Wednesday, December 18, 2013

لوحات عالميـة – 338

رجـل بعمـامـة حمـراء
للفنان الهولندي يان فـان آيك، 1433

البورتريه الشخصيّ هو نوع من الرسم الذي يحاول فيه الفنّان أن ينقل من خلاله للآخرين صورة عن نفسه. أحيانا يحيط صورته الشخصية بالأسئلة الفلسفية عن الذات، وأحيانا يوظّفها للتباهي بمهارته وموهبته.
وقد كرّس الرسّامون الأوائل جانبا من نتاجهم لتصوير أنفسهم. رمبراندت، مثلا، خلع على كلّ صورة رسمها لنفسه مسحة شكسبيرية، فرسم نفسه على هيئة ملك شرقيّ قديم وعلى صورة الفيلسوف الإغريقي سقراط وكرجل بلاط وكشخص ثمانينيّ أشيب الشعر وبلا أسنان.
والبورتريهات الشخصية تتضمّن أيضا نوعا من الحرّية الوجودية، لأنها تشير إلى أن كلّ شخص يمكن أن يحتوي عالما من الهويّات المتباينة والمختلفة. فما بالك بالفنّان الذي كثيرا ما يتخيّل نفسه في حيوات أشخاص مشهورين أو أسطوريين. بل إن فنّانا مثل ديورر رسم نفسه ذات مرّة بملامح المسيح.
القرن السابع عشر، أي عصر رمبراندت وروبنز وبيرنيني وكارافاجيو، كان ولا شكّ العصر العظيم لفنّ البورتريه. ولم يحدث قبل ذلك أن شعر الرسّامون بحضورهم القويّ أو بأهمّيتهم. وأكثر الصور الشخصية خلودا في تاريخ الرسم تعود إلى تلك الفترة بالذات.
ورغم أن عصر النهضة بدأ في ايطاليا أصلا، إلا أن هذه الحركة امتدّت إلى جميع أرجاء أوربّا إلى أن وصلت إلى بلجيكا حيث كان الرسّام يان فان آيك يعيش ويعمل. في ذلك الوقت كان فان آيك أفضل فنّان هولندي بلا منازع. وما يزال يُلقّب حتى اليوم بوالد اللوحات الزيتية. مستوى الحرفية الذي وصل إليه هذا الرسّام في استخدام ألوان الزيت كان غير مسبوق وغير عاديّ. ويُعتبر هو وروبرت كامبين مؤسّسي ما عُرف بالفنّ الجديد في هولندا القرن الخامس عشر، الذي تميّز بالأسلوب الطبيعي للألوان الزيتية الصاخبة والتفاصيل الدقيقة والنسيج البارع ووهم فراغ الأبعاد الثلاثية.
في هذه اللوحة، يرسم فان آيك بورتريها لرجل لا اسم له ولا وظيفة، ولا توجد تفاصيل تشير إلى هويّته. لكنّ نظراته الحادّة والثابتة المتّجهة إلى الخارج تدلّ على انه شخص يعرف مكانه جيّدا في العالم. وبسبب النظرات المتشكّكة والشفتين المطبقتين بصرامة، ثمّة من يعتقد أن هذا هو الرسّام نفسه. كان من عادة الرسّامين وقتها أن يقدّموا أنفسهم للناس كأشخاص واثقين وذوي كبرياء وفخورين بكونهم فنّانين.
من ناحية أخرى، يمكن القول أن هذا ليس فقط بورتريها للرسّام، وإنما أيضا للعمامة الفخمة الحمراء اللون التي تستقرّ على رأسه بإحكام. هذا النوع من اللباس مناسب لشخص بمثل مكانة الرسّام الاجتماعية.
ما من شك في أن هذه اللوحة تثير إحساسا ما بالغموض. فالشخص الظاهر فيها يبدو كما لو انه خارج لتوّه من العتمة. وجهه ورأسه يحدّدهما الضوء الذي يسقط من الجهة اليسرى والذي استخدمه الرسّام بأسلوب دراماتيكي.
النظرات المخترقة والقويّة تجذب الاهتمام. واللون الأحمر الغامق للعمامة يشعل اللوحة حيوية وصخبا. تعبيرات الرجل متقشّفة ورأسه كبير قليلا بالنسبة للجذع، وهاتان سمتان من سمات فنّ آيك عموما. ولا يبدو أن الرجل من مكانه هذا ينظر إلى مرآة، إذ من المستحيل بالنسبة له من هذه الزاوية المائلة أن يكون واقفا أمام نافذة أو مرآة.
ترى هل اللوحة عن الهويّة؟ عن فكرة الوعي بالذات؟
من الواضح أن اللوحة تتضمّن تحليلا جادّا ومفصّلا لخطوط الجسد، لكنّها لا تحوي الكثير عن أفكار الشخص أو عن مزاجه. ويمكن القول إن الصورة لا تُظهر فان آيك وهو ينظر إلى نفسه بقدر ما تتحدّث عن طبيعة النظر. وهناك احتمال أن تكون اللوحة ترويجا للرسّام أو لإثبات البراعة التي يتعامل بها مع الألوان الزيتية التي كانت شيئا مستحدثا في ذلك الوقت.
بعض النقّاد يعتبرون أن هذا البورتريه يمثّل ذروة أسلوب فان آيك المغرق في الواقعية، لكن دون انفعال. لاحظ كيف أن كلّ ثنية في الملابس وكلّ شعاع ضوء وكلّ نسيج ناعم رُسم بمهارة كبيرة. الرسّام لم يُغفل أيضا التجاعيد حول عينيه والعروق التي يمكن رؤيتها بوضوح والظلال حول ذقنه، أي علامات تقدّمه في العمر.
كان فان آيك قد تخلّى آنذاك عن تقنية التيمبرا ، أي استعمال الألوان المصنوعة من البيض والتي تجفّ سريعا وتدوم طويلا، وبدأ تذويب ألوانه في زيت بذور الكتّان، ما جلب مزيدا من الإحكام والتحكّم في التفاصيل.
فان آيك كان معروفا في زمانه بأنه رسّام الملوك واللوردات والأمراء ورجال الكنيسة. وما تبقّى من لوحاته اليوم لا يتجاوز بضعا وعشرين لوحة. وطبعا هناك العديد من الأعمال الأخرى التي تُعزى إليه دون دليل واضح. في بلاط بورغوندي، حيث كان يعمل، راجت عنه شائعة تقول انه بارع في الفنون الظلامية، أي أعمال السحر والشعوذة. والعمامة الحمراء تخلع عليه ولا شكّ إهاب ساحر أو كاهن أو معلّم روحانيّ.
بورتريه "رجل بعمامة حمراء" يمكن رؤيته اليوم معلّقا في إحدى صالات الناشيونال غاليري بلندن إلى جوار لوحة فان آيك الأشهر بورتريه عائلة ارنولفيني. ولا يزال الإطار الأصلي للبورتريه موجودا ويحمل نقشا يقول "رسمني فان آيك في 21 أكتوبر من عام 1433م". وأسفل النقش كُتبت عبارة "أفعل ما بوسعي" التي يبدو أنها شعار شخصيّ للرسّام. ونفس هذا الشعار يظهر في بعض لوحاته الأخرى مثل البورتريه الذي رسمه لزوجته.
الجدير بالذكر أن الرسّام روبرت كامبين اقتفى خطى صديقه ومواطنه فان آيك في هذا البورتريه فرسم لنفسه بورتريها مشابها يظهر فيه وهو يرتدي عمامة حمراء.

موضوع ذو صلة: رسالة حبّ إلى لوحة

Friday, December 06, 2013

لوحات عالميـة – 337

فينـوس أمـام المـرآة
للفنان الإسباني دييـغـو فـيلاســكيــز، 1651

كانت فينوس، إلهة الحبّ في الأساطير القديمة، موضوعا نادرا في الرسم في اسبانيا القرن السابع عشر، لأنه لم يكن يحظى بموافقة الكنيسة الكاثوليكية. كانت الكنيسة راعيا أساسيّا للفنون في ذلك الوقت. وكان تصوير العري أمرا محفوفا بالمخاطر. محاكم التفتيش بدورها كان لها عيون مبثوثة في كلّ مكان. وأيّ شخص يُضبط متلبّسا برسم لوحة "فاسدة"، كان يُستدعى ويُغرّم ويُطرد من الكنيسة ويُنفى خارج مدينته أو بلدته لمدّة عام. وقد انتهى الأمر بالعديد من اللوحات العارية إلى إتلافها ومعاقبة رسّاميها من قبل تلك المحاكم.
الرجل الذي كلّف فيلاسكيز برسم هذه اللوحة كان نبيلا اسبانيّا يُُدعى الماركيز ديل كاربيو. وقيل انه أراد بطلبه هذا أن يتحدّى تعليمات الكنيسة. وربّما كانت حظوته لدى العرش الاسبانيّ هي التي مكّنته من طلب رسمها دون خوف من أن يتعرّض لأذى محاكم التفتيش. وهناك من يرجّح أن اللوحة وُضعت في مرحلة لاحقة في مكان خاصّ وبعيد عن الأعين في محاولة لتجنّب غضب تلك المحاكم رغم أن الفنّان رسم المرأة من الخلف، ربّما توخّياً للسلامة.
فيلاسكيز يصوّر هنا امرأة عارية مستلقية على فراش من الحرير الرمادي وظهرها للناظر، بينما يظهر وجهها في المرآة التي يمسك بها كيوبيد. الموديل في اللوحة يُعتقد أنها ممثّلة مسرحية كانت من بين خليلات الملك الاسباني فيليب الرابع.
من أهمّ السمات التي يمكن ملاحظتها في هذا العمل الاقتصاد الواضح في استخدام الألوان وغلبة اللون الأحمر الشفّاف. ثم هناك كيوبيد الذي يبدو على غير العادة بلا سهم. وهو لا يفعل شيئا، بل يكتفي بالإمساك بالمرآة وتأمّل جمال الإلهة. وقد استخدم الرسّام طبقات من الطلاء الأبيض الرصاصيّ لإضفاء لمعان على بشرة المرأة ثمّ أضاف إليها ظلالا ناعمة من الأصفر والبنّي والأحمر.
خلافا لمعاصريه من الرسّامين الايطاليين والهولنديين، لم يضمّن فيلاسكيز اللوحة منظرا طبيعيا أو خادمة، واكتفى فقط بالملاك المجنّح الصغير، وهو – أي الملاك - الدليل الوحيد على أن الفنّان كان يرسم شخصية أسطورية أو إلهة وليست امرأة حقيقية.
فينوس في اللوحة، بخصرها الصغير ومؤخّرتها الناتئة قليلا، لا تشبه العاريات الايطاليات الأكثر امتلاءً واستدارة اللاتي كنّ يُستلهمن من التماثيل الرومانية القديمة.
الصورة التي تظهر منعكسة في المرآة تتحدّى قوانين البصريات. يقال مثلا انه ليس بوسع المرأة أن ترى وجهها بهذه الوضعية، وإنّما بطنها وصدرها أو وجه الناظر أو الرسّام، وبالتالي قد يكون بذهنها أن تقيس مدى تأثير جمالها على من ينظر إليها. وقيل أيضا إن وجهها في المرآة يبدو أكبر ممّا ينبغي مرّتين.
ومن الملاحظ أيضا أن الصورة في المرآة لا تكشف عن الجانب الآخر من وجه فينوس، بل تسمح فقط برؤية انعكاس غامض ومشوّش لملامح وجهها. وبالتالي، قد يكون المعنى الكامن في اللوحة هو التأكيد على الجمال الذي تختزنه الذات، وليس عرض صورة عارية لفينوس أو لأيّة امرأة أخرى. كما قد نكون إزاء صورة مجازية عن الحبّ وعن الغموض الذي يجذبنا إليه.
في احد أيّام شهر مارس من عام 1914، تعرّضت هذه اللوحة للتلف على يد امرأة كندية تُدعى ميري ريتشاردسون. كانت المرأة في زيارة للناشيونال غاليري بلندن حيث توجد اللوحة. وعندما وصلت إلى مكانها، توقّفت أمامها لبضع دقائق وهي تتأمّلها. ثم قامت فجأة بتحطيم الزجاج الواقي الذي يحميها واخترقتها بساطور. وقد ترك الهجوم بعض التلفيات والقطوع في اللوحة. لكن أمكن إصلاحها بعد ذلك.
كانت ريتشاردسون عضوا في جماعة متشدّدة تنادي بمنح المرأة حقّ الاقتراع. وقد سبق لها أن قامت بتنفيذ عدد من الأعمال الإرهابية، بما فيها تحطيم منازل وإشعال حرائق وتفجير محطّة للسكك الحديدية.
تشويه فينوس كان جزءا من حملة تمّ تنظيمها في نفس ذلك العام واستهدفت عددا من أعمال الفنّ تحت ذريعة مساواة النساء بالرجال. وفي ما بعد، قالت المرأة إن دافعها من وراء الهجوم هو أنها كانت ترى أن المجتمع والغاليري كانا يُحكمان من قبل سلطة ذكورية وطاغية.
الغريب في الأمر أن ريتشاردسون كانت طالبة في كلّية الفنون. وبعد مرور أربعين عاما على تلك الحادثة، شرحت سبب إقدامها على محاولة إتلاف اللوحة بقولها إنها لم تحبّ الطريقة التي كان الزوّار من الرجال ينظرون بها إلى المرأة، إذ كانوا يتأمّلونها طوال اليوم بعيون زائغة وأفواه فاغرة.
كان فيلاسكيز معلّما كبيرا في تمثيل نسيج الأسطح وكانت له فرشاة وصفية شفّافة. ومن الواضح انه كان يفكّر كثيرا قبل الرسم. اللمسات التلقائية والمظهر المحكم في جميع لوحاته دليل على التأنّي والتفكير والممارسة الطويلة.
وفي الفترة التي رسم أثناءها هذه اللوحة، كان نتاجه قد قلّ بشكل ملحوظ. وربّما كان لذلك علاقة بالأوضاع المتوتّرة في البلاط، إذ كانت الملكة ايزابيلا قد توفّيت، وبعدها بعامين لحقها وريث العرش الشابّ بلتاسار كارلوس، ثم لم يلبث الفرنسيون أن ألحقوا هزيمة قاسية بالجيش الاسباني.
طبقا لإحصائيات بعض دور النشر، تُعتبر هذه أكثر لوحة فنّية تمّ توظيفها في الكتب والروايات. ومن بين الكتب المعروفة التي ظهرت اللوحة على أغلفتها ملوك وذوّاقة لجوناثان براون وتزوير فينوس لمايكل غروبر والأنثى العارية لليندا نيد بالإضافة إلى رواية في مديح النساء المسنّات للكاتب الهنغاري ستيفن فيزينسي وكتاب لفريدريك دي أرماس يتحدّث فيه عن العصر الذهبيّ للفنّ الاسباني.
يقال إن فيلاسكيز رسم أربع لوحات عارية على امتداد فترة اشتغاله بالرسم، وهذه هي اللوحة العارية الوحيدة الباقية من أعماله. والعديد من النقّاد يعتبرونها، مع فينوس اوربينو لـ تيشيان، أكثر صور فينوس جمالا في تاريخ الرسم الأوربّي.
الجدير بالذكر أن للوحة "فينوس أمام المرآة" أسماء عديدة أخرى عُرفت بها، منها "فينوس وكيوبيد" و"حمّام فينوس". وبعد أن نُقلت اللوحة إلى انجلترا عام 1813، أصبحت تُعرف بـ "فينوس روكبي" بالنظر إلى أنها كانت جزءا من مجموعة جون موريت في قاعة روكبي بلندن. وبعد مائة عام تقريبا، أي في 1906، اشتراها الناشيونال غاليري حيث ظلّت فيه إلى اليوم.

Sunday, December 01, 2013

لوحات عالميـة – 336

تمثـال هيـرمـافـرودايـت النـائمـة
القرن الثاني الميلادي

في الأساطير اليونانية، كان هيرمافرودايت ابنا لهيرميس وأفرودايت. وقد امتزج جسده بجسد سالميسيس حورية الماء فأنتجا مخلوقا خنثويّا "أي نصفه ذكر ونصفه الآخر أنثى" هو هيرمافرودايت.
أفرودايت كان لها قصص حبّ عديدة مع الآلهة. فقد تزوّجت من هيفيستوس إله النار والمعادن، ولكنها في ما بعد ضُبطت متلبّسة بالنوم مع آريس إله الحرب. وكانت قائمة عشّاقها تتضمّن كلا من ديونيسوس "أو باخوس" إله الخمر وهيرميس إله السفر والتجارة الذي أنجبت منه هيرمافرودايت.
في هذا التمثال الذي يعود تاريخه إلى القرن الثاني الميلادي، نرى هذا الكائن ذا المظهر الأنثوي، أي هيرمافرودايت، وهو مستند إلى أريكة ومستغرق في نوم عميق. وضع الاستلقاء هذا مقتبس إلى حدّ ما من الصور القديمة المرسومة لفينوس ولغيرها من الإناث العاريات. الأرداف المكشوفة والوركان المستديران تدعونا لنتجوّل حولها ونلمح جانبا من جمالها.
عندما تنظر إلى التمثال من الخلف، ستظنّ انك أمام شخصية امرأة. لكن هذا الشعور سرعان ما يتبدّد عندما تنظر إلى التمثال من الأمام وتلمح عضوه الذكري.
طبيعة هيرمافرودايت المتشكّلة من مزيج من ملامح الذكر والأنثى كانت موضوعا شعبيّا في الفنّ منذ حوالي عام مائة قبل الميلاد. وفي حين أن الجسد المكشوف يوفّر للمتلقي فرصة للتلصّص واستراق النظر، فإن طبيعته الجنسية المختلطة تثير أسئلة معمّقة حول ماهيّة الرغبة والإثارة وتشير إلى الازدواجية الجنسية والاتحاد المقدّس بين الرجل والمرأة.
عُثر على هذا التمثال عام 1608 عندما كان عمّال يحفرون لوضع أساسات كنيسة سانتا ماريا ديلا فيتوريا في روما. وهو نسخة رومانية من تمثال إغريقي من البرونز يعود تاريخه إلى القرن الثاني قبل الميلاد. وعندما علم الكاردينال سيبيوني بورغيزي ابن شقيق البابا بولس الخامس بهذا الاكتشاف، ذهب إلى موقع الحفر وأمر بجلب التمثال إلى بيته في فيللا بورغيزي حيث خصّص له هناك غرفة خاصّة على مقاسه.
وبعد سنوات، عهد بورغيزي إلى النحّات المشهور جيان لورنزو بيرنيني بمهمّة نحت فراش نوم من الرخام للتمثال. الفراش الوثير الذي نحته بيرنيني كي تنام عليه الخنثى العارية واقعيّ جدّا، لدرجة أن زوّار متحف اللوفر، حيث يوجد التمثال اليوم، يتفحّصون الفراش بأيديهم ظنّا منهم انه مصنوع من الحرير الطبيعي.
وفي عام 1807، اشترى هذا التمثال مع العديد من القطع الأخرى من مجموعة بورغيزي النبيل برينسيبي كاميلو بورغيزي الذي كان متزوّجا من بولين بونابرت. ثم نُقل التمثال إلى متحف اللوفر حيث ظلّ هناك حتى اليوم. وفي عام 1863، ألهم التمثال الشاعر والمسرحيّ الانجليزي تشارلز سوينبيرن كتابة قصيدة مشهورة بعنوان هيرمافرودايت.
في الأساطير اليونانية لم تُعط هيرمافرودايت الكثير من الأهمية حتى الحقبة الهلنستية. ويُرجّح أن فكرة هذه الكائنات ذات الخصائص الذكورية والأنثوية المختلطة جاءت إلى الإغريق من الشرق عن طريق قبرص.
المعروف أن اوفيد هو أوّل من أشار إلى هيرمافرودايت في كتابه "التحوّلات"، إذ يحكي قصّة الحورية سالميسيس مع الشابّ الجميل الذي وقعت في حبّه. ثم يذكر انه كان لهذه الحورية نافورة ذات تأثير سحريّ رهيب تقع بالقرب من ضريح هاليكارناسوس في عاصمة كاريا في آسيا الصغرى. ويقال إن كلّ من يشرب من ماء النافورة يصبح ضعيفا ويتحوّل مع مرور الأيام إلى خنثى. ويبدو أن اوفيد يجعل سبب الخنوثة كامنا في الماء أو الهواء، في حين يذهب المؤرّخ سترابو الذي أتى في ما بعد إلى أن سببها يُعزى إلى الغنى الفاحش أو طريقة العيش.
العالِم فيتروفيوس ، الذي جاء في مرحلة تالية، سعى لتصحيح هذا الخطأ. وهو يروي كيف أن المستوطنين الإغريق في كاريا أسّسوا تجارة بالقرب من النافورة التي كانت معروفة بنقاء مياهها. ثمّ وفدت إلى تلك المنطقة قبائل بدائية. وتدريجيا فقدَ أفراد تلك القبائل أساليبهم الفظّة والمتوحّشة. ومن هنا اكتسبت هذه المياه سمعتها الغريبة، ليس لأنها تتسبّب في الخنوثة أو فقدان العفّة، وإنّما لأنها خفّفت من الطبيعة المتوحّشة لأولئك البرابرة.
وفي عام 1995، اكتُشفت قصيدة رثائية باليونانية تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد. وهي تعرض وجهة نظر مختلفة عن الحورية والفتى العفيف اللذين ذكرهما اوفيد. فالحورية في القصيدة تصبح هي المربّية التي تعتني بالشاب وتروّض عقول الرجال الجامحين. كما أن نافورة سالميسيس لا تضعف الرجال وإنما تهذّب طباعهم كي يحترموا القيم العائلية للزواج.
التصاوير الفنّية لهيرمافرودايت تُعتبر أقدم من الأوصاف الأدبية. وبعض اللوحات والمنحوتات التي تعود للحقبة الهلنستية غالبا ما تصوّر وبطريقة هزلية مشاهد لآلهة الجبال والغابات وهي تتسلّل باتجاه ما تعتقد انه حورية نائمة، لتفاجأ في نهاية الأمر بعضوها الذكري المنتصب.
هناك اليوم تماثيل عديدة ومتناثرة حول العالم للخنثى العارية النائمة. ولكن نسخة متحف اللوفر تظلّ الأكثر شهرة. ويمتلك متحف بورغيزي في روما نسخة أخرى من هذا التمثال اقلّ شهرة عُثر عليها عام 1781. وهناك أيضا نسخة أخرى رومانية في متحف أوفيزي. وفي كلّ من متحف برادو في مدريد والمتروبوليتان في نيويورك نسخة من البرونز بالحجم الطبيعي للتمثال.

Wednesday, November 20, 2013

لوحات عالميـة – 335

رقـص في ملهـى المـولان دو غاليـت
للفنان الهولندي إيـزاك لازاروس إزرييـلـز، 1905

كانت باريس في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين العاصمة الثقافية للعالم الغربيّ. وبالإضافة إلى جمال طبيعتها وعظمة تاريخها، اشتهرت بأنها مدينة الفنّ بسبب احتضانها بعضا من أفضل وأشهر المتاحف والغاليريهات في العالم. ولهذا السبب اجتذبت باريس أجيالا من المثقّفين والأدباء والفنّانين من جميع أنحاء العالم. ومن أشهر هؤلاء كلّ من إرنست همنغواي وبابلو بيكاسو وفان غوخ وغيرهم ممّن قصدوا باريس ليزدهروا في أجواء الإبداع فيها ويتلقّوا منها الإلهام.
الرسّام الهولندي ايزاك إزرييلز كان، هو أيضا، احد الأشخاص الذين جاءوا إلى باريس وأقاموا فيها وعشقوا مطاعمها ومقاهيها وزحامها وصخبها. كان إزرييلز يشعر في باريس انه في بلده، لدرجة انه مكث فيها عشر سنوات كاملة وكان له محترفه الذي أقامه بالقرب من ضاحية مونمارتر المشهورة بحياة الليل وكثرة المطاعم والملاهي فيها.
كان إزرييلز يواظب على زيارة تلك الأماكن للتسلية أو الرسم. وكانت له عينان حسّاستان ترصدان التفاعل بين الأشخاص الذين كان يرسمهم بضربات فرشاته العريضة مضفيا عليهم أجواء من السعادة. ولأن المقاهي تقع في قلب الحياة الاجتماعية والثقافية لباريس، فقد كرّس الرسّام عددا من لوحاته لتصوير الناس الذين يؤمّونها والتفاعل في ما بينهم. وهذه اللوحة هي واحدة من سلسلة من اللوحات التي كُلّف الفنّان برسمها من قبل إحدى دور الموضة المشهورة آنذاك.
وفي اللوحة يظهر رجل وامرأة يجلسان قبالة بعضهما على طاولة في مقهى مشهور في المولان دو غاليت. إزرييلز يترك للناظر أن يخمّن فيم يتحدّث هذان الشخصان أو يفكّران. وفي الخلفية يظهر أشخاص يجلسون إلى طاولات أو يرقصون. لاحظ أن الفنّان استخدم اللون الأسود مخالفا الانطباعيين الفرنسيين الذي كانوا يتجنّبون استخدامه حتى في رسم الظلال.
كانت المقاهي توفّر وسطا مناسبا لاجتماع الفنّانين والأدباء. والكثيرون منهم استلهموا أفكارا ومواضيع لأعمالهم من بيئة وأجواء المقاهي. ومن أشهر من رسموها كلّ من إدغار ديغا وإدوار مانيه وفيليكس فالوتون وفان غوخ وجان بيرو وسواهم. وعندما تنظر إلى هذه اللوحات ستشعر بأجواء المقاهي وتخمّن نوعية الأحاديث والهمسات بين الأشخاص وتكاد تسمع أصوات الكؤوس والأواني على الموائد وحركات وإيماءات الناس الذين يجلسون ويتحرّكون في مختلف الاتجاهات رغم أنهم يبدون أحيانا بلا وجوه.
المعروف أن هذا المقهى بالذات، أي المولان دو غاليت، كان مكانا مفضّلا لكبار الرسّامين آنذاك مثل هنري تولوز لوتريك ورينوار وبيكاسو الذين كانوا يتردّدون عليه بانتظام.
كان إزرييلز في ذلك الوقت يحاكي زملاءه من الرسّامين في لندن وباريس الذين كانوا يتردّدون على صالات الرقص والمقاهي والمسارح ويجدون في مظاهر الحياة الحضرية المختلفة مواضيع تثير اهتمامهم وتحرّضهم على رسمها.
وأثناء إقامته في باريس، تعرّف الرسّام على إميل زولا ومالارميه وعلى الرسّامة بيرتا موريسو والرسّام اوديلون ريدون. ورغم انه بات مألوفا وصف أسلوبه بالانطباعي، إلا أن عمله كان شبيها بعمل سيزان من حيث تركيزه على بقع الألوان السميكة واستخدام الفراغات.
ولد ايزاك إزرييلز في لاهاي بهولندي في فبراير من عام 1865. وتعلّم الرسم على يد والده جوزيف إزرييلز الذي كان رسّاما مشهورا في زمانه. وكان الأب معروفا بأسلوبه الانطباعي. كما كان بيتهم مزارا للكتّاب والفنّانين والموسيقيين وجامعي الفنّ في لاهاي. وكان من بين ضيوفهم كلّ من ادوار مانيه وماكس ليبرمان وغيرهما.
وقد بدأ ايزاك تعليمه في الخارج عام 1878 بزيارة عائلية إلى باريس ستصبح في ما بعد حدثا سنويا. ثم انتظم في أكاديمية لاهاي للفنون، حيث عمّق مهاراته وقابل جورج برتينر الذي أصبح صديق عمره وزميله.
وقد اتبع الرسّام نموذج فان غوخ وسافر إلى بلجيكا وتجوّل في المناجم ودرس حياة العمّال فيها. ثم اظهر التزاما بتصوير مظاهر الحياة الحديثة. ولم يلبث أن تحوّل إلى شوارع امستردام ومقاهيها ونوادي الليل فيها مستلهما من أجوائها مواضيع للوحاته.
زار ايزاك إزرييلز برفقة والده كلا من اسبانيا وشمال أفريقيا عام 1893. وقد وفّرت لهما تلك الزيارة مصدر إلهام مهم. وعند عودته إلى امستردام رسم مجموعة من مناظر الطبيعة المفتوحة مع تركيز خاص على تأثير الضوء واللون.
الأعوام العشرة التي قضاها إزرييلز في باريس من عام 1903 إلى 1913 انتهت فجأة عندما دخلت أوربّا في حرب عالمية كارثية. وقد أمضى الرسّام العامّين الأوّلين من الحرب في لندن ثم انتقل إلى بيرن في سويسرا. وعندما انتهت الحرب عاد إلى لاهاي حيث استقرّ فيها نهائيا إلى حين وفاته في أكتوبر 1934م.

Thursday, November 14, 2013

لوحات عالميـة – 334

بـورتـريـه جنـدي ألمـانـي
للفنان الأمريكي مـارسـدن هـارتـلـي، 1914

يقال أن مارسدن هارتلي كان أوّل فنّان أمريكي يرسم لوحة تجريدية. ولم يحدث هذا في أمريكا بل في ألمانيا حيث كان يدرس الرسم. كان عمره آنذاك سبعة وثلاثين عاما.
وقد درس هارتلي الرسم في فرنسا أوّلا، حيث اطلع على أعمال سيزان وعلى الرسم التكعيبي. ثم ذهب إلى ميونيخ فـ درسدن وبرلين حيث تأثّر بكاندنسكي وماكس بيكمان وعرف عن كثب كلا من اوغست ماكا وفرانز مارك.
هذا البورتريه التجريديّ رسمه هارتلي عندما كان يقيم في ألمانيا عام 1913. وهو عبارة عن مرثيّة منه لصديقه المقرّب الليفتانت كولونيل الألماني كارل فون فريبورغ الذي قُتل في بدايات الحرب العالمية الأولى.
وبدلا من رسم صورة واقعية لصديقه، استخدم هارتلي الرموز المتصلة بهويّة فريبورغ وحياته الشخصية، ثم مزجها في قطع مثل أجزاء اللغز.
واللوحة تتضمّن مزجا بين التكعيبية والتعبيرية الألمانية من خلال ضربات الفرشاة الخشنة والاستخدام الدراماتيكي للألوان الساطعة.
وكان هارتلي قد أقام علاقة وثيقة مع الجنديّ القتيل. لكن موته في الحرب أصاب الرسّام بصدمة كبيرة. وفي ما بعد، عمد إلى إضفاء طابع مثاليّ على علاقتهما. ويبدو أن هارتلي لم يُشف أبدا من آثار موت صديقه. وهناك إشارات كثيرة إلى الجنديّ في العديد من أعمال الرسّام الأخرى.
هذه اللوحة تتألّف من عناصر من لباس الجندي القتيل كالميداليات والشارات العسكرية والصليب المعدني، الإضافة إلى أرقام ورموز وأعلام.
في أسفل اللوحة إلى اليسار، تظهر الأحرف الأولى من اسم فريبورغ، بالإضافة إلى رقم 24 أي عمره عندما قتل في المعركة، وفي الوسط يظهر رقم 4 أي رقم الفوج الذي كان يتبعه.
وفي أعلى اللوحة، تظهر أنماط من مربّعات بيضاء وسوداء تشبه لوح شطرنج، وهي اللعبة التي كان يفضّلها فريبورغ.
في اللوحة أيضا يعبّر هارتلي عن الفخامة العسكرية بإظهار النسيج المقصّب على كتف السترة العسكرية الخاصّة.
في ميونيخ، جمع الرسّام الفنّ الشعبي البافاري. وفي ذلك الوقت كان عمله مزيجا من التجريد والتعبيرية الألمانية المطعّمة بنسخته الشخصيّة والخاصّة من التصوّف.
والكثير من لوحاته التي رسمها في ألمانيا استلهمها من المواكب والمهرجانات العسكرية الألمانية الني كان يراها. لكن نظرته لهذا الموضوع تغيّرت بعد نشوب الحرب العالمية الأولى، أي عندما لم تعد الحرب مسألة رومانسية وإنّما حقيقة مؤلمة.
أهمّ لوحات هارتلي رسمها في السنتين الأوليين من الحرب عندما كان يعيش في برلين. كانت المدينة تمتلئ بالعديد من الرسّامين الطليعيين من جميع أنحاء العالم. وخلال تلك الفترة، أنتج سلسلة رسوماته التجريدية التي تعكس، ليس فقط اشمئزازه من فظاعات الحرب، وإنما أيضا افتتانه بالقوّة وبالاستعراضات العسكرية التي رافقت الدمار الذي أحدثته الحرب.
ولد مارسدن هارتلي في يناير من عام 1877م في لويستونفيل بولاية مين الأمريكية التي كان والده الانجليزي قد استقرّ فيها. كان ترتيبه الأخير في عائلة من تسعة أطفال. وقد تلقّى دروسا في الرسم في معهد كليفلاند للفنّ بعد انتقال عائلته للعيش في اوهايو. ثم انتقل بعد ذلك إلى نيويورك حيث درس في مدرسة نيويورك للفنّ على يد الرسّام الكبير وليام ميريت تشيس.
وفي نيويورك، انجذب هارتلي إلى الفريد ستيغليتز ومجموعته من الفنّانين الطليعيين الذين كانوا يعرضون أعمالهم في غاليري ستيغليتز.
وقد قام الرسّام بعدّة رحلات إلى أوربّا. ثم قضى وقتا في المكسيك وفي برمودا، قبل أن يعود مجدّدا إلى مسقط رأسه في ولاية مين.
كان هارتلي يكتب الشعر والمقالة والقصّة القصيرة. كما كان معجبا كثيرا بالرسّام البيرت رايدر وربطته به علاقة صداقة وثيقة. وقد ألهمته تلك الصداقة، بالإضافة إلى اطلاعه على قصائد الشاعر الصوفيّ والت ويتمان وكتابات فلاسفة التسامي الأمريكيين مثل ثورو وإيمرسون، بأن ينظر إلى الفنّ باعتباره بحثا روحيّا.
لوحاته الأخيرة بسيطة ومباشرة. وهي تصوّر عمالا يعملون بجدّ، وطبيعة جبلية من ولايته. وقد استمرّ يرسم في مين مناظر ريفية إلى حين وفاته في سبتمبر من عام 1943م.

Wednesday, November 06, 2013

لوحات عالميـة – 333

مقصـورة فـي المسـرح الايطـالـي
للفنانة الفرنسية إيفـا غـونـزاليـس، 1874

شكّل الثلث الأخير من القرن التاسع عشر بداية خروج فرنسا من فترة الاضطرابات السياسية التي استمرّت عشرين عاما. وترافق ذلك مع بدء شيوع فكرة المجتمع الراقي. الوهج والإثارة اللذان اتسمت بهما الحياة الباريسية في نهايات ذلك القرن تعكسها لوحات رينوار ومعاصريه من الفنّانين الانطباعيين الذين كانوا حريصين على تصوير مظاهر الحياة الجديدة وإقبال الباريسيين على ارتياد حفلات المسرح والأوبرا والباليه.
وفي ذلك الوقت، تضاعف عدد سكّان المدينة وزاد عدد المسارح والمقاهي وصالات الموسيقى. وأصبحت مقصورات المسرح في باريس أماكن مفضّلة تقصدها طبقات المجتمع العليا لإزجاء الوقت وتبادل الأحاديث. وكانت تلك المقصورات توفّر للمتردّدين على المسرح الفرصة لكي يراهم الآخرون وهم في أفضل حالاتهم.
الرسّامون الانطباعيون، مثل ميري كاسات وإدغار ديغا، كانوا منجذبين إلى فكرة المسرح. غير أن اللوحة الأكثر احتفاءً بالنسبة لهذا النوع من الرسم هي لوحة جان بيير رينوار بعنوان مقصورة المسرح. كان رينوار، على وجه الخصوص، حريصا على الإمساك بروح التغيير والحداثة التي كانت تشهدها باريس. ولوحته تلك أصبحت رمزا للوجه المتغيّر للمدينة.
وقد ألهمت اللوحة فنّانين آخرين برسم لوحات مشابهة عن المسرح. ومن بين هؤلاء ايفا غونزاليس التي ترسم في لوحتها هنا شخصين، رجلا وامرأة، بالقياس الطبيعي وهما يقفان في مقصورة بالمسرح بينما تظهر وراءهما خلفية داكنة.
المرأة الشابّة تشي وقفتها بالوقار والتواضع. يدها اليمنى مسنودة إلى حافّة المقصورة، بينما اليد الأخرى التي ترتدي قفّازا تمسك بمنظار من العاج. صدر المرأة مرسوم بطريقة بارعة باستخدام طبقة من الطلاء الكثيف الذي يظهر طراوة وكمال الجسد في وهج الشباب. الفستان الأزرق الناعم مرسوم، هو الآخر، بمهارة. الرجل الذي يقف إلى يسارها يبدو بملابس أنيقة وملامح وسيمة تشبه ملامح الفرسان. كما انه يبدو واثقا وغير مهتم بالنظر إلى الآخرين وإنما أن يكون هو محطّ أنظارهم. وعلى حافّة المقصورة إلى اليسار، هناك باقة ورد تذكّر بشكل الباقة التي تظهر في لوحة أوليمبيا لمانيه.
كان الذهاب إلى المسارح يوفّر فرصة للنميمة وتطوير وترويج الشخصية. فالمسرح هو المكان الذي يمكن أن يراك فيه الآخرون ويتفاعلوا معك. وهو أيضا مكان مناسب لانهماك الجنسين في الغزل ولعرض آخر الأزياء. وفي ذلك العصر، كان الناس مهجوسين بمن نسمّيهم اليوم بالمشاهير أو الشخصيات البارزة من ممثّلين وفنّانين وغيرهم.
باريس كانت آنذاك مليئة بالأزياء وبقصص الحبّ ولعبة السلطة. وكان الأغنياء يستأجرون المقصورات لفترات طويلة وبعضهم كان يورّثها لأبنائه وحتى لأحفاده. حتى بنات الهوى كنّ يستأجرنها لإبرام الصفقات مع الزبائن المحتملين. وكانت هذه الأماكن مادّة لرسّامي الكاريكاتير بسبب "إيتيكيتها" المعقّد ولأنها تتيح إمكانية التلوّن والخداع. ومجلات الموضة كانت تختار المسارح كخلفية لصور سيّدات المجتمع اللاتي كن يعرضن آخر وأحدث الأزياء.
ولدت الرسّامة إيفا غونزاليس في باريس عام 1849م. ووالدها كان روائيا وكاتبا مسرحيّا من أصل اسباني، ولكنه اكتسب في ما بعد الجنسية الفرنسية. وقد نشأت منذ طفولتها في عالم الأدب والموسيقى، إذ كان بيت والدها ملتقى لكبار الكتّاب والنقّاد والفنّانين.
بدأت غونزاليس الرسم في عمر السادسة عشرة. وقبل بلوغها العشرين أصبحت تلميذة عند إدوار مانيه واستخدمها كموديل له ولغيره من الرسّامين الانطباعيين. وتأثير مانيه عليها وإعجابها به يبدو واضحا من خلال اختيارها للتباينات الحادّة والفرشاة الشاحبة والنسيج ذي الألوان الخفيفة والخلفية الداكنة.
وفي محترفه، تعرّفت غونزاليس على الرسّامة بيرتا موريسو. كانت موريسو تعمل مع مانيه وكان يصوّرها في لوحاته. ويبدو انه كانت هناك منافسة صامتة بين الرسّامتين. وبالإمكان اكتشاف غيرة موريسو من إيفا من خلال رسائل الأولى لشقيقتها. وقد غضبت من الكيفية التي رسم بها مانيه كلا منهما. فقد رسمهما شابّتين وبنفس الملابس وتقريبا نفس الجمال. وما أزعج موريسو هو انه رسمها وهي مستندة إلى أريكة في وضعية ساكنة تقريبا، بينما رسم إيفا كفنّانة تعمل بنشاط ودأب. موريسو لم تكن تعتبر نفسها تلميذة لمانيه، بل كانت ترى في نفسها ندّا له. كانت ذات شخصية قويّة وأكثر ثقة بنفسها من إيفا غونزاليس. وهناك أيضا عامل العمر، إذ كانت غونزاليس اصغر سنّا من موريسو بثمان سنوات على الأقلّ.
الشخصان الظاهران في هذه اللوحة هما زوج إيفا هنري غويرود وشقيقتها جان، واللذان سيصبحان زوجين بعد وفاة إيفا. كانت إيفا غونزاليس قد تزوّجت من هنري، الذي كان رسّاما هو الآخر، عام 1869. وفي عام 1883، أي بعد شهر من عيد ميلادها الرابع والثلاثين، ولدت إيفا بطفل. لكنها توفّيت بسبب تعقيدات ما بعد الولادة أو ما يُعتقد انه حمّى النفاس. وجاءت وفاتها بعد وفاة معلّمها إدوار مانيه بستّة أيّام. وبعد عامين من رحيلها، أقيم لها معرض تذكّري في الصالون عُرضت فيه أكثر من ثمانين لوحة من أعمالها.