Monday, May 22, 2017

لوحات عالميـة – 392

دعوة الناسك متّى
للفنان الايطـالـي كـارافــاجـيــو، 1599

قبل وفاة الكاردينال ماثيو كونتاريللي، أوصى بأن تُزيّن كنيسته بلوحة تصوّر سميّه الناسك ماثيو (أو متّى) الذي كتب أوّل الأناجيل والذي يحمل اسمه.
وقد توسّط راعي كارافاجيو وصديقه فرانسيسكو ديل مونتي لدى الكاردينال بأن يعهد بمهمّة رسم اللوحة إلى كارافاجيو الذي لم يكن عمره وقتها قد تجاوز الثامنة والعشرين.
ورسم كارافاجيو اللوحة بأسلوبه المسرحيّ والدراماتيكيّ المعهود. ثم تحوّلت بعد ذلك إلى إحدى أيقونات الفنّ العالمي.
القصّة التي تصوّرها اللوحة بسيطة. والعبرة التي تحملها هي انه حتى أسوأ الناس وأفسدهم يمكن أن يتحوّلوا في نقطة ما من حياتهم إلى أشخاص أتقياء وصالحين.
وأصل القصّة أن شخصا يهوديا يُدعى ليفي كان يعمل محصّل ضرائب في مدينة الناصرة. وكان مثالا على الفساد والجشع. ثم حدثت له واقعة غريبة تخلّى بعدها عن كلّ ممتلكاته الدنيوية وأصبح إنسانا يُضرب به المثل في التقى والصلاح.
وبعد تلك التجربة تحوّل اسمه من ليفي إلى ماثيو أو متّى ثم أصبح مؤلّف أوّل إنجيل في المسيحية.
اللوحة تشبه لقطة من فيلم، وهي تصوّر اللحظة المفصلية في تلك القصّة التي تحدّثت عنها المصادر المسيحية القديمة. وفيها نرى مجموعة من الرجال مجتمعين في غرفة أنوارها خافتة، بينما يقطع خطّ من الضوء جدار الغرفة من اليمين إلى اليسار.
ماثيو ورفاقه الثلاثة، وكلّهم محصّلو ضرائب، يبدون منهمكين في إحصاء حصيلة ذلك اليوم من أموال الضرائب.
وبينما هم على تلك الحال، يدخل عليهم المسيح بمعيّة بطرس احد الحواريين، وهما يظهران في أقصى يمين اللوحة. المجتمعون يفاجَئون بدخول الضيفين الذين اقتحما عليهم المكان من دون دعوة.
ليفي، الشخص الملتحي والثالث من اليسار، يلاحظ ما حدث، وكذلك الطفل الذي إلى جواره والشابّ الجالس أمامه. الطفل يتراجع إلى الوراء باتجاه متّى وكأنه يتوسّل منه الحماية. أما الشاب المسلّح فيميل بجسمه قليلا باتجاه الزائرَين وكأنه يستطلع الخبر.
الضوء والظلّ يضيفان دراما إلى المشهد ويضفيان على الأشخاص تلقائية وحركة. وهم جميعا مغمورون بالظلال. والضوء الساطع على الجدار هو الذي يضيء المشهد.
الرسّام، من خلال توظيفه البارع لتقنية الظلّ والضوء، أضاف إلى المنظر المزيد من الحياة باستخدام الألوان المتوهّجة وتباينات الأحمر والبنفسجيّ والذهبيّ.
الرجال الملتفّون حول الطاولة يتكوّمون فوق المال، في إشارة إلى جشعهم وانشغالهم بالدنيا. وقد اختار كارفاجيو أن يُلبسهم ثيابا عصرية من أواخر القرن السادس عشر للإيحاء بأن هذا المنظر يمكن أن يتكرّر في أيّ زمان ومكان، وربّما كي يقرّب الفكرة أكثر من أذهان الناس في زمانه.
في تلك اللحظة، يُفاجأ الجميع في الغرفة بالظهور المفاجئ للمسيح وصاحبه اللذين يقطعان عليهم اجتماعهم.
تقول القصّة أن المسيح عندما دخل، نظر إلى ليفي وقال له: اتبعني". اليدان الممدودتان للمسيح وبطرس تؤشّران إلى متّى اكبر المجتمعين سنّا. ومتّى يشير بيده إلى صدره وكأنه يقول: من؟ أنا؟". والضوء ينعكس على وجهه ليوحي انه الشخص المقصود.
الأقدام الحافية والملابس البسيطة للمسيح ورفيقه الناسك تختلف عن الملابس الجميلة والملوّنة والعصرية التي يرتديها جامعو الضرائب. وبطرس يحمل في يده عصا في إشارة إلى انه والمسيح في حالة ارتحال دائم وليس لديهما مكان ثابت يأويان إليه.
كانت حياة متّى كلّها معتمدة على المال، وهناك قطعة نقد معدنية ملتصقة بقبّعته في إشارة إلى المكانة الأثيرة للمال في نفسه.
وربّما تلاحظ أن قدم المسيح تتّجه بعكس جسمه نحو الباب وانه لا ينتظر، فقد تمّ اختيار الشخص المقصود. وعلى متّى أن يحسم خياره بسرعة، فإما أن يستمرّ في الجري وراء المال وإما أن يتخلّى عن أسلوب حياته الماضية ويختار المسيح. أصدقاؤه يستندون إليه لحمايتهم ويشكّلون حاجزا بينه وبين الزائرين الغريبين.
مؤرّخو الفنّ يقولون إن هيئة يد المسيح الممدودة تحاكي حركة يد آدم في لوحة ميكيل انجيلو "خلق الإنسان". وهذه الجزئية تتوافق مع تقليد قديم في المسيحية ينظر إلى المسيح على انه آدم الثاني.
وبعد قليل سينهض ليفي من مكانه ويتبع المسيح إلى خارج الغرفة وسيصبح "الرسول متّى" الذي تتحدّث عنه الأدبيات المسيحية.
طريقة جلوس الأشخاص في اللوحة تشبه ترتيب الشخصيات في لوحة كارافاجيو الأخرى "غشّاشو الورق"، بل حتى معظم الأشخاص الذين استخدمهم الرسّام كنماذج في هذه اللوحة هم نفس الأشخاص الذين يظهرون في تلك اللوحة.
قصة متّى رسمها العديد من الفنّانين أشهرهم جيوفاني لانفرانكو وهندريك بروغين وبرناردو ستروتزي. غير أن تصوير كارافاجيو لها يُعدّ الأفضل والأشهر.
لكن المشكلة أن سيرة حياته لا تتناسب مع موضوع اللوحة. فقد كان بلطجيّا وسكّيرا ومثيرا للمشاكل. غير أن الكنيسة غفرت له أخطاءه واستمرّت في تكليفه برسم لوحات لحسابها.
لكن حدث بعد ذلك أن قتل كارافاجيو رجلا ثم حُكم عليه بالموت. ففرّ هاربا إلى مالطا. وقد اصدر البابا حكما بالعفو عنه، لكنه مات فجأة بالحمّى عام 1610 وعمره لا يتجاوز الثامنة والثلاثين.