Friday, October 27, 2017

لوحات عالميـة – 424

منظـر طبيعـيّ من بـورمي
للفنان الفرنسي هنـري إدمـون كـروس، 1908

يشير مصطلح الانطباعية الجديدة إلى أسلوب في الرسم توضع فيه الألوان على رقعة القماش كنقاط صغيرة جنبا إلى جنب. والناظر يرى هذه الألوان من مسافة كمزيج بصريّ وكأنماط زخرفية تشبه الموزاييك.
وبداية الفكرة تعود إلى عام 1880، عندما درس الرسّام الفرنسيّ جورج سورا بعض الكتابات التي تتحدّث عن نظرية الألوان، ثم ابتكر تقنية جديدة في الرسم اسماها فصل الألوان أو التقسيمية. والميزة الأساسية لها هي أنها تعطي وهجا وحيوية اكبر للألوان.
وعندما توفّي سورا في سنّ مبكّرة خلفه بول سيغناك الذي استبدل تسمية التقسيمية بالنقطية. وفي عام 1886 استبدل الناقد فيليكس فينيون المصطلح بالانطباعية الجديدة.
ولم تلبث هذه الحركة أن انتشرت إلى بلجيكا وهولندا على أيدي رسّامين مثل فان ريسلبيرغ ويان توروب وغيرهما. وحتى فان غوخ عاصر هذه الحركة واهتمّ بنظريات زعيمها سورا ورسم عدّة لوحات بطريقة النقطية.
ومن أشهر شخصيّاتها أيضا هنري كروس وماكسيميليان لوس وسيغناك، ثم انضمّ إليهم في ما بعد كميل بيسارو. وكلّ هؤلاء وظّفوا النظريات العلمية للون والإدراك كي يخلقوا تأثيرات بصرية مستلهمين الأساليب التي طوّرها العلماء.
وكثير من الانطباعيين الجدد كانوا يستخدمون تجانبات وتمازجات غير متوقّعة من الألوان على رقعة الرسم لخلق أضواء لامعة وذات بريق أخّاذ.
كان هنري كروس احد ممثّلي هذه الحركة التي لم تعش طويلا. وهو في هذه اللوحة، يرسم منظرا طبيعيا من بلدة بورمي في جنوب فرنسا التي عاش فيها اعتبارا من عام 1891.
والصورة عبارة عن منظر طبيعيّ لتلال تظهر في مقدّمتها أشجار زيتون وأعداد من الماعز. وفي الخلفية تتناثر أشجار أخرى مرسومة بالألوان الخضراء والزرقاء والأرجوانية والبرتقالية والصفراء.
ويلاحظ أن الرسّام أضفى على الطبيعة سمة زخرفية، كما رسم أفرع أشجار الزيتون بأشكال حلزونية تذكّر بالرسم اليابانيّ. وبدلا من الاكتفاء بلمسات نقطية رفيعة، رسم الفنّان بقع ألوان كبيرة وبيضاوية مليئة بالحركة والطاقة. والطبيعة المحيطة تستثير الأضواء اللامعة لجنوب فرنسا والتي تضفي على المشهد تأثيرات مدهشة.
وقد بدأ كروس رسم اللوحة في محترفه كي يسمح للخيال أن يهيمن على عمله ولكي يجسّد رؤيته الداخلية، ثم أكمل رسمها أمام الطبيعة لتحقيق التناغم المطلوب.
وفكرة الرؤية الداخلية تتوافق مع اعتقاد الانطباعيين الجدد بأن رسم الطبيعة يجب أن يركّز على النواحي الدائمة والأبدية وليس على الأشياء العابرة والمتغيّرة للطبيعة كما كان يفعل الانطباعيون.
تأثير الانطباعية الجديدة استمرّ لبعض الوقت، رغم أنها كانت مجرّد فترة انتقالية في تاريخ الرسم. وفقط بضعة رسّامين ظلّوا مخلصين للحركة مثل كروس وسيغناك، بينما كان آخرون مثل ماتيس وبراك وديرين وبيسارو وديلونيه ينظرون إليها على أنها مجرّد خطوة باتجاه شيء ما مختلف وجديد.
ومعظم الانطباعيين الجدد كانوا يتبنّون أفكار اليسار السياسيّ الفرنسيّ، وهذا واضح في رسومات سورا عن الطبقة العاملة. كما كانت الرؤى المثالية للاشتراكية الفوضوية واضحة في المناظر اليوتوبية التي رسمها الانطباعيون الجدد والتي تمزج بين المضمون الإيديولوجيّ والنظرية الفنّية.
وحتى عندما لا يكون الدافع وراء رسوماتهم سياسيّا فإن تصويراتهم اللامعة والأنيقة للمدن والبحر والضواحي والمناطق الريفية كانت تعكس بحثهم الدائم عن التناغم.
في لوحة أخرى بعنوان أشجار صنوبر على الشاطئ ، يرسم كروس أشجار صنوبر في نفس هذه المنطقة المطلّة على البحر المتوسّط. وهو ينسج من ألوان باردة سطحا يشبه التطريز. واللوحة التي تتألّف من طبقات من الألوان المشعّة هي مثال رائع على الطبيعة الناضجة للفنّان.
ولد هنري ادمون ديلاكروا في مايو من عام 1856، وفي ما بعد غيّر اسمه الأخير إلى كروس كي يميّز نفسه عن الرسّام اوجين ديلاكروا.
وبدأ الفنّان دراسته للرسم عام 1878 في أكاديمية الفنّ في ليل ثم في باريس. وقد تأثّر في بداياته بباستيان لابيج ومانيه وبالرسّامين الانطباعيين. وكان يعرض أعماله بانتظام في صالون المستقلّين بباريس.
صداقة كروس مع سيغناك أكسبته مزيدا من الثقة، فرسم مناظر للبحر والحياة في الريف. لكن ابتداءً من عام 1890 بدأ يتخلّى عن الألوان النقطية الصغيرة ويرسم بضربات فرشاة اعرض. وفي عام 1905 نظّم أوّل معرض منفرد للوحاته.
مناظر كروس الطبيعة لا تخلو من شاعرية، وهي تذكّر بالأشكال الانطباعية في الرسم اليابانيّ، كما أنها تقدّم رؤية "اركادية" مثالية وتوصل إحساسا بالخلود.
توفي الرسّام في باريس عام 1910 عن ثلاثة وخمسين عاما متأثّرا بإصابته بمرض السرطان.

Sunday, October 22, 2017

لوحات عالميـة – 423

أغنـية الـراعـي
للفنان الفرنسي بييـر بوفـي دو شافـان، 1891

بعض الحركات الفنّية نشأت كمحصّلة لعقود من التغيير الثقافي، والبعض الآخر ظهرت نتيجة للاكتشافات الحديثة.
وقريباً من نهاية القرن التاسع عشر، نشأت حركات فنّية ابتدعها وقادها كتّاب وأدباء. ففي عام 1886، نشر الشاعر والناقد الفرنسيّ جان موريه في جريدة لوفيغارو ما عُرف بالبيان الرمزيّ.
في ذلك الوقت، كانت الرومانسية هي المهيمنة على الفنّ والأدب في أوربّا طوال ثمانين عاما. وقد دعا موريه في بيانه إلى التحوّل من التصوير الطبيعيّ للعالم إلى التعبير عن الأفكار الذاتيّة، أي أن يركّز الفنّانون على تصوير رؤاهم الخاصّة باستلهام عالم الأساطير الغامضة. ومن هنا ولدت الرمزية في الفنّ والأدب.
وقد اعتنق العديد من الرسّامين الفكرة الجديدة وطوّروا من خلالها أسلوب رسم مبتكرا ومبسّطا. وكان في طليعة هؤلاء كلّ من بول غوغان وبيير بوفي دو شافان اللذين حوّلا مشاهد الحياة اليومية إلى ما يشبه الطقوس.
ثم لم يلبث أن تبعهم آخرون مثل اوديلون ريدون الذي ساعده خياله الجامح على منح حياة جديدة لهذه الفكرة من خلال مخلوقاته المهجّنة والظلاميّة.
لكن غوستاف مورو يُعتبر بنظر الكثيرين الأب الروحيّ للرمزية. وقد تطوّرت هذه الحركة في ما بعد إلى نسخات جديدة، ومن عباءتها خرج رسّامون أصبحوا مشهورين جدّا مثل غوستاف كليمت وإدفارد مونك وغيرهما.
ويمكن القول اليوم أن الرمزية كانت محطّة انفعالية ومظلمة في تاريخ الرسم. لكنها أسهمت إلى درجة كبيرة في ظهور فنّ الحداثة والفنّ الرؤيويّ اللذين نعرفهما اليوم.
في هذه اللوحة، يرسم بيير بوفي دو شافان منظرا يمثّل أصل الفنون في الأزمنة القديمة. وفيه تظهر امرأتان مع رجل في منظر ريفيّ بسيط يذكّر بأركاديا. وبالقرب منهم يجلس راعٍ على منحدر وهو يعزف الناي برفقة قطيعه وكلبه.
وفي خلفية المنظر يلوح جزء من بحيرة أو غدير تحت سماء غائمة. والملاحظ أن الرسّام استمدّ وضعيات المرأتين والرجل، وحتى ملامح وجوههم، من التماثيل الكلاسيكية القديمة التي كان معجبا بها كثيرا.
كانت هذه اللوحة جزءا من سلسلة من الجداريات الزخرفية التي نفّذها الفنّان لصالح متحف الفنون الجميلة في مدينة ليون. وقد أراد منها أن تكون تجسيدات رمزية لأصول الفنّ.
وفي نفس تلك السنة تلقّى تكليفا برسم تسع جداريات لمكتبة بوسطن الأمريكية. وكانت تلك هي المرّة الوحيدة التي يتلقّى فيها عرضا بالعمل خارج فرنسا. واعتُبرت تلك الخطوة مؤشّرا على الاهتمام الذي أصبح يحظى به فنّ دو شافان خارج وطنه.
ترجمة الرسّام الشاعرية للمواضيع التاريخية والأسطورية، بالإضافة إلى توليفاته المبسّطة وألوانه الطباشيرية والشاحبة كانت مصدر إلهام للعديد من الفنّانين في ذلك الوقت الذين كانوا يتطلّعون إلى بديل عن الانطباعية، بمن فيهم غوغان وسورا.
ومن الواضح أن اللوحة تفتقر للعنصر السرديّ، وهذا هو بالضبط ما كانت تدعو إليه الرمزية، أي رفض السرد والتركيز على التجسيد الذاتيّ للأفكار والمشاعر.
كان للحركة الرمزية معارضون. وهؤلاء كانوا يأخذون على الرمزيين خلوّ أعمالهم من السرد والسيكولوجي لمصلحة الشعر الحزين غالبا والأجواء التي لا تثير سوى الكآبة والمأساة والصمت.
وكان هؤلاء المعترضون يشيرون إلى انه بدلا من رسم الماضي والاحتفاء بالأفكار المثالية عن التأمّل والجمال، يجب على الرسّامين أن يصوّروا العالم المضطرب من حولهم والحياة اليومية بكلّ متاعبها وتناقضاتها.
ولد بيير بوفي دو شافان في ليون في سبتمبر عام 1824. وتلقّى تعليمه الأوّليّ في مدرسة ليون وتتلمذ على يد اوجين ديلاكروا وتوما كوتور، كما كان معجبا بثيودور شازيريو.
وأثناء حياته كان دو شافان مشهورا. وحتى بعد وفاته ظلّ معروفا في أوربّا وأمريكا لبعض الوقت. لكن اسمه توارى عن الأنظار بعد أفول نجم الرمزية بسبب طغيان الانطباعية.
لكنْ هذه الأيّام لم يعد اسمه يعكس أهمّيّة أو مكانة ما، لأنه لا يشبه فان غوخ او مونيه أو سيزان وغيرهم ممّن يُغرم بهم الجمهور وأعمالهم تُعرض في كلّ مكان وتُباع بأغلى الأسعار.
بعد الحرب العالمية الأولى نسي الناس اسم دو شافان تماما تقريبا، رغم ظهور بعض الكتب التي تمجّد فنّه هنا وهناك. والمفارقة أن أسماء بعض أتباعه مثل ماتيس وبونار وفويار كانت تنتشر بسرعة وتنال، وما تزال، ثناء النقّاد والجمهور.
توفّي بيير دو شافان في باريس في أكتوبر عام 1898 عن ثلاثة وسبعين عاما. ولوحاته موجودة اليوم في بعض الكنائس والمباني العامّة وفي عدد من أفضل المتاحف في فرنسا.