جورج واشنطن يعبر نهر ديلاوير
للفنان الأمريكي ايمانـويل لـويتـسـا، 1851
كثيرة هي الأعمال الفنّية التي صوّرت ثورة الاستقلال الأمريكية.
كان الكثيرون ينظرون إلى ذلك الحدث باعتباره رمزا للوطنية والتضحية وبحث الأمريكيين عن هويّة وطنية وسياسية.
وضمن هذا الإطار، تكتسب هذه اللوحة أهمّية خاصّة. فقد كانت تعامَل بشيء من التقديس والإجلال، بالنظر إلى رمزيّتها الكبيرة التي لا تقلّ عن تمثال الحرّية.
ويقال إنها أفضل عمل فنّي يسجّل ذلك الحدث التاريخي. ولا يُعرف على وجه التحديد عدد المرّات التي وُظفت فيها هذه اللوحة التي فاقت شهرتها شهرة الفنّان الذي رسمها.
واللوحة تصوّر ما حصل ليلة عيد الميلاد من عام 1776 عندما قاد جورج واشنطن مجموعة صغيرة من الرجال عبرت نهر ديلاوير واشتبكت مع الجنود البريطانيين في سلسلة من المعارك التي كانت مقدّمة لانتصار الأميركيين النهائي في حربهم لنيل الحرّية والاستقلال عن الاستعمار البريطاني.
وقد تحقّق ذلك الانتصار السريع والمفاجئ بعد هزائم وتراجعات عديدة مُني بها الأمريكيون، ما تسبّب في تقويض روحهم المعنوية.
من المفارقات الغريبة أن ايمانويل لويتسا رسم اللوحة بعد مرور ثمانين عاما على تلك الحرب. أي انه لم يكن يعرف بالتحديد تفاصيل ما حدث في تلك الليلة المصيرية. ثم انه رسمها في ألمانيا، وليس في أمريكا، حيث كان يدرس الفنّ هناك.
كان لويتسا متأثرا بالثورة الفرنسية وبأفكار ماركس وانغلز المحرّضة على التغيير والثورة. كما كان شاهدا على الاضطرابات التي كانت تعمّ مناطق كثيرة من أوربّا على خلفية محاولات نابليون تأسيس إمبراطورية فرنسية عظمى.
قبل ذلك بسنوات، كانت عائلة لويتسا قد لجأت إلى أمريكا خوفا من بطش الملكية الألمانية التي كان والده احد مناوئيها. وعندما عاد الرسّام إلى موطنه الأصلي، أي ألمانيا، للدراسة، اختار أن يقيم في دوسلدورف وأن يدرس الرسم في أكاديمية الفنون فيها. هناك رسم هذه اللوحة. وفي الحقيقة فقد رسم نسختين منها. الأولى ظلّت في دوسلدورف وكانت من ضمن ما دمّرته طائرات الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية التي حوّلت المدينة إلى أنقاض وخرائب. والنسخة الثانية المعدّلة، أي هذه، أرسلها الفنان إلى أمريكا كي تُعرض هناك.
في أمريكا، سرعان ما اشتهرت اللوحة وأحبّها الناس لأنها كانت تعزف على وتر المشاعر الوطنية. كما غضّ الكثيرون الطرف عمّا قيل من عدم دقّة بعض التفاصيل التي تتضمّنها والتي تختلف عن السياق التاريخي للحادثة. قيل مثلا أن عبور نهر ديلاوير حدث في الليل وليس ساعة الغروب وأن الفنّان رسم في الحقيقة نهر الراين وليس ديلاوير. كما أن جورج واشنطن كان آنذاك في الأربعينات من عمره، في حين أن اللوحة تصوّره رجلا عجوزا.
هناك أيضا صورة جيمس مونرو، الذي أصبح في ما بعد الرئيس الخامس للولايات المتّحدة، والذي يظهر في اللوحة ممسكا بالعلم. يقال إن العلم أضيف إلى اللوحة في ما بعد وأنه لم يكن نفس العلم الذي رُفع في الحادثة. الرواية التاريخية تتحدّث أيضا عن ليل مظلم وطقس رديء وثلج وغيوم كثيفة، وهي عوامل كانت تشير إلى جسامة المهمّة التي قام بها واشنطن ورفاقه. لكن اللوحة لا تنقل شيئا من تلك التفاصيل.
وعلى الرغم من كلّ ما قيل عن عيوب اللوحة وأخطائها، فقد نجح الرسّام في تصوير روح العزيمة والطبيعة الضخمة لذلك الحدث المفصلي الهام.
وهناك مفارقة أخرى في اللوحة. فقد كانت في الأساس موجّهة إلى الجمهور الألماني وليس الأمريكي. كان الألمان وقتها، ومن ضمنهم لويتسا نفسه، يحدوهم أمل كبير في أن يروا دولتهم - الغارقة وقتذاك في أتون الخلافات والنزعات الانفصالية – وقد توحّدت وأصبحت قويّة ومهابة الجانب. وهذه اللوحة أظهرت لهم كيف أن مجموعة صغيرة من الرجال استطاعوا تحقيق الاستقلال والحرّية لبلدهم بفضل تحلّيهم بروح العزيمة والإصرار والمثابرة.
وقد تأثّرت باللوحة أجيال عديدة من المهاجرين الذين قصدوا الأراضي الأمريكية بحثا عن الفرص والحياة الجديدة وانتصروا على الظروف الصعبة بمثل ما فعل واشنطن ورجاله.
لكن لا يبدو أن الجميع سعداء باللوحة. فبعض رموز الفنّ الحديث كثيرا ما هاجموها على أساس أنها رمز لقوّة أمريكا وهيمنتها الاستعمارية.
وفي الحقيقة، قد لا تتوفّر هذه اللوحة على الكثير من القيم الجمالية والإبداعية. غير أن من المؤكد أنها لعبت دورا في إشعال حماس الأمريكيين وتقوية انتمائهم وذكّرتهم بفصل مهمّ من تاريخ بلدهم في وقت لم يكن فيه صحافة أو وسائل إعلام توثّق لما حدث.
وإلى اليوم، ما يزال الأطفال الأمريكيون يتعلّمون تاريخ بلدهم من منظور هذه اللوحة الحاضرة دوما في الكتب والمناهج الدراسية.
وهناك لوحة رقمية مستنسخة عنها وبنفس حجمها الضخم مقامة في نفس المكان الذي عبر منه واشنطن، يراها الزوّار والسيّاح ويتأمّلون من خلالها كيف أن حادثة صغيرة وعابرة استطاعت أن تغيّر مجرى تاريخ أمريكا والعالم.