Friday, January 26, 2018

لوحات عالميـة – 444

بورتـريه مـاو
للفنان الأمريكي انـدي وارهـول، 1972

في أوائل سبعينات القرن الماضي، قام الرئيس الأمريكيّ الأسبق نيكسون بزيارته التاريخية إلى الصين، حيث قابل زعيمها ماو تسي تونغ وبدأ البلدان بعدها صفحة جديدة في العلاقات بينهما وتلاشى إلى حين خطر الحرب الباردة.
كان الرسّام اندي وارهول مشهورا وقتها باهتمامه برسم الشخصيات المشهورة في العالم، مثل مارلين مونرو وجاكلين كينيدي وألفيس بريسلي ومحمّد علي كلاي. وقد قرأ في بعض المجلات والصحف آنذاك أن ماو أصبح أهمّ وأشهر شخصية في العالم، إذ كانت أخباره تحتلّ الصفحات الأولى من الصحف الأمريكية والعالمية.
وكان احد أصدقاء وارهول قد اقترح عليه أن يرسم اينشتاين، خاصّة عقب انتشار اسمه في العالم بعد اكتشافه نظرية النسبية. لكن وارهول كان يعتبر أن الشهرة أهمّ من الأفكار والمظهر أهمّ من جوهر الشخص.
ولهذا قرّر أخيرا أن يرسم ماو. وهذه الصورة الضخمة للزعيم الصينيّ رسمها وارهول ضمن سلسلة من عشر لوحات أخرى متماثلة لماو، وأراد من خلالها أن يعكس التغييرات الكبيرة التي حصلت في الصين أثناء وبعد الثورة الثقافية.
والرسّام يقدّم ماو بطريقة تذكّر بلوحاته عن مشاهير السينما والفنّ، على الرغم من أن زعيم الصين كان معروفا باستبداده وبطشه.
غير أن بعض النقّاد اعتبروا اختيار وارهول لماو مناسبا كثيرا باعتباره زعيما مشهورا على أيّ حال. وقد اعتمد في رسمه لهذه البورتريهات العشرة على صورة ماو المنشورة في كتابه الأحمر. وهي نفس الصورة المشهورة التي أصبح معظم الناس في العالم يعرفونها عن هذا الرجل الذي كان يتمتّع بسلطة مطلقة. والمعروف انه كان يتعيّن على كلّ عضو في الحزب الشيوعيّ الصينيّ أن يحمل معه نسخة من كتاب ماو لأنه يتضمّن أسس الايديولوجيا الماويّة.
وعلى يد وارهول، تحوّلت تلك الصورة الرسمية للزعيم، والتي طالما استُخدمت للترويج للشيوعية في العالم، إلى مجرّد سلعة رأسمالية وإلى مادّة استهلاكية يعاد إنتاجها مرّات ومرّات بطريقة لا تختلف عن علب الحساء المشهورة.
صُوَر وارهول العشر التي رسمها لماو أصبحت في ما بعد من بين أكثر الصور الأيقونية شهرة في العالم. وقد افرد له الرسّام حضورا مدهشا وغامضا في فنّه.
ماو في اللوحة ينظر مباشرة إلى المتلقّي، تماما مثلما ينظر من صوره الكثيرة المعلّقة في ميدان السلام السماويّ في وسط بيجين، مع إحساس بالنصر والزهو. وقد استخدم الرسّام في الخلفية اللون الأحمر الشرقيّ الطابع والمرتبط بالشيوعية وبالعلم الصينيّ، وأيضا الذي يذكّر بالسلطة المطلقة.
كما استخدم في ملابس ماو اللون الأصفر الذي يُعتبر اللون الأكثر لمعانا وجذبا للانتباه. كما انه اللون الذي يرمز للإنذار والخطر والأنانية والجنون والآلهة القديمة. وليس مصادفة أن أصول الأصفر توجد في المعادن السامّة والرصاص والكروم والبول وغير ذلك.
الصور العشر المتماثلة لماو تشير إلى احتقار الشيوعية للفردانية وميلها إلى قولبة البشر في نسق واحد. والرسّام يربط بين تقديس الغرب لصور الفنّانين والممثّلين وبين عبادة الفرد في الشرق كما تشير إليه شخصيّة ماو وغيره من الحكّام الشموليين.
هذه الصورة المشحونة بالألوان الساطعة أصبحت أكثر تفرّدا بإضافة طبقات من الغرافيتي حوّلت ماو إلى أيقونة شعبية عالمية، أي أن الرسّام يرى شبها بين الدعاية الشيوعية وصناعة الإعلان في الدول الرأسمالية.
لكن بعض النقّاد رأوا في البورتريه ما يوحي بتلاشي هالة ماو التي ستصبح قريبا مجرّد ذكرى من الماضي بعد أن جرّده الرسّام من سياق الدعاية الإيديولوجية. لكن يمكن القول أيضا أن وارهول ترك اللوحة مفتوحة على تفسيرات شتّى. فهو لم يكن يتبنّى آراءً سياسية معيّنة ولم يكن مهتمّا بالسياسة أصلا، وهو ما يدفع المتلقّي للتساؤل عن نواياه.
عملية تكرار الصور ربّما تتضمّن أيضا فكرة عبادة الشخصية، تماما مثل صور بعض الزعماء التي تتكرّر وتُشاهَد في كلّ مكان في الدول ذات الحكم الشموليّ. وقد جرت العادة في المجتمعات الرأسمالية أن لا يقدّس الناس صور الزعماء السياسيين، بل صور الفنّانين ونجوم السينما. لكن بنظر البعض فإن النتيجة واحدة، وهي أن الناس يميلون إلى إضفاء طابع مثاليّ على الصورة ثم يجعلون من صاحبها بطلا. بمعنى أن كلا من المجتمعين الرأسماليّ والشيوعيّ ينتج أصنامه الخاصّة بتحويل الأشخاص إلى رموز مقدّسة.
الجدير بالذكر أن السلطات الصينية منعت صور وارهول لماو من دخول البلاد باعتبارها "غير محترمة"، كما أنها تشكّل تجاوزا على هيبة الحزب القائد بإظهارها وجه زعيمه وقد لُطّخ بمساحيق التجميل. لكن بعض الصحف الصينية أكّدت على أن نوايا وارهول قد لا تكون سيّئة، فصوره لا تتضمّن أيّة انتقادات أو إساءات وإن كانت ألوانها مستفزّة نوعا ما. كما أعاد البعض للأذهان أن وارهول عُرف عنه ميله إلى محو الخطوط الفاصلة بين الجنسين في لوحاته.
ومع ذلك شوهدت بعض هذه الصور تُباع سرّا في بعض الأسواق والمواقع السياحية في الصين. وقال بعض الكتّاب الساخرين أن وارهول لو كان يعيش في الصين لاُرسل إلى احد الأقاليم البعيدة كي يحرث الأرض ويزرع المحاصيل، هذا إن تُرك حيّاً.
وقال آخرون أن ماو لو كان ما يزال على قيد الحياة لاعتبر كل الفنّ الغربيّ منحلا وفاسدا. لكن هناك من الصينيين من شعروا بالسرور لأن فنّانا غربيّا كان يهتمّ بدراسة الطبيعة الموقّتة للسلطة والشهرة رسم زعيمهم الأوحد على هيئة مهرّج شبحيّ بالألوان، ثم استنسخ صورته عشر مرّات ووقّع عليها بقلم رصاص.
منذ رحيل ماو تسي تونغ، لم يعد احد يتذكّر كتابه الأحمر ولا كلماته المأثورة. كما أن الرأسمالية التي كان يحتقرها كثيرا تشهد اليوم ازدهارا غير مسبوق في الصين نفسها بينما تترنّح في الغرب.
كان ماو قد أسّس جمهورية الصين الشعبية عام 1949 بعد عشرين عاما من الحرب الأهلية. وقد حكم البلاد كزعيم بلا منافس حتى موته عام 1976. وفي السنوات الأخيرة، بدأ الزعماء الاصلاحيون في الصين يعترفون بأخطاء ماو علناً، ومنها حملته السيّئة الصيت والتي اسماها "قفزة كبيرة إلى الأمام"، التي تسبّبت في موت ثلاثين مليون فلاح صينيّ.
لكن صور الزعيم الضخمة ما تزال منتصبة في وسط الميدان الكبير في وسط بيجين. وما يزال بعض الساسة في الصين يتحدّثون عن دوره الأبويّ في قيام الدولة والحزب.
في عام 1982، زار اندي وارهول الصين وأعجب بثقافتها وتاريخها العريق. وقد أقيم لأعماله معرض في شانغهاي تعرّف من خلاله الصينيون على الفنّان الذي رسم بعض أشهر اللوحات عن أهمّ شخصية في تاريخ بلدهم. وقد بيعت إحدى لوحات سلسلة ماو في نيويورك بأربعة عشر مليون دولار، بينما بيعت لوحة أخرى في مزاد بهونغ كونغ بثلاثة عشر مليون دولار.
كان وارهول احد رموز الفنّ الشعبيّ في العالم وأحد أشهر الرسّامين الأمريكيين في القرن العشرين. والمعروف انه بدأ في مستهلّ حياته تحويل الصور الفوتوغرافية إلى القماش واستخدم هذه التقنية طوال ستّينات القرن الماضي.
وقد استغلّ وارهول هاجس الناس الجماعيّ بالشهرة كما لم يفعل رسّام آخر. وكانت فكرته أن الثقافة الشعبية تقدّس المشاهير فقط لأنهم مشاهير. ولوحاته التي تصوّر الشخصيات المشهورة تطوّرت لتصبح سمة مميّزة لعمله ومصدرا لدخله.

Monday, January 22, 2018

لوحات عالميـة – 443

إغـواء يوسـف
للفنان الإيراني كمـال الديـن بهـزاد، 1488

يمكن تعريف المنمنمات على أنها نوع من الرسم الذي يُنتج لوحات صغيرة تُستخدم إمّا كرسوم توضيحية في كتاب أو كقطع فنّية قائمة بذاتها.
وعند النظر إلى المنمنمات الفارسية على وجه الخصوص، فإن أهمّ ما تتّسم به هو حجمها الصغير. وبطبيعة الحال يختلف تأثير النظر إلى صورة صغيرة عن النظر إلى لوحة زيتية كبيرة. وكلّما كانت اللوحة كبيرة، كلّما كان مفترضا أن يراها عامّة الناس. وكلّما كانت صغيرة، كلّما كانت أكثر حميمية وخصوصية بحيث لا يراها إلا القليلون أو النخبة.
وثمّة إجماع بين مؤرّخي الفنّ على أن كمال الدين بهزاد هو أشهر وأعظم رسّام منمنمات في العالم الإسلاميّ. والمنمنمات التي صنعها كانت تُوضع في مجلّد يُعرف بـ "المرقّع" ويضمّ مجموعات من المنمنمات والخطّ الإسلاميّ من مصادر مختلفة. وكان هذا هو الشكل المتعارف عليه لعرض رسوم المنمنمات في الإمبراطوريات المغولية والعثمانية والصفوية التي توالت على حكم بلاد فارس.
والحقيقة انه لا يُعرف الكثير عن حياة بهزاد. لكن معروف انه وُلد عام 1455 في هيرات بأفغانستان عندما كانت جزءا من الإمبراطورية التيمورية. وقد عانى من اليتم وهو في سنّ مبكّرة. ثم تربّى في كنف الرسّام ميراك الذي علّمه الفنّ الذي يروق لذائقة الطبقة الرفيعة من المجتمع.
وعندما بدأت موهبته في البروز، أصبح يحظى برعاية مير علي شير نوائي كبير الوزراء في هيرات الذي كان هو نفسه شاعرا ورسّاما. وعندما بدأ يرسم القصص المستقاة من كتب الشعر المشهورة، اجتذب اهتمام سلطان هيرات نفسه حسين بايقارا. وبعدها صارت أعماله تُشترى من قبل الرعاة الملكيين وتُعرض في القصر.
وعندما قام الشاه إسماعيل الأوّل مؤسّس الدولة الصفوية بالاستيلاء على هيرات، انتقل بهزاد إلى تبريز وعمل مديرا للمرسم الملكيّ ورئيسا للمكتبة الملكية ومسئولا عن المخطوطات، وهو أمر يشي بالمكانة العالية التي كان يحظى بها.
ومثل معظم الفنّانين الذين عاشوا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، من المهمّ أن نتذكّر أن بهزاد لم يكن يعمل لوحده، بل كان يدير ورشاً تنتج الأعمال الفنّية تحت إشرافه وبمساعدة رسّامين آخرين.
هذه اللوحة هي أشهر منمنمة رسمها بهزاد، وفيها يصوّر قصّة النبيّ يوسف عليه السلام مع امرأة الفرعون. وكما هو معروف، وردت القصّة في القرآن الكريم وأعيدت روايتها مرارا وبطرق مختلفة.
وأحد الذين ذكروها كان الشاعر سعدي من القرن الثالث عشر الميلاديّ. وبعده بقرنين، أمر سلطان يُدعى علي الكاتب بأن يُعهد إلى بهزاد بمهمّة رسم القصّة في خمس منمنمات، وأن توضع اللوحات في مخطوط ديوان "بستان سعدي" الذي يضمّ مجموعة من القصص والأشعار الصوفية، وتوجد المخطوطة الأصلية منه في المكتبة المصرية في القاهرة.
في القصّة، تتعقّب زليخة امرأة الفرعون يوسف داخل غرف القصر السبع، وفي الغرفة الأخيرة تحاول احتضانه لكنه يتمكّن من الهرب.
زوجة الفرعون في اللوحة ترتدي ثوبا احمر، بينما يرتدي يوسف رداءً اخضر. وقد طمس الرسّام ملامح وجهه جرياً على عادة الرسّامين مع الشخصيات المقدّسة. واستخدم نقوشا وأنماطا جميلة وألوانا متناغمة للتدليل على فخامة القصر، بينما أضاف في أعلى وأسفل الصورة أبياتا شعرية من ديوان الشاعر عن القصّة.
استخدم الرسّام في رسم هذه المنمنمة الحبر والطلاء والذهب. وكما هو متوقّع، ركّز على المعمار المعقّد لقصر الفرعون.
ومن الأشياء الأخرى اللافتة في اللوحة شكلها الهندسيّ، فهي مشيّدة من مربّعات ومستطيلات ومثلّثات. وعندما تتمعّن فيها، سيُخيّل إليك كما لو أن الشخصين يتحرّكان داخل فراغات الغرف. كما أن في الصورة تنوّعا بصريّا، فكلّ غرفة لها تفاصيلها. وبعض الغرف تحتوي على أنماط جميلة والبعض الآخر على خطوط أنيقة. وكلّ غرفة لها تفرّدها، لكنها جميعا تشكّل لوحة واحدة.
ومن المهمّ أيضا أن نلاحظ طريقة استخدام الرسّام للمنظور في هذه اللوحة. فالجدار الأيمن يُظهر مهارته في رسم المنظور الواقعيّ. لكنه اختار لمعظم الصورة منظورا مسطّحا وأنماطا ميّز من خلالها ببراعة بين غرف وأجزاء المنزل المختلفة.
ووجود الإطار المزخرف يشير إلى أن اللوحة ستُعرض في مخطوط أو كتاب، وليس كلوحة أو جدارية.
من أشهر منمنمات بهزاد الأخرى واحدة بعنوان ارض الصيد وأخرى بعنوان تشييد قصر الخورنق ، بالإضافة إلى منمنمة ثالثة رسمها عام 1495 لتزيّن مخطوطة قصّة "ليلى والمجنون" للشاعر نظامي، وهي موجودة اليوم في المكتبة البريطانية.