Saturday, September 24, 2011

لوحات عالميـة - 293

بورتـريه ماريّـا لوبـوكينـا
للفنان الروسي فلاديميـر بوروفيكـوفسكـي، 1797


أثناء حكم القيصر بطرس الأكبر، عاش الفنّ الروسي مرحلة تغيير كبيرة. فقد انتقل الاهتمام من رسم اللوحات الدينية حصراً إلى رسم مواضيع وأشياء من العالم المنظور.
وكان الاهتمام برسم البورتريه احد اكبر انجازات الرسم الروسي في تلك الفترة، أي حوالي منتصف القرن الثامن عشر.
ومن أهمّ الرسّامين الذين ظهروا آنذاك كلّ من ديميتري ليفيتسكي وفيودور روكوتوف وايليا ريبين وكارل بريولوف وفالانتين سيروف وميخائيل فروبيل وفلاديمير بوروفيكوفسكي.
وكلّ هؤلاء، وغيرهم، ساهموا في ابتكار أساليب وتقنيات جديدة في الرسم لم يسبقهم إليها احد. وتميّزت أعمالهم عموما بالمزاج الشاعري وبالتركيز على إبراز جمال الملامح الإنسانية وتصوير الانفعالات والمشاعر العميقة.
فلاديمير بوروفيكوفسكي كان احد الرسّامين الأكثر تميّزا في تلك المرحلة. وقد ترك تراثا عظيما من الأعمال الفنّية. لكن هذا البورتريه لوحده كان كافيا لأن يخلّد اسمه في تاريخ الرسم الروسي إلى الأبد.
والبورتريه ليس فقط أشهر أعماله وإنما إحدى العلامات المهمّة في تاريخ الفنّ في روسيا.
كانت ماريّا لوبوكينا، واسمها الأصلي ماريّا ايفانوفنا تولستايا، احد أفراد عائلة تولستوي النبيلة التي ينحدر منها الروائي الكبير ليو تولستوي. ماريّا كانت الابنة الكبرى للكونت ايان تولستوي. وقد أنجب غيرها ابنتين وثلاثة أولاد. شقيقها، فيودور تولستوي، أصبح في ما بعد رحّالة مشهورا وطاف حول العالم في قارب. كما كان صديقا مقرّبا من الشاعر الكسندر بوشكين. ورغم ثراء وجاه العائلة، إلا أنها كانت تعيش في ذلك الوقت حياة فقر تقريباً بسبب خلافهم مع السلطة السياسية.
في العام 1797 تزوّجت ماريّا من ستيفان لوبوكينا الذي كان يعمل في بلاط القيصر بولس الأكبر. وقد كلّف زوجها الفنّان فلاديمير بوروفيكوفسكي برسم هذا البورتريه لـ ماريّا بمناسبة زواجهما.
وقد رسمها بفستان ابيض بسيط بينما تقف وسط طبيعة مفتوحة. افتتان الرسّام بالحياة الداخلية لشخصيّاته وبالمزاوجة بين الحقيقة والجمال واضح في هذه اللوحة. فالمرأة التي تقف في حالة تأمّل هي جزء من الطبيعة الريفية المثالية التي تتشكّل منها خلفية المنظر. وقرب المرأة من حياة الطبيعة يتناغم مع نعومة ونقاء الألوان وتناسق الخطوط، ما يضفي على المشهد سحرا إضافيا.
ولد فلاديمير بوروفيكوفسكي في اوكرانيا عام 1757م لأب من القوقاز.
واشتغل في بدايات حياته بالعسكرية. لكنه تقاعد منها مبكّرا وكرّس حياته للرسم. وفي البداية عمل رسّاما للأيقونات في الكنائس.
وكان مقدّرا لـ بوروفيكوفسكي أن يكتفي برسم الكنائس في بلدته، لولا أن وقع في حياته حادث مهمّ. فقد كان احد أصدقائه مقرّبا من الإمبراطورة كاثرينا الثانية. واقترح عليه صديقه أن يرسم للملكة لوحة رمزية تجمعها مع زوجها الإمبراطور بطرس الأوّل ملك روسيا. وقد راقت اللوحة للإمبراطورة، لدرجة أنها طلبت منه الانتقال إلى سانت بطرسبيرغ.
وفي السنوات العشر الأولى له في المدينة، عاش في منزل الشاعر والموسيقي الأمير نيكولاي لونوف الذي كان لأفكاره ونظريّاته في الفنّ اثر كبير على الرسّام.
ومثل روبنز، كان بوروفيكوفسكي يعتمد على مساعديه في رسم الأجزاء الأقلّ أهمّية في لوحاته. وخلال حياته، أتمّ رسم أكثر من خمسمائة لوحة بقي اليوم منها حوالي أربعمائة. وكان زبائنه في الغالب من أفراد عائلة الإمبراطور ومحظيّات البلاط والارستقراطيين وشخصيات أخرى مهمّة من أوساط الفنّ والأدب.
كانت ماريّا لوبوكينا عندما رسمها بوروفيكوفسكي في الثامنة عشرة من عمرها. وبعد ستّ سنوات من رسم البورتريه، أي في العام 1803، توفّيت متأثّرة بإصابتها بمرض السلّ.
بوروفيكوفسكي أصبح في ما بعد أستاذا بأكاديمية سانت بطرسبيرغ للفنون. وفي تلك الفترة، رسم إحدى لوحاته الأخرى المشهورة وهي بورتريه اولغا فيليبوفا التي كانت زوجة لأحد أصدقائه.
وفي ابريل 1825 توفّي الرسّام فجأة بأزمة قلبية ودُفن في مقبرة الكسندر نيفسكي في سانت بطرسبيرغ.

Monday, September 19, 2011

لوحات عالميـة - 292

وليمـة بلشـاسـار
للفنان الهولندي رمبـرانــدت، 1635


"لا تعبدوا الأوثان. ولا تشركوا بالله شيئا". هذا هو الدرس الديني والأخلاقي الذي تقدّمه هذه اللوحة الجميلة والمعبّرة.
القصّة التي ترتكز عليها الصورة مختلَف عليها. فكتب التاريخ لا تكاد تأتي على ذكرها. وكلّ ما هنالك بضع إشارات وردت في سفر دانيال من كتاب العهد القديم.
حدثت هذه القصّة عام 538 قبل الميلاد. وتتحدّث عن الملك البابلي بلشاسار الذي خلف والده نبوخذ نصّر على كرسيّ الحكم.
بعد سنوات من جلوسه على العرش، أقام بلشاسار في إحدى الليالي مأدبة ضخمة في قصره دعا إليها ألفاً من أفراد حاشيته والأمراء والوجهاء بالإضافة إلى زوجاته ومحظيّاته.
مناسبة الوليمة غير معروفة على وجه التحديد. لكن يقال أن بلشاسار كان شخصا متكبّرا ومفتونا بملكه وهيلمانه. وقد اختار أن يقيم الوليمة في الوقت الذي كانت فيه قوّات داريوس ملك الفرس تُحكم حصارها على بابل تمهيدا لاقتحامها واحتلالها. كانت أسوار بابل وقتها محصّنة ومنيعة إلى درجة أن بلشاسار ظنّ انه يستحيل اختراقها.
في تلك الليلة أمر بلشاسار بإحضار كؤوس الذهب والفضّة من معبد أورشليم كي يقدّم فيها النبيذ إلى ضيوفه. هذه الأواني كانت مقدّسة بحسب الرواية. وكان ذلك الفعل كافيا لجلب غضب الربّ وسخطه على الملك المستهتر.
وتمضي القصّة فتقول انه بينما كان الملك وضيوفه منهمكين في الشراب والمجون، رأى الملك فجأة على ضوء مصباح يداً غريبة تخرج من الجدار وتكتب عليه كلمات مرمّزة بأحرف من اللغة الآرامية القديمة.
وهذه هي اللحظة التي اختار رمبراندت أن يرسمها في اللوحة. تأثير الصدمة واضح على وجه بلشاسار وهو يدير رأسه باتجاه اليد التي تكتب على الجدار. رقبته متوتّرة وعيناه مفجوعتان وهو ينظر إلى الكتابة المتوهّجة على الحائط، بينما يرفع يده اليسرى كأنما ليحمي نفسه من خطر داهم ووشيك.
هذه اللوحة تصلح لأن تكون نموذجا في دراسة التأثير السيكولوجي للصدمة. براعة رمبراندت في رسم ملابس الملك الباذخة والموشّاة بالذهب والفضّة وعمامته المثبّت فوقها تاج الحكم يجعل من هذه اللوحة إحدى أروع أعمال الرسّام.
ترتيبات الحياة الساكنة على المائدة من فواكه وأوانٍ تشبه ما كان يستخدمه الهولنديون الأثرياء في منازلهم زمن رمبراندت. كأن الرسّام يدعو الناظر إلى تخيّل فخامة القصر والتمعّن في سحر الكتابة المتوهّجة باللونين الذهبي والفضّي على حائط القصر.
المرأة الجالسة بالقرب من الملك تخفض جسدها اتقاء حركة ذراعه القويّة والمفاجئة. أيضا من التفاصيل اللافتة للانتباه في المشهد تعابير الصدمة والرعب المرتسمة على ملامح الرجل والمرأة الجالسين إلى يسار اللوحة. نظرات الحاضرين تدلّ على أن اليد ظهرت للملك وحده دون غيره. ولهذا السبب خاف وارتعب لأنه أدرك أن ما هو مكتوب يخصّه هو شخصيّا.
ارتبك بلشاسار جدّا وتملّكه الفزع وتغيّرت هيئته ممّا رأى. وسارع في طلب السحرة والمنجّمين كي يفسّروا له ما حدث.
وأشار عليه بعض خلصائه أن يستشير حكيما يُدعى دانيال عُرف ببراعته في تفسير الرؤى. وعندما حضر الحكيم عرض عليه بلشاسار أن يعطيه ما يشاء من مال وجاه إن هو نجح في قراءة وتفسير الكتابة الغامضة.
فقال له دانيال وكان رجلا صالحا وزاهدا في الدنيا: لتكن عطاياك لنفسك ولتمنح هباتك لغيري. أما الكتابة فهي نذير شرّ لك. لقد بالغت في تمجيد الأوثان وإهانة الربّ. لذا سينتهي ملكك سريعا وستُقسّم أراضي المملكة بين ميديا وفارس".
وفي تلك الليلة سقطت بابل دون قتال بخدعة نفّذها الفرس والميديون بتحويلهم مجرى النهر. وفي منتصف الليل فتحوا الأبواب بطريقة لم يتوقعها الحرّاس في الأبراج العالية وعبر الجيش الغازي إلى وسط المدينة وقُتل بلشاسار وعدد من رجاله.
ويبدو أن داريوس عرف بأمر المأدبة الضخمة وبأن الملك ورجاله وجنده غارقون في سكرهم وعربدتهم وأيقن أن تلك فرصته الذهبية لاقتحام المدينة واحتلالها. وكان له ما أراد.