Saturday, November 24, 2007

لوحات عالميـة – 149‏

رُعـــاة أركــاديـــا
للفنان الفرنسـي نيكـولا بُـوســان، 1627

تستمدّ هذه اللوحة المشهورة موضوعها من قصّة أسطورة، أو بالأحرى من مقطع قصيدة للشاعر الروماني فرجيل الذي عاش قبل الميلاد يتحدّث فيه عن الرعاة الأركاديين "نسبة إلى أركاديا".
وأركاديا منطقة في اليونان عُرفت في الأزمنة السحيقة بسهولها الخصبة وتلالها الخضراء وحدائقها الغنّاء. كما اشتهرت بنهرها الذي أتى على ذكره الشاعر الانجليزي كولريدج في إحدى قصائده.
كانت أركاديا بمثابة الفردوس المفقود أو اليوتوبيا التي طالما تحدّث عنها الشعراء والفلاسفة وكان الوصول إليها أمرا في غاية الصعوبة إذ كانت تحيطها الجبال الوعرة من مختلف الجهات.
وفي أركاديا كانت تكثر البحيرات والغدران والمروج والغابات. ولم تكن سكناها مقتصرة على البشر وحدهم، بل كان يعيش معهم مخلوقات أخرى مثل عرائس البحر وحوريات الغابات وملكات الليل والجياد المجنّحة بالإضافة إلى عدد غير قليل من الآلهة.
في ذلك الزمان كان أهل أركاديا يشتغلون برعي الماشية.
لم يكن يكدّر صفو حياتهم شيء، وكانوا يمضون جلّ وقتهم في عزف الموسيقى والغناء والرسم.
ومع الأيام أصبحت موسيقاهم محلّ تقدير وإعجاب الشعوب اليونانية كلها. كما وجد الشعراء في تلك الموسيقى مصدرا يستلهمون منه قصائدهم وأشعارهم.
وكان من بين هؤلاء فرجيل الذي كتب قصيدة أجراها على لسان الموت وكيف انه موجود "حتى في أركاديا".
الفنان نيكولا بوسان اقتبس هذا الجزء من القصيدة واستلهم دلالته كمضمون لهذه اللوحة التي تعتبر أشهر لوحاته وأكثرها انتشارا.
كان بوسان رسّاما وشاعرا وفيلسوفا. وكان يستمدّ مواضيع لوحاته من آثار وأساطير العالم القديم.
وقد وجد في قصّة أركاديا موضوعا يتساوق مع ميله لتصوير الميثيولوجيا. ثم إنه عاش في القرن السابع عشر، وهو العصر الذي كان يتّسم بشيوع الأفكار والتقاليد الرعوية في فرنسا، تماما مثلما كان عليه الحال في أركاديا، عندما كان الناس يقبلون على الموسيقى والأشعار العاطفية والملحمية.
في اللوحة نرى أربعة رعاة، ثلاثة رجال وامرأة، يتأمّلون قبرا مبنيّا من الحجارة في بقعة نائية. ويبدو الرعاة الأربعة وهم يحاولون تهجئة جملة كتبت على القبر باللاتينية تقول: حتى في أركاديا أنا موجود".
من المفترض أن الرجل الميّت كان يعيش في أركاديا. وبيئة المكان نفسه من حجارة وشجر وخلافه تعطي انطباعا عن حضارة موغلة في القدم. حتى هيئة الأشخاص ولباسهم يبدو متناغما مع طبيعة المكان.
من الأشياء الملفتة في اللوحة منظر احد الرعاة الذي يبدو جاثيا على ركبته ومشيرا بإصبعه نحو القبر وهو يحاول قراءة العبارة المنقوشة على جداره.
ثم هناك الراعي الثاني إلى اليسار الذي راح يخاطب المرأة ذات التقاطيع التمثالية الجميلة كما لو انه يطلب منها قراءة ما هو مكتوب على القبر. والطريقة التي تنظر بها المرأة إلى ما يجري ربّما تشي بأنها هي الشخص الذي يعوّل عليه الباقون مهمّة فكّ الأحرف المكتوبة على القبر.
من الواضح أن المشهد يصوّر لقاءً مباشرا مع الموت. أما الانفعالات المرتسمة على وجوه الشخوص فيغلب عليها الشعور بالمفاجأة أكثر من كونه شعورا بالرهبة أو الخوف.
والفكرة التي يريد الفنان إيصالها من خلال اللوحة مباشرة وواضحة. إنه يقول إن الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة هي أننا نولد ثم نموت، وأن لحظات السعادة في الدنيا قصيرة وعابرة. وحتى عندما نكتشف مكانا نشعر فيه بالسعادة وراحة البال، مثل أركاديا، فإننا يجب أن نتذكّر أن هذا المكان محكوم هو أيضا بالفناء والتلاشي في نهاية المطاف.
وبهذا المعنى فإن أركاديا ليست أكثر من ملاذ مؤقّت يلتمس فيه الإنسان بعض السعادة والراحة، لكنه في النهاية لا يوفّر حلا واقعيا يخفّف عن الإنسان ثقل هاجس انشغاله بالطبيعة الموقّتة للحياة وحتمية الموت.
وهذه هي الفكرة التي سنجد صداها يتردّد في ما بعد في أعمال رسّامين آخرين جاءوا بعد بوسان مثل ايشر و ماغريت و فريدريش و باكلين وسواهم.
لقد كُتب عن هذه اللوحة الكثير. وثمّة قصص متواترة عن أسرار خفيّة ورموز غامضة قيل إن الفنان أودعها فيها.
وفي بعض الأوقات راجت أقاويل عن ارتباط اللوحة ببعض الجماعات والمنظمات السرّية والمغامرين الباحثين عن الكنوز الدفينة.
من الواضح أن الفنان خطط لوحته هذه بعناية، كما أن استخدامه للألوان الشفّافة والأشكال الواضحة في اللوحة ينمّ عن براعة غير عادية.
وليس بالمستغرب أن تروق هذه اللوحة للفلاسفة والشعراء بالنظر إلى مضمونها الفلسفي والوجودي.
مما يجدر ذكره أن بوسان عاش معظم حياته في ايطاليا التي بُهر بشواهدها الاثارية ومعالمها النحتية العظيمة.
ولهذا السبب كان يرى الأشياء بعيني نحّات، وكان يردّد دائما أن الفنّ العظيم هو الذي يخاطب العقل لا الحواسّ.

موضوع ذو صلة: مناظر من أركاديا

Wednesday, November 21, 2007

لوحات عالميـة - 148‏

منظـر لـ ديـلـيـفـت
للفنان الهولنـدي يـوهـان فيـرميــر، 1660

لوحة أخرى لـ فيرمير يعتبرها الكثير من النقاد ومؤرّخي الفن احد أفضل الأعمال التشكيلية الغربية التي تصوّر طبيعة الحياة في مدينة بحرية.
بل أن الروائي الفرنسي مارسيل بروست يعتبرها أجمل لوحة وقعت عليها عيناه.
والمدينة التي اختارها فيرمير موضوعا لهذه اللوحة هي ديليفت، مدينة الفنان التي ولد فيها وعاش وتوفّي.
وفي العصور اللاحقة أصبح اسم هذه المدينة مرادفا لاسم هذا الفنان العظيم الذي خلـّد في رسوماته الكثير من مظاهر الحياة اليومية فيها، ابتداءً من البيوت ذات الديكورات الزخرفية المتوهّجة وانتهاءً بالوجـوه التي طالما أحبّها وألفها.
رسم فيرمير هذه اللوحة حوالي منتصف القرن السابع عشر، وهي الفترة التي شهدت ذروة ازدهار الفنون والثقافة في هولندا.
في ذلك الوقت، كان فيرمير يعتبر ثاني أشهر رسّام هولندي بعد رمبراندت، وكان رسم المدن تقليدا شائعا لدى عدد غير قليل من الرسّامين الهولنديين.
ومن الواضح أن فيرمير بذل جهدا كبيرا في رسم اللوحة التي تشهد كل تفاصيلها بقوّة ملاحظة الفنان وبراعته في الإمساك بتأثيرات الضوء والظل.
وهذا واضح من خلال طريقة تمثيل الغيم والانعكاسات المائية التي تضفي على المشهد إحساسا بالفورية والحيوية والتلقائية.
واللوحة تزخر بالكثير من التفاصيل: بوّابتان إلى اليمين والوسط يتخللهما صفّ من البيوت. هناك أيضا برجا الكنيستين القديمة والحديثة وبعض سفن الصيد الراسية في مياه القنال. وفي الجزء الأمامي من اللوحة إلى اليسار، نرى عددا قليلا من الرجال والنساء واقفين على الشاطئ.
جوّ اللوحة يعطي انطباعا بأن فيرمير قد يكون رسم اللوحة في صباح يوم بارد. وتبدو الغيوم كما لو أنها تنقشع ببطء بعد ليلة ممطرة، فيما الشمس ترسل وهجها اللامع على صفحة الماء وأسطح البيوت الممتدّة على الشاطئ.
أكثر ما يلفت الانتباه في هذا المنظر الأثيري البديع هو الأسلوب الواقعي الذي وظّفه فيرمير في رسمه. وربّما لهذا السبب يعتبر بعض النقاد هذه اللوحة نموذجا ممتازا للوحة الوصفية التي يمكن للإنسان أن يستمتع بالنظر إليها والتمعّن في جمالياتها دونما حاجة إلى الكثير من الشرح أو التحليل.
وقد قيل في بعض الأوقات أن كثافة وعمق الألوان في اللوحة والتأثيرات البصرية المبهرة التي استخدمت في رسمها تجعل من عملية استنساخها أو تقليدها أمرا شبه مستحيل.
"منظر لـ ديليفت" ليست مجرّد لوحة عن الحياة في مدينة بحرية وإنما يمكن اعتبارها معلما يجسّد روح وشخصية هذه المدينة وسجّلا يؤرّخ لأسلوب وشكل الحياة الذي كان سائدا فيها قبل أربعة قرون.
ممّا يجدر ذكره أن فيرمير مات فقيرا معدما، وبعد وفاته ضاع اسمه في غياهب النسيان، وطوال مائتي عام لم يعد احد يتذكّره بشيء.
وقد اضطرّت أرملته بعد وفاته لبيع لوحاته كي تعتاش من ثمنها.
لكن مع حلول منتصف القرن التاسع عشر عاد اسمه إلى الواجهة مجدّدا. واليوم يُنظر إلى فيرمير باعتباره احد أعظم الرسّامين، ليس في بلده هولندا فحسب وإنما في العالم كله.

Sunday, November 18, 2007

لوحات عالميـة - 147‏


بورتريـه امـرأة مجهــولـة
للفنان الروسـي إيفــان كـرامسـكـــوي، 1883

هذه اللوحة الجميلة يمكن أن تندرج ضمن تلك النوعيـة من الأعمال التشكيلية التي يقف أمامها الإنسان متأمّلا بصمت روعة تفاصيلها وتناغم ألوانها واتساق خطوطها دون أن يشعر بالحاجة لان يفهمها على المستوى الفكري أو الانفعالي من اجـل أن يقدّر البراعة والإتقان اللذين وظّفا في رسمها.
في هذه اللوحة نرى نموذجا للجمال المثالي للأنثى التي تضجّ ملامحها بالفتنة الممزوجة بقدر غير قليل من الإثارة والغموض.
وقد تكون اللوحة مألوفـة للذين سبق وأن طالعوا رواية الكاتب الروسي الكبير ليو تولستوي آنا كارينينا، إذ ظلّت صورة المرأة تزيّن غـلاف العديد من طبعات تلك الرواية التي ترجمت إلى جميع لغات العالم تقريبا.
وقد بلغ من شهرة هذه اللوحة في روسيا أن بعض النقّاد يضعونها ضمن أفضل خمس لوحات في تاريخ الفـنّ الروسي كلّه.
الفنان إيفان كرامسكوي يعود إليه الفضل أيضا في إقناع تولستوي بأن يوافق للمرّة الأولى على أن يرسم له بورتريه. وهو البورتريه الذي تحـوّل في ما بعد إلى أهمّ أثر تشكيلي يصوّر الروائي الروسـي الأشهر أثناء حياته.
وقد باشر الفنان رسم البورتريه أثناء انشغـال تولستوي بكتابة "آنـّا كارينينا".
ونتيجة لذلك، نشأت بين الرجلين علاقـة شخصية وفكرية وثيقة وأحـسّ كل منهما بالانجذاب نحو الآخر. وقد وظّف تولستوي شخصـية صديقه الرسّام وجعلـه أحد شخصيات الرواية.
كان كرامسكوي يركّز في لوحاته على تصـوير الواقع الاجتماعي، وكان يضمّـن مناظره معاني وأفكارا فلسفية. وفي ما بعد، أصبـحت أعماله تمثّل جانبا مهمّا من تاريخ روسيا وتطوّر مجتمعها وفنونها.
وقد عُني كرامسكوي في الأساس برسم البورتريهات الشخصية. ومن أشهـر أعماله لوحته "المسيح في البرّية"، بالإضافة إلى لوحاته الأخرى التي رسم فيها كتّابا وعلمـاء وشخصيّات عامّة.
لكن أكثر لوحاته شهرة ورواجا هي هذه اللوحة التي اتبـع فيها طريقته في الغوص بداخل الشخصيـة والنفاذ إلى أعماقها وإبراز سماتها السيكولوجية والروحيـة.
في "بورتريه امرأة مجهولة" نرى سيّدة ذات جمال آسـر وأناقة لافتة، وقد استقرّت على مقعد عربتها المفتـوحة على أحد جسور سانت بيترسبـيرغ.
وهي هنا تبدو بكامـل زينتها، إذ ترتـدي قبّعة حديثة الطراز ومعطفا بلون أسود يتداخـل في نسيجه الحرير والساتان والفراء.
وواضح من ملامـح المرأة وهيئتها المترفة أنها تنحـدر من أصول ارستقراطية.
وفي خلفية المشهد تظهر مجمـوعة من الأبنية التي خلع عليها الضـباب والبرد جوّا من الصفرة الشـاحبة.
بالنسبة للمـرأة، ليس من المتيّسر تماما معرفة طبيعة مزاجها في تلك اللحظـة. لكن نظراتها الغامضة التي تنبئ، ربّما، عن شعور بالكبـرياء قد تخفي وراءها إحساسا ما بالتوتّر أو الحزن.
في بعض الأوقات راجت تكهّنات تقـول إن المرأة المجهولة في اللـوحة هي نفسها بطلة رواية "آنـّا كارينـيـنا".
وتتناول تلك الرواية، التي تحتشـد بالأسئلة الوجودية والمضامين الفلسفية العميقة، قصّة امرأة متـزوّجة أقامت علاقة عاطفية مع رجـل آخر وانتهى بهما الأمر إلى أن أصبحـا منبوذين اجتماعيـا.
وتحت وطأة إحسـاس المرأة بالنبذ وشعورها بالذنب تجـاه زوجها الأول وقلقها من احتمـال ترك عشيقها لها، أقدمـت على الانتحار وذلك بإلقاء نفسـها تحت عجلات أحـد القطارات المسـرعة.
وقد ولدت فكـرة الرواية في ذهـن تولستوي عندما قـرأ تفاصيل تلك الحادثة منشـورة بإحدى الصحف في ذلـك الوقت.
ومؤخّرا، اظهر استفتاء للرأي شارك فيه كتّاب وأدبـاء ونقّاد بارزون أن آنـّا كارينـيـنا تعتبر أعظم عمل روائي كُتـب حتى اليوم.
اما إيفان كرامسكوي فلم يكـن مجرّد رسّام فقط، بل كان أيضا ناقدا ومنظّـرا وأستاذا مرموقا.
وكان يعتقد باستحالة فصـل الأخلاق عن القيم الجمالية، كما كان يدعو دائمـا إلى أن يكون الفنّ أداة للترويج لقيـم الحرّية والكرامة الإنسانية.

موضوع ذو صلة: أجواء روسيّة