بــرج بــابـــل
للفنـان الهولندي بيـتر بـريغــل الأبّ، 1569
ارتبط اسم بابل تاريخيا بالقائد نبوخذ نصّر وبالحضارة السومرية. وقد تحوّلت هذه المدينة إبّان حكمه إلى اكبر حواضر العالم القديم.
وفي ما بعد أصبحت بابل جزءا من مملكة النمرود. وفي عهده بدأ بناء البرج الذي اقترن باسم المدينة وأصبح في ما بعد إحدى عجائب الدنيا السبع.
حدث هذا في ما بين القرنين السادس والسابع قبل الميلاد، أي بعد فترة قصيرة من وقوع حادثة الطوفان.
تقول المصادر التاريخية إن من نجوا من طوفان نوح وجدوا في بابل ملجئا وملاذا لهم.
كانوا يتحدّثون لغة واحدة ويعيشون معا في سلام. لكن الملك النمرود كان واقعا تحت هاجس الخوف من أن يتفرّق الناس ويتوزّعوا على الأرض، تنفيذا لأوامر الربّ الذي دعاهم لتكثير النسل والسير في مناكب الأرض لتعميرها.
لذا قرّر النمرود بناء برج عظيم يطاول السماء واختار أن يُبنى على قمّة البرج معبد كي يكون المؤمنون قريبين من الله، وبذا يجدون ما يشدّهم إلى أرضهم ويرغّبهم في البقاء فيها.
ولوحة بيتر بريغل الأبّ هي أشهر عمل تشكيلي يتّخذ من تلك الحادثة موضوعا له. وأهم ما يلفت الانتباه في اللوحة هو تركيز الفنان على إبراز عظمة البناء الهندسي والمعماري والزخرفي للبرج.
والبناء نفسه، بجدرانه وطوابقه وأعمدته وأقواسه، هو الذي يحتلّ كامل مساحة اللوحة تقريبا، حيث لا أشياء ولا تفاصيل أخرى يمكن أن تصرف الاهتمام عن هذه الكتلة الهائلة من الطين واللبن التي تلامس ذروتها الغيم. اللهم إلا إذا استثنينا منظر النمرود في أسفل اللوحة وهو يعاين المكان مصحوبا بأفراد حاشيته، فيما راح بعض الأشخاص يسجدون عند قدميه علامة الخضوع والطاعة.
الروايات الإنجيلية تذكر أن البرج كان آية في الإعجاز والفخامة، حتى أن الربّ اضطر إلى أن يغادر عرشه وينزل إلى الأرض ليرى ماذا كان البنّاءون يصنعون. وعندما أدرك حقيقة الأمر، أرسل على الفور ريحا مدمّرة أطاحت بالبناء الهائل وحوّلته بلمح البصر إلى أنقاض.
أما المصادر التوراتية فتشير إلى أن أكثر من ثلث من شاركوا في تشييد البرج قد "مُسخوا إلى مخلوقات شيطانية" قبل أن يُنفوا إلى مكان ناء من الأرض عقابا لهم على عصيان أوامر الربّ!
من الواضح أن بريغل نفّذ لوحته بقدر كبير من الإتقان، كما انه أولى التفاصيل فيها اهتماما خاصا.
لكن الناظر إلى البرج لا بدّ وان يتخيّل انه كان أطول بكثير مما يبدو في اللوحة، إذ يقال بأن طوله كان يربو على الـ 300 قدم عند انجازه.
من الأمور التي يمكن أيضا ملاحظتها في اللوحة ميلان البرج جهة اليسار وتساقط بعض الأقواس والجدران والكتل من أماكنها.
وربّما كان هذا يؤشر إلى أن الرسّام كان يعتقد بأن البرج انهار من تلقاء نفسه وبسبب عيوب هندسية وبنائية، وليس بفعل قوى ميتافيزيقية أو معجزات غيبية كما ساد الاعتقاد دائما.
ومن الأمور اللافتة الأخرى أن البرج بُني على حافّة النهر حيث الأرض هشّة وليّنة، ولم يُبنَ على جبل مثلا. وفي هذا إشارة أخرى إلى أن البرج كان يعاني أصلا من عيوب بنيوية أو هيكلية هي التي تسبّبت في تصدّعه ومن ثم انهياره.
بعض المؤرّخين يعتقدون أن قصّة ربط نهاية البرج بغضب الله نشأت عندما جيء باليهود أسرى إلى بابل. وقد رأوا البرج وهالهم منظره وعظمة بنائه وظنوا أن الغاية من إنشائه هي الوصول إلى الله فأحسّوا بالخوف من الفكرة.
وعندما عادوا من بابل نقلوا معهم ذلك الاعتقاد وروّجوه على نطاق واسع حتى ترسّخ في أذهان العامة وأصبح حقيقة لا تقبل الجدل.
والواقع أن الإنسان لا بدّ وأن يتساءل إن كان البابليون، وهم أصحاب حضارة عريقة ابتدعت القوانين والكتابة وأسرار الفلك، كانوا فعلا على ذلك المستوى من السذاجة بحيث يتصوّرون أن بإمكانهم الوصول إلى الله ومواجهته عيانا.
في العصور اللاحقة أصبحت حادثة برج بابل رمزا لخطيئة الإنسان وتطاوله على مشيئة الخالق.
أما لوحة بريغل نفسها فكثيرا ما يتمّ استحضارها عند الحديث عن أهمية التنوّع الثقافي واللغوي ودور تكنولوجيا الاتصالات الحديثة في ربط الشعوب بعضها ببعض رغم الحواجز الجغرافية واختلاف الأديان واللغات والثقافات.
موضوع ذو صلة: أعمى يقود عميانا