التقدّم الأمريكي غرباً
للفنان الأمريكي جـون غـاست، 1872
هذه اللوحة هي نموذج للفنّ عندما يتحوّل إلى دعاية سياسية أو إيديولوجية. ومع ذلك هي مشهورة ومألوفة كثيرا.
وقد تحوّلت مع مرور الأيام إلى صورة "وطنية" وطُبعت على نطاق واسع وأصبحت في ما بعد مرادفة لفكرة الحدود ومعنى توسّع أمريكا غربا في القرن التاسع عشر.
واللوحة تثير أسئلة تاريخية وسياسية وثقافية كثيرة يتركّز أهمّها حول مشروعية استخدام الفنّ كأداة للترويج لأفكار التوسّع والاحتلال وتنميط الآخر عنصريا.
جون غاست رسَم اللوحة استنادا إلى فكرة دينية تقول إن إنشاء الولايات المتحدة كان قدرا من الله وان التوسّع غربا، أي باتجاه أراضي الهنود الحمر، لم يكن عملا أخلاقيا فحسب وإنّما كان أيضا إذعانا للمشيئة الإلهية.
أمريكا في اللوحة تجسّدها امرأة شقراء ذات ملامح ملائكية ترتسم على جبينها نجمة الامبرطورية وتخطو في الهواء وهي تحمل معها الثقافة والتنوير وأسباب الحضارة الأخرى كي تضيء بها أرضا متخلّفة.
كان الأمريكيون قد بدءوا التقدّم غربا مدفوعين بفكرة دينية تقول إن الله كلّفهم بذلك. وبدأت مسيرتهم من الشرق إلى الغرب، ثم تطوّرت عبر موجات متتالية من الانغلوساكسون الذين اجتاحوا أراضي الهنود تمهيدا لاستيطانها.
في اللوحة، تحمل المرأة في إحدى يديها كتابا مدرسيا وباليد الأخرى أسلاك الهاتف والتلغراف التي يُفترض أنها ستربط الأراضي المفتوحة ببقية أرجاء البلاد. والى أسفل، على الأرض، يظهر جنود وخطوط سكك حديد وعربات نقل وصيّادون ومنقّبون عن الذهب وعربات بخارية. أي باختصار كلّ ما له علاقة بالمدنية الحديثة.
وأمام المسيرة الزاحفة يفرّ الهنود والجواميس والدببة والخيول البرّية ويغيبون في العاصفة.
هذه اللوحة رُسمت بناءً على طلب احد ناشري كتب السفر والرحلات. لكنها سرعان ما أصبحت وسيلة لتشجيع الناس على الذهاب غربا واستعمار أراضي الهنود لأنها تصوّر ما حدث على انه حرب مقدّسة..
فالهنود في اللوحة، واستنادا إلى تلك الفكرة، يهربون من أمام المسيرة لأنهم غير قادرين على التكيّف مع تيّار التاريخ والحضارة، ولأنهم يعبدون آلهة وثنية. وهم يهربون أيضا لكي لا يتمّ أسرهم. فهم في النهاية مخلوقات دون مستوى الإنسان، وهذا مبرّر إضافي لتشريدهم واحتلال أرضهم.
في اللوحة تبدو الأراضي التي فتحها المستوطنون للتوّ في غاية الترتيب والنظام. فالسماء مشرقة وكلّ شيء ساكن وهادئ. لكن المناطق الواقعة إلى يسار اللوحة، أي التي لم يبلغها المستوطنون بعد، تبدو وقد أظلّتها السحب السوداء التي ترمز للجهل والظلام والفوضى والتخلّف.
في تلك الفترة راجت بين المهاجرين الأوربّيين الجدد فكرة تقول إن الغرب الغنيّ لا يسكنه سوى أناس همج وحيوانات مفترسة. وقد كان على الإنسان الأبيض أن ينهض بالمهمّة المقدّسة التي أوكلها إليه الربّ. لذا يظهر الهنود في اللوحة وهم يهربون خوفا من تحقّق الرؤيا الغيبية العجيبة التي ستحوّل أرضهم الخالية إلى جنّة موعودة.
ويمكن اعتبار اللوحة تصويرا مجازيا لفكرة أخرى تقول إن التوسّع أو الاحتلال ليس شيئا حسنا فحسب وإنّما هو أمر حتمي، لأنه نزول عند رغبة الربّ في أن يرى الناس يذهبون إلى الغرب لينشروا فيه التعاليم المسيحية.
من الأشياء اللافتة في اللوحة أن الرسّام تعمّد حصر الهنود في زاوية صغيرة من اللوحة. وفي هذا تشجيع للبيض بأنهم إنّما يفعلون الشيء الصحيح. فأصحاب الأرض الأصليون سينكمشون وينتهون، والمستوطنون سيستولون على الأرض الجديدة لا محالة.
التقدّم الأمريكي باتجاه الغرب كان حدثا مفصليا وهامّا في التاريخ الأمريكي.
وقد ترك الحادث آثارا ونتائج عديدة وانقسم الناس حياله لأسباب إنسانية وأخلاقية في الغالب.
هناك مثلا من كان يرى أن التكنولوجيا الحديثة وموجات الاستيطان المتعاقبة التي أتت إلى أراضي الهنود دمّرت ثقافتهم وأضعفت هويّتهم وأورثتهم مزيدا من التوجّس والعزلة. وهناك من قال أن الهنود الحمر كان لهم آلهة كثيرة وكانوا يطلبون منها الحماية. وفجأة أتاهم أناس غرباء كانوا يعتقدون أن الله أمرهم باحتلال الأرض وإبادة عشرات الآلاف من سكّانها الأصليين واضطهادهم.
وهناك اليوم من الأمريكيين من لا يريد أن يتذكّر تلك الحقبة المظلمة من تاريخ بلدهم. وبالتالي فهم لا يرون في هذه اللوحة مصدر اعتزاز مهما تدثّرت بالشعارات الدينية والوطنية.