للفنان الفرنسي فيليـب دو شامبـين، 1662
هذا البورتريه رسمه فيليب دو شامبين للكاردينال ريشيليو الذي يُعتبر احد أهمّ الشخصيات المتنفّذة التي لعبت دورا مهمّا زمن حكم الملك الفرنسي لويس الثالث عشر. وقد ازدادت حظوظ عائلة الكاردينال وأصبحت في عداد الأسر النبيلة بعد أن تبوّأ عدد من أفرادها مناصب مرموقة في عهود ملوك فرنسا المتعاقبين. وبفضل علاقة ريشيليو الوثيقة بـ ماري دي ميديتشي والدة الملك لويس الثالث عشر، عُيّن الكاردينال وزير دولة للشئون الخارجية في العام 1616م. ثم لم يلبث أن رُقّي إلى منصب رئيس وزراء فرنسا.
في ذلك الوقت، كانت قبضة الملك على مقاليد الحكم في فرنسا قد بدأت تتضعضع وتهتزّ. وأصبح نظام الحكم مهدّدا بالخطر. كانت فرنسا وقتها تعاني من استشراء فساد الساسة وتغوّل النبلاء، بالإضافة إلى عامل ثالث تمثّل في ازدياد نفوذ البروتستانت المتشدّدين المسمّين بـ الايغونيين.
كان لويس بحاجة ماسّة إلى رجل يعينه على تعزيز سلطته وتأكيد حكمه. وقد وجد ضالّته في الكاردينال الذي عمل منذ البداية على تدعيم سلطة الملك من خلال استخدام القوّة المفرطة والعنف السياسي. ولم تمض أربع سنوات حتى كان ريشيليو قد سحق تمرّد البروتستانت وقمع النبلاء بعنف بعد اكتشاف مخطّطهم للتآمر على الملك. ثم بادر إلى استبدال خصوم الملك في الحكومة بأشخاص موالين ووسّع صلاحياته في الأقاليم من خلال تنصيب وكلاء للملك على شئونها.
في اللوحة يظهر الكاردينال بثلاثة وجوه متماثلة، الأوّل، في الوسط، يواجه الناظر مباشرة. وإلى يمين اللوحة ويسارها يظهر الوجهان الآخران متناظرين جانبيا. الهيئة الدينية للكاردينال تتوافق مع أفكاره المتقشّفة وتشير ضمنا إلى موقفه الطهراني من المنصب الرسمي. العباءة التي تتخذ شكل مثلّث من الألوان الأبيض والأزرق والأحمر تغطّي جسمه بالكامل ولا تستثني حتى يديه. الملمح الأهمّ في اللوحة هو وجه الكاردينال الصغير الشاحب. ملامحه تعبّر عن قوّة الإرادة والحزم رغم ما يبدو عليه من علامات التعب والإرهاق بسبب سنوات الخدمة الطويلة.
عندما باشر ريشيليو مهامّ منصبه، أصرّ منذ البداية على أن يطبّق القانون بقسوة كي لا تفلت الأمور عن السيطرة وتفقد الدولة هيبتها. كان في طريقة حكمه يعتمد على مزيج من العقل والإرادة واستخدام السلطة السياسية بفاعلية. ولم يتوانَ عن فرض عقوبات مشدّدة حتى على الجرائم والتجاوزات الصغيرة. كان الكاردينال يؤمن بالحقّ الإلهي للملك الذي يكفل له استخدام ما يراه من وسائل مناسبة من اجل فرض السلام والنظام على سائر أفراد المجتمع. كما كان يؤمن بأن الغاية تبرّر الوسيلة وبأن الدولة تعلو على جميع ما عداها وأن الدين ليس سوى أداة لخدمة السياسة.
الرسّام دو شامبين ولد في بروكسل لعائلة فقيرة تعود أصولها إلى الفلاندرز. وفي عام 1621 ذهب إلى باريس حيث عمل لبعض الوقت مع الرسّام نيكولا بوسان. ثم انتُدب مع آخرين لمهمّة تزيين قصر اللوكسمبور التابع للملكة الأم ماري دي ميديتشي. وفي ما بعد عيّنه الملك لويس الثالث عشر رسّاما للبلاط. وبحكم منصبه الجديد، أصبح على صلة وثيقة أيضا بالكاردينال ريشيليو الذي رسم له هذه اللوحة التي يتذكّره الناس بها إلى اليوم. وقد أرسلت اللوحة إلى النحّات فرانشيسكو موتشي في روما كي يصنع على منوالها تمثالا نصفيا للكاردينال.
كان ريشيليو، رغم حزمه وبطشه، محطّ إعجاب الكثير من المؤرّخين لذكائه وإخلاصه الوطني. فقد نجح في إحداث إصلاحات جذرية في البنية الأساسية للحكم. وأصبحت فرنسا في عهده أقوى بلد في أوربّا. وبالإضافة إلى دعمه للبحرية الفرنسية وتوسيعه للمستعمرات في أفريقيا والكاريبي، عُرف عنه أيضا احتضانه وتشجيعه للآداب والفنون. فأعاد بناء جامعة السوربون ودعم الكتّاب الواعدين وأنشأ الأكاديمية الفرنسية للفنون. بل إن بعض المؤّرخين الفرنسيين يصفونه بأنه مؤسّس الوحدة الفرنسية والرجل الذي خلّص فرنسا من طبيعتها القروسطية. خلفية الكاردينال الاجتماعية دفعته إلى مناصرة الأفكار السياسية للبورجوازيين. غير انه في الوقت نفسه عمد إلى نزع الكثير من امتيازاتهم مقابل تثبيت مركزية الدولة وتعزيز هيبتها.
ترى هل أراد الرسّام بهذه الصورة الثلاثية الإيحاء بأن للكاردينال ثلاث شخصيات قد تبدو للناظر منفصلة عن بعضها، لكنها في الواقع مترابطة وكلّ منها تكمّل الأخرى؟ بناء اللوحة على هذا النحو يذكّر بإحدى نظريات علم النفس التي تتحدّث عن انقسام الأنا، أي الحالة التي يكون فيها الشخص المنعزل والنرجسي منهمكا في حوار داخلي واستكشافي مع الذات.
المعروف أن فكرة البورتريه الثلاثي ظهرت أوّل ما ظهرت خلال عصر النهضة الايطالي. في لوحته بعنوان صورة مجازية للفطنة، يرسم تيشيان وجوها لثلاثة أشخاص في ثلاثة اتجاهات مختلفة. وأسفل منها ثلاثة وجوه لأسد وذئب وكلب. وفي أعلى اللوحة تظهر عبارة تقول: من الماضي يستمدّ الإنسان الحكمة في الحاضر كي يتجنّب أخطاء المستقبل". ربّما يكون هذا شعار ريشيليو نفسه الذي عُرف عنه حرصه على موازنة الاحتمالات وقياس الظروف قبل الإقدام على أيّ خطوة أو قرار. الفنّان انطوني فان دايك رسم، هو الآخر، بورتريها ثلاثيا مشهورا للملك الانجليزي تشارلز الأوّل. كما رسم الفنان الأمريكي غيلبيرت ستيوارت بورتريها ثلاثيا لـ اليزابيث بونابرت.
أسلوب دو شامبين في هذه اللوحة وفي غيرها يعكس واقعية روبنز الفاقعة في تعامله مع الألوان وفي طريقة تمثيل الملابس المنسدلة، ما يذكّر بالتماثيل الرومانية القديمة. وقد عُرف عنه غزارة إنتاجه. لكن أقوى أعماله هي البورتريهات التي رسمها لمعاصريه والتي مزج فيها بين عدّة عناصر فلمنكية وفرنسية وايطالية.
وقد أصبح فيليب دو شامبين في ما بعد عضوا مؤسّسا في الأكاديمية الفرنسية للفنون ثم أستاذا فيها. وتحت تأثّره بالمذهب الكاثوليكي المعروف بـ الجانسينية، استقال من وظيفة البلاط وكرّس كلّ وقته لرسم بورتريهات لرموز هذا المذهب. واستمرّ يفعل ذلك حتى وفاته في باريس عام 1674م.