Thursday, January 12, 2017

لوحات عالميـة – 382

نـرسيـس
للفنان الايطـالـي كـارافــاجـيــو، 1597

لم يمارس أيّ رسّام ايطاليّ نفوذا مثل كارافاجيو، باستثناء ميكيل انجيلو. كان رسّاما ثوريّا وسابقا لعصره. وقد تجاهل القواعد التي اتّبعها الرسّامون قبله.
وشهرة كارافاجيو تأتي أوّلا من سيرة حياته الغريبة، فقد قتل رجلا بسبب رهان ثم مات قبل الأوان في سنّ الثامنة والثلاثين.
ومن بين من تأثّروا به كلّ من روبنز وهولس ورمبراندت وفيرمير وبيرنيني. كان تأثيره كاسحا، لدرجة انه ظهر في ما بعد مصطلح يُسمّى "الكارافاجيوية" نسبةً له.
كان كارافاجيو مفتونا كثيرا بالضوء وباستخدام تقنية "الكياروسكورو" أو التباين الدراماتيكيّ بين العتمة والضوء. وهذا هو السبب في أن معظم أعماله يتخلّلها ضوء ذهبيّ وساطع.
وكان دائما يفضّل وضع شيء مضاء بطريقة دراماتيكية في مكان مظلم من اللوحة، تماما كالممثّل الذي يقف في بؤرة الضوء القويّ والكاشف.
الأشخاص الأسطوريون قليلون في فنّ كارافاجيو. ومع ذلك رسم هذه اللوحة التي تعكس رؤيته الخاصّة لإحدى أشهر الأساطير، أي قصّة نرسيس.
الظروف التي رسم فيها اللوحة غير معروفة. ولا يُعرف أيضا ما إذا كان احد قد كلّفه برسمها. وقد أنجزها في بواكير حياته. وظلّت دائما واحدة من أشهر الأعمال الفنّية التي تناولت هذا الموضوع.
في الأزمنة القديمة، كثيرا ما كانت الأساطير تحدث دون أن تقدّم شرحا مقنعا. لكن هذه الأسطورة بالذات لها دلالة خاصّة، كما أنها تدفعنا لنتخيّل كيف كانت الحياة قبل اكتشاف المرايا.
كان الجمال المفرط يُنظر إليه بحذر وتوجّس. والآلهة يمكن أن تصبح غيورة وتعاقب البشر الذين يتجاوزون حدود الجمال المعقول. سايكي، مثلا، كانت فتاة جميلة جدّا، وبسبب جمالها غضبت عليها الآلهة وحاولت أن تقتلها.
نرسيس، هو الآخر، كان شابّا جميلا جدّا. وقد وقع في حبّ صورته التي رآها منعكسة على مياه احد الغدران. وبسبب افتتانه بملامحه أصبح يتجاهل مشاعر الإعجاب من الآخرين، بل حتى الحورية الجميلة ايكو لم تستطع إغواءه بسبب اعتداده الكبير بجماله.
وفي النهاية مات نرسيس عطشا، مفضّلا الموت على أن يكفّ عن تأمّل صورته. وبعد موته نبتت في مكانه زهرة جميلة تحمل اسمه حتى اليوم، أي "النرجس".
القصّة الأصلية، كما سجّلها اوفيد في كتاب التحوّلات، تجري فصولها في طبيعة رائعة ومغمورة بالضوء، مع بعض التفاصيل الأخرى كالحورية ايكو والأزهار على حافّة البركة والكلب والغزال، وكلّ هذه الثيمات أصبحت ترمز لنرسيس الصيّاد.
لكن كارافاجيو فضّل أن يستبعد كلّ تلك التفاصيل، وركّز على الإمساك بجوهر القصّة كما يرويها اوفيد الذي يشير إلى أن نرسيس أخذ ينظر وهو صامت إلى صورته المنعكسة في الماء و"بقي هناك ساهما مثل تمثال من رخام".
المشهد في اللوحة يصوّر بداية القصّة وفي نفس الوقت ذروتها، أي اللحظة التي يثني فيها نرسيس جسده ويمدّ يده في الماء كي يشرب. هنا لاحظَ ظلّه ثم وقع في حبّ صورته. وبعد قليل ستقع مأساة موته.
واللوحة تركّز على انعكاس صورته وتستبعد كلّ شيء حوله. ربّما كان هذا هو ما شعر به نرسيس عندما حدّق في صورته، كما لو انه لم يرَ أيّ شيء آخر. وحتى عندما عبَر نهر ستيكس بعد موته كما تذكر الأسطورة، كان ما يزال يحدّق في صورته.
خلفية اللوحة فارغة وقاتمة وتوحي بالحزن. والماء يبدو مظلما، ولهذا ارتباط على ما يبدو بما تذكره كتب القدماء عن نهر ستيكس والبرك المظلمة وأزهار الحداد.
قصّة نرسيس ظلّت تحتفظ بسحرها على مرّ القرون وتلهم الكتّاب والشعراء والفلاسفة. دانتي وبترارك ذكراها في أشعارهما. وفرويد ابتكر مصطلح "النرجسية" عند تناوله للأسطورة. وهناك العديد من الفنّانين ممّن رسموها بعد أن وجدوها مثيرة للاهتمام، ومن أشهرهم ووترهاوس وبوسان ولوران ودالي.
والأسطورة تحاول أن تبرهن على النهاية التعيسة التي تنتظر أولئك الذين يحدّقون في صورهم ولا يرون إلا أنفسهم. ويبدو أن رسالتها هي تذكير الناس بالمتع الدنيوية الزائلة. كما أنها تشبه إلى حدّ ما قصص الفانيتا، من حيث أنها تحذّر البشر من الآثار السيّئة للانغماس في المتع المرتبطة بالحبّ والشباب.
هناك من يرجّح أن كارافاجيو رسم اللوحة مباشرة على قطعة القماش وبدون اسكتشات أو رسومات أوّليّة. وقد كلّف صديقا له يُدعى فرانسيسكو بونيري كي يقوم بدور نرسيس في اللوحة، لأنه لم يكن يتحمّل أن يدفع لموديل.
لاحظ كيف أن ملامح نرسيس تشبه ملامح الموديل الذي يظهر في لوحة الرسّام الأخرى المشهورة "استراحة أثناء الرحلة إلى مصر".
كارافاجيو أيضا تجاهل في رسمه للوحة الأشكال والتفسيرات المثالية، وأشبع المشهد بالضوء والظلّ لكي ينتج جوّاً دراماتيكيّا، ووضع البطل لوحده في دائرة الضوء القويّ والكاشف.
أسطورة نرسيس تركت أثرا كبيرا على الفنّ والأدب. رواية "صورة دوريان غراي" استوحاها اوسكار وايلد من هذه الأسطورة. كان بطل الرواية قد رسم لنفسه لوحة وأخذ يحدّق فيها طوال الوقت. وكلّما ارتكب خطئاً في حياته، كلّما أصبحت صورته أقدم وأقبح، مع انه هو نفسه ظلّ جميلا وشابّا.
وفي رواية ميلتون "الفردوس المفقود"، تحدّق حوّاء في انعكاس صورتها في بحيرة وتشتهيها عبثا، كما يفعل نرسيس.
حياة كارافاجيو كانت مليئة بالجرائم والإثارة. ورسوماته فيها الكثير من المزاج والحركة والنشاط. وهو ينتمي إلى حركة الباروك التي ظهرت في ايطاليا وكان من أقطابها كلّ من ميكيل انجيلو وتنتوريتو.
وقد حظيت تلك الحركة بدعم ورعاية كلّ من الكنيسة الكاثوليكية والعائلات الارستقراطية. وغالبا كان رجال الدين والأغنياء يرون في الباروك وسيلة أو أداة للبرهنة على الثروة والسلطة.
ورسْم الباروك لم يكن يختلف كثيرا عن عصر النهضة، باستثناء أن ألوانه كانت أكثر ثراءً وقتامة، مع تركيز خاصّ على المواضيع الدينية.
أسطورة نرسيس ما تزال وثيقة الصلة بعالمنا اليوم. فكلّ إنسان لا يخلو من شعور بالأنانية. واستغراق الناس بذواتهم هي سمة من سمات هذا العصر، لدرجة أننا لا نرى في الآخرين سوى انعكاس لذواتنا، وهذا التفسير يبدو مقنعا إلى درجة كبيرة.
أيضا موت نرسيس يعلّمنا انه من غير اللائق أن نحبّ أنفسنا أكثر من اللازم، وأننا نموت بسبب استغراقنا في التفكير بذواتنا. ولأن نرسيس كان أنانيّا فقد عوقب بالنبذ والإبعاد ثم مات كإنسان خاطئ. وهي نهاية محزنة ولا شكّ، لأن عقوبته لم تكن عادلة ولا مبرّرة، فمن الواضح انه كان يفكّر مثل أيّ إنسان آخر.
غير أن الجانب الايجابي في قصّته هو أنها وفّرت افكارا مثالية للفنّانين، ويقال أحيانا أن أوّل مبتكر للرسم كان نرسيس نفسه، لأن الرسم في النهاية ليس سوى انعكاس لنظرة الرسّام إلى نفسه.
بل إن بعض المؤرّخين ذهبوا إلى أن كارافاجيو أيضا كان نرجسيّا وأنه في اللوحة إنّما كان يرسم نفسه. والحقيقة أن لهذه النظرية أصلا، فكلّ رسّام بداخله نرسيس، لأنه عندما يخلق أو ينتج فنّا فإنه إنّما ينظر إلى نفسه في حالة الإلهام والإبداع.
الرسّام الفرنسي نيكولا بوسان الذي كان معاصرا لكارافاجيو لم يكن يطيق أسلوب الأخير في الرسم. وقد قال ذات مرّة إن كارافاجيو أتى إلى هذا العالم كي يدمّر الرسم. غير أن ترجمة بوسان لأسطورة نرسيس كانت تقليدية وكلاسيكية مقارنة مع نسخة كارافاجيو الجميلة والقاتمة.