Wednesday, June 21, 2017

لوحات عالميـة – 398

لحظات استرخاء
للفنان الأمريكي جون سنغر سارجنت، 1911

لم يكن جون سنغر سارجنت ألمع رسّامي زمانه وأكثرهم موهبة فحسب، بل يمكن القول انه كان واحدا من أعظم الرسّامين في جميع العصور.
وقد عاش الفنّان معظم حياته في أوربّا ورأى العديد من الثقافات وزار كثيرا من المدن والمتاحف وأتقن أثناء ذلك عددا من اللغات كالفرنسية والايطالية والاسبانية. كما كان موسيقيا موهوبا وعازفا بيانو بارعا.
صور سارجنت الجريئة وغير التقليدية لأشخاص ضمن دائرته، بعضهم مشهورون وبينهم فنّانون وكتّاب معروفون، كشف من خلالها عن مشاعرهم وسمات شخصيّاتهم، بل وفي كثير من الأحيان ضمّنها مشاعره وانطباعاته الشخصية تجاههم دون أن يحابيهم أو يجاملهم.
وكان من بين أصدقائه الذين رسمهم كلّ من بيير رينوار وأوغست رودان والروائيّ هنري جيمس والشاعر وليام تيلر ييتس والروائيّ روبيرت ستيفنسون، بالإضافة إلى كلود مونيه الذي صوّره وهو يرسم على أطراف غابة بمعيّة زوجته.
الشخص الوحيد الذي كان سارجنت يتهيّب رسمه كان هنري جيمس الذي رسم له بورتريها بدا فيه متحفّظا ومتكتّما وغامضا. كان جيمس يؤمن بأن الفنّان الحقيقيّ هو الملاحظ الساخر للمشهد الإنسانيّ، وهذا ما كان سارجنت نفسه يطمح لأن يكونه.
وقد امتدح جيمس سارجنت على ترجمته الفورية وغير العاديّة لشخصيّته وتحويلها إلى صورة كاشفة وبليغة. ولم يكن مستغربا أن تربط بين الاثنين صداقة متينة، فبينهما الكثير من أوجه الشبه، إذ أن كليهما أمريكيّان نشئا في أوربّا لعائلتين موسرتين وكانا في حالة ترحال دائم ولم يعرفا أبدا حياة الاستقرار.
كان سارجنت شخصا خاصّا جدّا، وقد ضحّى بحياته العامّة وفضّل عليها حياة السفر والترحال مع عائلته وبعض أصدقائه. كان دائم الحركة من بلد لآخر بحثا عن طبيعة ومناظر جديدة ليرسمها.
في هذه اللوحة، يرسم سارجنت روز ميري مايكل ابنة أخته التي كانت جليسته المفضّلة وظهرت في العديد من لوحاته.
كانت روز ميري امرأة جميلة وثريّة، وقد نشأت في بيئة مرفّهة وكانت تحيط نفسها بصفوة المجتمع الأوربّي وتتنقّل بين بيوت عائلتها في باريس وسويسرا والريفييرا الايطالية. أما والدها فكان ابنا لعائلة تملك إمبراطورية للسيجار وتتّخذ من سويسرا مقرّا لها.
وعندما رسمها سارجنت لم يرسمها بطريقة تقليدية، بل صوّرها كامرأة مجهولة واهنة الهمّة ومستغرقة في حلم يقظة شاعريّ. وأنت تنظر إلى هذه اللوحة لا بدّ وأن تستوقفك ألوانها المتوهّجة والمتناغمة ونسيجها المرسوم ببراعة ودقّة.
في عام 1913، تزوّجت روز ميري من مؤرّخ للفنون يُدعى روبيرت مايكل. وفي العام التالي ذهب للمشاركة في الحرب العالمية الأولى ولم يلبث أن قُتل في ميدان المعركة.
وقد حزنت عليه روز ميري كثيرا ثم قرّرت أن تكرّس وقتها كلّه لمعالجة جرحى ومصابي الحرب. لكن في العام التالي سقط صاروخ ألمانيّ على الدير الذي كانت ترعى فيه المصابين ما أدّى إلى مقتلها. ودُفنت إلى جوار زوجها في إحدى بلدات شمال فرنسا. وقد صُدم سارجنت لمقتلها لأنها كانت قريبة منه جدّا وكانت هي متعلّقة به كثيرا.
فكرة المرأة المستلقية أو الغارقة في حلم يقظة كانت إحدى الأفكار الرائجة في الرسم، وكثيرا ما تُصوّر الشخصية في جوّ من الهدوء الحزين واللامبالاة والرفاهية البالغة.
ويبدو أن سارجنت كان يوثّق من خلال هذه اللوحة لنهاية عصر، لأن هالة التهذيب والأناقة التي كانت من سمات نهاية القرن التاسع عشر، كما يعكسها هذا البورتريه، سرعان ما تلاشت بفعل الاضطرابات السياسية والاجتماعية التي عصفت بالعالم في بدايات القرن العشرين.
قدرة سارجنت الفنّية على تصوير شخوصه في أماكن رائعة وفخمة أدّت إلى ازدياد شعبيّته في أوساط الرعاة الأغنياء. وهو نفسه كان مفتونا بتصوير نزوات المشاهير وميلهم لحياة التباهي والخيلاء على نحو ما كانت عليه الحال في تلك الفترة، أي في أواخر العصر الفيكتوريّ.
لكن بحلول عام 1909، كان قد تخلّى عن رسم البورتريه التقليديّ كي يجرّب أنواعا أخرى من الرسم.
ولد جون سنغر سارجنت في فلورنسا بإيطاليا عام 1856 لأبوين أمريكيين. وفي البداية، درس الرسم في باريس مع الرسّام كارلوس دُوران قبل أن ينتقل إلى لندن. وقد مرّ بزمن الانطباعيين وهو شابّ، ثم عاد في ما بعد إلى بعض تقنياته السابقة ليستخدمها في رسم الطبيعة والأشخاص.
كان سارجنت نجما في حياته، وكان معروفا بتدخينه الشَّرِه للسيغار وبخجله الغريب ووعيه بذاته وتركيزه أوّلا وأخيرا على خلق الجمال. كما كان دائما يتجنّب المقابلات ويحرص على حماية خصوصيّته ما أمكن. ويقال انه كان من عادته أن يتحدّث كثيرا أثناء الرسم ويمشي داخل الغرفة جيئة وذهابا، وبين وقت وآخر يتوقّف عن الرسم ليعزف على البيانو.
وبعض النقّاد يشبّهون رسوماته بموسيقى موزارت أو باخ بسبب صرامتها ودقّتها. ورغم ذلك، كان سارجنت احد الرسّامين الذين تجاهلهم مؤرّخو الفنّ في القرن العشرين. والسبب الذي يؤاخذه عليه معظم النقّاد اليوم هو انه كرّس فنّه كلّه تقريبا لرسم أفراد المجتمع الرفيع والمشاهير دون أن يهتمّ بتصوير حياة وهموم الناس العاديّين.
لكن بعد مرور أكثر من تسعين عاما على وفاته في عام 1925، فإن بورتريهات سارجنت الكاشفة والاستثنائية ما تزال تُقيّم عاليا في جميع أنحاء العالم. والغريب أنه هو نفسه لم يحرص على أن يرسم صورا لشخصه، وعندما فعل كان ذلك بتكليف وإصرار من أناس آخرين. والمفارقة أن صوره التي رسمها لنفسه لا تكشف سوى عن النزر القليل من شخصيّته.