للفنان الروسـي ألكسـي هـارلامــوف، 1921
وكان قد حقّق نجاحا كبيرا في بلده روسيا، حيث رسم بورتريهات للعديد من أفراد الطبقة الارستقراطية فيها. في تلك الفترة، كان الاتجاه السائد الذي يغلب على أعمال الفنّانين الروس هو رسم المواضيع الدينية وتصوير السفن والحياة البحرية بشكل عام.
لم يمكث هارلاموف طويلا في مدينته سانت بطرسبورغ، إذ دائما ما كانت تحدوه الرغبة في السفر والتعرّف على تجارب فنّية جديدة. لذا هاجر إلى فرنسا، وهناك اتّسعت تجربته ونمت موهبته الفنّية أكثر وأصاب المزيد من النجاح والشهرة.
ولوحاته تذكّرنا إلى حدّ ما بأسلوب رينوار من حيث طريقته في استخدام الألوان والظلال، وإن كان يغلب على أسلوبه الطابع النيوكلاسيكيّ والواقعيّ.
في هذه اللوحة الجميلة استخدم هارلاموف ابنته كموديل، وهو كثيرا ما رسمها في العديد من البورتريهات بأوضاع مختلفة. وهي هنا تظهر في حالة تأمّل وعزلة مع شيء من الحزن، لكنها تبدو بعزيمة وحضور قويّين.
ومن الواضح أنه لم يكن يرسم اللوحة اعتمادا على ضربات الفرشاة فحسب، بل رسمها بقلبه ومشاعره، لذا استطاع أن ينفذ إلى روح الشخصية وأن يترجم مشاعرها بدرجة من الصدق والعفوية.
تعابير الطيبة والبراءة التي تنطق بها ملامح الفتاة وعيناها هي سمة نجدها في أعمال الفنّان الأخرى التي تستمدّ أجواءها من الحياة الريفية وبيئة الفلاحين التي تتّسم بالبساطة والتلقائية.
أيضا هناك الألوان الحيّة والمتناغمة التي تمتلئ بها اللوحة، ثمّ هذا التباين الرائع بين غطاء الرأس الأحمر والفستان الأبيض والخلفية التي اختار لها الرسّام اللون البنّي وتدرّجاته.
وطبعا لا يمكن للناظر إلا أن يجذب اهتمامه ذلك العقد الجميل من اللؤلؤ الذي يزيّن جيد الفتاة بألوانه الناعمة الشفّافة والمتناغمة مع البناء التشكيليّ العام للوحة.
ولد ألكسي هارلاموف في قرية ساراتوف على نهر الفولغا عام 1842 لعائلة من العبيد. وفي عام 1850 كسب والداه وعائلته حريّتهم. وقد درس الرسم أوّلا في أكاديمية سانت بطرسبورغ للفنّ ثم درس على يد الرسّام ماركوف الذي كان متخصّصا في رسم المواضيع التاريخية.
وفي بداياته، كان هارلاموف يقلّد أعمال كبار الرسّامين، وقد تأثّر على نحو خاص بأسلوب رمبراندت، ثم رسم مناظر حربية ودينية. كما انجذب إلى أعمال كلّ من فيرونيزي وروبنز التي رآها في اللوفر في ما بعد، ووقف مطوّلا أمام لوحة ديلاكروا "دانتي وفرجيل" ولوحة رمبراندت "طبيب التشريح".
وعندما تطوّرت موهبته وصار رسّاما معتبرا أصبح من بين زبائنه القيصر الروسيّ الكسندر الثاني. كما اشترت القيصرة ماريّا الكسندروفنا إحدى لوحاته.
وفي مرحلة تالية فاز بالميدالية الذهبية عن لوحته "عودة الابن الضالّ". وهذا مكّنه من أن يذهب إلى فرنسا ويدرس في مدرسة الفنون الجميلة بباريس على يد الرسّام ليون بونا.
وقد عرض بعض أعماله في صالون باريس وحصل على أكثر من جائزة. كما حظي بإعجاب الروائيّ إميل زولا الذي أثنى عليه وامتدح أسلوبه في رسم البورتريه وثمّن عاليا لوحته التي رسمها للكاتب ايفان تورغينيف. وفي باريس أيضا، رُشّح هارلاموف رئيسا لجمعية الرسّامين الروس في فرنسا.
غير أن نشوب الحرب بين فرنسا وبروسيا دفعه لمغادرة باريس إلى بلجيكا ثم قضى وقتا في إيطاليا وألمانيا، ثم استقرّ لبعض الوقت في انجلترا. وفي عام 1874 شارك في معرض الرسّامين الأكاديميين في سانت بطرسبورغ ونال لقب "أكاديميّ" تقديرا لموهبته.
رسم هارلاموف العديد من اللوحات لنساء جميلات تظهر على وجوههنّ تعابير الدفء والحنين والبراءة والرّقة. ومثل رينوار، كان يستخدم الزهور بكثرة في لوحاته للتأكيد على رقّة الموضوع وليرمز بها إلى مرحلة الشباب التي لا تدوم طويلا بل تذبل سريعا مثلما تذبل الأزهار.
الملكة الانجليزية فيكتوريا اُعجبت بإحدى لوحاته التي تصوّر أطفالا يلهون وسط الأزهار والتي رأتها في غلاسغو. ثم أصبح يلفت انتباه الموسرين الأمريكيين والأوربّيين الذين قدّروا عاليا صوره عن نساء وفتيات بهيئات مثالية.
وجامعو التحف واللوحات الفنّية من أثرياء أمريكا وأوربّا كانت تروق لهم هذه اللوحات وكانوا يهتّمون باقتناء وشراء أعماله التي تجسّد الروح العائلية وتعطي إحساسا بالبراءة والسلام الداخليّ.
ويتوزّع العديد من لوحاته اليوم على متاحف العالم الكبيرة من لوس انجيليس إلى سانت بطرسبورغ وحتى موسكو وتايوان. وقد استمرّ هارلاموف يرسم إلى أن توفّي في باريس عام 1922 عن عمر جاوز الثمانين.