Monday, October 31, 2011

لوحات عالميـة – 299

بورتـريه ثلاثـي للكاردينـال ريشيليـو
للفنان الفرنسي فيليـب دو شامبـين، 1662


رسْم صور لزعماء وقادة الدول هو احد التقاليد القديمة في الرسم. ومع مرور الوقت أصبح رسم الوزراء والمسئولين الآخرين، خاصّة في أنظمة الحكم المطلق، من الأمور الشائعة والمألوفة.
هذا البورتريه رسمه فيليب دو شامبين للكاردينال ريشيليو الذي يُعتبر احد أهمّ الشخصيات المتنفّذة التي لعبت دورا مهمّا زمن حكم الملك الفرنسي لويس الثالث عشر. وقد ازدادت حظوظ عائلة الكاردينال وأصبحت في عداد الأسر النبيلة بعد أن تبوّأ عدد من أفرادها مناصب مرموقة في عهود ملوك فرنسا المتعاقبين. وبفضل علاقة ريشيليو الوثيقة بـ ماري دي ميديتشي والدة الملك لويس الثالث عشر، عُيّن الكاردينال وزير دولة للشئون الخارجية في العام 1616م. ثم لم يلبث أن رُقّي إلى منصب رئيس وزراء فرنسا.
في ذلك الوقت، كانت قبضة الملك على مقاليد الحكم في فرنسا قد بدأت تتضعضع وتهتزّ. وأصبح نظام الحكم مهدّدا بالخطر. كانت فرنسا وقتها تعاني من استشراء فساد الساسة وتغوّل النبلاء، بالإضافة إلى عامل ثالث تمثّل في ازدياد نفوذ البروتستانت المتشدّدين المسمّين بـ الايغونيين.
كان لويس بحاجة ماسّة إلى رجل يعينه على تعزيز سلطته وتأكيد حكمه. وقد وجد ضالّته في الكاردينال الذي عمل منذ البداية على تدعيم سلطة الملك من خلال استخدام القوّة المفرطة والعنف السياسي. ولم تمض أربع سنوات حتى كان ريشيليو قد سحق تمرّد البروتستانت وقمع النبلاء بعنف بعد اكتشاف مخطّطهم للتآمر على الملك. ثم بادر إلى استبدال خصوم الملك في الحكومة بأشخاص موالين ووسّع صلاحياته في الأقاليم من خلال تنصيب وكلاء للملك على شئونها.
في اللوحة يظهر الكاردينال بثلاثة وجوه متماثلة، الأوّل، في الوسط، يواجه الناظر مباشرة. وإلى يمين اللوحة ويسارها يظهر الوجهان الآخران متناظرين جانبيا. الهيئة الدينية للكاردينال تتوافق مع أفكاره المتقشّفة وتشير ضمنا إلى موقفه الطهراني من المنصب الرسمي. العباءة التي تتخذ شكل مثلّث من الألوان الأبيض والأزرق والأحمر تغطّي جسمه بالكامل ولا تستثني حتى يديه. الملمح الأهمّ في اللوحة هو وجه الكاردينال الصغير الشاحب. ملامحه تعبّر عن قوّة الإرادة والحزم رغم ما يبدو عليه من علامات التعب والإرهاق بسبب سنوات الخدمة الطويلة.
عندما باشر ريشيليو مهامّ منصبه، أصرّ منذ البداية على أن يطبّق القانون بقسوة كي لا تفلت الأمور عن السيطرة وتفقد الدولة هيبتها. كان في طريقة حكمه يعتمد على مزيج من العقل والإرادة واستخدام السلطة السياسية بفاعلية. ولم يتوانَ عن فرض عقوبات مشدّدة حتى على الجرائم والتجاوزات الصغيرة. كان الكاردينال يؤمن بالحقّ الإلهي للملك الذي يكفل له استخدام ما يراه من وسائل مناسبة من اجل فرض السلام والنظام على سائر أفراد المجتمع. كما كان يؤمن بأن الغاية تبرّر الوسيلة وبأن الدولة تعلو على جميع ما عداها وأن الدين ليس سوى أداة لخدمة السياسة.
الرسّام دو شامبين ولد في بروكسل لعائلة فقيرة تعود أصولها إلى الفلاندرز. وفي عام 1621 ذهب إلى باريس حيث عمل لبعض الوقت مع الرسّام نيكولا بوسان. ثم انتُدب مع آخرين لمهمّة تزيين قصر اللوكسمبور التابع للملكة الأم ماري دي ميديتشي. وفي ما بعد عيّنه الملك لويس الثالث عشر رسّاما للبلاط. وبحكم منصبه الجديد، أصبح على صلة وثيقة أيضا بالكاردينال ريشيليو الذي رسم له هذه اللوحة التي يتذكّره الناس بها إلى اليوم. وقد أرسلت اللوحة إلى النحّات فرانشيسكو موتشي في روما كي يصنع على منوالها تمثالا نصفيا للكاردينال.
كان ريشيليو، رغم حزمه وبطشه، محطّ إعجاب الكثير من المؤرّخين لذكائه وإخلاصه الوطني. فقد نجح في إحداث إصلاحات جذرية في البنية الأساسية للحكم. وأصبحت فرنسا في عهده أقوى بلد في أوربّا. وبالإضافة إلى دعمه للبحرية الفرنسية وتوسيعه للمستعمرات في أفريقيا والكاريبي، عُرف عنه أيضا احتضانه وتشجيعه للآداب والفنون. فأعاد بناء جامعة السوربون ودعم الكتّاب الواعدين وأنشأ الأكاديمية الفرنسية للفنون. بل إن بعض المؤّرخين الفرنسيين يصفونه بأنه مؤسّس الوحدة الفرنسية والرجل الذي خلّص فرنسا من طبيعتها القروسطية. خلفية الكاردينال الاجتماعية دفعته إلى مناصرة الأفكار السياسية للبورجوازيين. غير انه في الوقت نفسه عمد إلى نزع الكثير من امتيازاتهم مقابل تثبيت مركزية الدولة وتعزيز هيبتها.
ترى هل أراد الرسّام بهذه الصورة الثلاثية الإيحاء بأن للكاردينال ثلاث شخصيات قد تبدو للناظر منفصلة عن بعضها، لكنها في الواقع مترابطة وكلّ منها تكمّل الأخرى؟ بناء اللوحة على هذا النحو يذكّر بإحدى نظريات علم النفس التي تتحدّث عن انقسام الأنا، أي الحالة التي يكون فيها الشخص المنعزل والنرجسي منهمكا في حوار داخلي واستكشافي مع الذات.
المعروف أن فكرة البورتريه الثلاثي ظهرت أوّل ما ظهرت خلال عصر النهضة الايطالي. في لوحته بعنوان صورة مجازية للفطنة، يرسم تيشيان وجوها لثلاثة أشخاص في ثلاثة اتجاهات مختلفة. وأسفل منها ثلاثة وجوه لأسد وذئب وكلب. وفي أعلى اللوحة تظهر عبارة تقول: من الماضي يستمدّ الإنسان الحكمة في الحاضر كي يتجنّب أخطاء المستقبل". ربّما يكون هذا شعار ريشيليو نفسه الذي عُرف عنه حرصه على موازنة الاحتمالات وقياس الظروف قبل الإقدام على أيّ خطوة أو قرار. الفنّان انطوني فان دايك رسم، هو الآخر، بورتريها ثلاثيا مشهورا للملك الانجليزي تشارلز الأوّل. كما رسم الفنان الأمريكي غيلبيرت ستيوارت بورتريها ثلاثيا لـ اليزابيث بونابرت.
أسلوب دو شامبين في هذه اللوحة وفي غيرها يعكس واقعية روبنز الفاقعة في تعامله مع الألوان وفي طريقة تمثيل الملابس المنسدلة، ما يذكّر بالتماثيل الرومانية القديمة. وقد عُرف عنه غزارة إنتاجه. لكن أقوى أعماله هي البورتريهات التي رسمها لمعاصريه والتي مزج فيها بين عدّة عناصر فلمنكية وفرنسية وايطالية.
وقد أصبح فيليب دو شامبين في ما بعد عضوا مؤسّسا في الأكاديمية الفرنسية للفنون ثم أستاذا فيها. وتحت تأثّره بالمذهب الكاثوليكي المعروف بـ الجانسينية، استقال من وظيفة البلاط وكرّس كلّ وقته لرسم بورتريهات لرموز هذا المذهب. واستمرّ يفعل ذلك حتى وفاته في باريس عام 1674م.

Wednesday, October 26, 2011

لوحات عالميـة – 298

المُـلهِمـات
للفنان الفرنسي موريـس دونيـه، 1893


في نهايات القرن قبل الماضي، ظهرت في فرنسا حركة فنّية جديدة أطلق رموزها على أنفسهم اسم الأنبياء. وقد اختاروا هذا الاسم لأنهم كانوا يطمحون أن يأتوا بأشكال جديدة من الرسم والتعبير. كان موريس دونيه مؤسّس هذه الجماعة. وكان من أعضائها البارزين كلّ من ادوار فويار وبيير بونار.
كانت حركة الأنبياء تدعو إلى ربط الفنّ بالحياة والى المزاوجة المثالية بين الفنون البصرية والموسيقى والشعر والمسرح. وكانوا يولون اهتماما كبيرا بالألوان. كانوا، مثلا، يرون أن أهمّ جزء في اللوحة هو السطح المغطّى بمجموعة منظمّة من الألوان بما تثيره من إيقاع وتعبيرية وانفعال.
وفي مقابل اهتمامهم بالألوان وبساطة الأشكال وتوظيف الطبيعة للتعبير عن الحالات الانفعالية المختلفة، كان رموز هذه الحركة يغفلون المنظور وينكرون واقعية أواخر القرن التاسع عشر ويؤكّدون على ضرورة إلغاء الفوارق الفاصلة بين الرسم والزخرفة. ولهذا السبب ادخلوا الفنون الزخرفية على لوحاتهم ووظّفوا التطريز والأرابيسك وأسلوب الرسم الياباني في أعمالهم.
موريس دونيه كان أشهر رموز هذه الجماعة وأغزرهم إنتاجا وأكثرهم تأثيرا. وأهمية دونيه تتجاوز الرسم. فقد كان أيضا ناقدا ومنظّرا، وترك العديد من الكتابات التي تتناول وظيفة الرسم ودوره في المجتمع وفي الحياة.
كانت الجماعة تؤمن بقوّة الفنّ وقدرته على تغيير العالم. وكانوا يرون أن الفنّ لا يجب أن يكون واقعيا بل أداة ووسيلة للتعبير عن العاطفة والمزاج. كما كانت تكثر في رسوماتهم الرؤى التي تتحدّث عن السلام والهدوء والطمأنينة، كما لو أنها وسيلة للهرب من صخب وتشوّش الحياة المدنية الحديثة.
في هذه اللوحة، يرسم موريس دونيه موضوعا من الأدب الإغريقي، ولكن في سياق معاصر. ومن الملاحظ انه أعطى ملامح زوجته للملهمات الثلاث الرئيسيات اللاتي يظهرن في مقدّمة اللوحة ويرمزن للحبّ والدين والفنّ. وقد حدّد لكلّ منهنّ هيئة تناسب نوع الإلهام الذي يرتبط بها. كما رسم ملهمات أخريات وهنّ واقفات بين الأشجار.
اللوحة تغلب عليها الألوان الحمراء والصفراء والخضراء. وأرضية الحديقة تبدو زخارفها مثل سجّادة فارسية، بينما تكتسي أوراق الأشجار، هي الأخرى، طابعا زخرفيّاً.
كانت زوجة الرسّام، واسمها مارثا مورييه، حبيبته وملهمته. كانت، مثله، امرأة متديّنة. وكان يقول إن الله اختارها كي تهديه وتلهمه في الرسم. وقد ظهرت في العديد من لوحاته ورسمها في حالات وأوضاع مختلفة.
الظهور المتكرّر لـ مارثا في رسومات دونيه هو إعلان من طرفه بحبّه الكبير لها. وقد رسمها دائما بوجه هادئ وملامح وقورة. وهي في فنّه الأميرة والعذراء والمرأة النائمة في غابة سحرية. كان ذوقهما واحدا في الموسيقى والشعر. وهي كانت أيضا عازفة بيانو موهوبة. وكان من أصدقائهما كلّ من الموسيقيّ كلود ديبوسي ومالارميه وبول فاليري واندريه جيد. وقد ذهب دونيه بمعيّة الأخير عام 1895 إلى ايطاليا واطّلع على جمال روما. كما زار توسكاني وتأثّر بألوان وأضواء الريف الايطالي وبُهر بلوحات رافائيل ومايكل انجيلو.
وشكّلت تلك الزيارة بداية النهاية لـ الأنبياء. وأصبح دونيه يتبنّى أسلوبا أكثر كلاسيكية ثم لم يلبث أن فقد معظم جاذبيّته المبكّرة.
في لوحات دونيه صمت يثير التأمّل وحضور يذكّر بأجواء اركاديا، حيث المكان يوفّر للإنسان مهربا من مخاوف العالم الخارجي. كان الرسّام يعتقد أن للون والخط والشكل خصائص موسيقية وأنها يمكن أن توصل إحساسا بالإيقاع والتناغم. وقد استخدم هذه الأفكار في رسم لوحاته.
وهناك في أعماله ميزة أخرى تتمثّل في طابعها الديكوري والهادئ والبسيط. وهذه هي السمات التي كان يراها في لوحات بيير بوفي دو شافان الذي كان معجبا بأعماله وبأسلوبه.
في إحدى لوحاته المشهورة الأخرى، يرسم دونيه أسطورة اورفيوس ويوريديسي كي يصوّر من خلالها القوّة العظيمة للموسيقى والشعر وتأثيرهما على الطبيعة والإنسان. ومن أعماله الأخرى المعروفة أيضا سلسلة من أربع لوحات تتحدّث عن الفصول. لكن يمكن اعتبار اللوحات الأربع دراسة رمزية عن أربع لحظات مهمّة في حياة المرأة.
ولد موريس دونيه في النورماندي عام 1870م لعائلة ثريّة. أي انه يوفّر حالة نقيضة لنموذج الفنّان الفقير أو الجائع مثل فان غوخ أو بيكاسو. وقد تمتّع بدعم عائلته. بل واستطاع من خلال ريع لوحاته أن يعيل زوجته وأطفالهما الخمسة.
في سنّ الثالثة عشرة تلقى الفنّان دروسا في الرسم. كما كان يواظب على زيارة متاحف باريس، وخاصّة اللوفر. كان دونيه منذ صغره إنسانا متديّنا وعلى شيء من التصوّف. وكان من عادته أن يضفي على لوحاته بعدا روحيا. وأعماله المبكّرة تمتلئ بصور لنساء بوجوه بيضاء شاحبة يمشين في الغابات المقدّسة أو يلتقطن الأزهار والفواكه. كان دونيه يعتقد أن مهمّته تقديم الأفكار المثالية عن الله وعن الحبّ والعاطفة وتحويل كلّ شيء في الحياة اليومية إلى أعمال تضجّ بجمال غير عاديّ.
المعروف أن موريس دونيه عاش في فترة مضطربة من تاريخ فرنسا. وعاصر حربين عالميتين. وكان الطلب على لوحاته كبيرا، خاصّة في فترة ما بين الحربين الأولى والثانية.
وقد استمرّ يرسم حتى يوم وفاته في نوفمبر من عام 1943م متأثّرا بجروح أصيب بها إثر تعرّضه لحادث سيّارة في باريس.
وفي العام 1980 تمّ افتتاح متحف يحمل اسمه ويضمّ معظم أعماله.

Wednesday, October 19, 2011

لوحات عالميـة – 297

بورتـريه اليزابيـتا مارتيـنوفا (أو سيّدة بفستان ازرق)
للفنان الروسي كونستنـتين سومـوف، 1900


دخلت هذه اللوحة تاريخ الرسم الروسي باسم السيّدة ذات الفستان الأزرق وأصبحت احد أكثر الأعمال الفنّية الروسية نجاحا في نهاية القرن التاسع عشر. وقد رسمها الفنّان كي يجسّد من خلالها نظرته عن كلّ ما هو سامٍ وشاعري في الحياة اليومية.
كونستنتين سوموف يحتلّ مكانة بارزة في الرسم الروسي. وقد ظلّ طوال حياته يعكس عالمه الخاصّ في أعماله. وكان يضع شخصيّات لوحاته في أزمنة وأحياء سانت بطرسبيرغ القديمة.
عاش سوموف وعمل في زمن صعب ومليء بالتناقضات. في ذلك الوقت، كانت كثير من الأفكار الاجتماعية قد أصبحت متقادمة. وكانت هناك أفكار وقيم جديدة في طور التشكّل.
الرسّامون الروس آنذاك كانوا منجذبين إلى فكرة رسم لوحات تصوّر حالات من التأمّل الحزين. وكانت تلك الرسومات تعكس خيبة أمل الفنّانين والمثقّفين وقتها واستياءهم من الحياة البورجوازية وتكالب الأفراد على جمع الثروة بأيّ وسيلة. وكان هناك سبب آخر للحزن، وهو إحساس الفنّان والمثقّف بأن تحقيق السلام على مستوى الفرد والمجتمع أمر لا يمكن تحقيقه أو بلوغه. وإذن، لا حلّ سوى الهرب من العالم المادّي إلى عالم الأحلام والرؤى المثالية.
ومن الواضح أن سوموف، أيضا، لم يكن سعيدا بزمنه. كان من تلك النوعية من المبدعين الذين يفضّلون الانفصال عن واقعهم بسبب عدم رضاهم عنه أو انسجامهم معه، لكنهم لا يتبنّون مواقف ثورية لتغيير الواقع، بل ينصرفون بكليّتهم إلى الطبيعة فيغرقون في عالمها الساحر والأنيق.
ولهذا السبب قرّر سوموف أن يعود مائة سنة إلى الوراء وأن يعبّر عن أفكاره وتصورّاته الطوباوية في لوحات تستمدّ أجواءها وتفاصيلها من الماضي.
ومن اجل هذه الغاية عكف على دراسة الموسيقى والشعر والنثر والفنّ الذي كان سائدا في القرن الثامن عشر. ووجد في موسيقى غلوك وموزارت احد مصادر إلهامه.
والعديد من رسوماته تصوّر شوارع داكنة وسماوات مظلمة وقطع أثاث من الطراز القديم. ومع ذلك يمكن القول أن سوموف هو الأقرب إلينا اليوم من أي رسّام آخر ممّن عاصروه.
في هذه اللوحة يرسم سوموف اليزابيتا مارتينوفا زميلته في كلّية الفنون الجميلة. وقد رسمها وهي ترتدي فستانا ازرق قديما وتمسك بيدها كتابا، قد يكون رواية أو ديوان شعر، بينما تقف عند طرف حديقة غنّاء. ثم قرن الرسّام المشهد بصورة من عالم الموسيقى على هيئة عازفَين، رجل وامرأة، يظهران في الخلفية.
مارتينوفا تبدو وحيدة في هذه الحديقة. عيناها تنطقان بالحزن فيما الأشجار تحجبها عن بقيّة العالم. حركة يدها اليسرى المضمومة إلى صدرها توحي باليأس والضعف. الوقت مساءً كما يوحي بذلك منظر الغيوم الحمراء الخفيفة في السماء والسطح الداكن لماء البحيرة.
جوّ اللوحة يذكّر بمقاطع بعض الأفلام التي تصوّر أشخاصا يجلسون على المقاعد ويعزفون الموسيقى، لا لإثارة البهجة والمرح وإنما لتعميق الإحساس بالوحدة والحزن.
الرجل والمرأة اللذان يعرفان الموسيقى في الخلفية قد يكونان رمزين لروحي الرسّام وموديله اللذين يرتبطان في الأحلام لكنهما غريبان عن بعضهما في عالم الواقع.
لا تتوفّر سوى معلومات قليلة عن حياة هذه المرأة. لكن الثابت أنها ولدت عام 1868 لعائلة كان أفرادها يعملون في الطبّ. كانت عندما رسمها سوموف مريضة بالسلّ. ورغم مرضها، كانت تحبّ الرسم وتحلم بالشهرة والنجاح. وعندما تخرّجت من أكاديمية الفنون أصبحت من النساء الأوائل اللاتي اشتغلن بالرسم.
كانت اليزابيتا مارتينوفا تحلم بمستقبل عظيم. لكنّها توفّيت قبل أن تحقّق أيّا من أحلامها. ويرجّح أنها توفّيت بعد رسم اللوحة بخمس سنوات عن عمر لا يتجاوز الثلاثين عاما.
كلّ شيء تقريبا في هذه اللوحة هو تعبير عن الماضي: الفستان ذو اللون الأزرق الباهت، اللون الأصفر الخفيف الموظّف في اللوحة والمستمدّ من أساليب الرسّامين الكبار القدامى، وأشكال الأوراق الخضراء المأخوذة من الرسومات القديمة.
من الأشياء التي تلفت الانتباه في اللوحة بشكل خاص جمال وتناغم الألوان، والحركة المعبّرة لليدين المرسومتين بطريقة جميلة، والطريقة البارعة التي رسم بها الفنّان طيّات الفستان الثقيلة والمزيّنة بالدانتيل.
كان سوموف يعتقد أن الحياة ليست سوى مجرّد قناع للعدم. وكان يدرك بحزن عمق عزلته عن العالم من حوله. ولا بدّ وأنه كان يقدّر معاناة المرأة ويتعاطف معها. وقد استطاع أن يحوّل شعورها بالوحدة والمرض إلى نوع من الشعر.
ذات يوم، علمت اليزابيتا مارتينوفا أن سوموف يفكّر في بيع صورتها. فأرسلت إليه أن يأتيها. وعندما حضر أخبرته أنها لم تعد تنام بسبب اللوحة وما سبّبته لها من أفكار مشوّشة. ثم عاتبته على عزمه بيع اللوحة وقالت: لا يجب أن تبيع صورتي. لقد وقفت أمامك من أجلك ومن اجل الفنّ، وليس لكي تستكشف الحزن في عيني وفي حياتي. بإمكانك أن ترسمني ثانية، وأعدك بأن أحاول أن أبدو مبتسمة كي اقنع من يراني أنني انظر إلى الحياة بشكل مختلف. لا أريد هذه اللوحة، احتفظ بها لنفسك، احرقها، أو أعطني إيّاها إذا رغبت، أو امنحها للمتحف بلا مقابل".
وقد استجاب سوموف لطلب المرأة وعرض اللوحة على متحف تريتياكوف الذي اشتراها وبقي محتفظا بها إلى اليوم.
ولد كونستنتين سوموف في سانت بطرسبيرغ عام 1869م لعائلة من الرسّامين والموسيقيين. وكان منزل والده مزارا للعديد من الفنّانين والأدباء.
وقد درس الرسم على يد الفنّان الكبير ايليا ريبين. وفي العام 1897، غادر روسيا إلى باريس وقضى فيها عاما عاد بعده إلى سانت بطرسبيرغ. وبعد اندلاع الثورة الروسية، هاجر إلى الولايات المتحدة وأمضى فيها حوالي العام. لكن الاستقبال الفاتر الذي قوبل به هناك دفعه إلى الانتقال مرّة أخرى إلى فرنسا حيث عاش فيها السنوات العشر الأخيرة من حياته.
بعض لوحات سوموف الأخرى يصوّر فيها حفلات تنكّرية يظهر فيها سحرة ومهرّجون ورجال ونساء يرتدون الأقنعة، على نحو يذكّر بلوحات رسّام الروكوكو الفرنسي اونوريه فراغونار.
وإحدى أشهر لوحاته التي أنجزها في باريس كانت البورتريه الذي رسمه للموسيقي الروسي سيرغي رحمانينوف.

Tuesday, October 11, 2011

لوحات عالميـة – 296

كَمَـان وشمعـدان
للفنان الفرنسي جـورج بْرَاك، 1910


ترى، لو لم يختر الرسّام عنوانا لهذه اللوحة ذات اللون الأحادي، هل سيكون من السهل بالنسبة للناظر أن يتعرّف على طبيعة الأشياء المرسومة فيها؟
قد يقول قائل انه بشيء من التركيز والتمعّن في تفاصيل اللوحة يمكن رؤية شيء اقرب ما يكون لشكل آلة الكمان في الجزء السفلي الأيسر منها. أما الشمعدان فالأرجح أن لا ترى سوى بعض أجزائه المفكّكة والمتناثرة في منتصف اللوحة.
بعض النقّاد يرى في هذه اللوحة تجسيدا للسمات الديناميكية والحيوية التي طبعت التكعيبية التحليلية. وهي أسلوب فنّي ثوري ابتدعه كلّ من جورج بْرَاك وبابلو بيكاسو لتصوير أشياء ذات بعد ثلاثي على قماش مسطّح، دون استخدام المنظور التقليدي الذي كان معمولا به منذ عصر النهضة.
وهذا الأسلوب في الرسم ينحو باتجاه تكسير الأشياء وتجزئتها وتسطيحها ومن ثمّ إعادة بنائها من نقاط متعدّدة.
كان بْرَاك يرى أن هذا النوع من التجزئة يسهم في تقريب الأشياء أكثر. وهذه اللوحة تختصر هاجس الفنّان بشكل الأشياء، ورغبته في أن يخلق وهما في ذهن الملتقّي كي يتنقّل بحرّية داخل اللوحة.
عندما تنظر إلى هذه اللوحة لأوّل وهلة، قد يُخيّل إليك أنها تتحرّك. بْرَاك كان يرى أن الآلات الموسيقية تحتفظ بأهمية اكبر من حيث أنها تتحرّك وتتفاعل بمجرّد أن يلمسها الإنسان. ومثل الإيقاع والتجانس اللذين يميّزان حياة الآلات الموسيقية، فإن الحركة الديناميكية للمكان هي جوهر غنائية لوحات بْرَاك التكعيبية.
وفي اختياره لموضوع الكمان والشمعدان، يخبرنا بْرَاك انه يرسم وفق تقليد مألوف يستمدّ أصوله من رسوم الحياة الساكنة الهولندية والفرنسية. وبناءً عليه، فإن ما نراه ليس تمثيلا وهميا لكمان وشمعدان، لأنه بالإمكان أن نرى في تفاصيل اللوحة بعض المؤشّرات أو العلامات الدالّة على وجودهما.
وفي تمثيله للآلة الموسيقية على وجه الخصوص، يُلاحظ أن الرسّام استخدم خطوطا تجريدية، لكنها واضحة بما يكفي ودونما حاجة للعنوان، لأن نفهم أنها تشير إلى جانبي جسم آلة الكمان. كأن الرسّام يجرّب إلى أيّ مدى يمكن للخطوط والأشكال التجريدية أن تمثل الأشياء وتقرّبها من ذهن المتلقّي.
ظهرت التكعيبية كأسلوب مميّز ومؤثّر من أساليب الفنون البصرية في باريس في الفترة ما بين عامي 1907 و 1914م. وكان هذا الأسلوب يمثّل ثورة وفي نفس الوقت قطيعة مع أساليب الرسم التقليدية المعروفة.
وهناك اتفاق بين مؤرّخي الفنّ على أن بابلو بيكاسو وجورج بْرَاك هما الأبوان المؤسّسان للتكعيبية. لكن كان هناك رسّامون آخرون دفعوا بالحركة قُدُماً، مثل فيرناند ليجيه وسونيا ديلوناي وخوان غْرِيس ومارسيل دُوشان.
الناقد الفنّي الفرنسي لوي فوسيل كان أوّل من استخدم مصطلح التكعيبية عام 1908 عندما رأى لوحة لـ بْرَاك ووصفها بأنها "مكعّبات غريبة". وسرعان ما انتشر المصطلح على نطاق واسع، رغم انه لم يرق كثيرا لـ بيكاسو وبْرَاك.
وفي ما بعد، وصف مؤرّخ آخر التكعيبية بأنها "المحاولة الأكثر تطرّفا للقضاء على الغموض وفرض قراءة واحدة للصورة".
وقد رفض الرسّامون التكعيبيون التمسّك بالمنظور. كما نحّوا جانبا القاعدة القديمة التي تقول إن الفنّ يجب أن يحاكي الحياة وفضّلوا عليها تمثيل الأشخاص والأشياء بطريقة مجزّأة.
بْرَاك كان دائما معجبا بالشكل والثبات. ولوحاته تختصر هدف التكعيبية الأساسي، وهو تمثيل العالم كما يُرى من وجهات نظر مختلفة ومن زوايا متعدّدة.
ولد جورج بْرَاك في ارجنتويل في مايو من عام 1882. وقد تعرّف منذ صغره على الألوان وأدوات الرسم في متجر والده. وفيما بعد تلقّى بعض الدروس في أكاديمية الفنون.
وعندما انتقل إلى باريس، عمل مع احد رسّامي الديكور واستمرّ في تلقي دروس خاصّة في الرسم. وفي عام 1907 قابل بابلو بيكاسو أثناء عمل الأخير على لوحته المشهورة آنسات أفينيون. ومنذ ذلك الحين ربطت الاثنين صداقة وثيقة. ويقال أنهما ابتكرا التكعيبية في الرسم عندما كانا يلاحظان عن قرب بعض لوحات بول سيزان.
وقد بدأ الاثنان رحلتهما مع التكعيبية باستخدام ألوان محايدة وأنماط هندسية معقّدة. ثم بدأ بْرَاك يوظّف الكولاج في أعماله باستخدام أشياء متنوّعة من الحياة اليومية مثل الصحف والحبال والورق والزجاج والنسيج وخلافه.
خدم جورج بْرَاك كجندي في الجيش الفرنسي أثناء الحرب العالمية الأولى. وعانى وقتها من إصابة بالغة في الرأس تلتها فترة نقاهة طويلة. ثم عاد إلى الرسم مرة أخرى عام 1917م. لكنه لم يلبث أن انفصل عن التكعيبية وأصبح يميل أكثر إلى التجريب في محاولة لاكتشاف أساليب فنّية جديدة.
وقد توفّي الرسّام في باريس في أغسطس من عام 1963 ودُفن في إحدى كنائس النورماندي. وأعماله موجودة اليوم في العديد من المتاحف العالمية المشهورة.

Wednesday, October 05, 2011

لوحات عالميـة - 295

مارليـن الفيـروزيـة
للفنان الأمـريكي انـدي وارهــول، 1964


كانت مارلين مونرو "واسمها الأصلي نورما جين بيكر" قد أصبحت اسما مشهورا ومعروفا في عالم هوليوود في خمسينات القرن الماضي. غير أنها سرعان ما تحوّلت إلى أسطورة بعد أن أقدمت على الانتحار في أغسطس من عام 1962م.
الصورة التي كانت منطبعة في أذهان الكثيرين عن مونرو هي صورة امرأة شقراء ومثيرة. لكن بالنسبة لجمهورها ولوسائل الإعلام، بدا أن حياتها كانت سلسلة من المتاعب التي جرّتها عليها شهرتها وجمالها.
وبعد موتها، رسم لها اندي وارهول خمس لوحات اعتمادا على إحدى صورها الفوتوغرافية التي ظهرت بها في ملصق فيلمها المشهور "نياغارا". وفي جميع هذه اللوحات وظّف الرسّام نفس الصورة لكنّه استخدم لكلّ لوحة لوناً مختلفاً. وأطلق على كلّ واحدة اسما يوافق لونها الغالب، مثل مارلين الفضّية، ومارلين الذهبية، ومارلين الزهرية، ومارلين التركوازية أو الفيروزية، ومارلين الليمونية.
كان وارهول يدرك تأثير مارلين مونرو الكبير على هوليوود وعلى الثقافة الشعبية الأمريكية بشكل عام. لذا سعى جاهدا إلى التسامي بمكانتها من نجمة أو ممثّلة إلى أيقونة وإلهة لهوليوود. ومن خلال استنساخه صورة عادية يعرفها الملايين، أراد الرسّام تقويض صورة مونرو كرمز عام وتحويلها إلى منتج ثقافي وصورة تقبل الاستنساخ والتكرار إلى ما لا نهاية.
وجه مارلين مونرو في اللوحة يبدو ببشرة وردية وشفتين حمراوين وشعر أشقر على خلفية من اللون الفيروزي الداكن. لعبة الألوان غريبة هنا. اللون المكثّف في الخلفية يخلق جوّا عن عالم أو فضاء غير واقعي. شفتا المرأة وظلّ العين يبدوان غير متناسقين مع وجهها. الشعر لا يبدو طبيعيا بل اقرب لأن يكون شعرا مستعارا.
هل هذه إشارات ضمنية إلى أن ما نراه ليس هو الواقع أو أن الواقع يختلف عمّا نراه؟! من الواضح انه بسبب لوحات وارهول، ارتفعت مكانة مونرو وسطع نجمها أكثر. وقد كتب احد النقّاد ذات مرّة ملاحظة ذات مغزى عندما قال: ربّما كان وارهول يقدّس مارلين. لكنّه في لوحاته عنها يكشف عن صورتها العامّة باعتبارها ضربا من الوهم المشيّد بعناية".
ولد اندي وارهول في الولايات المتحدة عام 1928 لأبوين مهاجرين من ما يُعرف اليوم بـ سلوفاكيا. ولم يكن يتوفّر على أيّ نوع من التعليم. لكنّه كان فنّانا على طريقته الخاصّة. كانت أمّه تتابعه وتهتمّ به. وقد عاش إلى جوارها معظم حياته وكان يشاطرها حبّها الشديد للقطط.
وفي ما بعد درس في مدرسة الفنون الجميلة التابعة لمعهد كارنيغي. وتخرّج من المعهد وعمره عشرون عاما. ثم ذهب إلى نيويورك حيث عمل رسّاما في مجلات مثل فوغ وهاربرز بازار.
في لوحة مارلين الذهبية، يرسم وارهول الممثّلة على خلفية ذهبية، أي بنفس الطريقة التي كانت تُرسم بها العذراء في الأيقونات الدينية المسيحية. كأن الرسّام أراد أن يوحي بأن مونرو تحوّلت بعد موتها إلى مخلوق معبود ومقدّس. ولا بدّ وأنه كان يلاحظ إقبال النجوم الشباب على تمثّل نموذجها ومحاولة بلوغ نجاحها وملء الفراغ الذي تركته في عالم الفنّ.
في العام 1964، دخلت امرأة إلى محترف وارهول في مانهاتن والمسمّى "المصنع"، وصوّبت مسدّسا إلى رأسه. وأثناء محاولته تفادي الهجوم، طاشت رصاصة المسدّس لتخترق أربع لوحات من مجموعته عن مارلين مونرو كانت مكدّسة على أرضيّة الغرفة. ولم تكن "مارلين الفيروزية" من بين تلك اللوحات الأربع التي أصبحت تُسمّى "اللوحات المصوّبة". وقد تمّ إصلاح الضرر الذي لحق باللوحات وهي الآن بحالة جيّدة في إحدى المجموعات الفنية الخاصّة.
أسلوب اندي وارهول ولوحاته ذات الألوان الثقيلة والجامحة وطبيعة فهمه لوظيفة الفنّ كانت تشكّل تحدّيا للمشهد الفنّي المعاصر في ستّينات القرن الماضي. وقد اشتهر بعبارته المستفزّة التي تقول إن التجارة الجيّدة هي الفنّ الأفضل". وعندما رسم صور مارلين مونرو كان قد أصبح رمزا ثقافيا مهمّا. وقد اشتهر بتعليقاته وآرائه عن المجتمعات المعاصرة، خاصة الإعلام الجماهيري.
في العام 2007، اشترى لوحة "مارلين الفيروزية" جامع التحف الأمريكي ستيف كوهين بمبلغ ثمانين مليون دولار. وكانت لوحة أخرى لـ وارهول بعنوان "سيارة خضراء محترقة" قد بيعت قبل ذلك بمبلغ اثنين وسبعين مليون دولار.
والحقيقة انه ما من رسّام ارتبط اسمه بالفنّ الشعبي أو "البوب آرت" مثل وارهول. وهو أوّل رسّام تمكّن من إزالة الفوارق بين الفنون التشكيلية والفنون التجارية التي تُستخدم في الرسوم التوضيحية للمجلات والكتب الهزلية وألبومات الموسيقى والحملات الإعلانية والدعائية.
كان وارهول يستخفّ بوجهة النظر التقليدية حول ما يمكن أن يُعتبر مواضيع مناسبة في الفنّ. ولعلّ ابلغ ما يلخّص فلسفته الفنّية هو قوله: لو فكّر الإنسان مليّاً، فسيكتشف أن ثمّة أوجه شبه كبيرة بين مراكز التسوّق أو المحلات التجارية الكبيرة والمتاحف". كان وارهول ينتزع الصورة من سياقها ويجرّدها من المعنى، بحيث يسمح للمتلقّي بأن يعيد التفكير في رموزها ودلالاتها.
بعض النقّاد يأخذون على لوحاته طابعها الميكانيكي الذي لا يذكّر بالرسم. وبعضهم يسمّون فنّه "اللا فنّ". ومع ذلك أصبح وارهول أيقونة لعصره. كان شخصا موهوبا ومتعدّد الاهتمامات. فإلى جانب الرسم، عمل الفنّان في صناعة الأفلام والنشر وفي التصوير الفوتوغرافي. كما كان أيضا رجل أعمال ومعلّقا اجتماعيا بارزا.
في مطلع الستّينات أسّس وارهول محترفه الذي اسماه "المصنع"، وكرّسه لإنتاج كمّيات كبيرة من الطبعات والصور والبوسترات التي كان يرسمها. ثم أعلن انه لن يعتمد في الإنتاج على ما يصنعه بيده بل سيترك تلك المهمّة للآلات والمكائن، وبذا فجّر ثورة في الفنّ وأصبح عمله رائجا جدّا ومثيرا للجدل بنفس الوقت.
اللوحات التي رسمها وارهول لـ مارلين مونرو لم تقنع الكثيرين بأن هذه هي صورة النجمة فعلا. وهذا بدوره أفسح المجال للكثير من النظريات النفسية التي تحدّث بعضها عن قلق الخصي السيكولوجي عند الرسّام وفقدانه للقوّة الذكورية.
ومهما يكن من أمر، فإن ممّا لا يمكن نكرانه أن اندي وارهول كان احد الرسّامين الأكثر تميّزا ونفوذا في القرن العشرين. أثناء حياته، كان إنسانا متواضعا وخجولا. وكان مدمنا على العمل ليلا ونهارا على الرغم من مرضه. فقد كان يعاني من متلازمة أعراض سايدمان، وهو مرض يصيب الشخص في طفولته. ومن أعراضه قلّة انتظام الحركة والتعب الجسدي والمعاناة من آلام الروماتيزم المزمنة.
الجانب المظلم من اندي وارهول هو سلسلة لوحاته بعنوان "الموت والكارثة". وقد رسم تلك اللوحات في فترة عانى خلالها من بعض المآسي الشخصية، مثل حادث سيّارة نجا منه بأعجوبة ومحاولته الفاشلة الانتحار.
توفّي اندي وارهول في مدينة نيويورك في فبراير عام 1987م إثر إصابته بأزمة قلبية بعد أن عانى من مضاعفات عملية سبق وأن خضع لها في المثانة. وقد وُضع جثمانه في تابوت مطليّ بالذهب، ودُفن ببدلته الكشمير السوداء ونظّاراته الشمسية وباروكته الفضّية الشهيرة، بالإضافة إلى زجاجة من عطره المفضّل.

Wednesday, September 28, 2011

لوحات عالميـة - 294

قيـلـولـة
للفنان الهولندي فنسنـت فــان غــوخ، 1890


رسم فان غوخ هذه اللوحة بعد أن اُدخل إحدى المصحّات النفسية في سان ريمي. وعلى الرغم من جوّ اللوحة الهادئ، إلا أنها تشعّ بذلك التوتّر الذي يطبع أعمال فان غوخ عادةّ.
واللوحة هي واحدة من ثلاثين لوحة اختار الفنّان أن يستنسخها عن رسّامين آخرين. كان فان غوخ وهو في المصحّة يتأمّل ماضيه فلا يجد فيه سوى القليل من السعادة. وكان يحاول جاهدا البحث عن مواضيع للرسم توفّر عليه مشقّة الخروج إلى الطبيعة في ذروة فصل الشتاء القارس.
وقد وجد أخيرا بعض السلوى في أعمال رسّاميه المفضّلين الذين قرّر أن يعيد رسم بعض لوحاتهم. وأكثر اللوحات التي رسمها كانت لـ جان فرانسوا ميليه الذي كان فان غوخ معجبا به ولطالما اعتبره فنّانا حديثا أكثر من مانيه.
في هذه اللوحة ينسج فان غوخ على منوال ميليه في إحدى لوحاته، فيرسم زوجين نائمين في احد الحقول وقت القيلولة. زوج الأحذية المخلوعة والمنجلان الموضوعان جنبا إلى جنب هي تذكير بوقت الراحة بعد يوم حافل بالجهد والتعب. تنظر إلى جوّ اللوحة فتتذكّر بيئة الفلاحين وما يرتبط بها من حرارة الشمس اللاهبة والعمل البدني المضني والإحساس بالإرهاق والتعب.
اللوحة تتضمّن أيضا مجموعة من الثنائيات: الزوجان "أي الرجل والمرأة"، الحذاءان، كومتا القشّ والمنجلان. المنظر هادئ إجمالا ويخلو من أيّ توتّر. والسماء الزرقاء تعمّق الإحساس بهذه الحالة من الصفاء والسكينة.
الرسّام وظّف هنا الألوان الزرقاء والبنفسجية والبرتقالية والصفراء. كما استخدم ضربات فرشاة فضفاضة في المقدّمة كي يكرّس المزاج المسترخي في هذه اللوحة الغنائية.
وعندما تتأمّل التفاصيل الهادئة في الصورة، لا يمكن أن يخطر ببالك أن من رسمها سيقدم على قتل نفسه بعد أشهر قليلة من إتمامها.
جان فرانسوا ميليه كان معروفا برسم مناظر الطبيعة التي تصوّر الريف الفرنسي في سبعينات القرن التاسع عشر. وخلافا لـ فان جوخ، حقّق ميليه نجاحا ملحوظا خلال مسيرته الفنّية. وكان محظوظا بما فيه الكفاية عندما رأى الناس والجمهور يعترفون بموهبته ويقدّرون أعماله وهو ما يزال على قيد الحياة.
خلفية جان فرانسوا ميليه الاجتماعية المتواضعة كان لها تأثير كبير على طبيعة مواضيعه. كان كثيرا ما يقول: لقد ولدت فلاحا وسأموت فلاحا". لكن بعد أن أصاب بعض النجاح تغيّرت أفكاره وأصبح يقدّر مزايا وايجابيات الحياة المرفّهة والمريحة. وقد أودع في لوحاته تعاطفه الكبير مع الفلاحين عندما صوّرهم وهم يجهدون في زراعة الأرض ورعايتها لتأمين لقمة عيشهم.
فان غوخ، هو الآخر، كان يحترم الطبقات الكادحة ويتعاطف معها. لوحاته التي رسمها في هولندا كانت تصوّر فلاحين ونسّاجين وغيرهم من فئات المجتمع البسيطة. وكان يبدو في أحسن حالاته عندما يشاركهم حياتهم وتجاربهم. كان، مثل ميليه، يراهم أناسا نبلاء حقّاً وعَكَس هذا الانطباع في رسوماته.
الجدير بالذكر أن فان جوخ درس أعمال ميليه في وقت مبكّر. وقد ساعدته دراسته تلك على معرفة أساليب التعامل مع الطلاء والألوان. ولا أدلّ على افتتانه بـ ميليه من قوله في إحدى رسائله إلى شقيقه ثيو: ميليه هو الأب والمرشد لجميع الرسّامين الشباب". غير أن تأثير ميليه عليه بدأ يتناقص عندما أصبح فان غوخ يخالط رموز مجتمع الفنّ الحديث في باريس مثل غوغان وبيسارو وتولوز لوتريك وغيرهم. لكن انجذابه للريف لم يتلاشَ تماما. فلوحاته عن المحاصيل والحقول المشمسة في آرل تبدو دافئة وذات حضور كبير.
اللوحات التي استنسخها فان غوخ لآخرين حرص فيها على أن لا يتمسّك بالتفاصيل، بل غيّر فيها وبدّل في محاولة لأن يترجمها من منظوره هو من خلال التكنيك والألوان.
وقد فعل نفس الشيء تقريبا وهو يرسم هذه اللوحة، على الرغم من انه بقي وفيّا للتوليف الأصلي وحافظ على تفاصيل الحياة الساكنة في المقدّمة.
في احدى رسائله، يخبر شقيقه عن أمر هذه الصور التي استنسخها قائلا: لقد بدأت في رسمها عن غير قصد. وأنا الآن ارتجل الألوان وأعيد تشكيل ما أراه. الشخص الذي يعزف موسيقى بيتهوفن يضيف إليها رؤيته وتفسيره وإحساسه الشخصي. وهذا ما افعله. لقد تعلّمت من هذه التجربة أشياء. كما أنها تمنحني بعض الراحة والسلوان. الفرشاة تتحرّك الآن بين أصابعي مثلما تتحرّك الريشة على آلة الكمان. وهذا مبعث سرور عظيم لي".
عمل فان غوخ في مستهلّ حياته واعظا بأحد الأديرة. ولما اتضحت موهبته في الرسم بدأ برسم الفقراء الذين كانوا يأتون إلى الدير لسماع خطبه.
وعلى الرغم من انه لم يبدأ الرسم إلا في آخر عشر سنوات من حياته، إلا أنه كان غزير الإنتاج وترك ما لا يقلّ عن سبعمائة لوحة، عدا عن مئات الرسومات والاسكتشات.
كان فان غوخ إنسانا يائسا وذا مزاج متقلّب وعنيف دفعه في النهاية لأن يقدم على الانتحار. ورغم انه توفّي وعمره لا يتجاوز السابعة والثلاثين، إلا انه أصبح بعد وفاته احد النجوم الكبار في سماء الفنّ الحديث.

Saturday, September 24, 2011

لوحات عالميـة - 293

بورتـريه ماريّـا لوبـوكينـا
للفنان الروسي فلاديميـر بوروفيكـوفسكـي، 1797


أثناء حكم القيصر بطرس الأكبر، عاش الفنّ الروسي مرحلة تغيير كبيرة. فقد انتقل الاهتمام من رسم اللوحات الدينية حصراً إلى رسم مواضيع وأشياء من العالم المنظور.
وكان الاهتمام برسم البورتريه احد اكبر انجازات الرسم الروسي في تلك الفترة، أي حوالي منتصف القرن الثامن عشر.
ومن أهمّ الرسّامين الذين ظهروا آنذاك كلّ من ديميتري ليفيتسكي وفيودور روكوتوف وايليا ريبين وكارل بريولوف وفالانتين سيروف وميخائيل فروبيل وفلاديمير بوروفيكوفسكي.
وكلّ هؤلاء، وغيرهم، ساهموا في ابتكار أساليب وتقنيات جديدة في الرسم لم يسبقهم إليها احد. وتميّزت أعمالهم عموما بالمزاج الشاعري وبالتركيز على إبراز جمال الملامح الإنسانية وتصوير الانفعالات والمشاعر العميقة.
فلاديمير بوروفيكوفسكي كان احد الرسّامين الأكثر تميّزا في تلك المرحلة. وقد ترك تراثا عظيما من الأعمال الفنّية. لكن هذا البورتريه لوحده كان كافيا لأن يخلّد اسمه في تاريخ الرسم الروسي إلى الأبد.
والبورتريه ليس فقط أشهر أعماله وإنما إحدى العلامات المهمّة في تاريخ الفنّ في روسيا.
كانت ماريّا لوبوكينا، واسمها الأصلي ماريّا ايفانوفنا تولستايا، احد أفراد عائلة تولستوي النبيلة التي ينحدر منها الروائي الكبير ليو تولستوي. ماريّا كانت الابنة الكبرى للكونت ايان تولستوي. وقد أنجب غيرها ابنتين وثلاثة أولاد. شقيقها، فيودور تولستوي، أصبح في ما بعد رحّالة مشهورا وطاف حول العالم في قارب. كما كان صديقا مقرّبا من الشاعر الكسندر بوشكين. ورغم ثراء وجاه العائلة، إلا أنها كانت تعيش في ذلك الوقت حياة فقر تقريباً بسبب خلافهم مع السلطة السياسية.
في العام 1797 تزوّجت ماريّا من ستيفان لوبوكينا الذي كان يعمل في بلاط القيصر بولس الأكبر. وقد كلّف زوجها الفنّان فلاديمير بوروفيكوفسكي برسم هذا البورتريه لـ ماريّا بمناسبة زواجهما.
وقد رسمها بفستان ابيض بسيط بينما تقف وسط طبيعة مفتوحة. افتتان الرسّام بالحياة الداخلية لشخصيّاته وبالمزاوجة بين الحقيقة والجمال واضح في هذه اللوحة. فالمرأة التي تقف في حالة تأمّل هي جزء من الطبيعة الريفية المثالية التي تتشكّل منها خلفية المنظر. وقرب المرأة من حياة الطبيعة يتناغم مع نعومة ونقاء الألوان وتناسق الخطوط، ما يضفي على المشهد سحرا إضافيا.
ولد فلاديمير بوروفيكوفسكي في اوكرانيا عام 1757م لأب من القوقاز.
واشتغل في بدايات حياته بالعسكرية. لكنه تقاعد منها مبكّرا وكرّس حياته للرسم. وفي البداية عمل رسّاما للأيقونات في الكنائس.
وكان مقدّرا لـ بوروفيكوفسكي أن يكتفي برسم الكنائس في بلدته، لولا أن وقع في حياته حادث مهمّ. فقد كان احد أصدقائه مقرّبا من الإمبراطورة كاثرينا الثانية. واقترح عليه صديقه أن يرسم للملكة لوحة رمزية تجمعها مع زوجها الإمبراطور بطرس الأوّل ملك روسيا. وقد راقت اللوحة للإمبراطورة، لدرجة أنها طلبت منه الانتقال إلى سانت بطرسبيرغ.
وفي السنوات العشر الأولى له في المدينة، عاش في منزل الشاعر والموسيقي الأمير نيكولاي لونوف الذي كان لأفكاره ونظريّاته في الفنّ اثر كبير على الرسّام.
ومثل روبنز، كان بوروفيكوفسكي يعتمد على مساعديه في رسم الأجزاء الأقلّ أهمّية في لوحاته. وخلال حياته، أتمّ رسم أكثر من خمسمائة لوحة بقي اليوم منها حوالي أربعمائة. وكان زبائنه في الغالب من أفراد عائلة الإمبراطور ومحظيّات البلاط والارستقراطيين وشخصيات أخرى مهمّة من أوساط الفنّ والأدب.
كانت ماريّا لوبوكينا عندما رسمها بوروفيكوفسكي في الثامنة عشرة من عمرها. وبعد ستّ سنوات من رسم البورتريه، أي في العام 1803، توفّيت متأثّرة بإصابتها بمرض السلّ.
بوروفيكوفسكي أصبح في ما بعد أستاذا بأكاديمية سانت بطرسبيرغ للفنون. وفي تلك الفترة، رسم إحدى لوحاته الأخرى المشهورة وهي بورتريه اولغا فيليبوفا التي كانت زوجة لأحد أصدقائه.
وفي ابريل 1825 توفّي الرسّام فجأة بأزمة قلبية ودُفن في مقبرة الكسندر نيفسكي في سانت بطرسبيرغ.

Monday, September 19, 2011

لوحات عالميـة - 292

وليمـة بلشـاسـار
للفنان الهولندي رمبـرانــدت، 1635


"لا تعبدوا الأوثان. ولا تشركوا بالله شيئا". هذا هو الدرس الديني والأخلاقي الذي تقدّمه هذه اللوحة الجميلة والمعبّرة.
القصّة التي ترتكز عليها الصورة مختلَف عليها. فكتب التاريخ لا تكاد تأتي على ذكرها. وكلّ ما هنالك بضع إشارات وردت في سفر دانيال من كتاب العهد القديم.
حدثت هذه القصّة عام 538 قبل الميلاد. وتتحدّث عن الملك البابلي بلشاسار الذي خلف والده نبوخذ نصّر على كرسيّ الحكم.
بعد سنوات من جلوسه على العرش، أقام بلشاسار في إحدى الليالي مأدبة ضخمة في قصره دعا إليها ألفاً من أفراد حاشيته والأمراء والوجهاء بالإضافة إلى زوجاته ومحظيّاته.
مناسبة الوليمة غير معروفة على وجه التحديد. لكن يقال أن بلشاسار كان شخصا متكبّرا ومفتونا بملكه وهيلمانه. وقد اختار أن يقيم الوليمة في الوقت الذي كانت فيه قوّات داريوس ملك الفرس تُحكم حصارها على بابل تمهيدا لاقتحامها واحتلالها. كانت أسوار بابل وقتها محصّنة ومنيعة إلى درجة أن بلشاسار ظنّ انه يستحيل اختراقها.
في تلك الليلة أمر بلشاسار بإحضار كؤوس الذهب والفضّة من معبد أورشليم كي يقدّم فيها النبيذ إلى ضيوفه. هذه الأواني كانت مقدّسة بحسب الرواية. وكان ذلك الفعل كافيا لجلب غضب الربّ وسخطه على الملك المستهتر.
وتمضي القصّة فتقول انه بينما كان الملك وضيوفه منهمكين في الشراب والمجون، رأى الملك فجأة على ضوء مصباح يداً غريبة تخرج من الجدار وتكتب عليه كلمات مرمّزة بأحرف من اللغة الآرامية القديمة.
وهذه هي اللحظة التي اختار رمبراندت أن يرسمها في اللوحة. تأثير الصدمة واضح على وجه بلشاسار وهو يدير رأسه باتجاه اليد التي تكتب على الجدار. رقبته متوتّرة وعيناه مفجوعتان وهو ينظر إلى الكتابة المتوهّجة على الحائط، بينما يرفع يده اليسرى كأنما ليحمي نفسه من خطر داهم ووشيك.
هذه اللوحة تصلح لأن تكون نموذجا في دراسة التأثير السيكولوجي للصدمة. براعة رمبراندت في رسم ملابس الملك الباذخة والموشّاة بالذهب والفضّة وعمامته المثبّت فوقها تاج الحكم يجعل من هذه اللوحة إحدى أروع أعمال الرسّام.
ترتيبات الحياة الساكنة على المائدة من فواكه وأوانٍ تشبه ما كان يستخدمه الهولنديون الأثرياء في منازلهم زمن رمبراندت. كأن الرسّام يدعو الناظر إلى تخيّل فخامة القصر والتمعّن في سحر الكتابة المتوهّجة باللونين الذهبي والفضّي على حائط القصر.
المرأة الجالسة بالقرب من الملك تخفض جسدها اتقاء حركة ذراعه القويّة والمفاجئة. أيضا من التفاصيل اللافتة للانتباه في المشهد تعابير الصدمة والرعب المرتسمة على ملامح الرجل والمرأة الجالسين إلى يسار اللوحة. نظرات الحاضرين تدلّ على أن اليد ظهرت للملك وحده دون غيره. ولهذا السبب خاف وارتعب لأنه أدرك أن ما هو مكتوب يخصّه هو شخصيّا.
ارتبك بلشاسار جدّا وتملّكه الفزع وتغيّرت هيئته ممّا رأى. وسارع في طلب السحرة والمنجّمين كي يفسّروا له ما حدث.
وأشار عليه بعض خلصائه أن يستشير حكيما يُدعى دانيال عُرف ببراعته في تفسير الرؤى. وعندما حضر الحكيم عرض عليه بلشاسار أن يعطيه ما يشاء من مال وجاه إن هو نجح في قراءة وتفسير الكتابة الغامضة.
فقال له دانيال وكان رجلا صالحا وزاهدا في الدنيا: لتكن عطاياك لنفسك ولتمنح هباتك لغيري. أما الكتابة فهي نذير شرّ لك. لقد بالغت في تمجيد الأوثان وإهانة الربّ. لذا سينتهي ملكك سريعا وستُقسّم أراضي المملكة بين ميديا وفارس".
وفي تلك الليلة سقطت بابل دون قتال بخدعة نفّذها الفرس والميديون بتحويلهم مجرى النهر. وفي منتصف الليل فتحوا الأبواب بطريقة لم يتوقعها الحرّاس في الأبراج العالية وعبر الجيش الغازي إلى وسط المدينة وقُتل بلشاسار وعدد من رجاله.
ويبدو أن داريوس عرف بأمر المأدبة الضخمة وبأن الملك ورجاله وجنده غارقون في سكرهم وعربدتهم وأيقن أن تلك فرصته الذهبية لاقتحام المدينة واحتلالها. وكان له ما أراد.

Wednesday, September 14, 2011

لوحات عالميـة - 291

بورتريه جيوفانا تورنابوني
للفنان الايطالي دومينـيكو غيرلانـدايو، 1490


يقول احد الكتّاب واصفا هذه اللوحة: لا توجد صورة أخرى على الأرض أجمل من هذه الصورة". قد يكون في هذا الكلام بعض المبالغة. لكن المؤكّد أن هذه اللوحة تُعتبر بشهادة العديد من نقّاد الفن إحدى التحف الفنّية الكبيرة التي أنتجها عصر النهضة الايطالي. كما أنها تعكس، بطريقة جميلة ومحكمة، التصوّرات والأفكار المثالية التي كانت سائدة في ايطاليا في الربع الأخير من القرن الخامس عشر.
واحد أسباب شهرة اللوحة هو أنها تحكي عن قصّة إنسانية مؤثّرة. المرأة اسمها جيوفانا تورنابوني. وهي سليلة عائلة نبيلة من فلورنسا. كان ترتيب جيوفانا الثامنة بين أشقائها. وقد تلقت تعليما يتناسب مع فتاة في مثل مكانتها الاجتماعية. كان أهمّ حادث في حياة جيوفانا تورنابوني هو زواجها من لورنزو تورنابوني الذي كان هو الآخر وريث عائلة متنفّذة تربطها صلة قرابة بأسرة ميتديتشي المشهورة. كان الزوج أيضا مصرفيا بارزا وراعيا للفنون، بالإضافة إلى تبوّئه منصب سفير فلورنسا لدى البلاط البابوي.
كان زواجهما أسطوريا. كان من البذخ والفخامة بحيث ظلّ الناس يتناقلون أخباره طوال المائة سنة التالية.
وبعد مرور عام على الزواج، رُزق الزوجان الشابّان بطفلهما الأوّل. وأثناء حمل الزوجة بطفلهما الثاني مرضت ثمّ توفّيت فجأة قبل أن تكمل عامها التاسع عشر.
وبعد عام على وفاتها، كلّف زوجها الفنّان دومينيكو غيرلاندايو برسم لوحة لها كي تُعلّق في قصر عائلة تورنابوني تخليدا لذكراها.
وقد طلب الزوج من الفنّان رسم صورة استثنائية تُبرز الملامح الجسدية للمرأة وتكشف عن جمالها الداخلي. وعمل الرسّام على اللوحة بتركيز شديد. وحرص على إبراز ثلاثة عناصر رئيسية في شخصية المرأة: جمالها، ودورها كزوجة، بالإضافة إلى ما كانت تتصف به من تديّن وتقوى. وهذه هي الأفكار الثلاث التي تجسّدها اللوحة.
بعد أن أتمّ غيرلاندايو رسم اللوحة، سرعان ما أصبحت صورة للمرأة المثالية. كما أصبحت نساء فلورنسا آنذاك يرين فيها النموذج النهائي لجمال المرأة. في ذلك الوقت، كانت السمات الأساسية للجمال الأنثوي المثالي هي الشعر الأشقر والعنق الطويل والعينان الواسعتان والصدر العريض. وكلّ هذه المواصفات مأخوذة من العصور القديمة. كما أنها متوفّرة في صورة جيوفانا تورنابوني.
غيرلاندايو اختار أن يرسم المرأة جانبيا كي يوفّر مساحة تسمح بإظهار الأشياء التي ترتبط بشخصيتها. كما اتبع الأسلوب الكلاسيكي الذي يصوّر أعضاء الجسد بطريقة مثالية ويُظهِر ملامح الوجه خالية من أيّ تعبيرات أو انفعالات.
في اللوحة تبدو المرأة واقفة بوقار أمام خلفية سوداء بينما تضع يدا فوق الأخرى. القلادة المصنوعة من الجواهر النفيسة والفستان المطرّز بالذهب والحرير يكشفان عن مستوى عال من البذخ. المجوهرات التي ترتديها تشير إلى مناسبة زواجهما. والإطار ذو الشكل المعماري البسيط الذي يقع خلفها هو المكان الذي يضمّ أشياءها ومتعلّقاتها الشخصية. من هذه الأشياء كتاب للصلاة ومسبحة ذات خرز احمر يرمزان إلى تديّنها. وهناك أيضا ورقة مكتوب عليها جزء من قصيدة لشاعر روماني قديم، في إشارة إلى الروح الجميلة للمرأة المتوفّاة.
مما يثير الاهتمام أيضا في هذا البورتريه طريقة الرسّام البارعة في تمثيل الأطراف وخصلات الشعر الذهبية. وهناك أيضا نموذج وجه المرأة الذي يخطف الأنفاس بجماله ودقّة ملامحه. لكنه جمال متحفّظ كما تعبّر عنه طريقة الوقوف الرسمية.
كانت البورتريهات التي تصوّر نساءً لوحدهن شيئا نادرا حتى منتصف القرن الخامس عشر. كانت المرأة تُرسم غالبا مع شريك رجل. وقد جرت العادة أن يُرسم الحكّام والنبلاء مع زوجاتهن في صورة واحدة. لكن هذا العرف سرعان ما تغيّر. وازدادت شعبية البورتريهات التي تصوّر نساء بدون معيّة الرجال.
في بعض الأوقات ثار جدل حول ما إذا كان هذا البورتريه قد رُسم أثناء حياة جيوفانا تورنابوني أو بعد وفاتها. غير أن هناك شبه إجماع على أن ملامح المرأة تتوافق إلى حدّ كبير مع الأوصاف المذكورة في عدد من المصادر من تلك الفترة. وهناك من قال إن الرسّام ركّز على تصوير المظهر الجسماني للشخصية أكثر من تركيزه على فضائلها الداخلية.
وبالإمكان القول أن اللوحة تكشف أيضا عن طبيعة الحياة في فلورنسا كمدينة متطوّرة ومزدهرة وعن علاقاتها الاجتماعية والتجارية والعائلية ومعتقداتها الدينية.
تصوير الأشخاص جانبيا ظهر أوّل ما ظهر في بدايات عصر النهضة. وهو مستمدّ من التقليد الكلاسيكي في رسم الأشخاص على ميداليات ذهبية أو معدنية. هذا التقليد كان يعكس افتتان الناس بالماضي الكلاسيكي عندما كان القياصرة يصورّون أنفسهم على العملات الرومانية القديمة في وضع جانبي. ثم انسحب هذا الأسلوب على النساء المتزوّجات حديثا على اعتبار انه يُتوقع من المرأة أن تحفظ شرف عائلة الزوج بسلوكها الرزين ومظهرها المحتشم. لكن أسلوب التصوير الجانبي اختفى مع نهاية القرن الخامس عشر باستثناء حالات قليلة.
عندما أكمل الفنان رسم هذه اللوحة وُضعت داخل إطار مذهّب ثم نُقلت إلى قصر تورنابوني واختير لها غرفة طُلي سقفها بالذهب قريبا من غرفة الزوج. وما تزال اللوحة بحالة ممتازة على الرغم من مرور أكثر من خمسمائة عام على رسمها.
كان دومينيكو غيرلاندايو معروفا جيّدا في عصره. وكثيرا ما كان يدمج الصور التي يرسمها بمشاهد دينية. ولهذا السبب كان يتمتّع بشعبية كبيرة بين أثرياء فلورنسا الذين كانوا يحرصون على الاستعانة به في رسم صور لهم ولأفراد عائلاتهم. كما كان الفنّان بارعا أيضا في أعمال الديكور. وقد أقام محترفه في توسكاني. لكنه كثيرا ما كان يُستدعى إلى روما ليرسم الديكور الداخلي للكنائس والأديرة. وتضمّ لوحاته الدينية رسومات للعذراء ويوحّنا المعمدان. وتتميّز أعماله بمعمارها المعقّد وبكثرة الأشخاص فيها. وكان من عادته أن يولي أهميّة للعناصر الثانوية في لوحاته. وبعض أعماله موجودة اليوم في عدد من متاحف باريس ومدريد.

Wednesday, September 07, 2011

لوحات عالميـة - 290

الساروف ذو الأجنحة الستّة
للفنان الروسي ميخائيـل فروبيـل، 1904


هذه حكاية رسّام ظلّ يرسم الملائكة والشياطين طوال حياته. لكنه كان مفتونا أكثر برسم صور الشيطان. وقد صوّره في حالات وأوضاع مختلفة، جالسا وواقفا ومستلقيا على الأرض.. إلى آخره. وفي النهاية وقع هذا الرسّام ضحيّة هواجسه الشيطانية المؤرّقة.
كان أوّل لقاء لـ ميخائيل فروبيل مع الشيطان في إحدى كنائس مدينة كييف الاوكرانية. كان الفنّان وقتها ما يزال في مقتبل العمر. وقد انتُدب، مع آخرين، لمهمّة تزيين سقف الكنيسة بصور لملائكة وشياطين ممّن ورد ذكرهم في النصوص الدينية.
واستعدّ فروبيل لتلك المهمّة بقراءة الكثير من القصص والروايات الدينية القديمة كي يستنبط منها الأوصاف المناسبة التي تعينه على رسم الموضوع.
فروبيل غير معروف كثيرا خارج روسيا. لكن الروس يحترمونه كثيرا ويعجبون برمزيته ويعتبرونه من آباء الفنّ الحديث في روسيا، بل وأحد رموزهم الثقافية العظيمة.
ولا شكّ في أن اكبر انجازاته هو سلسلة لوحات الشيطان التي بدأ في رسمها وهو في سنّ مبكّرة.
من أشهر لوحات تلك السلسلة هذه اللوحة التي استمدّ الرسّام موضوعها من قصيدة للشاعر الكسندر بوشكين. والقصيدة تحكي عن قصّة شاعر يمشي في الصحراء. وهناك يلتقي ساروفاً "وهو نوع من الملائكة" على هيئة أنثى بستّة أجنحة. ويقوم الملاك بالمسح على عيني الشاعر وأذنيه وفمه كي يفتح له غموض العالم ويُطلعه على كلّ ما هو خافٍ عن أعين البشر. ثم لا يلبث الملاك أن يستلّ قلب الشاعر من مكانه ويستبدله بجمرة محترقة. وبعدها يسمع الشاعر صوت الله الذي يأمره بأن ينطلق في الآفاق ليشعل أرواح البشر بالكلمات.
في اللوحة يرسم فروبيل الملاك بملامح أنثى تمسك بيدها اليمنى سيفا وبالأخرى قنديلا ملوّنا. وعندما تنظر إلى اللوحة لأوّل مرّة، سرعان ما تتخيّل عالما مشيّدا من الحجارة الثمينة الملوّنة أو من قطع الألماس المكسورة وسط هالة من الغموض.
ضربات الفرشاة تخلق خطوطا وأشكالا متكسّرة تعطي انطباعا عن صورة شبحية. النسيج وخطّة الألوان في اللوحة تشيان باهتمام فروبيل بالفنون الشرقية، وخاصّة السجّاد الفارسي. وهو يستخدم أشكالا مألوفة ويخلق منها صورا غير متوقّعة. وفي النهاية يظهر عالم متغيّر ومختلف تماما، بحيث يتحوّل الواقع إلى فانتازيا.
ولد ميخائيل فروبيل عام 1856 في اومسك بـ سيبيريا. في ما بعد، درس القانون في جامعة سانت بيترسبيرغ. وأثناء دراسته، كان يتلقّى دروسا في الرسم. ثم سجّل في أكاديمية الفنون التي قضى فيها أربع سنوات.
في مرحلة تالية، انتقل الرسّام إلى موسكو حيث حظي برعاية احد الأثرياء الذي روّج لاسمه وعرّفه على بعض العائلات النبيلة والموسرة. ثم تزوّج الرسّام من إحدى مغنّيات الأوبرا وعمل معها في مجال تصميم أزياء وديكور المسرحيات.
في لوحة أخرى من لوحات هذه السلسلة بعنوان "الشيطان جالساً"، يرسم فروبيل الشيطان من وحي قصيدة للشاعر ميخائيل ليرمونتوف. القصيدة تصوّر الشيطان كملاك سقط من عليائه. وعندما يهبط إلى الأرض يقع في هوى امرأة جميلة، لكنها مرتبطة برجل آخر. فيقوم الشيطان بقتل غريمه ويتعقّب محبوبته. وعندما يتودّد إليها تموت في أحضانه. ثم تصعد روحها إلى السماء في أحضان ملاك، بينما يُترك الشيطان لوحده على الأرض.
فروبيل رسم شيطان ليرمونتوف جالسا، متأمّلا وحزينا، على تلّة مرتفعة وقت الغروب. الشيطان يبدو هنا وكأنه ملّ من أفعال الشرّ. ومع ذلك، ما يزال الخير شيئا غريبا بالنسبة له. جسده القويّ والمعافى يبدو كبيرا بالنسبة لمساحة اللوحة. وهو يظهر بوجه وسيم وملامح تنطق بالأسى، بينما يشبك يديه ببعضهما.
شياطين فروبيل هي مزيج من المفارقات والمتناقضات: الجمال، القوّة، اليأس والتوق. كما أنها محاطة دائما بعالم رائع وجميل وبارد. وهي قد تكون رمزا لهذا العصر، حيث لا ليل ولا نهار، لا ظلمة ولا نور.
فكرة الشيطان كانت رائجة كثيرا في أدب وفنّ الرمزيين. كانوا ينظرون إلى الشيطان باعتباره قوّة وسيطة بين العالم الطبيعي والميتافيزيقي. وهو عندهم روح عظيمة وقويّة. كما انه ابديّ وخالد وليس له نظير أو شبيه. ومأساة الشيطان هي، بمعنى ما، مأساة الإنسان نفسه الذي يحتجّ على انهيار أوهامه الرومانسية وأحلامه الطوباوية.
ابتداءَ من العام 1906، تدهورت حالة فروبيل الصحّية وبدأ يعاني من بوادر انهيار عقلي حادّ. كان قد أصبح مهجوسا على ما يبدو بشياطينه الخاصّين، فاُدخِل إلى إحدى المصحّات النفسية. لكنه كان ما يزال قادرا على أن يرسم المزيد من اللوحات عن موضوعه المفضّل.
وقبيل وفاته، رسم آخر صوره له عن الشيطان بعنوان "الشيطان مُنهَكاً". في هذه اللوحة لا يظهر من الشيطان سوى رأسه وهو يطلّ من قمّة جبل بشعر أشعث ووجه كالح ونظرات ناريّة. أجنحته متكسّرة وعيناه تحترقان بالثورة وروحه واهنة. ملامح هذا الشيطان مليئة بعذاب لا يوصف ولا يمكن تحمّله. وقد وصف النقاد اللوحة بأنها تعبير عن روح الرسّام المتشكّكة والمتمرّدة وعن تعطّشه للحرّية وللمعرفة.
بعد أن أتم فروبيل رسم لوحته الأخيرة، ازدادت عليه وطأة المرض فكُفّ بصره وضَعُفت صلته بالواقع.
وبعد أشهر قليلة، أي في ابريل من عام 1910م، توفّي عن عمر يناهز الرابعة والخمسين.

Friday, September 02, 2011

لوحات عالميـة - 289

الكيمـونـو البرتقـالي
للفنّان الايطالي جيوسيـبي دي نيتـيس، 1867


لا يُعرف عن هذا الرسّام الايطالي سوى النزر اليسير. لكنّ الشيء المؤكّد انه كان يحبّ باريس كثيرا. كما كان حريصا على أن لا يصوّر سوى اللحظات السعيدة والعابرة.
كان جيوسيبي دي نيتيس أهم رسّام ايطالي عاش في فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. كان معاصرا لـ جيوفاني بولديني وصديقا لكلّ من كابييوت ومانيه وديغا.
وقد اشتهر بتصويره لمظاهر الحياة الحديثة في باريس في ذلك الوقت. كما عُرف عنه اهتمامه بالأناقة وبالموضة.
لوحته هنا تذكّر برسومات ديلاكروا عن الشرق من حيث ثراء الألوان ووضوح الخطوط. المرأة في اللوحة تجلس في وضع اتكاء وتعطي ظهرها للناظر وتنظر إلى الوراء كما لو كانت بانتظار شخص ما.
والجزء الأهم في اللوحة هو اللباس الذي ترتديه، وهو عبارة عن كيمونو ياباني بألوان برتقالية ساطعة ونقوش جميلة تثير إحساسا بالدفء وبالأنوثة.
المرأة الظاهرة في الصورة هي ليونتين غروفيل، زوجة الرسّام وملهمته. وقد رسمها في العديد من لوحاته، أحيانا لوحدها وأحيانا بمعيّة ابنهما.
كان دي نيتيس شغوفا بالرسم الياباني. وكان يشاركه هذا الشغف كلّ من مانيه وديغا. والكثير من لوحاته لا تخلو من عنصر من الفنّ الياباني كالمراوح والنقوش والأزهار البيضاء والمطر والثلج وخلافه. وقد نقل هذا الافتتان بالرسم الياباني إلى منزله الذي حرص على تزيينه بنقوش وتصاوير ذات ألوان دافئة مستمدّة من فنون اليابان.
دي نيتيس كان يمزج في أعماله بين الواقعية والانطباعية والرسم الياباني. هذا المزج بين مدارس مختلفة ربّما يشير إلى أنه لم يتمكّن من العثور على أسلوبه الخاصّ في الرسم.
ولد جيوسيبي دي نيتيس في برشلونة عام 1846 لعائلة ثريّة من مُلاك الأراضي. وفي ما بعد درس الرسم في أكاديمية الفنون في نابولي وتعلّم على يد الرسّام جيوفاني كالو.
وفي كلّ أعماله، كان دي نيتيس يسعى إلى تحرير رسم الطبيعة من أيّ ارتباطات تاريخية أو أدبية. كما كان ينفر من التعليم الرسمي، خاصّة بعد أن اكتشف حرية الرسم من الطبيعة مباشرة.
في مرحلة تالية انتقل الفنّان إلى باريس. وفيها ربطته صداقة قويّة مع إدغار ديغا الذي كان معروفا بقربه من الرسّامين الايطاليين الذين كانوا يعيشون في باريس في ذلك الوقت.
وفي ما بعد تعرّف إلى الناقد والكاتب إدمون دو غونكور الذي ارتبط اسمه بالجائزة الأدبية المشهورة. وقد قدّمه غونكور إلى الأميرة ماتيلدا بونابرت وهي امرأة ارستقراطية عُرفت بكونها موسيقية ورسّامة. وفي العام 1883 رسم دي نيتيس ماتيلدا في صالونها بصحبة عدد من ضيوفها. وسجّل في هذه اللوحة بعض سمات الموضة التي كانت شائعة آنذاك.
الحياة الباريسية بحفلاتها وصخبها كانت احد مواضيع الرسّام المفضّلة. ويمكن القول إن الكثير من لوحاته تُعتبر تسجيلا صوريا لتاريخ الموضة واللباس في عصره.
في باريس، أصبح منزل دي نيتيس ملتقى الفنّانين والأدباء ونخبة المجتمع الباريسي، بالإضافة إلى المغتربين الايطاليين في فرنسا.
وقد زار الرسّام لندن مرارا ورسم فيها عدّة لوحات انطباعية تذكّر بطبيعة تيرنر. كما تعرّف هناك على الرسّام جيمس تيسو.
كان دي نيتيس فنّانا حديثا يقدّر الحياة في الحواضر ويحترم الثقافات الأجنبية والغريبة. كما كان أيضا رسّام طبيعة موهوبا. وقد نقل إلى مناظره أضواء بلده ايطاليا وضباب لندن وأجواء باريس النديّة.
صوره المدهشة لضفّتي السين والجسور التي تعلو النهر تشي بحبّه للبحر والسماء الواسعة والأفق الذي لا تحدّه حدود وبمعرفته الواسعة بطبيعة الألوان وأسرارها الكامنة.
في آخر لوحاته التي أنجزها قبيل وفاته، يرسم دي نيتيس زوجته وابنهما الوحيد وهما يتناولان العشاء في حديقة منزلهم في باريس. المشهد الذي تصوّره اللوحة يغمره الضوء ويثير شعورا بالألفة والسكينة. غير أن الفنّان اختار أن يرسم مقعدا ثالثا بجانب المائدة تركه فارغا، كما لو انه تذكير بشخص غائب.
والغريب أن الرسّام توفّي بعد ذلك بأشهر قليلة بعد إصابته بنوبة قلبية مفاجئة عن عمر لا يتجاوز الثامنة والثلاثين.
كان جيوسيبي دي نيتيس فنّانا محبّا للجمال والأناقة والأضواء. كان يرسم برقّة بالغة. ويمكن القول أن في لوحاته شيئا من قوّة تيرنر ورقّة مونيه وجمال كورو ودقّة مانيه.
كان من عادته أن يوزّع وقته بين باريس ونابولي ولندن. لكن ممّا لا شكّ فيه أن باريس هي التي صنعت مجده وشهرته مثل كثير من الفنّانين.

Thursday, September 01, 2011

لوحات عالميـة - 288

الأصدقاء الثلاثة
للفنّان الصيني دون هونـغ واي، 1989


لأوّل وهلة، قد يظنّ الناظر إلى هذه الصورة أنها لوحة مرسومة بالألوان المائية. لكنّها في الواقع صورة فوتوغرافية. وما يجعلها فريدة من نوعها هو الأسلوب التقني المبتكر الذي اتبعه المصوّر في معالجتها.
هذه الصورة وغيرها من صور دون هونغ واي منتشرة على نطاق واسع في الكثير من المواقع على الانترنت لدرجة انه يمكن اعتبارها ظاهرة. ومن الواضح أن المصوّر يحاكي في لقطاته الأسلوب التقليدي الصيني في رسم اللوحات التي تصوّر مناظر طبيعية. كما أنه وظّف فيها بعض الموتيفات التي تظهر عادة في الرسم الكلاسيكي الصيني مثل طيور الماء وأشجار الصنوبر والجسور والأنهار والبحيرات والجبال التي يغطّيها الضباب.
من المعروف أن الرسم الكلاسيكي الصيني يحتفي بالطبيعة وعناصرها إلى درجة التقديس. لذا نرى تلك الرسومات مليئة بصور القوارب والجبال والأنهار والغرانيق والنوارس والنمور والجياد البرّية والنسور وأزهار اللوتس وأشجار الخوخ والصنوبر.
وما يجعل صور واي خاصّة ومتفرّدة هو التكنيك الذي يوظّفه في إخراجها. فهو يستخدم أكثر من صورة سالبة "نيغاتيف" ويعمل على كلّ واحدة على حدة. وفي النهاية يقوم بدمجها معا بطريقة تنتج صورة مونوكروميّة "أي ذات لون واحد"، لكنها جميلة ومعبّرة وتستثير الذكريات والمشاعر.
دون واي سبق له وأن درس على يد المصوّر الصيني الأشهر شِن صن لونغ الذي توفّي في تسعينات القرن الماضي عن عمر ناهز المائة عام. تلك التجربة أفادته كثيرا وفتحت أمامه آفاقا جديدة في معرفة أسرار وخبايا الإبداع في التصوير الضوئي.
في هذه الصورة يلتقط المصوّر مشهدا هادئا من الريف الصيني هو عبارة عن بحيرة يقوم على احد أطرافها جسر خشبي ويسبح في مياهها ثلاثة من طيور الماء تبدو منشغلة في التقاط الأسماك الصغيرة.
منظر التلال التي يغطّيها الضباب في الخلفية، بالإضافة إلى خلوّ هذه الصورة من أيّ حضور للإنسان، يذكّرنا مرّة أخرى باللوحات الصينية القديمة. وبعض تلك اللوحات هي عبارة عن مناظر بانورامية لطبيعة تظهر فيها سهول فسيحة وبحيرات واسعة وغيوم كثيفة وجبال ضبابية تحجب وجود الإنسان أو تختزله إلى مجرّد نقطة شبحية وضائعة وسط الحضور المهيب والطاغي للطبيعة.
في هذه الصورة تمكّن الفنّان من التقاط منظر شاعري عن عالم قائم بذاته، لكن بأقلّ قدر من التفاصيل. والمنظر يوصل إحساسا انطباعيا بالجوّ، كما أنه يوحي بمرور الزمن دون أن يكون عن زمن محدّد بالضرورة.
ولد دونغ هونغ واي في غوانتزو بالصين عام 1929م. كان الابن الأصغر لعائلة فقيرة تضمّ خمسة وعشرين طفلا. وبعد موت والديه، سافر ليعمل في سايغون بـ فيتنام. هناك عمل في احد استديوهات التصوير وتعلّم التقنيات الأساسية للتصوير الفوتوغرافي. ثم درس الفنّ في جامعة فيتنام وأصبح بعد تخرّجه مدرسّا للفنّ فيها.
وأثناء إقامته في سايغون، عمل فترة مع المصوّر الفيتنامي المشهور نك اوت الذي نال جائزة البوليتزر عام 1972 عن لقطته الايقونية التي صوّر فيها أطفالا يهربون من جحيم قنابل النابالم التي استهدفت إحدى القرى الفيتنامية.
في ما بعد، اضطرّ دون واي إلى مغادرة فيتنام مع ظهور بوادر النزاع الذي نشب وقتها بين كلّ من فيتنام والصين. كانت فيتنام قد اتخذت إجراءات مشدّدة للتضييق على الجالية الصينية التي تعيش في البلاد. وقد وجد دون واي نفسه واحدا من ملايين الصينيين الذين أصبحوا يُعرفون بسكّان القوارب ممّن اضطرّوا للهرب من فيتنام في أواخر سبعينات القرن الماضي.
فنّانو الطبيعة الصينيون عُرف عنهم منذ القدم تقديسهم للطبيعة كجزء من التراث والحضارة الصينية. وقد اجتهد الفنانون الصينيون دائما على أن لا تكون أعمالهم مجرّد تسجيل للطبيعة، بل سعوا من خلال تلك الأعمال لأن يتوحّدوا معها ويسبروا أغوارها.
كانت الطاوية مثلا تعتقد أن على الإنسان أن يفهم الطبيعة ويصادقها، لا أن يغزوها ويدنّسها ويبدّد مواردها. وكونفوشيوس كان يرى أن تحقيق التناغم مع العالم مشروط بأن يتعايش الإنسان مع الطبيعة بسلام وانسجام وأن يفهمها وأن يبحث عن المعرفة من خلالها. ومما يُؤثر عنه أيضا قوله أن الإنسان الحكيم يجد متعته في الماء والرجل التقي يجدها في الجبال.
كان الفنّان الصيني القديم يلاحظ سلوك الحيوانات والطيور ويتفاعل مع الأزهار والنباتات ويراقب تغيّر الطبيعة مع تغيّر الفصول. ولم يكن يرسم إلا بعد أن يكون قد تماهى مع كلّ هذه العناصر واستوعبها جيّدا. لذا ليس من المستغرب أن تتضمّن الرسوم الكلاسيكية الصينية بعدا روحيا بالإضافة إلى خصائصها الشعرية والزخرفية.
في هذه الصورة، كما في بقيّة صوره الأخرى، لم ينس دونغ واي أن يضمّنها كتابة بالأحرف الصينية التي تتميّز بجمالياتها الزخرفية. وفي هذا مضاهاة مع احد التقاليد الصينية القديمة في مزج ثلاثة أشكال مختلفة من الفنّ، هي الشعر والخط والرسم، على نفس رقعة الورق. وكان هناك اعتقاد بأن هذا المزج يسمح للفنان أن يعبّر عن نفسه بطريقة أكثر وضوحا وعمقا.
غادر دون واي فيتنام على متن قارب صغير. وانتهى به المطاف في سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة التي عاش فيها السنوات العشر الأخيرة من حياته.
وفي أمريكا بدأ اسمه يذيع ويشتهر. وسرعان ما اعتُرف بموهبته ونالت صوره عددا من الجوائز العالمية. كما وجدت طريقها إلى بعض أشهر الغاليريهات والمتاحف والمجموعات الفنّية الخاصّة داخل الولايات المتحدة وخارجها.
دون واي استطاع من خلال صوره الرومانسية الداكنة والأحادية الألوان أن يحتفظ لنفسه بمكانة بارزة في مجتمع التصوير الفوتوغرافي العالمي. وقد ظلّ محافظا على روح الفنّ الصيني في أعماله حتى وفاته عام 2004 في سان فرانسيسكو عن عمر ناهز الرابعة والسبعين بعد جراحة فاشلة في القلب.
وبعد وفاته، تمّ إحراق رفاته ولم تُقم له جنازة تذكارية بناءً على طلبه.

Monday, August 29, 2011

لوحات عالميـة - 287

تمثـال بـوليـن بونـابـرت
للفنّان الايطالي انتونيو كانوفا، 1808


يُعرف هذا التمثال أحيانا بـ فينوس المنتصرة. وهو يصوّر بولين شقيقة نابليون بونابرت وهي تتمدّد نصف عارية على أريكة. والتمثال هو احد أشهر أعمال انتونيو كانوفا. وهو يجسّد التقاليد الفنّية الرومانية القديمة في تصوير الأشخاص على هيئة آلهة. كما انه يُعتبر نقطة تحوّل في مفهوم الجمال النيوكلاسيكي.
وقد كلّف كانوفا بنحته زوج بولين الأمير الايطالي كاميللو بورغيزي في مستهلّ القرن التاسع عشر. ونُفّذ التمثال في روما واستغرق العمل عليه ثلاث سنوات.
في البداية، خَيّر كانوفا بولين بين أن تأخذ في التمثال هيئة دايانا إلهة الصيد، أو مينيرفا إلهة الذكاء، أو فينوس إلهة الحبّ. فاختارت الأخيرة.
وتظهر في التمثال وهي نصف عارية ومستلقية على أريكة، بينما تمسك في يدها اليسرى بتفّاحة. وفي هذه الجزئية استحضار لصورة افرودايت أو فينوس المنتصرة في أسطورة حكم باريس. والتفّاحة تذكير بأن باريس بطل طروادة الشابّ اختار في النهاية، طبقا للأسطورة، أن يهدي التفّاحة الذهبية إلى فينوس باعتبارها أجمل امرأة على الأرض مفضّلا إيّاها على كلّ من أثينا و هيرا. وقد كأفاته فينوس على اختياره بأن سمحت له بإغراء هيلين أميرة طروادة، مع ما نتج عن ذلك في ما بعد من حرب طويلة ودامية.
لذا ليس من الصعب أن نرى في هذا التمثال تعبيرا قويّا عن ثقة هذه المرأة، أي بولين بونابرت، بجمالها وسطوتها.
كانوفا نفسه كان مفتونا بشخصية فينوس، على الرغم من أن مجموعته الكاملة من الأعمال النحتية تتضمّن تصويرا لعدد من الشخصيات الإغريقية الأسطورية الأخرى.
في ذلك الوقت، كانت التماثيل العارية شيئا غير مألوف. وكان الأشخاص من ذوي المكانة الاجتماعية العالية يفضّلون الظهور في تماثيل مغطّاة بالقماش.
لكن يبدو أن بولين لم تأبه كثيرا بالضرر الذي قد يلحق بسمعتها جرّاء تصويرها نصف عارية. ولا يُعرف على وجه التأكيد ما إذا كانت جلست أمام كانوفا عارية من اجل التمثال. لكن من الواضح أن الرأس تمّ نحته بطريقة واقعية إلى حدّ ما. أما بقيّة الجسد فيُرجّح انه نُحت بحيث يضاهي شكل الأنثى المثالي كما يظهر عادة في الأعمال الكلاسيكية.
بنهاية القرن التاسع عشر، كانت بولين بونابرت تُوصف بأنها أجمل امرأة في أوربّا وإحدى اقلّ النساء عفافا وأكثرهن تحرّرا.
وبفضل مكانة عائلتها وعلاقاتها القوّية، أصبح الفنّانون يتسابقون إلى رسمها ونحت صورها.
تزوّجت بولين بونابرت من الأمير كاميللو بورغيزي في أغسطس من عام 1803م. وكانت قد تعرّفت عليه أثناء زواجها الأوّل. كان شابّا اسمر لا يتجاوز عمره الثلاثين. وكان تعليمه بسيطا. بولين أيضا لم تكن متعلّمة. لذا كان هناك عامل مشترك يجمع بين الاثنين.
عائلة بونابرت تعمّدت الإيحاء بأن الزواج كان فكرة عائلة بورغيزي. ولم يصدّق كاميللو أن حلمه يمكن أن يتحقّق عندما قبلت بولين عرضه بالزواج. والغريب أن نابليون كان الشخص الوحيد الذي وقف في البداية ضدّ زواجهما.
وقد تزوّج الاثنان سرّا دون علم نابليون. وعندما بلغه الخبر غضب غضبا شديدا وأرسل إلى شقيقته من يخبرها بأن تقطع عنه زياراتها وأن تحافظ على حشمتها ووقارها مراعاة لسمعة العائلة.
لكن غضبه لم يدم طويلا. فعلى الرغم ممّا حصل، كانت بولين اقرب شقيقات نابليون الثلاث إلى قلبه. واستمرّ في مراسلتها وحثّها على أن تتصرّف بطريقة ناضجة ومعقولة.
كان كاميللو بورغيزي وقتها أغنى رجل في ايطاليا. وقد تزوّج بولين بعد انقضاء سنة على وفاة زوجها الأوّل الذي ترك لها طفلا.
وبعد أن انتقل الزوجان إلى روما، كلّف بورغيزي كانوفا بأن ينحت لـ بولين تمثالا من الرخام تعبيرا عن حبّه لها وإعجابه بها.
غير أن ولع بولين بالحفلات الليلية الصاخبة لازمها حتى بعد أن انتقلت مع زوجها إلى ايطاليا، الأمر الذي أزعج بورغيزي كثيرا ودفعه إلى إجبارها على ملازمة المنزل.
لكن ذلك لم يكبح جموحها وتوقها إلى حياة التحرّر والانطلاق. وهي لم تكن فقط مغرمة بملاحقة الرجال وإنما أيضا بشراء الملابس والمجوهرات النفيسة التي تبرز أكثر جمالها الاحتفالي.
في روما، لم تسر الأحوال على ما يرام بين الزوجين. بدأت بولين تبدي احتقارها لـ كاميللو وتنعته بالمخصي وتتأسّف على فقدان زوجها الأوّل. ولم تتوقّف عن إقامة الحفلات الماجنة والعلاقات الغرامية إمعانا منها في إذلال زوجها وإهانته.
المفارقة هي انه عندما أتمّ كانوفا نحت التمثال، كان كلّ من بولين وزوجها يعيشان منفصلين عن بعضهما في تورين. كان كاميللو وقتها يشغل وظيفة حاكم المدينة بعد أن عيّنه نابليون في ذلك المنصب.
عند الانتهاء من التمثال، نُقل إلى منزل عائلة الزوج. وبعد موت نابليون، نُقل التمثال إلى روما، وبالتحديد إلى غاليري بورغيزي حيث بقي فيه إلى اليوم.
وقد خُصّصت له غرفة بالغاليري تزيّن سقفها نقوش زيتية رسمها الفنّان دومينيكو دي انغيليس عام 1779 واستوحاها من نقش مشهور في فيللا ميديتشي.
من أهمّ خصائص هذا التمثال أن قاعدته الخشبية تبدو مسجّاة مثل النعش. وفي احد الأوقات كانت القاعدة تضمّ جهازا يجعل التمثال يتحرّك بطريقة دائرية كي يتمكّن الناظر من ملاحظة التفاصيل من جميع الزوايا دون أن يتحرّك من مكانه. القاعدة الدوّارة تمثّل عكسا لطبيعة العلاقة ما بين المتلقّي والعمل الفنّي. فالتمثال في هذه الحالة هو الذي يتحّرك بينما يظلّ المتلقّي أو الناظر ساكناً.
انتونيو كانوفا يعتبر أشهر نحّات ايطالي ظهر في الحقبة النيوكلاسيكية. وقد عمل مع الملوك والباباوات ورجال المصارف والأمراء الروس. لكن ارتباطه بـ نابليون كان اكبر. فقد صوّره مرارا. بل إن نابليون اصطفاه لنفسه في النهاية.
وعندما فرغ من نحت تمثال بولين، كان الناس يأتون للنظر إلى التمثال على ضوء الشموع. كان وهجه مُشعّا، ليس بسبب نوعية الرخام العالي الجودة فقط، وإنما أيضا بسبب أسطحه الناعمة والمصقولة بعناية.
أما فينوس أو بولين بونابرت، فعلى الرغم من كثرة فضائحها، إلا أنها ظلّت وفيّة على الدوام لأخيها نابليون. كانت شاهدة على انتصاراته العديدة، وأحيانا مشاركة فيها. وعندما تغيّرت حظوظه وسقط من عليائه بعد هزيمته في ووترلو، كانت بولين الوحيدة من بين شقيقاته التي لحقت به إلى منفاه في جزيرة سينت ايلينا حيث ظلّت تلازمه هناك إلى أن توفّي.
تمثال فينوس المنتصرة يُعتبر اليوم واسطة العقد بين مجموعة الأعمال الفنّية التي يضمّها غاليري بورغيزي. والغاليري نفسه يُعدّ احد أهمّ المتاحف في العالم بالنظر إلى ما يحتويه من كنوز فنّية عظيمة ونادرة من العالم القديم ومن عصري النهضة والباروك، ومن بينها أعمال لـ رافائيل وتيشيان وكارافاجيو وبيرنيني ودافنشي وروبنز وغيرهم.
ومؤخّّرا، احتفل الغاليري بذكرى مرور قرنين ونصف على مولد انتونيو كانوفا وبمرور مائتي عام على انجازه هذا التمثال. وقد وفّرت المناسبة فرصة للنقّاد للحديث عن هذا التمثال وتناول العلاقة التي كانت تربط النحّات بكلّ من عائلتي بورغيزي وبونابرت.

Saturday, August 27, 2011

لوحات عالميـة - 286

الحـلـم
للفنان الفرنسي جـان باتيـست دوتـاي، 1888


بعض الرسّامين ينجذبون إلى رسم الطبيعة. والبعض الآخر إلى رسم الأشخاص. وهناك فريق ثالث يغريه رسم المعارك والحروب. من هؤلاء جان باتيست دوتاي الذي كرّس جميع لوحاته لرسم مناظر الحروب والصراعات العسكرية.
وهذه اللوحة تُعتبر أشهر أعماله. وقد نال عليها عند عرضها في صالون باريس ميدالية ذهبية. ثم بادرت الدولة إلى شرائها نظرا لقيمتها الوطنية.
اللوحة تنقسم إلى جزأين، احدهما واقعي والآخر فانتازي أو متخيّل.
في الجزء الأيسر نرى مجموعة من الجنود وهم نائمون على الأرض بينما وضعوا أسلحتهم وعتادهم جانبا.
الجزء الأيمن من اللوحة يصوّر أجواء معركة حقيقية، غير أنها في الواقع متخيّلة. في هذا الجانب تشتعل ساحة المعركة بنيران القذائف والمدفعية بينما ينتشر الدخان الكثيف في كلّ مكان. ومن بين سحب الدخان يظهر في الأفق مجموعة من المقاتلين وهم يعتلون ظهور الخيول ويرفعون أعلاما بألوان مختلفة.
من الواضح أن هؤلاء الجنود النائمين يحلمون. وطبيعة الحلم الذي يراودهم هو ما يظهر في الجانب الأيمن وفي أفق اللوحة.
المنظر يتضمّن رسالة سياسية واضحة. فالجنود، من خلال الحلم، إنما يتذكّرون جانبا من تاريخ فرنسا المجيد. وهم يحنّون إلى زمن انتصار الثورة والإمبراطورية في عصر نابليون.
في الوقت الذي رسم فيه دوتاي اللوحة كان اليأس قد تسرّب إلى نفوس الناس نتيجة الإخفاقات السياسية والعسكرية المتتالية التي شهدتها الفترة الأولى من الحكم الجمهوري. وقتها تمّ سَنّ قانون التجنيد الإلزامي الذي يتيح للشباب الانخراط في الخدمة العسكرية.
نجاح هذه اللوحة وشعبيّتها الكبيرة أغرت الرسّام بأن يتخصّص في رسم المناظر الحربية المستمدّة من التاريخ الفرنسي. وقد كان للحرب الفرنسية البروسية تأثير كبير عليه لأنها وفّرت له، ولأوّل مرّة، فرصة رؤية الحرب عيانا. بل لقد شارك دوتاي فعليا في تلك الحرب ورأى بشكل مباشر مناظر القتال وعمليات الالتحام بين الجند. وقد مكّنته هذه التجربة من رسم لوحات متعدّدة ومثيرة عن الحرب.
ولد جان باتيست دوتاي في باريس عام 1847م. ومنذ سنوات صباه الأولى كان محاطا بالمظاهر العسكرية، حيث عمل جدّه في جيش نابليون، كما أن بعض قريباته كنّ متزوّجات من أشخاص يعملون في الجيش.
ومنذ الصغر كان طموحه الوحيد أن يصبح رسّاما وأن يدرس على يد كابانيل. وفي ما بعد واتته الفرصة لتلقّي دروس في الرسم في محترف الرسّام جان ميسونيه الذي كان متخصّصا في رسم مناظر الحرب.
وأوّل لوحة له رسمها وهو في سنّ الثامنة عشرة. وكانت تصوّر معركة من نسج خياله عن الثورة الفرنسية.
كان دوتاي كثير الترحال. وقد أخذته أسفاره إلى العديد من الدول الأوربّية. كما زار تونس والجزائر. وذهب إلى انجلترا التي رسم فيها بورتريها للملك ادوارد مع أمير ويلز آنذاك.
كانت الحروب دائما احد المواضيع المفضّلة في الرسم. بعض الفنّانين صوّروا في أعمالهم الجانب الشرّير والوحشي من الحرب، مثل ليوناردو دافنشي وفرانشيسكو دي غويا وسلفادور دالي وفاسيلي فيرتشاغن واوتو ديكس وفرناندو بوتيرو.
والبعض الآخر رسموا الحرب من منظور تاريخي أو كظاهرة بشرية مثل يوهان لينغلباك وبيرسي موران ولوي لوجون.
والبعض الثالث رسم الحرب من حيث ارتباطها بالمشاعر الوطنية أو القومية، مثل جاك لوي دافيد وفوتجيك كوساك وايمانويل لويتسا.
بعض هؤلاء كانوا مجرّد شهود عيان على الحرب. والبعض الآخر كانوا مشاركين فعليين فيها.
وقبل ظهور التصوير الضوئي، كان من عادة الدول أن ترسل رسّامين يرافقون الجيوش كي يسجّلوا مراحل الحرب وعمليات القتال في الميدان. وكثيرا ما كان يُحتفظ بهذه اللوحات كسجلات صُورية توثّق لتاريخ الجيوش وحروبها.
في جميع لوحاته عن الحرب، كان دوتاي يحرص على إبراز نوعية الملابس والأسلحة في محاولة لإضفاء طابع واقعي على لوحاته.
وجزء كبير من أعماله صوّر فيها حملات نابليون وحروبه الكثيرة بالإضافة إلى حصار باريس. وقد اضطرّ في إحدى المرّات إلى سحب اثنتين من لوحاته من العرض كي لا يثير استياء الألمان.
كان دوتاي يولي في لوحاته أهميّة فائقة للتفاصيل. كما كان يهتمّ كثيرا بدقّة رسوماته وواقعيّتها. وكانت أعماله مثار إعجاب معاصريه لقوّتها التعبيرية ودقّة تفاصيلها. ويقال أن سلفادور دالي كان يعتبره أفضل رسّام فرنسي على الإطلاق. وقد ألّف كتابا عن الجيش الفرنسي ضمّنه مئات من رسوماته التي تحكي عن تاريخ جيش بلاده والحروب التي خاضها.
ومن اللافت أن مارسيل بروست ذكره في إحدى رواياته باسم "راسم الحلم"، في إشارة إلى لوحته هذه.
توفّي جان باتيست دوتاي في شهر ديسمبر عام 1912. وبالإمكان اليوم رؤية بعض أعماله في أشهر المتاحف العالمية مثل الارميتاج الروسي والمتروبوليتان الأمريكي.

Saturday, August 20, 2011

لوحات عالميـة - 285

ثلاث نساء على الشاطئ
للفنان الفرنسي بييـر بوفـي دو شافـان، 1879


ينتمي بيير دو شافان إلى جيل غوستاف مورو وإدوار مانيه. كما كان مرتبطا بالرسّامين الطليعيين. لكنّه كان أيضا منجذبا إلى الأساليب الفنّية الأكثر محافَظةً وتقليدية. وقد عُرف برسوماته التي تتناول المواضيع التاريخية والرمزية والأسطورية. وكان يتّبع غالبا التقاليد الأكاديمية. غير أن بعض أعماله لا تخلو من لمسات تجريدية وحديثة.
بدأ اهتمام دو شافان بالرسم بعد زيارة له إلى ايطاليا التي ذهب إليها لدراسة الهندسة. وفي روما اكتشف جداريات كواتروسينتو وقرّر أن يصبح رسّاما. وخلال ثمانينات وتسعينات القرن التاسع عشر أصبح رسّاما معترفا به وذا شأن في الصالون. ثم لم يلبث أن أصبح احد المحكّمين فيه. وقد عُرف بتعاطفه مع أعمال الرسّامين الأكثر شبابا وتمرّدا. وفي مرحلة تالية قاوم الواقعية الفوتوغرافية الجافّة التي أصبحت تميّز الرسم الأكاديمي في نهاية القرن التاسع عشر.
كان دو شافان موضع إعجاب الكتّاب والفنّانين الرمزيين مثل غوغان وريدون وموريس دونيه. ويقال إن تأثيره في الحركة الرمزية كان اكبر من تأثير زميله غوستاف مورو الذي كثيرا ما يقترن اسمه ببدايات نشوء الحركة الرمزية.
وبعض لوحاته تثير إحساسا بالعظمة والفخامة ومنطق التنظيم، وهي الصفات الأساسية المطلوبة في رسّامي اللوحات الكبيرة. وعادة، لا تعكس أسطح مناظره أيّ ضوء، وإن بدا حريصا على أن يكون لكلّ لوحة إيقاع خاصّ بها.
وقد اشتهر دو شافان، بشكل خاص، بلوحاته التي يصوّر فيها أشخاصا منعزلين وفي حالة تأمّل، بينما تلفّهم هالة من الغموض والطقوسية كما لو أنهم ينتمون إلى عالم خاصّ من الأحلام والرؤى.
في هذه اللوحة، يرسم الفنّان ثلاث نساء بشعور طويلة وملابس متقشّفة على شاطئ صخري لبحر هادئ الأمواج. إحدى النساء، الواقفة، تُرى من الخلف وهي منهمكة بترتيب شعرها. بينما تتّكئ الأخرى على طرف صخرة وتجلس الثالثة في وضع يخفي جانبا من جسدها.
ويُرجّح أن الفنان رسم اللوحة كي تزيّن احد المنازل الفخمة. وقد وضع لها عدّة اسكتشات في البداية. وعندما عرضها في صالون باريس عام 1879 لاقت إعجاب معظم النقّاد. لكن احدهم وصفها بأنها "يرقة بلا لون ولا شكل"، في إشارة إلى نقص وشحوب الألوان فيها. ومن الملاحظ أن الرسّام اكتفى باستخدام ظلال خفيفة من الأبيض والأزرق والبنّي والأخضر والزهري.
ويبدو أن دو شافان استعان بنفس الموديل لرسم النساء الثلاث في اللوحة. غير انه عمد إلى تغيير لون وظلال الشعر قليلا. أي أن أمامنا نفس المرأة ولكنْ في ثلاثة أوضاع مختلفة. كما حرص على أن يكون بناء اللوحة متناغما وأن تتضمّن سمة إيقاعية وموسيقية، وهي خاصّية تميّز معظم لوحاته.
الوضعيات التي تتّخذها الشخصيات الثلاث في اللوحة تذكّر بالتقاليد الكلاسيكية في الرسم. والانطباع العام الذي يثيره المشهد هو مزيج من الهدوء والشاعرية والتأمّل المشوب بشيء من الحزن.
الفنّانون الرمزيون، ومن ضمنهم دو شافان، دشّنوا فنّا جديدا تبدو فيه الطبيعة مفتوحة على مساحات من الضباب والساحات الغامضة التي تعكس الحقائق العميقة في الحياة وفي اللاوعي. وقد أصبحت مثل هذه الأفكار شائعة كثيرا في فنّ وأدب القرن التاسع عشر. ومن الواضح أنهم استفادوا من رسومات ليوناردو دافنشي عن طبيعة لا تنتمي لهذا العالم وعن أماكن شفّافة ومياه بعيدة يثير بعضها أخيلة عن عصور ما قبل التاريخ مع ما يرتبط بذلك من حالات وجدانية وتأمّلية.
ولوحات دو شافان التي تصوّر الأزمنة القديمة كثيرا ما تُفسّر على أنها إشارة إلى ماضي فرنسا المثالي الذي كان يتميّز بالتناغم العرقي والثقافي المستند إلى الثقافة اللاتينية. وهناك أيضا من رأى فيها تمثيلا لمستقبل ما بعد الثورة التي كانت تعد الناس بالخلاص من مظاهر عدم المساواة ومن الفقر والطبقية، ومن ثمّ العيش بحرّية وتناغم في رحاب الطبيعة.
كان دو شافان لغزا في حياته. ولم تكن له صفة معيّنة بحيث يسهل معها ربطه بتيار فنّي محدّد. ومع ذلك فإن بعض مؤرخّي الفنّ يرون فيه نموذجا للروح الفرنسية، لدرجة أن فنّه اجتذب رسّاما فرنسيا جدّا، هو الآخر، هو هنري ماتيس.
مع نهاية الحرب العالمية الأولى بدأ بيير دو شافان يفقد شيئا من وهجه. لكن بعض الفنّانين آنذاك، وعلى رأسهم بيكاسو، كانوا ما يزالون ينقّبون في لوحاته ويكتشفون فيها من الخصائص والأسرار ما لم يكن متوفّرا عند غيره.

Thursday, August 18, 2011

لوحات عالميـة - 284

بورتريه مادا اوجينيا بريمافيشي
للفنان النمساوي غـوستـاف كليـمـت، 1912


كانت مادا اوجينيا بريمافيشي طفلة تملك كلّ شيء. وقد عاشت طفولة تشبه الحكايات الخرافية في فيلا والديها البعيدة في مورافيا. كان أبوها رجل أعمال ومصرفيا مرموقا، بينما كانت أمها ممثّلة.
ولوحة كليمت التي رسم فيها الفتاة، بملابسها الوردية والبيضاء، هي صورة واقعية تعكس بدقّة نوعية الحياة الساحرة التي كانت مادا بريمافيشي تعيش في كنفها.
وقد مهّد الفنّان للبورتريه برسم اسكتشات عديدة بالقلم الرصاص. كما جرّب عدّة أوضاع مع خلفيات بموتيفات مختلفة. وأخيرا اختار تناولا مفتوحا يتوافق مع التصاميم الحديثة في ذلك الوقت. كما وظّف في اللوحة موتيفات زخرفية مرحة تبدو مناسبة تماما لفتاة عمرها تسع سنوات.
كانت مادا الطفلة الأثيرة والمدلّلة عند والدها. لذا لم يكن مستغربا أنه اختارها من بين أشقّائها الأربعة ليرسمها كليمت.
وكان كليمت يفهم الأطفال بطريقة غريزية رغم انه نادرا ما أتيحت له الفرصة لرسمهم.
وقد ظلّت مادا تتذكّره كشخص عطوف ومجامل. وكان يدرك حاجة الطفلة أثناء الرسم للحركة الدائمة، فتركها تتصرّف بعفوية ولم يفرض عليها أن تظلّ ساكنة.
كليمت نفسه كان فيه شيء من طبيعة الأطفال. يقال مثلا انه كان يستمتع بإلقاء القبّعات الورقية من نافذة منزله ويراقبها وهي تهبط بخفّة على رؤوس الغرباء المارّين تحته.
هذه اللوحة يبدو أنها كانت تعتبر احد انجازات كليمت الكبيرة والناجحة.
وقد أتمّ رسمها قبيل عيد ميلاد الفتاة العاشر وقبل وفاته، هو، بحوالي أربع سنوات.
واللوحة تتضمّن عناصر وأنماطا متعدّدة تظهر في الخلفية، من بينها كلب وأوراق وأعشاب وطيور. وكلّ هذه العناصر متخيّلة وليست واقعية على الأرجح. أما الأزهار فقد تكون حقيقية، وربّما تكون جزءا من نمط السجّادة.
تفاصيل اللوحة تكشف عن بشرة مضيئة بطبقات سميكة ومن ألوان كثيرة ومدهشة. والصورة إجمالا تتحدّث بوضوح عن قوّة وجمال الألوان الضاربة إلى الحمرة.
كانت عائلة بريمافيشي معروفة برعايتها للآداب والفنون في النمسا. وكانوا يملكون قصرا في بروكسيل يضمّ بعضا من أشهر لوحات كليمت.
وبعد سنة من إتمام كليمت لهذا البورتريه، دعاه والد مادا ليرسم والدتها هذه المرّة. وقد رسمها وهي ترتدي كيمونو يابانياً ساطع الألوان، وكان في ذلك الوقت موضة سائدة في فيينا.
بعد انهيار الإمبراطورية النمساوية الهنغارية في العام 1918، أصبح أفراد عائلة بريمافيشي مواطنين أجانب في البلد الذي ولدوا فيه، والذي أصبح يقع ضمن حدود ما يُعرف اليوم بجمهورية التشيك.
وقد هاجرت العائلة في البداية إلى النمسا. لكن تبعات وآثار ما بعد الحرب العالمية الثانية لاحقتهم إلى هناك. فاضطرّوا في نهاية خمسينات القرن الماضي إلى الهجرة مجدّدا واختاروا الإقامة الدائمة في كندا.
في عام 1986، وكان معظم أفراد عائلتها قد توفّوا، زارت مادا بريمافيشي نيويورك لرؤية معرض يصوّر الحياة في فيينا في مطلع القرن الماضي. واكتشفت أن اللوحة التي رسمها لها كليمت كانت من ضمن اللوحات المعروضة.
وبعد أن انتقلت اللوحة إلى متحف المتروبوليتان، كانت تداوم على زيارة المتحف لرؤية صورتها.
وقد توفّيت مادا بريمافيشي عام 2000م، أي بعد أن رسمها كليمت بسبعة وثمانين عاما. أي أنها عاشت حياة أطول بكثير من جميع الأشخاص الذين رسمهم.

Monday, June 27, 2011

لوحات عالميـة – 283

عاريـة تهبـط السلّـم
للفنان الفرنسي مارسيـل دُوشـان، 1912


إذا كنت تتوقّع أن ترى امرأة عارية في هذه اللوحة كما يشي بذلك العنوان فسيخيب ظنّك. وقد يكون معك بعض العذر إن لم تجد في اللوحة ما يثير اهتمامك أو إن وجدتها شاذّة أو غريبة الشكل. ورغم ذلك، كانت هذه اللوحة مشهورة جدّا في زمانها بسبب الجدل الواسع الذي أثارته في حينه. بل إنها اليوم تُعتبر من أشهر الأعمال الفنّية العالمية.
بعض مؤرّخي الفنّ يعتبرون أفكار مارسيل دوشان امتدادا لعقول معاصريه مثل الروائيين جيمس جويس ومارسيل بروست. ومن بين من تأثّروا به في ما بعد كلّ من دي كوننغ، وجاسبر جونز الذي وصف أعماله بأنها جمال تمتزج فيه اللغة بالأفكار والرؤى.
كان دوشان يتبنّى نهجا مضادّا للفكرة التي تقول إن الفنّ يجب أن يروق للعين ويبهج الحواسّ. وكان يدعو لأن يُسخّر الفنّ من اجل خدمة العقل. كما عُرف عنه تركيزه على القيمة المفاهيمية للعمل الفنّي الذي يغذّي الناظر من خلال المفارقة والسخرية، وليس من خلال جاذبيّته التقنية أو الجمالية. وبذا ساعد في صياغة الذائقة الغربية للفنّ في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى.
عندما أتمّ دُوشان رسم هذه اللوحة قبل حوالي مائة عام، رفض صالون الفنّانين المستقلّين تعليقها. ورغم سماتها التكعيبية الواضحة، إلا انه حتّى التكعيبيين رفضوا عرضها، على أساس أن المرأة العارية لا يجب أن تهبط السلّم بل أن تستلقي على أريكة أو سرير. التكعيبيون، وعلى رأسهم بيكاسو وبْرَاك، كانوا عادة يميلون إلى تثبيت الشخصيات في لوحاتهم بطريقة صارمة. لكنّ الشخصية في هذه اللوحة، التي لا نعرف إن كانت إنسانا أم جمادا، تبدو في حالة حركة أبدية ومستمرّة.
أحسّ دُوشان بالضيق وخيبة الأمل بعد أن لقيت لوحته في باريس كلّ هذا الاستقبال الفاتر. لذا قرّر أن يرسلها إلى نيويورك. وهناك أثارت اللوحة ردود فعل قويّة عند عرضها في العام 1913م. وقد اشتراها في الحال احد الأشخاص بثلاثة آلاف دولار أمريكي.
وجانب من الجدل الذي أثارته اللوحة يتمثّل في تصويرها الميكانيكي لموضوع هو في الأساس حسّي وأصبح محترما مع مرور الوقت.
غير أن غالبية النقّاد نظروا إليها باعتبارها لوحة غامضة ولا يمكن فهمها. وسرعان ما أصبحت مادّة للنكات ورسومات الكاريكاتير الساخرة. إحدى الصحف الأمريكية قالت إن اللوحة تشبه انفجارا في مصنع للخشب. بينما عرضت صحيفة أخرى على قرّائها مكافأة قدرها عشرة دولارات إذا استطاع أيّ منهم رؤية المرأة وسط متاهة الخطوط المتشابكة والمتداخلة في اللوحة.
وعندما علم دُوشان بما حدث للوحة في أمريكا استولى عليه شعور غامر بالسرور والارتياح. وشجّعته الشهرة الكبيرة التي جلبتها له على أن ينتقل إلى نيويورك بعد ذلك بعامين.
الشخصية الميكانيكية واللون المتجانس الواحد كانتا دائما سمتين نموذجيتين للرسم التكعيبي. ومع ذلك فالتصوير المتسلسل للحركة في هذه اللوحة يتجاوز التكعيبية في محاولته رسم الحركة وطاقة الجسم وحركته عبر المكان. الحركة تبدو دائرية وعكس اتجاه عقارب الساعة، أي من أعلى اليسار إلى أسفل اليمين. وأطراف الجسد التي يمكن التعرّف عليها مرسومة من عناصر تجريدية مخروطية واسطوانية متداخلة مع بعضها بطريقة توحي بالحركية والإيقاع. الألوان الساطعة في اللوحة تتراوح بين الأصفر وظلاله. والخطوات التي يُفترض أن نراها مشار إليها بألوان أكثر قتامة.
اهتمام دُوشان بتمثيل المراحل الثابتة للشيء المتحرّك قورن بأعمال المستقبليين الايطاليين الذين كانوا مهجوسين بأفكار السرعة النهائية والحركة.
أمّا استخدام العارية كرمز فقد كان تقليدا بدأه الرسّامون الطليعيون والتكعيبيون. ثم تكرّس مع ظهور السينما وتصوير المستقبليين للحركة واستخدام اللون الواحد في الرسم والتصوير وإعادة تعريف الزمان والمكان من قبل العلماء والفلاسفة.
البعض يصنّف دُوشان على انه احد الفنّانين الطليعيين الأكثر تأثيرا في فنّ القرن العشرين. وفي مطلع حياته كان متأثّرا بـ بسيزان ثم أصبح يميل للرسم الرمزي.
وقد شكّلت أفكاره تحدّيا للمجتمع الفنّي في تعريفه للفنّ وأوجد شكلا جديدا من الفنّ يعتمد على الأشياء الجاهزة. كان الرسّام يرى في الشيء العادي قيمة جمالية تفوق قيمته الوظيفية. كما كان يؤكّد على أن الرسم ليس له قواعد محدّدة ولا يُشترط في الرسّام أن يكون بارعا أو موهوبا.
ولطالما تحدّى دُوشان الأفكار التقليدية عن العملية الفنّية، من خلال أعماله التخريبية العديدة. فقد سخر من لوحة الموناليزا عندما أضاف لها شاربين، تأكيدا على موقفه المهاجم للفنّ الواقعي. كما صمّم منحوتة من البورسيلين على شكل حوض تواليت وقلبه على جنبه ثم وقّع عليه بالأحرف الأولى من اسمه المستعار ووصفه بـ النافورة ، في محاولة لتسفيه فكرة تقدير الفنّ ولاختبار حدود الذوق العامّ. كان دُوشان يدعو إلى تقويض الأفكار المحافظة والتقليدية التي حكمت أوربّا وعجّلت بالواقع المدمّر الذي جلبته الحرب العالمية الأولى. وكان يرى بأن ثمار الحياة الصناعية الحديثة مورد خصب في إنتاج الأعمال الفنية.
في نيويورك، تعرّف مارسيل دُوشان إلى حلقة الرسّامين والشعراء الذين كانوا يشكّلون نواة الحركة الدادية الأمريكية. وبعد ذلك بسنوات توقّف عن الرسم خوفا من تكرار نفسه وأصبح يولي جلّ اهتمامه للعب الشطرنج وتأليف المقطوعات الموسيقية. وبعد زيارة قصيرة لباريس، عاد إلى الولايات المتحدة وقرّر الإقامة فيها نهائيا. وقد تزوّج هناك وعاش إلى أن توفّي. وفي ما بعد منحته الولايات المتحدة جنسيّتها.

Friday, June 24, 2011

لوحات عالميـة – 282

نمـر في عاصفـة استـوائيـة
للفنان الفرنسي هنـري روسّـو، 1891


عُرف هنري روسو برسوماته التي يصوّر فيها الأدغال. وكانت هذه هي لوحته الأولى عن الموضوع. وفيها يصوّر نمرا يضيئه وميض برق خاطف، بينما يتأهّب للانقضاض على فريسته وسط عاصفة استوائية عاتية.
أكاديمية باريس للرسم امتنعت عن قبول هذه اللوحة في حينه، ما اضطرّ الرسّام إلى عرضها في معرض الفنّانين المستقلّين الذي كان مفتوحا لكافّة الرسّامين ولم يكن به محكّمون. وقد قوبلت اللوحة بردود فعل مختلفة ما بين مستحسن وناقد.
من المعروف أن روسو علّم نفسه بنفسه ولم يتلقّ أيّ دروس نظامية في الرسم. وهذا ما يفسّر سرّ شعبية أعماله وميل بعض النقّاد لاعتبارها تطوّرا غامضا في تاريخ الفنّ.
والحقيقة أنه لم يأت إلى الرسم إلا متأخّرا. فقد ظهرت أولى لوحاته، وكانت عبارة عن منظر طبيعي مع طاحونة، عندما كان في الخامسة والثلاثين.
ولوحاته بشكل عام تتّسم بالتوليف البسيط . وفي زمانه، سخر معظم النقّاد من أعماله ووصفوها بالطفولية والساذجة.
لكن على الرغم من بساطتها الظاهرية، إلا أن لوحات روسو عن الغابات مبنيّة وبدقّة على شكل طبقات يعلو بعضها فوق بعض. كما انه كان يميل إلى استخدام عدد كبير من الظلال الخضراء للامساك بالخصوبة والخضرة الوفيرة التي تتميّز بها الحياة في الغابات.
وقد رسم روسو في بداياته العديد من اللوحات عن المظاهر الحضرية في باريس. لكن تلك اللوحات خالية من الفوضى والضجيج اللذين يميّزان الحياة العصرية في المدن الكبيرة عادة. والمزاج الهادئ في لوحاته الحضرية يتناقض مع صوره عن الغابات التي تبدو مشحونة بالانفعالات والحركة.
ويقال إن الرسام خَبِر الحياة في الغابات الاستوائية في المكسيك. لكن المؤكّد انه لم يغادر فرنسا أبدا، كما اتضح في ما بعد. ويبدو أن مصدر إلهامه أتى من الحدائق النباتية في باريس التي تتضمّن عادة صالات لعرض عيّنات من الحيوانات المحنّطة والغريبة.
غير أن هناك عاملا آخر لا يقلّ أهمية. فقد عاش روسو في زمن الاستعمار الفرنسي للعديد من البلدان في العالم الثالث. وقد وفّر هذا العامل للفرنسيين، ضمن أشياء أخرى، ضروبا جديدة من التسلية والترفية من قبيل المعارض التي كانت تقام في باريس وتنقل قرى بأكملها مع قاطنيها وثقافاتها من أفريقيا واسيا لتضعها أمام أنظار الناس. وفي ذلك الوقت ظهرت مجلات شعبية وأعمال قصصية وروائية كثيرة تمتلئ بقصص المغامرات وصور الحيوانات الغريبة والمتوحّشة ومغامرات المستكشفين ولقاءاتهم مع السكّان الأصليين المتعطّشين للدماء.
وقد كتب احد النقّاد واصفا لوحات الفنّان عن الغابات بقوله إن روسو يرسم الغابات البكر بكل ما تزخر به من مظاهر الجمال والرعب الذي كنّا نحلم به ونحن أطفال". كما وصفها آخر بأنها لحظات من الصراع الدارويني والغرابة السوريالية التي تتجلّى وسط جنّات مخملية من النباتات والأشجار".
الهيئة المتحفّزة للنمر في اللوحة يُرجّح أنها مأخوذة من رسم بالباستيل لـ اوجين ديلاكروا. ومن الملاحظ أن طريدة النمر تقع خارج المشهد. ترى، ما الذي سيحدث؟ هل سيظفر النمر بفريسته؟ أم ستتمكّن من الإفلات منه في نهاية المطاف؟ هذه الاحتمالات متروكة لمخيّلة وتقدير الناظر، مع أن روسو قال في إحدى المرّات أن النمر يوشك في الحقيقة على أن ينقضّ على مجموعة من المستكشفين.
روسو كانت له أيضا طريقته الخاصّة في تصوير المطر المنهمر من خلال رسم طرق فرعية من الطلاء الفضّي عبر لوحة القماش. وهي تقنية مستوحاة من لوحات وليام بوغورو، على ما يبدو.
"نمر في غابة استوائية" اشتراها الناشيونال غاليري في لندن عام 1972 بمساهمة مالية من الملياردير الأمريكي والتر انينبيرغ.

Wednesday, June 22, 2011

لوحات عالميـة – 281

منتـزه في الخريـف
للرسّام البيلاروسي ليونيـد افريمـوف، 2009


الخريف ليس مجرّد فصل من فصول السنة، وإنما حدث يتغيّر فيه شكل الأرض ووتيرة الحياة وأمزجة البشر والكائنات.
في هذه اللوحة يصوّر ليونيد افريموف جمال الطبيعة ذات يوم ممطر في منتزه تصطفّ على جانبيه الأشجار التي تجرّدت من أوراقها الحمراء في ذروة فصل الخريف.
وعلى أرضية المنتزه المبلّلة بفعل المطر تظهر انعكاسات أوراق الشجر والناس وقد اصطبغت بألوان بهيّة ورائعة.
الأسلوب وحيوية ونوعية التوليف وقيم الألوان النهائية في اللوحة تذكّر إلى حدّ ما بـ مونيه وألوان الانطباعيين. وقد مزج الرسّام هنا الأسلوب الواقعي بعناصر الضوء والجوّ، على غرار ما يفعله الانطباعيون.
افريموف يُعتَبر رسّاما جديدا نسبيا على المشهد الفنّي. والكثير من لوحاته تتحدّث عن نفسها. مناظره مملوءة بالألوان الساطعة والانعكاسات المائيّة والمضيئة. ومن الواضح انه يعشق الليل، بدليل هذا العدد غير القليل من لوحاته التي تصوّر مشاوير ليلية حميمة في شوارع وطرقات المدن الروسية القديمة.
كما أن لوحاته لا تخلو من صور لأزهار وحيوانات بالإضافة إلى صور الأشخاص والمناظر الحضرية.
وقد جرّب الرسّام تقنيات مختلفة في الرسم. لكنه في النهاية وقع في حبّ الألوان الزيتية.
وكلّ لوحة من لوحاته تثير مزاجا مختلفا. لكنها إجمالا تعكس مشاعر الفنّان وعواطفه وأيضا حبّه للموسيقى وحرصه على إبراز مظاهر الجمال والتناغم في العالم.
ممّا يسترعي الاهتمام أيضا في هذه اللوحة الألوان الناعمة والمشبعة والتعامل البارع مع نسب الضوء والظلّ.
ومن الواضح أن الرسّام لجأ إلى استخدام السكّين أكثر من الفرشاة لوضع الطلاء على رقعة الرسم، وهي براعة يندر أن يتقنها كلّ رسّام.
كما أن مهارته في استخدام عدّة ألوان زيتية متوهّجة أضفى مزيدا من الجمال على المشهد.
ولد ليونيد افريموف في بيلاروسيا عام 1955م. وتخرّج من مدرسة الفنون في فيتسبيك التي شارك في تأسيسها الرسّام مارك شاغال عام 1921م. وإلى نفس تلك المدرسة ينتمي كلّ من كاندينيسكي وماليفيتش.
افريموف يعيش اليوم في فلوريدا بالولايات المتحدة. وبالإمكان التعرّف على أعماله بسهولة. والكثير من النقّاد يعتبرون أسلوبه متفرّدا ولا يمكن تقليده.

Sunday, June 19, 2011

لوحات عالميـة – 280

أنـا والقـريـة
للفنّان الروسي مـارك شاغـال، 1911


يحتلّ مارك شاغال مكانة فريدة في عالم الرسم. وطوال حياته، كان فنّانا مستقلا. ولطالما انتُقد على قلّة الواقعية في فنّه.
كان من عادته أن يملأ لوحاته بصور لملائكة وعشّاق وحيوانات طائرة وعازفي كمان وديَكة وعمّال سيرك. ويمكن القول إن مناظره تعكس إيمانه القويّ بالمعجزات وتعبّر عن جمال الخليقة وعن الحكمة اللانهائية للخالق.
لوحته هنا هي تمثيل حالم للماشية والمراعي والمزارع والبيوت الريفية البسيطة التي لم تبارح ذاكرته منذ كان طفلا. تنظر إلى هذا اللوحة فيساورك إحساس بأنها لعبة صاغها وأبدعها عقل طفل.
رسم شاغال اللوحة بعد عام من وصوله إلى باريس وكان في ذلك الوقت في الخامسة والعشرين من عمره.
وفي اللوحة يستذكر بعضا من تفاصيل مجتمعه الأصلي في فيتبسك التي كانت آنذاك جزءا من أراضي روسيا قبل أن يجري ضمّها في ما بعد إلى أراضي جمهورية بيلاروس أو روسيا البيضاء.
في القرية، كان الفلاحون والحيوانات يعيشون جنبا إلى جنب في اعتماد متبادل. الربيع الذي ترمز له شجرة الحياة أسفل اللوحة هو نوع المكافأة التي يجنيها الفلاحون على شراكتهم.
في المجتمع الذي جاء منه شاغال، كانت الحيوانات تشكّل نوعا من الصلة التي تربط البشر بالكون. والأشكال الدائرية الكبيرة في اللوحة ترمز إلى دوران الشمس، وكذلك إلى شكل القمر والأرض.
وقد استوحى الرسّام معمارية اللوحة من المساحات المتكسّرة للتكعيبية. لكن لوحة شاغال هي نسخة شخصية خاصّة به.
في مقدّمة المنظر نرى رجلا ذا وجه اخضر يلبس صليبا حول عنقه وتعلو رأسه قبّعة، بينما يمسك بيده غصن شجرة ويحدّق مباشرة في رأس ماعز ضخم انطبعت على وجهه صورة ماعز اصغر تحلبه امرأة. وفي الخلفية يظهر عدد من البيوت وكنيسة ومزارع يرتدي ملابس سوداء وامرأة في وضع مقلوب.
عندما كان صبيّا، كان الرسّام شغوفا بالهندسة من خطوط وزوايا ومثلّثات ومربّعات.. إلى آخره. وقد قال في إحدى المرّات إن هذه الأشكال تحمله إلى آفاق بعيدة وساحرة.
في باريس، استخدم شاغال بُنى هندسية كان يوظّفها في لوحاته تعبيرا عن حنينه إلى وطنه الأصلي. وإذا صحّ أن التكعيبية كانت في الأساس فنّا للمجتمع الطليعي الحضري، فإنه يمكن اعتبار "أنا والقرية" حكاية ساحرة تجسّد حنين الإنسان إلى بساطة العيش في الأرياف حيث تختلط الكائنات بعضها ببعض في تناغم وانسجام.
يقول شاغال: بالنسبة للتكعيبيين، فإن اللوحة هي عبارة عن سطح مغطّى بالأشكال في ترتيب معيّن. وبالنسبة لي، اللوحة هي سطح مغطّى بتصاوير للأشياء ولا أهمّية فيها للمنطق".
بعض مؤرّخي الفنّ يشيرون إلى شاغال باعتباره شاعرا وحالما كبيرا. وطوال حياته كان يلعب دور اللا منتمي والفنّان غريب الأطوار. وبفضل خياله الواسع وذاكرته الممتازة، تمكّن من استخدام موتيفات ومواضيع قويّة في لوحاته مثل مَشاهد الريف وحياة الفلاحين.
حياة مارك شاغال وأسلوبه الفنّي رسما له في أذهان الكثيرين صورة مواطن عالمي ما يزال يعيش بداخله طفل. وكثيرا ما يبدو على هيئة شخص غريب وضائع بسبب الأحداث الغريبة والمتناقضة التي كان شاهدا عليها.
وقبل سنوات من وفاته في فرنسا عام 1985، كان شاغال قد شهد تبدّد الآمال العريضة التي كان يعقدها على الثورة الروسية والخيبة الكبيرة التي انتهت إليها تلك الثورة. ووصل إحباطه إلى منتهاه عندما علم بالمصير المشئوم الذي آلت إليه قريته التي نشأ فيها وصوّر أجواءها الساحرة في لوحاته. إذ تسببّت الحرب العالمية الثانية في تدمير القرية تدميرا تامّا وقتل غالبية سكّانها.

Saturday, June 18, 2011

لوحات عالميـة – 279

بورتريه الأميرة ماري دي برويي
للفنّان الفرنسي جـان دومينيك آنغـر، 1853



كان دومينيك آنغر قارئا نهما لكتب الأدب والتاريخ. وقد اطلع على كتب هوميروس ودانتي وفيرجيل في مراحل مبكّرة من حياته. ولم يكن مستغربا أن يختار للعديد من لوحاته مواضيع أدبية. كما كانت تستهويه قراءة سير حياة الرسّامين الذين أتوا قبله.
وكان يروق له، على وجه الخصوص، رسم اللحظات الإنسانية الحميمة، مقابل نفوره من تصوير المعارك ومشاهد العنف في لوحاته. لكنه أيضا رسم عددا من اللوحات التي تصوّر محظيّات، متأثّرا بكتابات الليدي ماري مونتغيو زوجة سفير انجلترا في تركيا آنذاك والتي وصفت بعض مشاهد وقصص الحريم في يوميّاتها ورسائلها. وقد فتنت تلك الكتابات عند نشرها المجتمع الأوربّي بأسره وأسهمت إلى درجة كبيرة في صوغ فكرة الأوربيين عن بلاد الشرق.
في بعض الأحيان، كان دومينيك آنغر يعبّر عن ضيقه من رسم الصور الشخصية. لكنه مع ذلك رسم العديد من الشخصيات البارزة في عصره. هذه اللوحة الرائعة للأميرة ماري دي برويي هي آخر لوحة كُلّف برسمها لامرأة.
بدأ آنغر رسم البورتريه عام 1851 عندما كان عمر المرأة ستّة وعشرين عاما، وكان هو وقتها في الثانية والسبعين.
كانت هذه الأميرة معروفة بسعة ثقافتها وبجمالها العظيم وكذلك برزانتها وتحفّظها. والبورتريه يلتقط هذه الصفات ويبرزها بوضوح.
قدرة آنغر على أن يختزل ببراعة الخصائص المادّية للأشياء واضحة في شكل الساتان والدانتيل الغنيّ الذي يظهر على ثوب المرأة، وعلى المفروشات الحريرية، وعلى وشاح المساء المطرّز بطريقة رائعة والمنسدل على الكرسي.
أيضا من الأشياء الأخرى المرسومة بتفصيل بارع المجوهرات الباذخة التي ترتديها الأميرة، بما في ذلك القلادة الحديثة التي تزيّن عنقها.
وعندما تتأمّل تفاصيل اللوحة عن قرب، ستكتشف أن كلّ خيط في الفستان الحريري الأزرق الخفيف، وكلّ ثنية ونمط في غطاء الكرسي الأصفر مرسومة ومسجّلة بدقّة.
لكن يبدو أن الرسّام كرّس الجانب الأكبر من براعته الفنّية في رسم الرأس، ابتداءً من الشعر الناعم إلى الأنف الارستقراطية وانتهاءً بشكل الفم المحتشم.
واللوحة تناسب معايير آنغر المستمدّة من الفنّ الكلاسيكي الإغريقي والروماني. وبعض النقّاد يعتبرونها أعظم لوحات الفنّان التي رسمها لنساء.
الشاعر بودلير قال مرّة عن دومينيك آنغر: كان يحبّ النساء كثيرا. وكان يرسمهنّ كما يراهن. ويبدو انه عندما كان يحبّ امرأة أكثر من اللازم، كان يعمد إلى تغييرها. آنغر يتعامل مع الجمال بحرص جرّاح، ويتابع تفاصيله الحسّية بإخلاص عاشق".
كان تأثير آنغر على الرسّامين الذين أتوا بعده كبيرا. ومن ابرز من تأثّروا به ديغا الذي درس على يد احد تلاميذ آنغر الكبار. وفي القرن العشرين كان من بين من تأثّروا به كلّ من بيكاسو وبوغرو وكابانيل، بالإضافة إلى هنري ماتيس الذي كان يعتبره أول رسّام استخدم ألوانا نقيّة.
ماري دي برويي لم تكن امرأة جميلة فقط، بل كانت سيّدة عظيمة أيضا. ومن ذرّيتها خرج بعض ابرز النقّاد والكتّاب والعلماء والفنّانين الفرنسيين المعروفين.
وقد توفّيت الأميرة على إثر إصابتها بمرض السلّ عن عمر لا يتجاوز الخامسة والثلاثين تاركة وراءها خمسة أبناء. واحتفظ زوجها بهذا البورتريه وفاءً لذكراها. وظلّت عائلته تتوارثه جيلا عن جيل إلى أن اشتراه قبل سنوات المليونير الأمريكي روبرت ليمان مع إطاره الأصلي المزيّن بزخارف جميلة اختارها آنغر بنفسه.
كان دومينيك آنغر معروفا أيضا بعشقه للعزف على آلة الكمان. وإليه يعود الفضل في إدخال مصطلح "فيولين آنغر" إلى اللغة الفرنسية، وهو تعبير يشير إلى إتقان الشخص مهارة ثانية إضافة إلى مهارته الأصلية التي يعرفه بها الناس.
وقد توفّي آنغر بالالتهاب الرئوي في يناير من عام 1867 ودُفن في إحدى مقابر باريس. وقبيل وفاته، أوصى بأن يؤول محترفه والمئات من لوحاته، بالإضافة إلى آلته للكمان إلى متحف مدينة مونتوبان الذي أصبح اليوم يحمل اسم متحف دومينيك انغر.

Wednesday, January 19, 2011

لوحات عالميـة – 278

حفلة فنّية في إسْكيـين
للفنان الدانمركي بيتـر كرويـر، 1899


في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر، اتخذت جماعة من الفنّانين الاسكندينافيين من بلدة إسْكيين الدانمركية ملتقى صيفيا لهم يجتمعون فيها كلّ عام ويناقشون مواضيع وأفكارا جديدة للرسم.
كان بيتر كروير زعيما للجماعة وكان ألمع وأشهر أعضاء هذه المجموعة التي كانت تتكوّن من رسّامين من الجنسين مع عائلاتهم وأطفالهم.
وقد رسم كروير هذه اللوحة لمجموعة من زملائه في إحدى أمسيات الصيف على الشاطئ الجنوبي للدانمرك. وفيها تبدو زوجته ماريا وطفلتهما اللتان تجلسان إلى يمين اللوحة، بينما تجلس إلى اليسار آنا آنكر إحدى أشهر رسّامات المجموعة. وعلى الطرف المقابل من المائدة يتحلّق عدد من الفنّانين الرجال وهم يتبادلون الأنخاب في ما بينهم في جوّ مفعم بالتلقائية والمرح.
الطريقة البديعة التي رسم بها الفنّان قماش المائدة والملابس والزجاجات والكؤوس تذكّر بأسلوب الانطباعيين الفرنسيين. وجوّ اللوحة العام قريب من جوّ لوحة رينوار المشهورة عشاء في رحلة بالقارب.
تتضمّن اللوحة أيضا مزجا جميلا بين الانطباعية ومهارات الرسم الأكاديمي التي أتقنها كروير عندما كان يدرس الرسم في باريس.
ويمكن اعتبار هذه اللوحة دراسة في الألوان والضوء. وقد رسمها الفنّان بتلقائية وعفوية واضحة. كما بنى تفاصيلها وأجزاءها الكثيرة بعناية واهتمام ورتّب لها جيّدا طوال أربع سنوات هي المدّة التي استغرقها انجاز اللوحة.
الرسّام أجرى أيضا تعديلات كثيرة على اللوحة كما بدّل كثيرا في ملابس وهيئات الرجال إلى أن أخذت شكلها النهائي. ولم ينسَ كروير أن يرسم نفسه هو أيضا في اللوحة، إذ يبدو إلى اليمين واقفا في وضع انحناء بينما يمدّ كأسه.
ولد بيتر كروير في أوسلو عام 1851م. وبعد انفصال أبويه تولّت شقيقته رعايته. وفي ما بعد درس الرسم في معهد كوبنهاغن للفنون ثمّ في الأكاديمية الملكية للفنّ. وفي مرحلة تالية سافر إلى باريس التي طوّر فيها مهاراته الفنّية وتعرّف إلى الانطباعيين الفرنسيين وعلى رأسهم كل من مانيه ورينوار ومونيه.
وفي باريس أيضا التقى كروير ماريا تريبكا، ثمّ لم يلبث أن وقع في حبّها وتزوّجا في العام التالي في بيت والديها في ألمانيا. كانت ماريا هي الأخرى رسّامة موهوبة وارتبطت مثله بمجتمع إسْكيين. وقد رسمها في أكثر من لوحة، منها واحدة تظهر فيها بمعيّته وهما يتمشّيان على شاطئ البحر مع كلبهما، وأخرى تصوّرها برفقة الرسّامة آنا آنكر وهما يسيران بمحاذاة شاطئ إسْكيين.
كان كروير رسّاما عبقريا. وإليه يُعزى الفضل في وضع الرسم الدانمركي على خارطة الفنّ العالمي. وقد كان دائم الترحال واستفاد كثيرا من الرسّامين ومن الثقافات الأجنبية المختلفة.
واستمرّ يرسم ويبدع إلى أن ظهرت عليه فجأة أعراض مرض عقلي انتقل إليه من والدته. وفي سنواته الأخيرة هاجمته نوبات الاكتئاب والهلوسة وواجه أوقاتاً صعبة وعصيبة. فانهارت حياته الاجتماعية وانفصلت عنه زوجته وتلاشى كلّ ما كان له من حضور ووهَج.
وفي سنواته الأخيرة كُفّ بصره تماما ووجد الرعاية في كنف امرأة تُدعى هيني برودرسين كانت تعطف عليه كأمّه ووقفت إلى جانبه وآزرته في مرضه ورافقته حتى وفاته في العام 1909 عن 58 عاما.

Tuesday, January 11, 2011

لوحات عالميـة – 277

بدايـة زائفـة
للفنان الأمريكي جاسبـر جونـز، 1959


أهمّية هذه اللوحة تكمن في أنها أغلى لوحة في العالم لرسّام ما يزال على قيد الحياة. ففي العام 2006 اشترى اللوحة كل من آن وكينيث غريفين، وهما صاحبا إحدى المجموعات الفنّية الأمريكية الخاصّة، بمبلغ ثمانين مليون دولار.
وكانت اللوحة قد بيعت قبل خمسين عاما إلى احد جامعي اللوحات الفنّية بمبلغ ثلاثة آلاف دولار فقط. وبعد ذلك بسنوات ابتاعها احد أصحاب الشركات النفطية بمبلغ من ستّة أصفار.
جاسبر جونز يُنظر إليه اليوم كأحد أهمّ الفنّانين الأمريكيين الذين ظهروا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. والنقّاد يصنّفون لوحته هذه ضمن الجيل الثاني من مدرسة التعبير التجريدي في الولايات المتحدة. وهي عبارة عن حقل من البقع والممرّات المتشابكة من الأحمر والأصفر والأزرق والبرتقالي والبنّي. ويُلاحظ أن الرسّام حرص على أن تتضمّن اللوحة أسماء الألوان التي استخدمها في رسمها.
وأحد العناصر الغامضة في اللوحة يتعلّق بالاسم الغريب الذي اختاره لها الرسّام. ترى هل كان يقصد انه رسم اللوحة في غير أوانها مثلا؟ أم أن المقصود أنه بدأ رسمها من مكان، في حين انه كان يُفترض أنه بدأها من مكان آخر؟
لكن أيّا كان السبب، فإن ممّا لا شكّ فيه أن هذه اللوحة ذات الألوان المشتعلة أثارت إعجاب الناس منذ ظهورها الأوّل.
وما يميّزها هو هذا التوظيف المبهر لهذا العدد الكبير من الألوان المبهرجة والساطعة فيها.
بعض نقّاد الرسم الحديث اعتبرها عملا ايقونيا. والبعض الآخر رأى فيها مثالا للكمال. ويُعزى الفضل لهذه اللوحة بالذات في أن جاسبر جونز أصبح فنّانا مشهورا وذا شعبية كبيرة. وهناك من يصنّف لوحاته على أنها نوع من الداديّة الجديدة. وكان معروفا بميله إلى استخدام صور من الثقافة الشعبية في معظم أعماله.
ولد جاسبر جونز عام 1930 في جورجيا بالولايات المتحدة. وفي ما بعد درس الفنّ في جامعة ساوث كارولينا ثم عمل في إحدى مكتبات نيويورك. وقد لمع نجمه في بدايات خمسينات القرن الماضي عندما أقام معرضين منفردين لأعماله في كلّ من نيويورك وباريس.
ويقال إن جونز هو الذي وضع الأساس للبوب آرت وما يعرف بـ التقليلية، أي ذلك النوع من الرسم الذي يُعنى بإظهار اقلّ العناصر والتفاصيل. وكان من بين من تعرّف عليهم الرسّام كلّ من مارسيل دُوشان وآندي وارهول وروبرت روشنبيرغ.
كان لـ جاسبر جونز تأثير كبير على الفنّ الأمريكي بشكل عام. ولوحاته تتّسم بالغموض والبساطة والتناقض في نفس الوقت. وكثيرا ما كان يستعير صورا من رسّامين آخرين ليضمّنها لوحاته. والغريب أن هذا لم يؤدّ إلا إلى تأكيد أصالة رؤاه الفنية، بحسب ما يذهب بعض النقّاد. و تكثر في لوحاته صور لأرقام وأعلام وأحرف ومساطر وخرائط. كما دأب على استخدام الورق والقماش والزجاج والخشب وغيرها من الوسائط الأخرى للتعبير عن أفكاره.
ويقال إن جونز تأثّر كثيرا في لوحاته بكتابات الفيلسوف النمساوي لودفيك ويتغنستين التي أعانته في محاولته فهم طبيعة المنطق الذي يربط بين الأشياء. وفي سبعينات القرن الماضي تعرّف إلى الكاتب الايرلندي المشهور سامويل بيكيت ووضع عدّة رسومات لكتاب الأخير بعنوان "إخفاقات". وقد تعامل جونز مع لغة بيكيت المكثّفة برسم سلسلة من الكلمات المتشابكة والغامضة.
وفي أعماله الأخيرة وثّق الرسّام جوانب من سنوات طفولته وصباه من خلال دمج صور لأفراد عائلته في لوحاته، في محاولة لاستعادة ذكريات وتجارب الماضي. وقد نُقل عنه ذات مرّة قوله إن كلّ ما يرسمه له ارتباط ما بسنوات طفولته المبكّرة.
وفي الوقت الذي ترتفع فيه أسعار لوحات جونز إلى أرقام قياسية، فإن معاني صوره ما تزال موضوعا للكثير من الجدل والنقاش. كما أنها كثيرا ما أثارت غضب وثناء النقّاد في آن واحد. وعندما سُئل في إحدى المناسبات عن معاني لوحاته قال: قد لا يكون هناك معنى. والمعنى قد يكون كامنا في عملية الرسم نفسها. وربّما لا يتجاوز المعنى حقيقة أن هناك لوحة".
جاسبر جونز يحتلّ اليوم المرتبة الثلاثين في قائمة الرسّامين الأغلى مبيعاً في العالم. وقبل حوالي عشر سوات، اشترى متحف المتروبوليتان بـ نيويورك لوحته بعنوان العلَم الأبيض مقابل أكثر من عشرين مليون دولار أمريكي.