بـورتريـه دراكـيــولا
(القرن الخامس عشر الميلادي)
يعتبر دراكيولا احد أشهر الشخصيّات التاريخية التي ظهرت في أوربّا خلال القرون الوسطى.
وقد ُنسجت عن هذا الرجل وعن حياته الكثير من الأساطير والقصص الغريبة، وأصبح مادّة للعديد من الأعمال الأدبية والمسرحية والموسيقية، وكُتب عنه الكثير من الدراسات النفسية والانثروبولوجية التي تتناول ظاهرته بالدراسة والتحليل.
وطوال الخمسمائة عام الأخيرة أصبح دراكيولا (واسمه الأصلي فلاد تيبيس Vlad Tepes) رمزا للساديّة والعنف والوحشية.
ويحتفظ التاريخ المدوّن بقصص تقشعر لها الأبدان، وأحيانا تستعصي على التصديق، عن مدى همجية هذا الرجل وقسوته المتجاوزة.
فقد ُعرف عنه انه كان يعاقب أعداءه بإلقائهم في النار أو في صهاريج الزيت المغلي أو بسلخ جلودهم وهم أحياء.
لكن معظم ضحاياه ماتوا على الخازوق، وتلك كانت وسيلته المفضّلة في قتل خصومه. ولهذا الغرض كان يقيم حفلات إعدام جماعية يتناول خلالها الطعام مع النبلاء وسط صرخات وأنين الضحايا المحتضرين. ويبدو أن غايته من وراء استخدام تلك الأساليب الرهيبة كانت ردع كل من تسوّل له نفسه خيانته أو التآمر عليه.
والغريب أن بعض النبلاء الذين كانوا يحضرون معه حفلات الإعدام تلك انتهى بهم الأمر في نهاية المطاف إلى الإعدام بنفس الطريقة.
وفي إحدى المرّات عمد إلى دقّ رؤوس مبعوثي السلطان العثماني محمّد الفاتح بالمسامير لأنهم رفضوا خلع عمائمهم في حضرته.
وتذكر بعض الروايات أن دراكيولا كان يستحمّ بدماء بعض ضحاياه لكي يحتفظ بشبابه وقوّته.
السؤال الذي قد يكون خطر بذهن كلّ من قرأ شيئا عن سيرة حياة هذا السفّاح الكبير هو: ترى كيف كانت هيئته وكيف كانت تبدو ملامح وجهه؟
هذا البورتريه، الشهير والمألوف كثيرا، يوفّر بعض الإشارات التي تقود إلى إجابة ما عن هذا السؤال.
في البداية، لا يُعرف على وجه التحديد من رسم البورتريه. لكن أهميّته أنه ُرسم أثناء حياة دراكيولا، أي أن الرسّام إما انه رأى الرجل عيانا أو انه على الأقل سمع بعضا من أوصافه على ألسنة الناس الذين رأوه.
واللوحة تثير مجدّدا السؤال القديم عن العلاقة بين ملامح الإنسان أو شكله الخارجي وبين نمط سلوكه وطبيعة تصرّفاته.
ملامح الوجه غريبة إلى حدّ ما. هنا لا عظام ولا دم ولا عضلات. العينان واسعتان والأنف حادّ ودقيق والحواجب رفيعة والشارب طويل، مجعّد وملفوف. شعر الرأس هو الآخر طويل، كثيف ومجعّد. ويمكن للناظر أن يتخيّل لأول وهلة أن الشعر الطويل جزء من غطاء الرأس.
الانطباع الذي يوحي به بورتريه دراكيولا هو أننا أمام رجل صارم وقويّ الشخصية، بدليل فمه المطبق ونظراته النافذة والتي تشي بسيطرته على كلّ ما حوله ومن حوله.
شكل العمامة التي يضعها على رأسه لا تخلو من أناقة تبدو شرقية الطابع. وهناك في وسطها نجمة ذهبية تتوسّطها لؤلؤة حمراء.
تقول بعض المصادر التاريخية إن الجيش التركي ضرب حصارا على قلعة ترانسيلفانيا حيث كان دراكيولا يتحصّن. وبعد أيّام من الحصار هرب عبر نفق تحت الأرض ليختبئ في الجبال. لكن زوجته فضّلت أن تلقي بنفسها من أعلى القلعة لتلقى حتفها.
غير أن دراكيولا لم يلبث أن لقي مصرعه على يد الأتراك في العام 1476م.
وقد ُقطع رأسه وأرسل إلى السلطان العثماني في القسطنطينية فيما ُدفنت بقاياه في أحد الأديرة.
بعد قرون، أمرت السلطات الرومانية بحفر القبر، لكن لم ُيعثر فيه سوى على عظام حيوان ميّت. وهذا أفسح المجال لرواج شائعات تقول إن قوى شيطانية اختطفت الجثة وأن دراكيولا تحوّل بعد ذلك إلى مصّاص للدماء بعد أن لحقته اللعنة الأبدية.
وبعد أربعمائة عام على اختفائه، استؤنف الحديث مجدّدا عن دراكيولا بفعل النجاح الساحق الذي حقّقته رواية دراكيولا للكاتب الايرلندي برام ستوكر.
هذه الرواية تحوّلت في ما بعد إلى فيلم سينمائي أخرجه فرانسيس فورد كوبولا وشكّلت بداية حقبة مهدّت لرواج فكرة الفامبايرزم Vampirism أو تقليد مصّ الدماء وانتشارها على نطاق واسع، حيث أصبحت موضوعا للعشرات بل المئات من الأعمال الروائية والمسرحية والسينمائية التي تمتزج فيها الحقيقة بالخيال.
بشكل عام، يمكن القول إن هذه اللوحة قد لا تنطوي على قيم جمالية ظاهرة، لكن أهمّيتها تتلخص في كونها تقدّم صورة بصرية مقرّبة عن الطبيعة الشرّيرة والقاسية لصاحبها.
بعض معاصري دراكيولا يصفونه بأنه كان رجلا صارما شديد المراس ذا عينين خضراوين واسعتين وحواجب كثّة وعنق ضخم.
دراكيولا لم يكن الطاغية الوحيد الذي مثّلت شخصيّته تشكيليا، فهناك العديد من اللوحات والأعمال النحتية التي تصوّر شخصيّات كريهة أخرى مثل نيرون وجنكيز خان وكاليغولا وغيرهم.
أما بالنسبة للفامبايرزم فقد أصبح اليوم ثقافة شعبية قائمة بذاتها في الغرب وجزءا لا يتجزّأ من الأدب والفنّ وحتى الفلكلور.
وتحتشد الأفلام السينمائية التي تتحدّث عن هذه الظاهرة، عادة، بصور الأشباح والقبور والقلاع المظلمة والخفافيش والذئاب والبوم والبرق والمطر والعواصف وضوء القمر الشاحب والضباب.
وبعض النقاد يرجعون أسباب هوس الناس بالفكرة إلى كونها تلامس مخاوف الإنسان العميقة كما أنها ترتبط بالجوانب المظلمة للطبيعة البشرية.
وهناك أيضا الجانب المتعلق بميل الإنسان لكل ما هو ممنوع وتطلعه للشباب الدائم والخلود.
ثم هناك أيضا عنصر الدم نفسه الذي يحتلّ مكانا مركزيا في الشعور الديني من حيث ارتباطه بالتضحية والتطهير.
وأخيرا هناك عنصرا السلطة والإغراء الجنسي اللذان أصبحا جزءا لا يتجزّأ من صورة مصّاص الدماء كما يقدّمه الأدب والفنّ.
موضوع ذو صلة: قراءات في أدب وسينما الرعب