يتذكّره بشيء.
وقد اضطرّت أرملته بعد وفاته لبيع لوحاته كي تعتاش من ثمنها.
لكن مع حلول منتصف القرن التاسع عشر عاد اسمه إلى الواجهة مجدّدا. واليوم يُنظر إلى فيرمير باعتباره احد أعظم الرسّامين، ليس في بلده هولندا فحسب وإنما في العالم كله.