Saturday, September 10, 2005

لوحـات عالميـة – 43

المـوجـة التاسعـة
للفنان الروسي ايفـان ايفازوفسـكي، 1850

كان ايفان ايفازوفسكي معاصرا لانبثاق عصر النهضة الروسيّ بعد انتهاء حرب نابليون، والذي شهد ولادة الكثير من الأسماء اللامعة في ميادين الثقافة والموسيقى والأدب والفنّ مثل بوشكين وغوغول وليرمنتوف وميخائيل غلينكا وغيرهم.
ويمكن اعتبار هذا الرسّام آخر وأكثر ممثّلي الرومانسية نفوذا. وهذا واضح من لوحاته التي تمجّد المعارك الحربية. في تلك اللوحات يُخيّل إليك للوهلة الأولى انك أمام مهرجان كبير واحتفالات وألعاب ناريّة، لكن بعد قليل يتّضح لك أن ما تراه هو معركة تجري في البحر ليلا وأن سفينة من الأسطول المعادي تنفجر محترقة في الظلام.
رسم ايفازوفسكي أكثر من ستّة آلاف لوحة خلال ستّين عاما من العمل. والعديد من لوحاته يمكن اعتبارها تمجيدا لأسطول البحرية الروسيّ في القرن التاسع عشر.
وهذه اللوحة هي أشهر لوحاته، بل يقال أحيانا أنها أجمل لوحة روسية على الإطلاق. كان عمره عندما رسمها لا يتجاوز الثالثة والثلاثين. وفيها تتبدّى موهبته في أجلى صور النضوج والتبلور.
اللوحة تصوّر بحرا هائجا بعد عاصفة ليلية، وبحّارة على سفينة وهم يواجهون خطر الموت ويحاولون إنقاذ أنفسهم بالتمسّك بحطام السفينة الغارقة، بينما ترسل الشمس خيوطها الأولى لتلمع فوق الأمواج الضخمة.
وأكبر هذه الأمواج، الموجة التاسعة، تبدو على وشك أن تبتلع البحّارة الذين يصارعون من اجل النجاة بأنفسهم فوق السارية الغارقة بعد أن هلك عدد من رفاقهم.
البحّارة يدركون أنهم لن يستطيعوا السباحة للخروج من الخطر المحدق، وأنهم يواجهون موتا شبه محتّم، ومع ذلك يتشبّثون بالسارية ويصارعون العناصر من اجل البقاء. والمشهد كلّه يوحي بشيئين: الإحساس باليأس ومحاولة التمسّك بالحياة.
تتألّف هذه اللوحة من تدرّجات لونية دافئة قوامها الأزرق والأخضر والزهريّ والأرجوانيّ. والبحر لا يبدو شرّيرا كثيرا، الأمر الذي يدفع الناظر إلى الظنّ الواهم بأن البحّارة ربّما يتمكّنون من النجاة. لكن مثل هذا الاحتمال يبدو شبه مستحيل.
وموهبة ايفازوفسكي في تحكّمه بالألوان وإجادته لعبة الضوء هي التي تجعل البحر يبدو هنا طبيعيّا ومتوهّجا. كما أن انعكاس ضوء القمر يعطي للوحة حيوية وأصالة ولمسة رومانسية إلى حدّ ما.
اسم اللوحة، أي الموجة التاسعة، مصدره اعتقاد شعبيّ بأن كلّ موجة من أمواج البحر تختلف عن الأخرى في حجمها وقوّتها. الإغريق كانوا يعتبرون أن الموجة الثالثة هي الأقوى تدميرا. والرومان كانوا يعتبرون الموجة العاشرة هي الأخطر. لكن في رأي معظم البحّارة فإن الموجة التاسعة هي الأكثر تدميرا ولا يمكن أن تقف سفينة بوجهها مهما كانت مؤمّنة ضدّ الكوارث.
أيضا للوحة معنى دينيّ يتمثّل في أن الخلاص يمكن أن يأتي للإنسان إذا ما تسلّح بالإرادة الصادقة في قهر الصعاب. البحّارة يعرفون القوّة المميتة للموجة، لكنهم لا يفقدون الأمل في النجاة.
ورغم الدراما المأساوية للقصّة/اللوحة إلا أنها لا تترك ذلك الانطباع الحزين، فهي مملوءة بالضوء والهواء وتنقل إحساسا متفائلا. والرسّام نفسه يبدو معجبا بجمال البحر.
وربّما لهذا السبب أثارت هذه اللوحة مخيّلة أكثر من شاعر روسيّ أهمهم باراتينسكي الذي كتب قصيدة من وحيها عن الرغبة في القتال والثقة في النصر.
ولد ايفان ايفازوفسكي في مدينة فيودوسيا الروسية في العام 1817 لعائلة أرمنية فقيرة. ووقت ولادته كانت المدينة مدمّرة بسبب الحرب وتعاني من آثار تفشّي مرض الطاعون القاتل.
في طفولته كان الرسّام مفتونا بخليج المدينة الساحر وبآثار قلعة يونانية قديمة فيها. وفي عام 1833 دخل أكاديمية الفنون الروسية حيث درس فيها رسم المناظر الطبيعية على يد رسّام الطبيعة فوروبييف.
وفي عام 1838 اُرسل إلى شبه جزيرة القرم لمدّة سنتين حيث رسم هناك لوحات تتناول عناصر الطبيعة. ثم ذهب بعد ذلك إلى الخارج، ليعود إلى روسيا في العام 1844. وما لبث أن ُمنح لقب "أكاديميّ" وُعهد إليه بمهمّة رسم الموانئ العسكرية الروسية الكبرى الواقعة على بحر البلطيق.
خلال حياته الطويلة، سافر ايفازوفسكي كثيرا، فزار روما وباريس وغيرهما من مدن أوربّا. كما عمل في القوقاز وأبحر إلى شطآن آسيا البعيدة وقضى وقتا في مصر، بل وحتى سافر إلى الولايات المتحدة.
لكن رحلته إلى ايطاليا كان لها أهمّية خاصّة، إذ اكتسب أسلوبه هناك تميّزا اكبر. جون تيرنر، رسّام مناظر البحر الانجليزيّ المشهور، التقاه في روما ورأى لوحته "الهدوء في البحر" فذُهل للمنظر وكتب قصيدة شعر يمجّد فيها الرسّام ويصفه بالعبقريّ.
قضى ايفازوفسكي معظم حياته في فيودوسيا، المدينة التي ولد ونشأ فيها. وكثيرا ما كان ينظّم معارض للطلبة الفقراء في أكاديمية الفنون في المدينة. وبالإضافة إلى الرسم، كان بارزا في عدّة مجالات، فقد كان يعزف الكمان، كما كان مهندسا معماريا وخبيرا في الآثار.
وفي آخر عشر سنوات من حياته حاول رسم البورتريه، لكن معظم بورتريهاته التي رسمها لم تلاقِ النجاح المنشود.
غير أن ايفازوفسكي هو اليوم أكثر رسّام روسيّ يبحث عنه مقتنو الأعمال الفنّية من القرن التاسع عشر. وأعماله تُباع في المزاد بأسعار قد تصل أحيانا إلى ملايين الدولارات.

Friday, September 09, 2005

لوحـات عالميـة – 42


تمثـال فيـنوس دي ميلــو
(القرن الثاني قبل الميلاد)

ينظر الكثير من نقاد الفن ودارسيه إلى تمثال فينوس دي ميلو باعتباره ثاني اشهر عمل فني في العالم بعد الموناليزا. وأحد مظاهر شعبية هذا التمثال هو الصفوف الطويلة من الزوّار الذين يتقاطرون على اللوفر في باريس لمشاهدة التمثال.
ولا تتمثل شعبية التمثال فقط في توظيفه في الراويات وعلى أغلفة المؤلفات الموسيقية، وانما أيضا في حقيقة انه كان مصدر الهام للعديد من الفنانين الكبار وعلى رأسهم دالي وسيزان وماغريت وسواهم.
وعندما أعارت فرنسا التمثال لليابان في العام 1964 كان عدد من تقاطروا لمعاينته اكثر من نصف مليون شخص.
بعض أسباب شعبية التمثال واضحة، فهو نموذج رائع في البراعة والإتقان الفني. كما أن ذراعي التمثال المفقودين يجعلان من السهل التعرّف عليه وتمييزه عن مئات الأعمال النحتية الأخرى.
غير أن هناك سببا آخر لا يقلّ أهمية، وهو الحملة الدعائية الكبيرة التي نظمها الفرنسيون للتمثال منذ بدايات عام 1821 م.
لقد كان لدى الفرنسيين منتج متميّز وكانوا يدركون أهمية الترويج له. لكن المشكلة الأساسية التي كان يتعيّن عليهم تدبير حلّ لها كانت حقيقة أن اسم النحّات الذي أبدعه كان مجهولا.
وقد ُعثر على تمثال فينوس دي ميلو في الثامن من أبريل 1820 في إحدى المناطق الأثرية بين جزيرة كريت والبرّ اليوناني من قبل أحد الفلاحين. وقد أخفى الفلاح التمثال عن أعين الأتراك لبعض الوقت مخافة أن يصادروه، إلى أن تعرّف على أهميته بعض الفرنسيين الذين قرّروا شراءه والاحتفاظ به.
وبعد مفاوضات مضنية بين الفرنسيين والسلطات اليونانية، وافقت الأخيرة على بيعه لفرنسا مقابل 1000 فرنك فرنسي، أي بما لا يتجاوز قيمة قطيع من الماعز بمقاييس ذلك الزمان.
وبعد رحلة في البحر عبر المتوسّط، وصل التمثال أخيرا إلى باريس، حيث قام ماركيز ريفيير سفير فرنسا لدى الأتراك العثمانيين بإهدائه إلى لويس الثامن عشر في احتفال خاص.
ويظهر أن هذه التحفة الفنية النادرة التي تعود للعصر الكلاسيكي لليونان كانت هي بالضبط ما كان اللوفر يتوق لاقتنائه في النهاية.
كان ُينظر إلى التمثال على الدوام باعتباره تجسيدا للخيال والإلهام والعبقرية التي أبدعت كلاسيكية الإغريق. وقد تبوّأ التمثال مكانا متفردا في اللوفر منذ اقتنائه واصبح مصدرا مهما استوحى منه العديد من الفنانين الفرنسيين أعمالهم.
نابوليون بونابرت لم يكن يظهر كبير اهتمام بالفن، ومع ذلك كان يحرص على الوقوف إلى جانب التمثال لكي يحذو حذوه ضيوف الشرف الذين كانوا يزورون باريس في تلك الأيام.
لكن بعد هزيمة بونابرت في ووترلو ونفيه إلى جزيرة سينت هيلينا، توافد على فرنسا مندوبون من الدول التي هزمت نابوليون لكي يطالبوا بقطعهم الفنية المنهوبة.
وخلال عام واحد تمكّنت ايطاليا وانجلترا من استعادة كنوزهما الأثرية التي تعود للعصور الرومانية والإغريقية.
لكن بقي تمثال فينوس دي ميلو بحوزة الفرنسيين كي يقلدوه وينسجوا على منواله.
يقول بعض خبراء الفن إن التمثال ربّما يعود للفنان العظيم فيدياس أو لزميله براكسيتيليس، وهما نحّاتان إغريقيان عاشا في القرن الرابع أو الخامس قبل الميلاد.
لكن بناء على بعض النقوش والكتابات التي وجدت في المنطقة التي ُعثر فيها على التمثال، يميل بعض المؤرخين الآن إلى أن مبدع التمثال هو الكساندروس الانطاكي، الذي كان موسيقيا ونحّاتا عبقريا في ذلك الزمان، ولم تكن شهرته أو موهبته الفنية تقلّ عن تلك التي لزميليه.

Wednesday, September 07, 2005

لوحـات عالميـة – 41


ليــدي ليـليــث
للفنان البريطاني دانتي غابرييل روزيتي، 1873

شهد العام 1848 ذروة اهتمام أوساط الأدب والفن بشخصية الليدي ليليث الأسطورية وذلك بفضل أعمال كل من الشاعر الإنجليزي كيتس والفيلسوف الألماني غوته.
وفي الأعمال الشعرية والفنية في ذلك العصر، ترسّخت أسطورة ليليث باعتبارها رمزا للمرأة التي تتمتع بالجمال والذكاء والقوة.
وينظر العديد من النقاد إلى لوحة دانتي غابرييل روزيتي عن ليليث باعتبارها تمثل لحظة التحوّل في تلك الشخصية الأسطورية.
كان دانتي روزيتي، الإيطالي الأصل، يوصف بأنه مصوّر درامي وباحث عن المعنى وصانع أساطير، وربما تعمّد رسم ليليث بهذه الهيئة الحديثة كــي يخلع على أسطورتها مضمونا معاصرا.
ليليث – حسب الروايات الإنجيـلية – كانت الشقيقة التوأم لآدم، وكانت تعيش معه في جنات عدن، وآدم كان ملك الجنة، وكانت ليليث تتطلع إلى أن تشاركه في الحكـم غير أن ذلك لم يتحقق رغم أنها كانت تتصف بالحكمة والأناة ورباطة الجأش. وقد ضاقت ليليـث ذرعا بآدم الذي كان اقلّ منها ذكاء وحكمة.
بعد أن ُاخرجت ليليث من الجنة، تعلمت من إله النور المزيد من الحكمة وعاشت ملكـة لليـل، إذ كانت تدعو السُـمّـار والساهرين للرقـص والمرح إلى أن يغيب ضـوء القمر.
اليوم أصبحت ليليث، بفضل تمسّكها بحرّيتها الشخصية واعتدادهـا بنفسـها وتحكّمها في رغباتها وتمرّدهـا على استبـداد الرجل، رمزا للكثير من الحركـات النسوية في العالم.
أما في الأساطيـر فما تزال ُتصوّر على هيئة أفعى أو شيطان أو ملاك سقط من عليائه. وفي تراث الكثيـر من الشعوب، ومنهم اليهـود والمسلمون، يكفي أن تعصـي المرأة أمر زوجها لكي تتعرّض للنبذ وتتحوّل بالتالي، كما ليليث، إلى حيّة ماكرة أو شيطان مريد.

موضوع ذو صلة: الليدي ليليث

لوحـات عالميـة – 40


تمثـال ابـوللـو و دافـنـي
للنحات الإيطالي جيان لورنزو بيرنيني، 1625

في العام 1624، كلّف الكاردينال بورغيزي النحّات والفنان جيان لورنزو بيرنيني بتحويل قصّة ابوللو ودافني الأسطورية إلى عمل رخامي.
وشرع بيرنيني في نحت هذا التمثال الذي يصوّر اللحظة التي تمكّن فيها ابوللو إله النور من الالتحام بالحوريّة دافني بعد أن دأبت على صدّه وإبعاده. تلك اللحظة التي تقول الأسطورة إن جسد دافني تحوّل عندها إلى شجرة غار وشعرها ويديها إلى أغصان وأوراق.
هذه القطعة النحتية الرائعة هي أفضل مثال على براعة بيرنيني وحرفيّته العالية. وقد جرت العادة على أن يُصنّف التمثال على انه من الفنّ الايروتيكي، غير انه بنفس الوقت يمكن أن يرمز إلى التحوّلات التي مرّ بها النحّات في مراحل تطوّره الفنّي.
كان بيرنيني نحّاتا ورسّاما ومهندسا معماريا بارزا، كما كان مناصرا قويّا لفنّ الباروك في إيطاليا. وقد ولد لأب كان يعمل نحّاتا هو الآخر. وعندما لاحظ براعة ابنه في التعامل مع الحجر وهو بعدُ في سنّ مبكرة، عهد به إلى من يعلّمه وينمّي ويرعى موهبته.
"ابوللو ودافني" كان آخر عمل موّلته عائلة بورغيزي، وهو أحد أشهر الأعمال النحتية وأكثرها شعبية وشهرة حتى اليوم. وقد بدأ بيرنيني نحت التمثال وهو في سنّ الرابعة والعشرين وتطلّب إنجازه ثلاث سنوات كاملة.
والقصّة التي يجسّدها التمثال تحكي عن الرغبة وتتضمّن إشارات عديدة إلى الحواسّ وخاصّة اللمس. وقد حوّل النحّات الأسطورة إلى قطعة فنية مليئة بالرقة والشاعرية. ومن الواضح أن بيرنيني عمد إلى استلهام الصورة التي كانت رائجة عن ابوللو في العصر الهيلينستي، فصوّره بشعر طويل وملامح جميلة وبهيئة ليست بالذكورية ولا بالأنثوية الخالصة.
السؤال الذي أثاره الكثيرون في تلك الفترة هو: ما الذي يدفع رجلا متديّنا كالكاردينال بورغيزي للاهتمام بتجسيد أسطورة وثنية والاحتفاظ بها في منزله؟
الجواب نجده في بيت الشعر المنسوب للكاردينال بارباريني "البابا في ما بعد" والذي أمر بورغيزي بحفره في إطار قاعدة التمثال والذي يقول: "أولئك الذين ينشدون المتع السريعة الزوال لا يبقى بأيديهم في النهاية أكثر من أوراق الحنظل".
بحلول العام 1624 تبنّى بيرنيني اتجاها تعبيريا مفعما بالمضامين الانفعالية والسيكولوجية. ويُعزى له الفضل في تصميم عدد من النوافير ذات التماثيل البديعة والفخمة وأشهرها نافورة الأنهار الأربعة، لدرجة أن روما أصبحت في زمانه تسمّى مدينة النوافير. كما صمّم عددا من القصور والكنائس المشهورة. وقبيل وفاته ذهب إلى باريس كي يشارك في إعادة تصميم متحف اللوفر.
وقد عاش بيرنيني حياة طويلة امتدّت زهاء ثمانين عاما أنجز خلالها عددا من الأعمال النحتية التي تعتبر اليوم علامات بارزة ومهمّة في تاريخ النحت الغربي. ومن أشهر أعماله الأخرى تمثال سينت تيريزا، الحقيقة كما يكشفها الزمن، ديفيد، و"بلوتو وبروسيربينا".
وممّا يؤثر عن احد النقاد قوله واصفا قوّة منحوتات بيرنيني: للفنّ العظيم سلوكياته المخيفة. فقد أخذ بيرنيني الحجر وحوّله إلى لحم، وأخذ راهبة ومنحها شهوة".
الجدير بالذكر أن أسطورة ابوللو ودافني كانت موضوعا للعديد من الأعمال المسرحية والشعرية عبر العصور. كما استوحى من أحداثها الموسيقي الألماني فريدريك هاندل أحد أشهر أعماله الاوبرالية.

Tuesday, September 06, 2005

لوحـات عالميـة – 39


عـذراء المستشـار روليـن
للفنان الهولندي يان فـان آيـك، 1436

طلب المستشار نيكولاس رولين من الفنان الهولندي يان فان آيك رسم بورتريه له.
رولين كان حاكما على بورغوندي وبرابانت، وكان ذا شخصية صارمة جدا. وبالرغم من خلفيته المتواضعة فانه كان رجلا متوقّد الذكاء إلى أن استطاع في النهاية تولي تلك الوظيفة المرموقة.
وطوال أربعين سنة كان رولين اليد اليمنى للملك فيليب الملقب بالطيب، كما كان أحد المهندسين الرئيسيين وراء نجاح العرش.
وقد رسم فان آيك هذه اللوحة عندما كان رولين في ستّينيات عمره.
ورغم المسئوليات الجسام التي كان ما يزال يقوم بها آنذاك، فان وجه رولين في اللوحة ما يزال يفتن الناظر مع انطباع هو مزيج من القوة والنشاط والصرامة.
رولين هنا يرتدي سترة موشّاة بالذهب. ويبدو المستشار في وضع الانحناء علامة الخضوع والاحترام.
أما نظراته فتبدو مستغرقة في التأمّل والخشوع كما لو انه فرغ توّا من قراءة الكتاب المقدّس.
والى اليمين تبدو العذراء جالسة في رداء احمر وقد قدّمت إلى المستشار المسيح الصغير، بينما أمسكت إحدى الملائكة بالتاج الضخم لتضعه على رأس العذراء.
أما الأعمدة الثلاثة التي ينكشّف عنها المشهد في الخلفية فتبدو كبيرة بعض الشيء مقارنة بالأشياء القريبة، وعبر الأعمدة تبدو حديقة صغيرة تناثرت فيها الزهور التي ترمز إلى فضائل السيّدة العذراء.
وعلى مقربة من المشهد يلوح ملاكان صغيران يعطي أحدهما ظهره للناظر.
والى جوارهما يبدو طاووسان ربّما أراد الفنان أن يتّخذ منهما رمزا للخلود والأبدية، أو قد يرمزان للرفعة والكبرياء التي تتّسم بها شخصية المستشار رولين.
لكن المشهد الأكثر جلالا وروعة في هذه اللوحة هو بلا شكّ منظر المدينة الذي يتراءى خلف الغرفة.
والانطباع الذي يتركه المشهد بأجمعه هو أن القصر هو في واقع الأمر حصن بني على حافّة تلة مرتفعة.
والى اسفل، أي في منتصف اللوحة تماما، يبدو نهر يترقرق ماؤه متدفّقا عبر وسط المدينة بينما بدت في منتصفه جزيرة صغيرة.
والى اليسار وخلف المستشار رولين يبدو الجزء الأكثر تواضعا في المدينة.
والى اليمين، أي خلف العذراء، تبدو الأحياء الموسرة من المدينة مجللة بالمنظر المهيب للكنيسة القوطية.
وعلى ضفاف النهر بدت القوارب وهي تتهادى على صفحة الماء وصولا إلى الشاطئ.
الشاهد هنا هو أن جميع البشر الذين يوحّدهم الإيمان يسافرون جميعا باتجاه هذه المدينة وكاثيدرائيتها العتيقة.
وفي البعيد، يلوح الأفق وقد ُسدّ بمنظر الجبال التي تكلل قممها الثلوج تحت سماء زهرية صفراء.
يرى بعض النقاد أن هذه اللوحة تقدّم نظرة شاملة للكون، أما فان آيك نفسه فقد كان اشهر الفنانين الفلمنكيين خلال القرن الخامس عشر. وقد منحته موهبته ميزة القرب من بلاط الملك فيليب في لاهاي.
أنجز فان آيك افضل لوحاته بين العامين 1432 و 1439م ، واشهرها العذراء والمستشار و ارنولفيني وزوجته.
توفّي جان فان آيك في العام 1441م.

موضوع ذو صلة: رسوم وتصاوير دينية

Monday, September 05, 2005

لوحـات عالميـة – 38


بورتريـه الدكتـور غاشيـه
للفنان الهولندي فنسنـت فــان غــوخ، 1890

بورتريه الدكتور غاشيه هو أحد اشهر أعمال الفنان فان غوخ.
أما لماذا هو مشهور فلعدة أسباب، أهمها أن فان غوخ رسمه في الأشهر الأخيرة من حياته، ثم لان موضوع اللوحة ظل لزمن طويل مثار جدل كبير، أما السبب الثالث والاهم فلأن لوحة الدكتور غاشيه كانت الى ما قبل ثلاث سنوات اللوحة الأغلى مبيعا في تاريخ الفن وذلك عندما بيعت لثري ياباني بحوالي 83 مليون دولار بعد ثلاث دقائق فقط من طرحها في مزاد فني في العام 1990م.
فان غوخ رسم لوحتين لطبيبه الخاص الدكتور غاشيه، اشهرهما هذه اللوحة التي يتفق كثير من النقاد على اعتبارها تجسيدا لبراعة فنية لا نظير لها.
لكن إلى أي حد كان هذا الطبيب بارعا هو الآخر؟
في إحدى رسائله إلى أخيه ثيو يشير فان غوخ إلى الدكتور غاشيه قائلا: انه مريض مثلي، بل ربما يكون اكثر مرضا"!
في عام 1888 انتقل فان غوخ إلى ضاحية آرلي في جنوب فرنسا، وفي آرلي تعرّف على الدكتور غاشيه الذي اصبح صديقه المقرّب الذي يلتمس عنده العلاج لنوبات الصرع العنيفة التي كانت تنتابه من وقت لاخر.
في هذا الوقت، كانت ألوانه كثيفة ولمسات فرشاته مضطربة كما يتضح من لوحاته التي تعكس تشوّشا واضطرابا ذهنيا ومن اشهرها "الملهى الليلي".
طوال حياته لم يجد فان غوخ أي تقدير أو إشادة بفنه ولم يبع سوى لوحة واحدة فقط.
كان فاشلا في حياته ولم يجد عطفا أو صداقة من أحد. وخلال السنوات الخمس الأخيرة من حياته اكمل فان غوخ رسم اكثر من 800 لوحة زيتية.
على الطاولة، وأمام الدكتور غاشيه، تبدو نبتة "قفاز الثعلب" التي اشتق منها عقار الديجيتاليس، في إشارة من فان غوخ إلى كفاءة الدكتور غاشيه ومهارته الطبية، وربما كانت تلك إشارة من الفنان إلى انه كان يعالج بذلك العقار قبل أن يقدم على الانتحار بعد جلسة طويلة مع غاشيه ليلة التاسع والعشرين من يوليو 1890م.

Sunday, September 04, 2005

لوحـات عالميـة – 37


بورتريه مـدام دي بومبادور
للفنان الفرنسي فرانسـوا بـوشيـه، 1756

يعتبر فرانسوا بوشيه رائد اتجاه الروكوكو في فرنسا، وهو أسلوب يُخضع الموضوع لنوع من الحسّية التي تتحوّل من خلالها الأجساد والملابس والغيم والأمواج والغابات إلى صور للرغبة والمجاز ودغدغة الغرائز.
عمل بوشيه معظم حياته في باريس. وفي 1765 عُيّن رساما أوّل للملك.
بعض رسوماته تدفع الناظر إليها إلى الابتسام بسبب التأثيرات الحسّية المتكدّسة والباذخة فيها.
المشاهد الميثولوجية الضخمة التي رسمها في لوحته "شروق الشمس وغروبها" تسبّبت في إحداث صدمة لدى عرضها في باريس لدرجة أن كثيرا من النساء امتنعن عن الحضور تحرّجا وحياءً من المشاهد التي تضمّنتها.
ورغم حديث النقاد في عصر بوشيه عن عنصر الإغواء في لوحاته، فان بعضهم كان يقول إن ذلك يمكن أن يندرج تحت باب "الرذيلة التي يمكن قبولها"!
هذه اللوحة تصوّر مدام دي بومبادور (1721-1764) التي كانت ذا نفوذ ثقافي ضخم في فرنسا القرن الثامن عشر.
ولدت دي بومبادور في باريس وتزوّجت من شارل غيوم لكنها أصبحت في العام 1745 خليلة للملك لويس الخامس عشر. وتلك كانت وظيفة رسمية، إلى جانب منحها لقبا تشريفيا هو الماركيزة دي بومبادور. استمرّت علاقتها بالملك فترة طويلة لكنها تحوّلت في ما بعد إلى علاقة أفلاطونية إذا جاز التعبير بعد أن خمدت جذوة الحب بين العاشقين. غير أن مكانة المرأة ونفوذها استمرّا على حالهما.
رعت مدام دي بومبادور الكثير من الأعمال الفنية كما ضمنت رعاية الملك للكتّاب والرسّامين، وكان شقيقها الماركيز دي ماريني وزيرا للثقافة في ذلك العهد.
وكان نفوذها واضحا في لوحة "شروق الشمس وغروبها" التي ساعدت هي في اختيار موضوعها المستمدّ من أسطورة اوفيد. وفي اللوحة تبدو بومبادور على شكل حورية وهي ترحّب بعودة الشمس أي الملك.
في لوحة مدام دي بومبادور تظهر السيّدة واقفة وسط الطبيعة، والزهور تنمو عند قدميها بينما تنعكس البراعم الرقيقة على فستانها الحريري المزركش باللون الزهري. وتبدو السيّدة مرتاحة في هذا الجزء من الطبيعة، بينما أسندت يدها بطريقة طبيعية على قاعدة تمثال وأمسكت بالأخرى مروحة وهي تشير إلى كلبها الصغير الذي يجلس بوفاء.
الرسالة هنا موجهة إلى الملك: إنها وفيّة له بمثل وفاء الكلب.
أما التمثال فيسمّى "الصداقة عزاء للحبّ" ، والولد يمثل كيوبيد، وفي هذا تلميح إلى تحوّل علاقتها بالملك من علاقة جنسية إلى علاقة صحبة وصداقة.
لوحة مدام دي بومبادور كانت حدثا ثقافيا كبيرا في فرنسا منتصف القرن الثامن عشر، وكانت السيّدة تستخدم اللوحات الفنية كوسيلة للتواصل مع الملك والعامّة معلنة عن ولائها ومحبّتها للقصر وغزارة ثقافتها ورجاحة عقلها.