Saturday, April 07, 2018

لوحات عالميـة – 459

أمـومـة
للفنانة الأمريكية سيسيـليا بـو، 1884

قبل حوالي مائة عام، كانت سيسيليا بو تُعتبر من أعظم الرسّامات اللاتي ظهرن في النصف الأوّل من القرن العشرين. لكن بعد وفاتها لم يعد يسمع عنها احد، ربّما لأنها كانت تقصر فنّها على رسم الطبقات الاجتماعية العليا بأسلوب أكاديميّ صارم، وهذا أصبح يُنظر إليه اليوم على انه موضة قديمة.
وهناك سبب آخر في أن بو أصبحت شبه منسيّة اليوم، ويتمثّل في أن شهرة زميلتها الأمريكية ماري كاسات، التي اكتسبتها بسبب قربها من الانطباعيين، غطّت على شهرتها.
ومع ذلك فقد نالت بو صيتاً واسعا في زمانها لدرجة أن الرسّام وليام تشيس وصفها بأنها أعظم رسّامات جيلها. وفي عام 1924، كلّفها متحف اوفيزي الايطاليّ بأن ترسم لنفسها بورتريها كي يحتفظ به ضمن مجموعته الدائمة. وهو تشريف لم ينله سوى القليل من الرسّامين الأمريكيين.
وقد قيل انه لم يكن بمقدور رسّام آخر أن ينافسها في رسم توهّج ولمعان الحرير باستثناء جون سارجنت. وعلى عكس العديد من الفنّانين في عصرها، لم تعش الرسّامة حياة بوهيمية وصاخبة، ولم تكن فنّانة ثورية بالمعنى الشائع تطمح لأن تقلب المعايير الأكاديمية.
بل إنها عندما كانت في فرنسا لم تنجذب إلى أعمال الطليعيين الفرنسيين، وإنما اهتمّت باستنساخ أعمال المعلّمين الأوائل في اللوفر، خاصّة تيشيان ورمبراندت وفيلاسكيز. كما لم يكن لديها الكثير من المال ولا زوج يحميها، لكنها ثبّتت نفسها بإصرار وعصامية وحصلت على مركز متقدّم.
هذه اللوحة هي أشهر لوحات سيسيليا بو وكانت تعتبرها نقطة تحوّل في مسارها الفنّي. وفيها تصوّر شقيقتها ايتا وطفلها البكر. من الواضح أن اللوحة هي عن الأمومة. التصوير الحسّاس للأمّ وهي تمسك بطفلها يذكّر بلوحة جيمس ويسلر التي رسمها لوالدته.
لكن توظيف بو للألوان الرائعة والفرشاة السائلة والنسيج والأشكال، بالإضافة إلى المضمون السيكولوجيّ والعاطفيّ للصورة يتجاوز ما فعله ويسلر. وقد حقّقت لها اللوحة جائزة مرموقة ثم أرسلت إلى باريس وقرّر المحكّمون في الصالون عرضها.
ولدت سيسيليا بو في فيلادلفيا عام 1855 لأمّ أمريكية وأب فرنسيّ من بروفانس كان يعمل تاجر أقمشة. وقد توفّيت والدتها بعد ولادتها بأسبوعين، الأمر الذي شكّل صدمة لوالدها، فعاد إلى فرنسا بعد أن تركها هي وأختها ذات الثلاثة الأعوام في عهدة جدّتهما.
درست الفنّانة الرسم في أكاديمية بنسلفانيا للفنون وتتلمذت على يد الرسام توماس ايكنز. ثم درست على يد وليام سارتن الذي كانت تفضّله على ايكنز. وقد ساعدها الأخير على اكتساب مهارات رسم الأشخاص من الطبيعة.
في عام 1888، ذهبت بو إلى فرنسا لتدرس في أكاديمية جوليان للفنّ. وفي باريس تعرّفت على روّاد الحركة الانطباعية. وعندما عادت إلى أمريكا بعد ذلك بعامين، استقرّت في نيويورك وأصبح الناس يبحثون عن لوحاتها.
فرشاتها التعبيرية وألوانها الثريّة واستخدامها الفعّال للوضعيات المسترخية جعلت الناس يقارنونها بجون سارجنت. كما أن مزاوجتها بين الأسلوب الفرنسيّ وذوقها الأمريكيّ المتميّز أصبح علامة فارقة على فنّها.
كانت سيسيليا بو شخصية مستقلّة طوال حياتها، ولم تتزوّج أبدا وبالتالي لم تُرزق بأطفال، واختارت بدل أن تلعب الأدوار التقليدية للأمّ والزوجة أن تكرّس حياتها للفنّ.
الرجال الذين رسمتهم كانوا في الغالب شخصيات معروفة مثل جورج كليمنصو وروزفلت وزوجته وابنته. أما النساء فسيّدات عصريات يرتدين ملابس محتشمة ومتحفّظة. وفي كلّ لوحاتها يظهر أثر فرشاتها السريعة والأنيقة وتوليفاتها المبتكرة ومراعاتها للنِسَب والذوق الرفيع في تصوير المظهر والملابس.
سافرت الرسّامة كثيرا وعملت محاضرة في أكاديمية بنسلفانيا، كما نشرت سيرتها الذاتية عام 1930. ومجموعتها الكاملة من اللوحات تبلغ حوالي ثلاثمائة لوحة، معظمها موجودة اليوم في متاحف كبيرة وفي مجموعات خاصّة.
توفيت سيسيليا بو في سبتمبر من عام 1942 عن سبعة وثمانين عاما.

Sunday, April 01, 2018

لوحات عالميـة – 458

ثـلاث نسـاء عنـد نبـع مـاء
للفنان الاسباني بابلـو بيكـاسـو، 1921

يُعتبَر بابلو بيكاسو احد أكثر الرسّامين نفوذا في القرن العشرين، وما يزال تأثيره مستمرّا حتى اليوم. وأعماله تتّسم بتنوّع الأساليب الفنّية، لأنه لم يلتزم بمدرسة فنّية بعينها، بل جرّب كلّ مدارس الرسم تقريبا.
ويمكن اعتبار بيكاسو شخصية تاريخية أيضا، فقد عاصر أحداثا شكّلت نقاط تحوّل كبيرة في العالم، كالحربين العالميتين الأولى والثانية والحرب الأهلية الاسبانية. كما تقاطعت حياته مع العديد من الأسماء المشهورة في زمانه مثل ارنست همنغواي ومارك شاغال وجان كوكتو وكوكو شانيل وهنري ماتيس وغيرهم.
رأى بيكاسو العالم بطريقة مختلفة عمّا رآه معظم الناس، ورسم أكثر من خمسين ألف لوحة بعضها أصبحت ايقونية ومشهورة في تاريخ الرسم، مثل عازف الغيتار العجوز وغورنيكا وآنسات افينيون وغيرها.
في هذه اللوحة، يرسم بيكاسو ثلاث نساء مجتمعات حول عين ماء في بيئة متوسّطية. وهنّ يبرزن من المكان الصخريّ مثل تماثيل ضخمة من زمن اليونان والرومان. النساء يلففن أجسادهنّ بأوشحة وأيديهن تستند على النبع، وقد أضاف إليهنّ الرسّام بعدا ثلاثيّا بأشكال هندسية بسيطة. الطبيعة الأنبوبية للأذرع والإيقاعات التجريدية للشخصيات هي من إرث أكثر أعمال الفنّان ثوريةً.
رسم بيكاسو هذه اللوحة في فونتينبلو في فرنسا بعد ولادة طفله، وهو نفس الوقت الذي رسم فيه لوحة الموسيقيين الثلاثة، أي قبيل تحوّله للسوريالية.
وفي ذلك الوقت، كان العديد من الرسّامين الفرنسيين قد بدءوا يرسمون بالأسلوب النيوكلاسيكيّ. وربّما كانوا يتوقون لأن يعيدوا بلدهم الذي مزّقته الحرب إلى مجده الكلاسيكيّ ويغرسوا جذوره مجدّدا في التقاليد العريقة والقديمة. وبيكاسو لم يكن بعيدا عما يجري. فقد كان يطوّر أسلوبه النيوكلاسيكيّ الخاصّ بالتزامن مع دراساته عن التكعيبية.
لكن غاية بيكاسو كانت مختلفة عن زملائه. فوجوه النساء في اللوحة رمادية وذات ملامح كرتونية، أي ليست مثالية أو محافظة بحيث تناسب الفنّ الكلاسيكيّ، كما أنهنّ أيضا بدينات أكثر ممّا ينبغي. وعلى الرغم من أنهنّ يمارسن نشاطا كلاسيكيا، إلا أن أجسادهنّ لا تعكس ذلك الجمال المثاليّ الذي يثير إحساس الناظر وإدراكه عن الجسد. كما أن سماتهنّ نحتية، وكما لو أن ملابسهنّ مصنوعة من الرخام.
طيّات الملابس والاستخدام الدراماتيكيّ للون الساطع ذو النوعية الفضّية والأوضاع الساكنة للنساء تذكّر بالتماثيل الإغريقية وبالفن الهلنستي تحديدا. وتعامل بيكاسو الطموح مع ما كان موضوعا كلاسيكيا وقديما فيه إشارة إلى الصور المبكّرة لبوسان وآنغر، وهما أهمّ رسّامَين كلاسيكيين.
في عام 1916، أي قبل رسمه اللوحة بخمس سنوات، وافق بيكاسو على أن يتعاون مع صديقه الجديد الشاعر والناقد جان كوكتو في التحضير لباليه تجريبيّ وضع موسيقاه اريك ساتي. وفي العام التالي، ذهب الاثنان إلى ايطاليا حيث ظلّ بيكاسو هناك شهرين زار خلالهما المتاحف والكنائس الكبيرة ثم انتقل إلى فلورنسا ونابولي وبومبي.
وكانت تلك أوّل زيارة له إلى ايطاليا، وقد أسهمت بوضوح في ظهور الكلاسيكية في أعماله بعد أن غمر نفسه في الفنّ اليونانيّ والرومانيّ. ومن ذلك الوقت بدأت مرحلته النيوكلاسيكية التي دامت ستّ سنوات.
وقد وجد بيكاسو مصدر إلهام في النوافير الكثيرة المزخرفة وشبكات الينابيع في الحدائق الملكية في فونتنبلو في باريس. ثم أصبح يقضي الصيف في جنوب فرنسا بعد أن اكتشف أن البيئة المتوسّطية تلهمه رسم مواضيع أسطورية.
التقاليد الكلاسيكية ظلّت بالنسبة للرسّام محفّزا وموردا، لكن انشغاله بها لم يُنتِج محاكاة غير ناقدة ولم تدفعه لتوجيه طاقته الإبداعية بالكامل في اتجاه واحد بعينه.
بعض النقّاد ربطوا بين بيكاسو والرسّام دومينيك آنغر قائلين أن اهتمام بيكاسو بالأخير لعب دورا مهمّا في تطوّر التكعيبية. فقد كان آنغر مهتمّا بإظهار العلاقات بين الأشكال، وهذا أدّى إلى ظهور التشوّهات في رسومات بيكاسو. لكنّه كان يشوّه لكي يبني من جديد، كما كان يقول، ومن ثم مَهّد له هذا الطريق نحو التكعيبية وأعطاه تفسيرا للكيفية التي تتعايش فيها الكلاسيكية والتكعيبية جنبا إلى جنب في أعماله.
المرحلة النيوكلاسيكية في حياة بيكاسو لم يكن يعبّر من خلالها عن حنينه للماضي الكلاسيكيّ بالضرورة، بل ربّما أراد من خلالها أن يشير إلى انه لا يلتزم باتّجاه فنّي واحد وإنّما يستوعب العديد من الأساليب والمدارس ويعكسها جميعها في لوحة واحدة.