أمسية صيفية في بلاد الشمال
للفنان السويدي ريتـشـارد بـيـرغ، 1900
قد لا يكون ريتشارد بيرغ اسما مألوفا كثيرا. وشهرته لا تكاد تقارن بشهرة بعض الأسماء السويدية المعاصرة أمثال انغمار بيرغمان وغريتا غاربو وانغريد بيرغمان أو حتى بيورن بورغ.
وهو بالتأكيد اقلّ شهرة من معاصره الرسّام اندرز زورن. لكنه في زمانه كان رسّاما متميّزا وأكاديميا بارزا كتب الكثير من الكتب والمقالات التي ضمّنها أفكاره وآراءه عن علاقة الفنّ بالأدب والموسيقى والفلسفة. كما عُيّن في فترة من الفترات مديرا للمتحف الوطني في السويد.
وقد عاش بيرغ في الوقت الذي كانت المدرسة الرومانسية في الأدب والفنّ في أوج صعودها. وكان معاصرا لأهمّ وأشهر الشخصيات التي عرفتها السويد في القرن التاسع عشر، مثل الكاتب المسرحي اوغست ستريندبيرغ والروائية الحائزة على جائزة نوبل في الأدب سلما لاغرلوف والشاعر كارل غوستاف هيدنستام الحائز هو الآخر على نوبل والمؤلّف الموسيقي وليام ستيبنهامر ولارس اريكسون احد روّاد صناعة التليفون في العالم.
وبيرغ ينحدر من عائلة بورجوازية مرموقة. وكان والده رسّام طبيعة وأستاذا أكاديميا. وفي سنّ الخامسة والعشرين ذهب إلى باريس حيث اطلع على بعض فعالياتها الأدبية والفنية وتعرّف على عدد من رموز الانتيليجنسيا الفرنسية كما تلقى هناك دروسا في الرسم.
كان رومانسيّو القرن التاسع عشر السويديون يُبرِزون في أعمالهم العلاقة الروحية التي تربط الإنسان بالطبيعة. وكانوا يروّجون للبدائية كأسلوب حياة يمكن أن يعوّض الإنسان عن إحساسه بالاستلاب والعزلة الروحية. ولهذا كانت مناطق الشمال الاسكندينافي التي تتميّز بغاباتها الكثيفة وكثرة غدرانها وبحيراتها وجبالها مقصدا لأفراد الطبقة البورجوازية الذين كانوا يذهبون إلى هناك للاستجمام وممارسة الرياضة وقضاء فصل الصيف في أكواخ ونزُل بدائية.
وقد رسم بيرغ هذه اللوحة التي يصوّر فيها مشاعر شخصين، رجل وامرأة، في إحدى أمسيات الصيف في الشمال. واستغرقه العمل على اللوحة سنوات رسَم خلالها العديد من الاسكتشات في محاولة لاختيار الوضعية الأكثر ملاءمة لوقوف الشخصيتين فيها.
واللوحة تظهر رجلا وامرأة يقفان كلّ بمواجهة الآخر أمام منظر طبيعي.
غير أنهما منفصلان عن بعضهما وإن كانا يبدوان متوحّدين روحيّا وهما يتأمّلان الطبيعة ومنظر الغروب امامهما.
طريقة وقوف الرجل والمرأة متباعدَين عن بعضهما يفسح المجال أمام الناظر للمشاركة في تأمّل الطبيعة واستكناه روح المكان.
وثمّة احتمال بأن يكون الرسّام أراد من وراء اختيار وضعية الوقوف هذه التأكيد على المساواة بين الجنسين، وهي الفكرة التي كان يروّج ويدعو لها أتباع المدرسة الرومانسية.
بعض الكتّاب الغربيين تحدّثوا في الكثير من المناسبات عن ارتباط السويديين والنرويجيين الروحي بالطبيعة، وبالغابات على وجه الخصوص، وهو أمر يصعب شرحه أو تفسيره أحيانا. وتمتلئ قصائد الشعر الرومانسي في البلاد الاسكندينافية بالصور التي تتحدّث بتوق جارف عن الأشجار وملاعب الطفولة ومرابع الصبا والأيّام الخوالي التي ذهبت ولن تعود.
هذه اللوحة كثيرا ما يُطلق عليها اسم آخر هو الأنوار الشمالية، ربّما لأنها تذكّر بأجواء شمال أوربا الشديدة البرودة حيث تختفي الشمس معظم أيّام السنة ويتلاشى مفهوم الليل والنهار ويفقد الناس إحساسهم بالزمن، وكلّ ما يمكن رؤيته بعد ذلك مجرّد ضوء شاحب ومعتم يخلع على الطبيعة رداءً فانتازيا وساحرا. كما يحيل الاسم إلى الظاهرة الفلكية النادرة التي تظهر في تلك الأرجاء في بعض الليالي على هيئة كرنفال صاخب من الألوان الزرقاء والخضراء والبيضاء التي تتراقص فوق سماوات القطب المخملية بفعل تأثير الرياح الشمسية، وهو ما يعتبره العلماء أحد أجمل المناظر الكونية التي يمكن رؤيتها من على كوكب الأرض.
من الواضح أن اللوحة شديدة الواقعية، وما من شكّ في أن تفاصيلها رُسمت بعناية فائقة. والذي يراها للوهلة الأولى قد يظنّها صورة فوتوغرافية لشدّة واقعيّتها وقد لا يصدّق أنها رُسمت قبل أكثر من مائة عام.
كان ريتشارد بيرغ يرفض الأفكار المسيحية واليهودية عن الحياة بعد الموت ويؤمن بأن الغاية من الوجود تتحقق فقط في هذه الحياة. ومثل الرومانسيين الآخرين، لم يكن يعوّل كثيرا على السيرورة التاريخية أو الانتقال من طور لآخر، بل كان اهتمامه منصبّا على أن يستمتع الإنسان بوجوده الأرضي وأن لا يشغل نفسه كثيرا بالأمور الميتافيزيقية أو الغيبية.
وكان أيضا يؤمن بأن الفنّ متجذّر في الطبيعة وخاضع لقوانينها رغم أن تفسير تلك القوانين قد يأخذ أحيانا تمظهرات صوفية وغامضة. كما كان يرى بأن الفنّ ليس سوى انعكاس لحاجة فطرية للتعبير عن الشعور وأن الفنان يجب أن لا يتوقّف عند المظاهر الخارجية بل أن ينفذ إلى جوهر الأشياء كي يصل إلى الحقيقة المطلقة.