Thursday, October 16, 2008

لوحات عالميـة - 174

تمثـال النصـر المجنـّح
القرن الثالث قبل الميلاد

يعتبر هذا التمثال واحدا من أشهر الأعمال النحتية في العالم والتي تعود إلى الحقبة الهيلينستية. وهو يقدّم صورة مجازية عن النصر أبدعتها مخيّلة نحّات عبقري شاء القدر أن يظلّ اسمه مجهولا.
وقد اكتشفه عام 1863 قنصل فرنسا في اليونان، وكان عالم آثار ومؤرّخا، ثم أرسله في نفس السنة إلى باريس حيث ظلّ في متحف اللوفر منذ ذلك الحين.
وفي ما بعد، أي في خمسينات القرن الماضي، أرسل الفرنسيون بعثة أثرية إلى جزيرة ساموتراكي اليونانية، حيث اكتشف التمثال لأوّل مرّة، في محاولة للبحث عن الأجزاء المفقودة منه.
لكن لم تعثر البعثة سوى على أجزاء من اليدين والأصابع في حين بقي مكان الرأس مجهولا حتى اليوم.
هذا التمثال الضخم منحوت بالكامل من المرمر، وهو يصوّر آلهة النصر الإغريقية Nike التي تأخذ هيئة امرأة تقف على قاعدة من الحجر تشبه هيكل سفينة.
والطريقة التي أنجز بها التمثال تدلّ على براعة النحّات الذي صنعه وعلى عناصر الإبداع والإحكام والجمال التي أودعت فيه.
ويقال إن التمثال كان رمزا لانتصار احد قادة الإغريق في معركة بحرية خاضها ضدّ أعدائه حوالي بدايات القرن الثالث قبل الميلاد.
وقد جلبت حجارة التمثال من جزيرة باروس اليونانية التي اشتهرت بتشكيلاتها الحجرية وجودة رخامها. وعندما تمّ الانتهاء منه وضع على صخرة عالية تطلّ على معبد كبار الآلهة من جهة وعلى البحر من جهة أخرى.
تبدو المرأة في التمثال بقوام فارع وجناحين عريضين وجسد مندفع إلى الإمام، بينما تطاير رداؤها الشفاف بفعل ما يفترض أنه قوّة الرياح التي تقف بمواجهتها.
براعة النحّات هنا واضحة من خلال طريقته في رسم الخطوط وتشكيل النسيج وأسلوبه في تمثيل طيّات الرداء وانثناء جسد المرأة إلى الأمام.
ومن العناصر الأخرى ذات التأثير الصوري الأخّاذ في هذا التمثال طريقة الوقوف الدرامية والتكثيف الحركي، ما يثير إحساسا بالجلال والفخامة.
ولا بدّ وأن يتخيّل المرء أن رأس المرأة المفقود كان ذا ملامح جميلة وأنها ربّما كانت تنفخ بفمها آلة نفير وتحمل في أحد ذراعيها إكليل غار أو غصن زيتون تتوّج به أعناق المنتصرين.
كان قدامى اليونان مغرمين كثيرا بالتنافس في ميادين الحروب والرياضات المختلفة. لذا كان وجود الآلهة ضروريا وله ما يبرّره، باعتبارها ملهما للفوز ومحفّزا على تحقيق الانتصار.
لكن ليس من الواضح لماذا كانوا يصوّرون النصر دائما على هيئة امرأة.
قد يكون احد الأسباب أن المرأة أكثر قدرة على استثارة الرجال وبثّ العزيمة والحماس في نفوسهم.
بقيت الإشارة إلى أن اسم آلهة النصر Nike أصبح ماركة مسجّلة لإحدى أشهر شركات صناعة الأحذية والملابس الرياضية في العالم.
كما أن الفنان الأمريكي Abbott Thayer استلهم طريقة حركة المرأة في التمثال وكذلك شكل جناحيها في رسم كبرى بناته الثلاث كما يظهرن في لوحته المشهورة عذراء.

Friday, September 12, 2008

لوحات عالميـة - 173

بورتـريه البابـا اينوسنـت العاشـر
للفنان الإسباني دييـغـو فـيلاســكيــز، 1650

من المفارقات الغريبة أن هذا البورتريه، الأخّاذ والرائع والمشهور جدّا، يصوّر إحدى الشخصيات التاريخية التي عُرف صاحبها بصرامته وقسوته بالإضافة إلى دوره المهمّ في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية والعالم.
وقد قيل غير مرّة أن هذا البورتريه ليس فقط أروع عمل فنّي أنجز خلال القرن السابع عشر، وإنّما أفضل صورة شخصية تمّ رسمها في جميع العصور.
وأحد أسباب شهرة البورتريه هو انه يقدّم تصويرا بليغا وصادقا لطبيعة السلطة الدينية المطلقة والمتجسّدة في شخصية البابا اينوسنت العاشر. كما يمكن اعتباره دراسة بصرية محكمة عن قوّة الشخصية كما تعبّر عنها الملامح والتعابير وطريقة اللباس.
رسم فيلاسكيز البورتريه أثناء زيارته الثانية لروما وذلك بتكليف من اينوسنت. وكان عمر البابا في ذلك الوقت 75 عاما.
وبعد إتمام اللوحة أبدى بعض رجالات الفاتيكان تخوّفهم من احتمال أن يواجه فيلاسكيز غضب البابا، إذ أن البورتريه يصوّره بملامح صارمة ونظرات قاسية ومتجهّمة.
لكن البابا استقبل الفنان بحفاوة وأعلن سروره البالغ باللوحة قائلا إنها واقعية بأكثر مما ينبغي. ثم أمر بتعليقها في صالة استقبال الضيوف الرسميين، وأهدى فيلاسكيز ميدالية وسلسلة من ذهب تقديرا له واعترافا بموهبته.
واللوحة تبيّن بوضوح أيّ صنف من الرجال كان البابا.
كان اينوسنت العاشر شخصا طويلا، نحيلا، بوجه متورّد وحواجب كثة.
كما كان شديد المراس ذا مزاج حارّ ومتقلب وعنيف.
وهو يظهر في اللوحة جالسا على كرسي من المخمل الأحمر الموشّى بزخارف ذهبية، ومرتديا لباسا أبيض ووشاحا أحمر وغطاء رأس بلون داكن.
النظرات مفترسة والعينان متفحّصتان تشعّان بالذكاء المشوب بقدر غير قليل من الشكّ والتوجّس.
وليس ثمّة شكّ في أننا أمام رجل يعرف سلطته جيّدا، قويّ، ذي حضور دائم وربّما عنيف، واثق من نفسه كثيرا ومسيطر تماما على ما حوله. إنه رجل سلطة دينية ودنيوية معا، يقرأ الرسائل باهتمام ويصرّف أمور البلاد وينتظر بصبر أن يمتنع رعاياه عن التفكير في الخطيئة وأن يقرّ الخاطئون بذنوبهم كي يمنحهم بركته ويمنّ عليهم بصكوك الغفران التي تعدهم بالخلاص والجنّة.
كان البابا في ذلك الزمان أقوى رجل في العالم، وكان له من السلطات والصلاحيات ما لا يحلم به اليوم أكثر حكّام العالم سلطوية واستبدادا. وقد عُرف عن اينوسنت العاشر دهاؤه وسرعة بديهته وإتقانه فنون الحيل والمناورات السياسية. وعندما اختير للبابوية عام 1644 تضاعفت سلطة الفاتيكان الزمنية أكثر فأكثر، رغم أن تبوّءه للمنصب جاء في أعقاب أزمة عاصفة بين ثلاث عائلات دينية كانت كلّ منها تدّعي أنها الأحقّ بالمنصب.
من السمات اللافتة في هذا البورتريه تعامل الرسّام مع الألوان بطريقة تنمّ عن إبداع قلّ نظيره: التطريز والزخرفة، البراعة في المزج بين الألوان القرمزي والبنّي واللحمي والأحمر لإنتاج جوّ يشي بالهيبة والفخامة، اللمعان والوهج المنعكس على محتويات المكان، الطيّات الدقيقة التي تتخلل الرداء الحريري الأبيض البارد، التأثير الدراماتيكي والنشط للأحمر بدرجاته وظلاله المتفاوتة، وأخيرا وليس آخرا الخاتم الأسود المشعّ في يد البابا التي تبدو خلافا للمتوقع ذات تقاطيع أنثوية ناعمة.
طوال فترة حكمه، كان اينوسنت العاشر واقعا تحت سيطرة "اوليمبيا" أرملة أخيه التي كان قد عيّنها مستشارة له وحافظة لأسراره. ويبدو انه بحث كثيرا بين أقاربه عمّن يمكن أن يساعده في إدارة شئون البلاد فلم يجد غير هذه المرأة.
كان نفوذ اوليمبيا على اينوسنت كبيرا جدّا، ما أدّى إلى ظهور شائعات غير مؤكّدة عن علاقة عاطفية كانت تربط بين الاثنين. لكن المؤكّد هو أن مكانة اوليمبيا القويّة في البلاط لم تؤدّ سوى إلى استشراء الفساد والطمع والمحسوبية في أوساط المقرّبين من البابا.
وعندما توفي اينوسنت عام 1655 لم تحضر اوليمبيا جنازته، لأنها كانت منهمكة في نهب كنوز ونفائس القصر البابوي.
إن المتأمّل في تفاصيل هذا البورتريه لا بدّ وأن تستوقفه الطبيعة الفاتنة لهذا الرجل برغم نظراته القويّة والمتحدّية. إنه يبدو صامتا، متحفظا بل ومجاملا إلى حدّ ما. ويظهر أن وسامته تكمن بالأساس في حضوره الطاغي والمسيطر.
في عهد اينوسنت العاشر، واسمه الأصلي جيوفاني بامفيلي، أبرمت اتفاقية ويستفاليا للسلام التي وضعت نهاية لحرب الثلاثين عاما. غير أن اينوسنت رفض التوقيع على الاتفاقية لأنها نصّت على حقّ رعايا كلّ دولة في أن يتمتعوا بحرّياتهم الدينية الخاصّة، الأمر الذي كان يعني ضمنا تقليص دور الكنيسة الكاثوليكية وإضعاف سلطتها.
وفي نفس الوقت عمل اينوسنت على إطالة أمد الحرب الأهلية بين الانجليز والايرلنديين. كما دعم مذابح المسيحيين ضدّ اليهود في بولندا. وفي عهده أيضا استمرّت طقوس مطاردة وحرق الساحرات في أوربا. ويقال أنه، هو وعائلته، اشتغلوا بتجارة شراء وبيع العبيد.
في العام 1953، رسم الفنان الايرلندي فرانسيس بيكون Francis Bacon سلسلة لوحات استلهم موضوعها من لوحة فيلاسكيز. وفي إحدى اللوحات يظهر البابا اينوسنت محشورا داخل قفص وهو يصرخ. ومن الواضح أن القفص يشبه كثيرا الغرف التي يُعدم بداخلها المجرمون صعقا بالكرسي الكهربائي، ما يوحي بأن بيكون يرى أن اينوسنت كان يجب أن يوضع خلف القضبان.
يقول بعض مؤرّخي الفنّ إن دييغو فيلاسكيز وصل من خلال هذا البورتريه إلى أعلى ذرى الكمال والنضج والإبداع الفني.
ولا بدّ وأنه كان سعيدا جدّا بهذا العمل، بدليل أنه حرص على أخذ نسخة منه قبل عودته من روما إلى اسبانيا.
وتوجد اليوم نسخ كثيرة من هذه اللوحة تتوزّع على العديد من متاحف وغاليريهات العالم الرئيسية، بينما تستقرّ اللوحة الأصلية في غاليري دوريا بامفيلي في روما.

Thursday, September 04, 2008

لوحات عالميـة - 172

إنعكـاس، بورتـريه شخـصـي
للفنان البريطاني لـوسيـان فـرويـد، 1985

بعض النقاد يعتبرون لوسيان فرويد أعظم الرسّامين البريطانيين الأحياء. وفرويد ينحدر من عائلة ألمانية يهودية عريقة. فجدّه هو الطبيب وعالم النفس الشهير سيغموند فرويد. ووالدته تنتمي إلى أسرة من التجّار وأرباب الأعمال.
ولد فرويد في برلين عام 1922م. وعندما جاء هتلر إلى الحكم أصبحت أوضاع اليهود في ألمانيا لا تطاق. فقرّرت العائلة الهجرة إلى بريطانيا والإقامة فيها نهائيا.
وأعمال لوسيان فرويد تكتسب أهمّية خاصّة لأنها مرتبطة بزمن الحرب وبتبعات الحقبة النازية. ولوحاته تمتليء بصور لرجال ونساء عراة في مواقف وأوضاع شتّى.
وقد قيل في إحدى المرّات أنه بقدر ما كان سيغموند فرويد مهتمّا بدراسة النفس وسبر أغوارها، بقدر ما أن حفيده مهجوس بالجسد. وهناك حضور شبه دائم للكراسي في لوحاته. ويبدو أن اهتمامه بالكراسي والأرائك يستمدّ مغزاه من قرب هذه الأشياء من اللحم الإنساني الذي يشكّل لفرويد مصدر قلق وتفكير دائمين.
وعندما نتمعّن في لوحاته التي تصوّر نساءً عاريات نكتشف أن لا علاقة لها بالجنس أو الإيروتيكية. فالجلد سميك متغضّن والعظام نافرة والأطراف منهكة والأعين جامدة والوجوه حزينة وباردة.
وحضور النساء في اللوحات يتسمّ بالغموض والتشظي، وملامحهن إجمالا لا تثير في النفس سوى شعور بالتوتّر الذي لا يوصف وبالعزلة المتعبة وبالاستلاب المضني.
في إحدى لوحاته القديمة، نرى امرأة شابّة بنظرات شاحبة وهي تمسك بقطّة صغيرة من رقبتها. ورغم خلوّ تعابير المرأة من أي أثر للعدوانية أو العنف، فإن المنظر يوحي كما لو أن المرأة توشك أن تقتل القطّة خنقا.
من أشهر لوحات لوسيان فرويد هذا البورتريه الذي رسمه لنفسه في سنّ الرابعة والستّين، أي عندما كان في ذروة نضجه الفنّي. واللوحة ليست "بورتريه" شخصّيا بالمعنى المتعارف عليه، وإنما هي صورة الفنان كما تبدو منعكسة في مرآة، بحسب ما يشير إليه العنوان.
تعابير الوجه هنا صارمة، والنظرات قاسية، قلقة، ومتوتّرة مثل نمر متحفّز. إنه نفس أسلوب فرويد الذي يتّسم بالعنف والوحشية والصدمة. ومن الملاحظ أنه استخدم في اللوحة ضربات فرشاة سميكة وسكب على القماش طبقات كثيفة من الطلاء. ومن بين كتل الألوان الخام والمشبعة نلمح في الوجه آثار رضوض وندوب، كأنما يعطي الإحساس بقسوة الحياة التي لا تني تعاقبنا وتجعلنا نبدو عراة، مكشوفين، ضعفاء ووحيدين.
وفرويد يفعل هذا بواقعية شديدة وبمزاج مشبع بالوحدة والانقباض.
يقول أحد أصدقائه إن من عادة فرويد أن يرتدي في محترفه ملابس تناسب مواضيع صوره، وهو يباشر عمله في الرسم بزيّ جزّار مسلّح بالمناشير والفوط والسكاكين.
ولا يبدو الفنان مهتمّا بإظهار الجمال في أعماله إلا بقدر ما يرى في القبح والدمامة ضربا من الجمال. كما لا يعنيه أن يصوّر الجوانب الإنسانية التي تعبّر عن السعادة والأمل والنبل والتفاؤل.
ويمكن القول أن السمة الغالبة على لوحات فرويد هي كونها ذات مضامين سيكولوجية ووجودية، وهو أمر يؤهله لأن يكون رسّاما "فرويديا" حتى النخاع.
فالكثير من لوحاته مزعجة وتعطي شعورا بجدب الحياة ووحشتها وهشاشتها. وكلّ شخصية لها فضاؤها الوجودي الخاص والمستقل. وليس هناك اتصال بين الشخصيات، إذ لا أحد ينظر إلى الآخر مباشرة، ونادرا ما يعترف أحد بوجود الآخر. وفي غالب الأحيان تظهر الشخصيات كما لو أنها مشدودة إلى أسفل بفعل قوّة خفيّة وغامضة.
ومن الواضح أن فرويد يتعمّد دائما تصوير الغرف بحيث تخلو من أي أثر للتكنولوجيا أو لوازم الحياة اليومية الأخرى، وكأنها - أي الغرف – فضاءات خاصّة ومنعزلة توفر للشخوص فيها ملاذا مريحا وآمنا يحميها من فظائع وتعاسات العالم الخارجي.
مما يجدر ذكره في الختام أن فرويد يقترب اليوم من عامه السادس والثمانين. وهو أب لأربعين طفلا أنجبهم من علاقاته العابرة مع عدد من النساء من بينهن بعض "موديلاته". ومؤخّرا إبتاع مليونير روسي لوحته المسمّاة "مديرة المتجر النائمة Benefits Supervisor "Sleeping والتي تصوّر امرأة بدينة عارية بمبلغ 34 مليون دولار أمريكي. كما بيعت لوحتة الأخرى "على خُطى سيزان After Cézanne " بمبلغ ثمانية ملايين دولار.

Monday, September 01, 2008

لوحات عالميـة - 171

سيمفـونيـة الـرعـاة
للفنان الإيطالي جـورجيـونـي، 1509

يعتبر جورجيوني الرسّام الأكثر غموضا في تاريخ الفن الأوربّي. إذ لا يُعرف عنه أو عن حياته الكثير. غير أن العديد من النقاد يتفقون على أنه كان شخصية متميّزة في زمانه. وبالإضافة إلى كونه رسّاما، كان جورجيوني شاعرا وأديبا وموسيقيا وكان مقرّبا من أوساط النبلاء والعائلات الأرستقراطية في فينيسيا.
و"سيمفونية الرعاة" ليست إحدى أجمل لوحاته فحسب، بل وإحدى التحف الفنية الكبيرة التي أنتجها عصر النهضة الإيطالي. ويقال إن تيتيان، تلميذ جورجيوني وأقرب أصدقائه، أكمل رسم هذه اللوحة بعد وفاة جورجيوني المفاجئة عن عمر لا يتجاوز الرابعة والثلاثين. وليس مستغربا أن تُنسب اللوحة أحيانا الى تيتيان بالنظر الى التشابه الكبير بين أسلوب الإثنين.
موضوع اللوحة هو امتداد للفكرة اليونانية القديمة عن "أركاديا" وعن تقاليد الحياة الرعوية والريفية، حيث يتعايش الإنسان مع الطبيعة جنبا إلى جنب في وئام وانسجام. وقد بُعثت هذه الفكرة من جديد في المراحل الأخيرة من عصر النهضة وبدايات عصر الباروك.
وكان من عادة الفنانين في ذلك الوقت رسم مناظر لطبيعة مثالية تصوّر حياة الرعاة، لكنها لا تخلو من أفكار ترمز للأدب والشعر والموسيقى والربيع والجمال والحبّ والحقيقة. وغالبا ما يتم توظيف شخصيات خيالية وأسطورية مثل الآلهة والحوريّات اللاتي يظهرن إما عاريات أو مرتديات ملابس كلاسيكية.
في مقدّمة اللوحة نرى أربعة أشخاص: رجلين بملابس أنيقة وامرأتين عاريتين. الرجلان يبدوان كما لو أنهما يجريان تدريبات على الموسيقى.
وإلى اليمين تجلس إحدى المرأتين وظهرها للناظر بينما تمسك بآلة ناي. في حين تنشغل الأخرى، إلى اليسار، بملء إناء زجاجي شفاف من مياه حوض.
وثمّة احتمال بأن يكون الماء والزجاج رمزا للصفاء والنقاء اللذين ينظر إليهما كتجسيد لحقيقة الفن.
من الواضح أن الرجلين لا يهتمّان كثيرا بوجود المرأتين. وهذا يطرح سؤالا عن حقيقة وجودهما، إذ قد تكونان مجرّد صورة ذهنية، أي أنهما لا توجدان سوى في خيال الرجلين.
وربّما أرادهما الرسّام رمزا للإلهام أو الإبداع. وقد يكون حضورهما في اللوحة استدعاءً لبعض الأساطير القديمة التي تتحدّث عن الحوريات اللاتي يجتذبهن سحر الموسيقى وجمال الأنغام.
في المشهد ليس هناك ما يدلّ على حوار أو تبادل للكلام. والاتصال بين الشخصيات الأربع يتم فقط من خلال الموسيقى والعزف.
وفي خلفية اللوحة نرى راعيا بمعيّة قطيعه ومنزلا يقوم على ربوة تعلوها سماء غائمة.
ورغم غموض هذه اللوحة فإنها تروق للعين والمشاعر. فالألوان فيها دافئة والأضواء ناعمة. ومن الواضح أن جورجيوني لا يعير اهتماما كبيرا بالخطوط بل يركّز على مناطق اللون. كما أن المنظر الضبابي للتلال في الخلفية يعطي المشهد عمقا، ما يذكّرنا بمناظر دافنشي الحالمة.
ومن التفاصيل الأخرى التي تجذب الانتباه في اللوحة أسلوب الرسّام المتفرّد في تمثيل الأضواء الذهبية المشعّة وفي تعامله مع عنصري الضوء والظل.
ويمكن القول إن "سيمفونية الرعاة" نموذج لمناظر عصر النهضة التي تصوّر أجواءً رعوية حالمة لا تخلو أحيانا من إحساس بالحزن والتوق الممزوج بشيء من الغموض والشاعرية.
والمتمعّن في تفاصيل اللوحة لا بدّ وأن يتذكّر لوحة مانيه المشهورة غداء على العشب Manet's Luncheon on the Grass، التي قد يكون الفنان الفرنسي رسمها وفي ذهنه لوحة جورجيوني.
كان جورجيوني مشهورا بوسامته اللافتة وحضوره الطاغي. وقد تتلمذ على يد بلليني وكان الاثنان، بالإضافة إلى تيتيان، يمثلون نخبة رسّامي فينيسيا في نهايات القرن الخامس عشر وبدايات السادس عشر.
ويعتبر كتاب جورجيوني للكاتب هيربرت كوك من بين أفضل المراجع التي تتحدّث عن حياة وأعمال هذا الفنان وتسلّط الضوء على إسهامات فينيسيا في فنّ عصر النهضة الإيطالي.

Thursday, August 28, 2008

لوحات عالميـة - 170

طفل الجيوبوليتيك يراقب ولادة الإنسان الجديد
للفنان الإسباني سلفـادور دالــي، 1943

إثر اندلاع الحرب العالمية الثانية هرب الكثر من الفنانين والأدباء الأوربّيين الى الولايات المتحدة الامريكية. وكان لـ سلفادور دالي سبب آخر في اختياره الهجرة يتمثل في الآثار المأساوية التي نتجت عن الحرب الأهلية الاسبانية.
وقد أقام دالي بصحبة زوجته غالا في نيويورك لمدّة ثمان سنوات. وأثناء مكوثه هناك تعرّف عليه الأمريكيون أكثر من خلال المعارض العديدة التي أقامها، وبالتالي أصبح اسمه أكثر شهرة وذيوعا.
وفي نيويورك رسم الفنان هذه اللوحة التي اختار لها اسما طويلا وغريبا: طفل الجيوبوليتيك يراقب ولادة الانسان الجديد". واستخدام مفردة "الجيوبوليتيك" في العنوان له دلالة خاصّة، فهي تشير ضمناً إلى النزعة الاستعمارية والهيمنة السياسية والعسكرية.
في اللوحة نرى بيضة ضخمة تأخذ شكل الأرض. وداخل البيضة هناك ما يفترض أنه طفل "هو في الواقع أقرب ما يكون للرجل" وهو يشقّ طريقه بعنف للخروج من البيضة تاركا وراءه خيطا سميكا من الدم.
وعلى يمين اللوحة تقف امرأة وهي تشير بيدها إلى الحدث المتجلي أمامها، فيما يتشبّث بساقيها طفل راح يراقب المشهد بهلع وذهول.
ومما يلفت الانتباه في اللوحة أن الرجل الخارج من البيضة يطبق بقبضته على ما يفترض أنه أوربّا، وإنجلترا على وجه الخصوص، في الخارطة.
ترى هل أراد دالي من خلال اللوحة التعبير عن وجهة نظر سياسية تجاه صعود نجم الولايات المتحدة بعد انتصارها مع الحلفاء في الحرب العالمية الثانية؟
إن العنف الذي يرافق عملية الولادة في اللوحة والشراسة التي يبديها الطفل في سعيه للخروج وكأنه لا يأبه بتمزيق العالم في محاولته تلك، قد يكون تعبيرا عن توجّس دالي ونظرته غير المطمئنة إلى ظهور أمريكا كقوّة عظمى جديدة في العالم.
فالدم هو رمز لويلات الحرب التي عزّزت مكانة أمريكا ودفعت بها إلى الواجهة. والقبضة المطبقة على أوربّا تشي بهيمنة الوليد الجديد مستقبلا على حلفاء اليوم.
ويلاحظ أيضا أن دالي عمد إلى تضخيم قارة أفريقيا وكأنه يشير إلى الدور المتعاظم الذي ينتظر أن يلعبه العالم الثالث في السياسة الدولية.
من الواضح أن "طفل الجيوبوليتيك" مختلفة كثيرا عن غالبية لوحات دالي التي تتسم بسورياليتها وغموضها الشديد. فمضمون هذه اللوحة واضح إلى حدّ كبير، وهي تعود للمرحلة الكلاسيكية التي أنجز خلالها الفنان لوحات استمدّ موضوعاتها من التراث الاسباني ومن الرموز الدينية والأحداث والتطوّرات السياسية.
المرأة في اللوحة قد تكون رمزا للأمّ الطبيعية أي الأرض، لكنها لا تفعل شيئا حيال ما يجري سوى الانتظار. أما الطفل فربّما أراده دالي أن يكون رمزا للجماعات الإنسانية الأخرى والثقافات المتنوّعة التي تتمسّك بالأرض خوفا مما قد يحمله المستقبل من نذر ومخاطر نتيجة ولادة الطفل العنيف.
في وسط المشهد نرى ما يشبه المظلة، لكن من غير المتيسّر معرفة وظيفتها أو إلى ماذا ترمز. كما أن من المتعذّر معرفة السبب الذي دفع الرسّام إلى جعل ظل الطفل أطول من ظلّ المرأة في اللوحة.
بالنسبة لـ دالي، كان لحادثة إسقاط الامريكيين القنابل النووية على اليابان أثر مهم في دفعه لاستكشاف طرق وأساليب فنية جديدة. ويقال انه كان مفتونا بقوّة الذرة وقدرتها التدميرية الهائلة وبالتطوّر الذي حققته العلوم الحديثة وخاصّة الفيزياء.
وفي تلك الفترة بدأ في استخدام اسلوب جديد أطلق عليه "الغموض النووي" ومزج فيه بين عناصر علمية وأخرى غامضة ليعبّر من خلاله عن ما كان يسمّيه بـ "القوّة المقدّسة".
"طفل الجيوبوليتيك" لوحة مثيرة للتفكير والتأمّل. وهي تحتمل أكثر من معنى. وقد قيل في بعض الأحيان إن الرجل الخارج من البيضة يمثل روح العصر الجديد أو الإنسان الجديد.
بعض الأوربيين، مثلا، كانوا يرون أن الحرب العالمية الثانية كانت نقطة تحوّل كبرى في المسيرة الإنسانية وفي طبيعة النظام الذي يحكم العالم. فقد فتحت الحرب الأعين على مساوئ النظام العالمي الذي كان سائدا آنذاك والذي انكسر وانهار بفعل الحرب. وكان ثمّة مفكرون وفلاسفة كثر يبشّرون بقرب ولادة الإنسان الحديث الذي سينهض من رماد الحرب ليتولى المسئولية السياسية والأخلاقية عن العالم فيصلح أوضاعه ويرمّم العلاقة بين أطرافه المتنافرة وصولا الى مرحلة يعمّ فيها السلام والاستقرار بدلا من التوتّرات والحروب.

Monday, June 02, 2008

لوحات عالميـة - 169

حــبّ متجـمّـد
للفنان الفرنسي جـان بـول ايفيـس، 1980

بعض الأعمال التشكيلية تألفها العين وترتاح لها النفس بصرف النظر عن قيمتها الفنية أو الإبداعية. وهذه اللوحة مثال على ذلك.
وهي تعبّر عن رؤيا أو عن حالة ذهنية تأخذ الناظر إلى عالم خفي لم يسبق لأحد أن ارتاده وربّما لا نراه إلا في الأحلام أو حالات اللاوعي.
واللوحة مألوفة إلى حدّ كبير. وكثيرا ما تستهوي المواقع المخصّصة للأدب والشعر. وهي تنتمي إلى ما يسمّى بالرسم الرؤيوي، وهو جنس من الفن يحاول فيه الرسّام أن يرتفع فوق العالم الملموس والمشاهَد لكي يقدّم رؤيا أوسع للوعي مستمدّة من خبراته الذاتية؛ العاطفية والروحية والسيكولوجية والصوفية وغيرها.
في اللوحة نرى امرأة تجلس وحيدة على ما يشبه أطلال قلعة قديمة، في طقس توحّدي مع الطبيعة.
نظرات المرأة المستغرقة وتعابير وجهها تعطي انطباعا هو مزيج من التوق والانتظار والحزن. قد تكون بانتظار حبيب أو قريب أمعن في الغياب. وقد تكون المرأة جاءت إلى هذا المكان المثلج البارد كي تتلمس في رحاب الطبيعة ما يسلي النفس وينسيها مرارة تجربة حبّ قديم أو علاقة ما لم تكتمل.
التباين قوي ما بين الهيئة العصرية للمرأة وشكل المعابد والأعمدة التي ترمز لماضٍ موغل في القدم. وقد يكون الرسّام أراد من هذه المفارقة أن يوحي بأن ما يعتري الإنسان من مشاعر الفقد والحنين والحزن وغيرها من الأحاسيس المختلفة لها صفة أزلية وسرمدية لا تتأثر بتقادم الزمن أو تغيّر الظروف.
والطبيعة في اللوحة فانتازية إلى حدّ كبير. لكنها تظلّ هي الطبيعة التي تمنح - برحابتها وغموضها - الإنسان شيئا من العزاء وتوفر له وعدا بحياة جديدة تنبثق فيها شمس الأمل من جديد مبدّدةً بأشعتها سحائب اليأس والعتمة لتلتئم جراح النفس وتستعيد معها الروح بعضا من توازنها وهدوئها.
الألوان هنا جميلة ومتناسقة، والمنظر نفسه شاعري بامتياز. ولا يقلل من شاعريّته حقيقة أن طريقة لباس المرأة، التي تظهر عارية الصدر والكتفين، لا تتناسب كثيرا مع الطبيعة الثلجية والجوّ البارد.
كما لا يقلل من جمال اللوحة احتمال أن يكون الفنان قد وظف بعض تقنيات التصوير الرقمي والغرافيكس في رسم بعض تفاصيلها وأجزائها.
جان بول ايفيس رسّام فرنسي علّم نفسه بنفسه وأقام عدّة معارض في اليابان وأمريكا الشمالية وسويسرا. وقد أصبح اسماً معروفاً في أوساط الفن التشكيلي العالمي منذ العام 1990، أي بعد أن عرض بعض أعماله في غاليري بريستيج للفنّ بشيكاغو. وتكثر في لوحاته صور لنساء، وطيور، وورود، وفراشات، وغابات، وستائر ملوّنة، وأزهار لوتس، وكُرات كريستال، وساعات مفكّكة ومتناثرة قد تكون رمزا لسيولة الوقت ونسبية الزمن.
يقال أحيانا إن الفن الرؤيوي هو طريق الفنان للبحث عن رؤى ذاتية؛ باطنية وذهنية وبدائية، يعبّر عنها باستخدام لغة بصرية تعينه على رؤية ما لا يراه في الواقع.
وفي لوحات الفنانين الرؤيويين غالبا ما نرى صورا لممرّات غامضة، ومتاهات، وانكسارت ضوء، وطبيعة داخلية، وأقنعة، وهالات نور، وصخور، ومعابد، وطقوس سحر، وملائكة، وشياطين، وأطلال وبقايا حضارات سادت ثم بادت.. إلى آخره.
كما تتمحور لوحاتهم حول مواضيع وثيمات محدّدة مثل الجنّة والنار، والموت، والبعث، ورحلة ما بعد الحياة، والأبطال القدامى، والمستقبل البعيد، والماضي السحيق، والمخلوقات الأسطورية، والأماكن النائية والغامضة إلى غير ذلك.
ومن أشهر فنّاني الرؤيا القدامى وليام بليك وغوستاف مورو.
أما الرؤيويون المعاصرون فكثيرون، ومن أبرزهم مايكل فوكس Michael Fuchs، وأليكس غري، وبريجيد مارلين Brigid Marlin، وروجر غارلاند، وجوزيفين وول Josephine Wall، وجيفري بيدريك، واندرو غونزاليس Andrew Gonzales، ومحمود فارشجيان Mahmoud Farshchian، وكيرك راينارت Kirk Reinert، وجوناثان باوزر، وغيلبيرت وليامز Gilbert Williams، وكريستوف فيشر Christophe Vacher، وجيك باديلي Jake Baddeley، وفريدون رسولي Freydoon Rassouli وغيرهم.

موضوع ذو صلة: جماليات الفنّ الرقمي