Thursday, October 05, 2017

لوحات عالميـة – 419

امـرأة تقـرأ رسالـة
للفنان الهولندي جيـرارد تير بـورش، 1660

كان جيرارد تير بورش احد أشهر الرسّامين الهولنديين في القرن السابع عشر. وقد عُرف خاصّةً ببراعته في رسم البورتريهات التي يحتشد فيها مجموعة من الأشخاص. وهو من هذه الناحية يختلف عن يوهان فيرمير وبيتر دي هوك اللذين كانا يكتفيان برسم شخص أو شخصين في اللوحة والباقي عبارة عن فراغات.
ويعود إلى هذا الرسّام الفضل في ابتكار مناظر الديكور العالي المكانة الذي أصبحت له شعبية كبيرة في الربع الثالث من القرن السابع عشر. وكانت أعماله الديكورية تتّسم بمستوى عالٍ من الحسّية والنقاء.
ولوحاته في معظمها عبارة عن مناظر حميمة لرجال ونساء مستغرقين في أداء أعمالهم. وقد تميّز تير بورش بإحساسه العظيم باللون وبتعامله الرائع مع الضوء والظلّ والنسيج.
في هذه اللوحة، يرسم الفنّان غرفة تظهر فيها امرأة واقفة وترتدي فستانا ازرق وأصفر وهي تقرأ رسالة في حضور امرأة أخرى وصبيّ. الموديلات في اللوحة هم أفراد عائلة الرسّام. المرأة التي تقرأ الرسالة هي أخته غير الشقيقة والصبيّ هو شقيقه الأصغر.
اللوحة تُعتبر إحدى تحف الرسّام، وهي الأولى في سلسلة من الصور التي تتناول نفس الموضوع. وقد كانت نموذجا اتّبعه فيرمير وغيره من الرسّامين الهولنديين بعد ذلك عندما رسموا رجالا ونساء إمّا يقرؤون أو يكتبون. وكان رسْم مثل هذا الموضوع مؤشّرا على الإثارة والرومانسية في الرسم الهولنديّ.
من الأشياء التي تميّز هذه اللوحة روعة أضوائها وظلالها وكذلك الاستخدام الجميل للألوان فيها، بالإضافة إلى بساطة المنظر نفسه والذي يدفع الناظر لأن يتأمّل الجمال وتفاصيل الأشياء.
رسم تير بورش عددا كبيرا من الصور التي يظهر فيها أشخاص إمّا يقرؤون أو يكتبون رسائل. وكان هذا النوع من الصور شعبيّا كثيرا في عصره. وكتابة الرسائل كانت من الأنشطة المنتشرة في أوساط العائلات الموسرة. ورواج هذه الصور بأجوائها المسترخية وأزياء شخوصها الثمينة لم يكن مستغربا في تلك الفترة التي شهد فيها الاقتصاد الهولنديّ ازدهارا كبيرا.
وقد عُرف الفنّان بموهبته في تصوير النسيج المتعدّد الأشكال وبالإمساك بتفاصيل الثياب بطريقة يصعب تقليدها. وكان بارعا في المواضيع التي تربط بالتباهي والخيلاء. وهذه السمة لها خلفية جمالية لأنها كانت تسمح له بأن يرسم ديكورات أنيقة وملابس زاهية. واستخدامه للأزرق الفيروزيّ على قميص المرأة يشي بلمسة معلّم.
هناك الكثير من الفنّانين ممّن رسموا الساتان والحرير، لكن لا احد كان ينافس تير بورش من هذه الناحية. وربّما كان السبب كثرة أسفاره التي أتاحت له رؤية العديد من العائلات الغنيّة واطّلع عن قرب على نمط حياتها. وغالبا ما كان يرسم الأشخاص أمام خلفية مظلمة وفارغة كي لا يصرف انتباه الناظر عن ملاحظة الشخصية.
ولد جيرارد تير بورش في ديسمبر من عام 1617 في بلدة ديفنتر الهولندية وتلقّى تعليما جيّدا في الرسم على يد والده الذي كان هو أيضا رسّاما. كما تتلمذ في ما بعد على يد بيتر دي مولين في هارلم.
وفي عام 1635، ذهب إلى انجلترا وألمانيا وفرنسا. ثم زار اسبانيا حيث عمل رسّاما في بلاط الملك فيليب الرابع. لكنه قطع إقامته في مدريد وعاد إلى هولندا عام 1650 ليستقرّ في هارلم ثم في ديفنتر التي شغل فيها وظيفة عضو في المجلس البلديّ وحتى وفاته عام 1681.
وكان قد قضى قبل ذلك ثلاث سنوات في وستفاليا، حيث شهد عقد مؤتمر السلام فيها ورسم وفدي كلّ من اسبانيا وهولندا أثناء توقيعهما على المعاهدة عام 1648.

Sunday, October 01, 2017

لوحات عالميـة – 418

عاشـقـان
للفنان الإيراني رضـا عبّـاسي، 1630

تأثّر الفنّ الفارسيّ في بداياته بالثقافة الصينية والهندية، لكنه طوّر سماته الخاصّة في ما بعد. وكان الفنّ وقتها يتضمّن أعمال السيراميك والهندسة المعمارية والنسيج وأعمال المعدن وكتابة الخطّ والرسم.
من ناحية أخرى، كان رسم المنمنمات مجالا صغيرا نسبيّا، لكنه كان يشكّل جزءا مهمّا من أشكال الرسم، وكان حكّام فارس يولونه أهميّة فائقة.
ومن أبرز من برعوا في رسم المنمنمات الفنّان رضا عبّاسي الذي يعدّه الكثيرون احد أعظم الرسّامين الإيرانيين في القرن السابع عشر. كان المعلّم الأوّل في مدرسة أصفهان التي تُعتبر أشهر مدرسة فارسية في رسم المنمنمات.
كان عبّاسي متأثّرا بمدرسة قزوين في الرسم، مفضّلا رسم مواضيع الطبيعة على التصوير الإيضاحي الذي كان قد هيمن على فنّ المنمنمات لأكثر من مائتي عام قبل ذلك.
وقد أحدث هذا الرسّام تغييرا جذريّا في الرسم الفارسيّ بتوظيفه المبكّر لخطّ الكتابة والألوان غير المألوفة. وكان الرسّامون في زمانه يقلّدون أسلوبه، لكنهم لم يقتربوا من مستواه، مع أن العديد منهم أنتجوا أعمالا مميّزة حتى بداية القرن الثامن عشر. ومن بين تلاميذه الذين اشتهروا في ما بعد ابنه محمد شافعي ومعين موسافار.
رسم عبّاسي هذه اللوحة/المنمنمة قرب نهاية عمله الناجح والطويل كرسّام في البلاط الصفويّ، وفيها نرى رجلا وامرأة يحتضنان بعضهما. وجها الشخصين متشابهان مع عيون ورموش طويلة وشفاه رقيقة. الرجل يجلس على ركبته بينما تجلس المرأة في حضنه في وضع غريب. ذراعاه تطوّقانها ويده اليسرى داخل إزارها المفتوح. وهي تضع يدها اليسرى حول كتفه واليمنى فوق رأسه بينما تمسك بوردة.
الرجل يرتدي ثوبا اخضر مع حزام ازرق مذهّب ويضع فوق رأسه وشاحا ازرق. والمرأة ترتدي ثوبا بنّيّاً وتلفّ كتفيها بوشاح ذهبيّ. وقطعة المجوهرات الوحيدة التي ترتديها هي سلسلة صغيرة على كاحل قدمها.
الخلفية ذهبية داكنة مع أوراق ذهبية. وعلى الأرضية هناك صحن فواكه وإناء فيه شراب، وعلى الطرف الأيسر كتابة بالخط العربي. وأحد خصائص أسلوب الرسّام هو إيلاؤه اهتماما كبيرا بالتفاصيل مثل الإبريق والصحن والفاكهة.
من الأشياء اللافتة في الصورة جمال ودقّة الأيدي والوجوه والملابس والانحناءات والشعر المنسدل على جانب الوجه.
وقد استخدم في اللوحة الحبر وماء الذهب. وقد يكون الذهب أضيف في مرحلة تالية بناءً على طلب المشتري. وإضافة الوردة في يد المرأة يشكّل لمسة جميلة ربّما أراد منها الرسّام تجنّب بقاء ذلك الجزء من الصورة فارغا.
كما وظّف التمبرا، وهو نوع من الطلاء استخدمه المصريون القدماء لكنه فقد جاذبيته اعتبارا من عصر النهضة مع أنه ما يزال يُستخدم إلى اليوم، وإن على نطاق ضيّق.
ومن خصائص التمبرا انه يجفّ بسرعة ولا يمكن وضعه إلا بضربات فرشاة صغيرة جدّا. وهذا يعني أن الرسّام أنجز اللوحة ببطء شديد وأنها أخذت منه وقتا طويلا، وهذا أيضا يفسّر كثرة التفاصيل فيها.
ظهور شخصين بجسدين متداخلين في لوحة ربّما كان يعكس موقفا جديدا ومتسامحا مع الصور الحسّية. إذ جرت العادة في العهد الصفويّ أن تُرسم النساء منفصلات عن الرجال. لكن عبّاسي وآخرين نظروا إلى الموضوع نظرة مختلفة، فرسموا النساء مع الرجال لتوضيح أفكار الشعراء الذين كانوا يكتبون قصائدهم غالبا عن الحبّ وأهمّية المرأة. وهناك احتمال بأن الفنّان رسم المرأة والرجل بهذه الكيفية كي يعبّر عن عدم ارتياحه للقيود في البلاط.
أيضا في هذه اللوحة شيء من تأثير الرسم الصينيّ والتركيّ، حيث الوجوه الشاحبة والأعين الطويلة. أما حضور الأزهار والذهب في الخلفية فربّما قُصد منهما أن يكونا رمزا للجنّة، وهي فكرة كانت رائجة عند شعراء ذلك الزمان.
ولد رضا عبّاسي في كاشان بإيران عام 1565. وكان والده علي أصغر رسّام منمنمات معروفاً. وقد تلقّى تعليما أوليّا على يد والده ثم انتظم في مدرسة إسماعيل الأوّل. ولم يلبث أن أصبح خطّاطا ورسّاما بارعا. لكنه عُرف أكثر برسم المنمنمات. ثم انتقل من رسم الكتب والمخطوطات إلى تصوير الحياة اليومية في صور مستقلّة. وفي مرحلة تالية عيّنه الشاه عباس الصفويّ رسّاما للبلاط. وفي تلك الفترة بالذات بلغ رسم المنمنمات أوج ازدهاره في بلاد فارس.
كان عبّاسي غالبا ما يوقّع أعماله، مع إضافة التواريخ وتفاصيل أخرى. ويقال انه كان من بين الرسّامين الذين شاركوا في رسم ملحمة الشاهنامة التي توجد مخطوطتها الأصلية اليوم في مكتبة دبلن بآيرلندا. وبعد وفاته في عام 1635، فقدت مدرسة أصفهان أهميّتها ثم بدأ فنّ رسم المنمنمات في إيران في الأفول.
يُذكر أن أعمال رضا عبّاسي موجودة اليوم في العديد من المتاحف حول العالم، مثل المتحف المسمّى باسمه في طهران ومكتبة قصر طوب كابي في اسطنبول ومتحف سميثسونيان والمتحف البريطانيّ ومتحف اللوفر ومتحف المتروبوليتان وغيرها.

Wednesday, September 27, 2017

لوحات عالميـة – 417

امـرأة بلبـاس فضفـاض
للفنان الفرنسي اندريـه ديـريـن، 1906

في عام 1900 ظهرت الوحوشية، وهي مدرسة فنّيّة لم تعمّر طويلا. وقد حمل لواءها مجموعة من الفنّانين الحداثيين الذين كانت أعمالهم تركّز على نوعية الرسم والألوان القويّة أكثر من القيم الواقعية والتجسيدية التي احتفظت بها الانطباعية.
وقد استمرّت الوحوشية إلى ما بعد عام 1910، واعتُبرت أحيانا نوعا من التعبيرية. وكان زعيماها هما هنري ماتيس وأندريه ديرين. لكن هذا الأسلوب الجديد قوبل بانتقادات واسعة بسبب الألوان الدراماتيكية التي كان يوظّفها والتي دفعت النقّاد للسخرية من لوحاتهم وأسماها احدهم الوحوش البرّيّة، ومن هنا اشتُقّ اسمها.
غير أن هناك أسماء أخرى ارتبطت بهذا الاتجاه، مثل موريس مارينو وموريس فلامنيك وراؤول دوفي وفان دونغن، بالإضافة إلى جورج براك زميل بيكاسو في تأسيس التكعيبية.
كانت لوحات الوحوشيين تتّسم غالبا بتوظيف الفرشاة الجامحة والألوان الغامقة، مع درجة عالية من التبسيط والتجريد. ويمكن اعتبار هذه المدرسة تطوّرا متطرّفا من "ما بعد انطباعية" فان غوخ، مع مزيج من نقطية جورج سورا وغيره من الانطباعيين الجدد. ومن بين من تأثّر بهم الوحوشيون كلّ من بول غوغان وبول سيزان.
هذه اللوحة تعتبر عملا أساسيّا من المرحلة الوحوشية، وفيها يقدّم اندريه ديرين نموذجا لقوّة التعبير الذي يمكن تحقيقه من خلال توظيف الشّكل واللون. وهي تصوّر امرأة ذات شعر أشقر وهي تجلس وتنظر إلى المتلقّي. ورغم الأسلوب التعبيريّ للوحة، إلا أنها مشيّدة من عدد من المثلثّات والتباينات التي توفّرها الألوان الحمراء والخضراء والبرتقالية والزرقاء.
وقد وظّف الرسّام في قميص المرأة الألوان المتعدّدة والفرشاة اللامعة وبالغ في تجسيد الوجه والعينين. كما استخدم جزئيّا الخطوط الخارجية لتحديد الأطراف.
ولد اندريه ديرين في يونيو من عام 1880 في شاتو في باريس. ودرس الرسم على يد اوجين كاريير. ثم قابل ماتيس الذي اقنع والده بأن يسجّله في أكاديمية جوليان. وقد عمل ديرين مع ماتيس في صيف عام 1905 في قرية كوليوري المتوسطية حيث ابتكرا معا الاتجاه الجديد.
ثم ذهب الرسّام إلى لندن ورسم بعض معالمها. وعندما عاد إلى فرنسا بدأ يتحوّل من الألوان اللامعة للوحوشية إلى ألوان باردة وظهرت عليه تأثيرات التكعيبية وشيء من أسلوب سيزان.
وأثناء الاحتلال النازيّ لفرنسا في الحرب العالمية الثانية، عاش الرسّام في باريس. وقد جامله الألمان باعتباره فنّانا ومثقّفا. ثم ذهب إلى ألمانيا عام 1941 مع رسّامين آخرين لحضور معرض في برلين. وقد استغلّت الدعاية النازية زيارته إلى هناك لمصلحتها. وبعد التحرير اعتُبر ديرين متعاملا مع العدوّ ثم عومل بالنبذ من قبل الكثيرين.
وفي أواخر حياته أصيب بمعرض معدٍ في العين لم يُشفَ منه. وتوفّي في باريس في سبتمبر عام 1954 متأثّرا بجروح أصيب بها إثر حادث سيّارة.

Saturday, September 23, 2017

لوحات عالميـة – 416

سـوق ليـلـيّ تضيـئه الشمـوع
للفنان الهولندي بيتـروس فـان شيـندل، 1863

كان بيتروس فان شيندل رسّاما متخصّصا في رسم الأسواق التي تضيئها الشموع ليلا. ويبدو أن هذا كان موضوعه المفضّل الذي لم يكن ينافسه فيه احد تقريبا.
وفي لوحاته كان ينقل، مع شيء من الدراما، أنواعا شتّى من أنشطة الناس في الليل، محاولا إبراز الفروق الدقيقة بين مستويات وتأثيرات متعدّدة من الأضواء والظلال والانعكاسات. ولكلّ لوحة من لوحاته أناقتها الخاصّة التي تجعلها مفعمة بالحركة والحيوية.
وفي ما بعد، رسم الفنّان لوحات أخرى مع مصادر ضوء إضافية غير الشموع وضوء القمر، مثل مصابيح الزيت والألعاب الناريّة والنار المفتوحة.
وخلال فترة قصيرة، أصبح فان شيندل سيّد هذا النوع من الرسم في العصر الرومانسيّ، أي في القرن التاسع عشر.
وبعض لوحاته تصلح لأن تكون سجلا عن طبيعة مدينة أمستردام وتضاريسها ومبانيها في القرن التاسع عشر. وبالنسبة إلى الذين لا يعرفون الكثير عن لاهاي أو روتردام في تلك الفترة، ربّما تُوفّر بعض تلك الصور انطباعا مُقنعا عن مشاهد الأسواق الليلية في مدن هولندا الكبيرة في منتصف القرن قبل الماضي.
وهذه اللوحة تُعتبر من أفضل أعماله، وهي توفّر نموذجا واضحا لبراعته الفنّية. وفيها يصوّر سوقا ليليّا للخضار والفاكهة والسمك في لاهاي، تظهر فيه مجموعة من النساء وهنّ يعرضن سلعهنّ على ضوء الشموع، بينما تتكدّس أمامهنّ أنواع مختلفة من الخضار والفاكهة والأسماك.
المرأة الجالسة إلى اليسار هي نقطة الارتكاز في المشهد، وضوء الشمعة يسقط على وجهها ويديها. والمرأتان الأخريان الواقفتان تحملان السّلال بينما تفاصلان البائعة الجالسة حول الأسعار.
وفي الجوار تقف مجموعة أخرى من النساء يبعن الأسماك. وفي خلفية الصورة، تظهر عدّة مبانٍ يضيئها نور القمر. ومن بين هذه المباني جزء من قاعة المدينة القديمة، بالإضافة إلى برج كنيسة كان محيطها يُستخدم في ذلك الوقت كسوق لبيع اللحوم.
ضوء القمر في اللوحة يأتي من ناحية اليسار، أي من فوق مبنى البلدية. وهناك أشخاص يتفرّجون أو يمرّون بالمكان لرؤية ما تعرضه الأكشاك الأخرى من سلع وبضائع.
منظر السماء المبهر والمباني الضخمة التي تخيّم على المكان تضيف إلى المشهد قدرا من الدراما والإثارة.
على مرّ السنوات، انتقلت هذه اللوحة من مالك لآخر إلى أن اشتراها مالكها الحاليّ من تاجر في غلاسغو عام 1916 بمبلغ زهيد لا يتجاوز الأربعين غيلدر هولنديّ.
ولد بيتروس فان شيندل في ابريل عام 1806 لعائلة من المزارعين التجّار في بلدة بريدا الهولندية. وقد ظهرت موهبته في الرسم منذ صغره، فأرسله والده إلى انتويرب كي يدرس الرسم في أكاديميّتها للفنون.
ثم انتقل بعد ذلك إلى أمستردام حيث رسم أوّل لوحة له، وكانت عبارة عن منظر لسوق ليليّ يستحمّ في ضوء الشموع. وكانت تلك صورة رومانسية أضاف إليها الفنّان من خياله، والاهمّ أنها أكسبته سمعة كبيرة في هولندا وخارجها.
تأثّر فان شيندل في بداياته بأعمال مواطنَيه الرسّامَين غودفريد شالكن وغيريت دو . وبعد ذلك تعرّف على رسّام يُدعى ماثيو فان بري. وقد علّمه الأخير المزيد من المهارات وشجّعه على أن يولي أهميّة اكبر للتفاصيل. ثم بدأ يهتمّ بالإكسسوارات والنسيج وتعلّم كيف ينتج طبقات متعدّدة من الألوان فوق سطح القماش.
وفي تلك الأثناء، تعرّف الرسّام إلى امرأة تُدعى اليزابيث غراسفيلد فتزوّجها وأنجب منها ثلاثة عشر طفلا. في ذلك الوقت، كان ما يزال يناضل من اجل تحسين أحواله المعيشية، فغادر هو وزوجته ليستقرّا في روتردام حيث عمل هناك بوظيفة معلّم للرسم.
وفي روتردام، رسم عددا من اللوحات، وكلّها كانت تؤكّد موهبته الاستثنائية في رسم الأضواء الاصطناعية. ومع مرور الوقت، صار له رعاة وزبائن وأصبح يتلقّى المزيد من طلبات الرسم.
وبعد ذلك انتقل فان شيندل إلى لاهاي التي نظّم فيها أوّل معرض لأعماله اجتذب المزيد من العملاء. وكان ذلك المعرض فرصته لاستكشاف مواهبه الأخرى التي لم يكن يعرفها الناس. وقد كوفيء على عدّة براءات اختراع في مجالات السّكك الحديد والملاحة البحرية والزراعة.
وأثناء إقامته في لاهاي، ترسّخ اسمه أكثر في سوق الفنّ وباع عدّة لوحات على بعض مجموعات الفنّ الملكية في أوربّا. وأصبح من بين زبائنه الملك وليام الثاني والملكة فيكتوريا وملك بلجيكا والعائلة الحاكمة في روسيا. كما نال عدّة جوائز من معارض أقيمت في بروكسل وباريس ومانشيستر وغيرها.
قبل وفاته بعام تقريبا، رسم فان شيندل لنفسه بورتريها يظهر فيه بهيئة شخص ملتحٍ ووقور، يرتدي ملابس أنيقة ويعتمر قبّعة، بينما يجلس متطلّعا إلى البعيد بنظرة متأمّلة.
وبعد وفاته في عام 1870، نسي الناس اسم وفنّ بيتروس فان شيندل مع ظهور مدارس الفنّ الحديث. لكن لوحاته تُقيّم عاليا هذه الأيّام وتحظى باهتمام وإعجاب خبراء الفنّ والجمهور على السواء.

Saturday, September 16, 2017

لوحات عالميـة – 415

سيّـدة تكتـب رسـالة
للفنان الهولندي يوهـان فيـرميـر،1665

عاش يوهان فيرمير قبل أكثر من ثلاثمائة عام. وحتى اليوم لا يُعرف عنه أو عن حياته سوى الشيء القليل. خبراء الفنّ المعاصرون فحصوا السجلات المدنية القديمة في بلدة ديلفت حيث عاش، بحثا عن معلومات عنه أو عن عائلته، لكنهم لم يجددوا الكثير. كما انه لم يترك صورة تقول لنا شيئا عن ملامحه.
لكن من المعروف انه عمل في تجارة الفنّ لبعض الوقت في شبابه مع والده البروتستانتيّ. لكنه وقع في هوى امرأة كاثوليكية تُدعى كاترينا بولنز ثم لم يلبث أن تزوّجها، الأمر الذي دفع عائلته لأن تطرده من البيت وتتبرّأ منه. فاضطرّ لأن ينتقل إلى منزل والدة زوجته في الحيّ الكاثوليكيّ من البلدة، حيث عاش هناك بقيّة حياته.
كان يوهان وكاترينا قريبين من بعضهما كثيرا. ومعظم العائلات الهولندية في ذلك الوقت كانت تكتفي بطفلين أو ثلاثة، لكنه وزوجته أنجبا احد عشر طفلا ملئا بهم البيت وعاشوا حياة فقر وعوز. وقد اضطرّ أحيانا لأن يقايض دائنيه بلوحاته.
في ذلك الوقت، غزا الفرنسيون والألمان هولندا، وكان طبيعيّا أن يعاني الناس من تردّي الاقتصاد والأحوال المعيشة نتيجة الحرب. وعندما توفّي فيرمير عام 1675 في سنّ الثالثة والأربعين كان مفلسا تماما.
ومن الصعب تصوّر فكرة أنه كان شخصا بوهيميّا أو متعطّشا للجنس، بحسب ما تصوّره السينما وبعض الروايات هذه الأيّام. فالذين درسوا حياته يقولون انه كان زوجا محبّا وأبا حنونا. ولم يكن يشغله سوى العلوم والبصريات والرسم.
وحتى ما كان بحوزته أحيانا من مال قليل لم يكن يكفي لاستئجار محترف أو الاستعانة بموديل معروفة. لذا كان من الطبيعيّ أن تكون زوجته وبناته هنّ جليساته في لوحاته. وجوههنّ النضرة وملامحهنّ الهادئة متشابهة. ومن السهل أن ترى كاترينا، الحامل أحيانا، في بعض صوره.
في هذه اللوحة، يرسم فيرمير زوجته وهي جالسة إلى طاولة في غرفة معتمة، بينما تكتب رسالة. وهي ترتدي معطفا اصفر زاهيا يزيّنه فراء ابيض مع قرطين من اللؤلؤ وشرائط شعر بيضاء.
الضوء في اللوحة يسقط من الزاوية اليسرى، ما يجعل المرأة نقطة الارتكاز فيها. وهي تمسك في يدها اليمنى بقلم، بينما تُريح ذراعها الآخر على الطاولة. لكن اهتمامها يتحوّل بعيدا عن الرسالة كما لو أن شخصا ما قاطعها فجأة. وهي تنظر باتجاهه وعلى فمها اثر تساؤل وابتسامة خفيفة.
الطاولة مؤطّرة بقماش ازرق خفيف، وعليها يستقرّ عقد من اللؤلؤ وشريط من الحرير الأصفر. وفي الخلفية، على الجدار، لوحة بالكاد يمكن رؤية تفاصيلها.
التصميم في اللوحة محكم ويكشف عن إحساس هندسيّ دقيق، وهذه هي إحدى سمات فن فيرمير. وإذا صحّت فرضية أن المرأة الظاهرة في الصورة هي زوجته، وهذا أمر مرجّح اليوم، فإنه يصبح من السهل توقّع أنها كانت عند رسمها في منتصف الثلاثين من عمرها، بالنظر إلى أنها مولودة في عام 1631.
الألوان في اللوحة هي مزيج صامت ومتناغم من الأصفر والأزرق والبنّي. والإضاءة الساحرة والنقاء الفوتوغرافيّ والوضعية الأنيقة للمرأة والقلم المعلّق فوق الورق للحظات، كلّها تؤشر إلى النوعية الممتازة للتفاصيل والأشياء والتي أصبحت علامة تميّز فيرمير.
من الأشياء الأخرى اللافتة أيضا في اللوحة التحوّل السلس للألوان والذي ينتج حوافّ ناعمة. وليس هناك أشكال ولا خطوط محدّدة أو واضحة، هناك فقط إيحاء بالأشكال. وتنفيذ مثل هذه المهارات يتطلّب عادةً وقتا وجهدا كبيرين، حتى لو كان الرسّام بارعا فيها من الأساس.
الرسائل هي عادةً عن الحبّ والعلاقات الحميمة. واللوحة تُظهر أن الكتابة فعل مريح وممتع وله نفس أهميّة الأشياء الماديّة الثمينة التي تعامَل أحيانا كالكنوز وتُحفظ بعيدا عن متناول الآخرين. وجوّ اللوحة يعطي الانطباع بأن هذه المرأة التي عاشت قبل أكثر من ثلاثة قرون يمكن أيضا أن تنتمي إلى عالمنا.
من الأشياء اللافتة أيضا في اللوحة أن المعطف الذي ترتديه المرأة هو نفسه الذي يظهر في بعض لوحات الرسّام الأخرى مثل امرأة تعزف الغيتار . وحتى نفس عقد اللؤلؤ والخزانة الخشبية الصغيرة في الخلفية يظهران في لوحات أخرى له، ما يرجّح فرضية أن فيرمير كان يرسم من مجموعة ثابتة من الأقمشة والإكسسوارات التي كان يحتفظ بها دائما ضمن مقتنياته الخاصّة.
تجدر الإشارة إلى أن هناك ستّ لوحات أخرى لفيرمير تناول فيها نفس الموضوع وتصوّر نساءً إمّا يقرأن أو يكتبن. ويقال أن أوّل من روّج لفكرة المرأة التي تكتب هو مواطنه الرسّام جيرارد تير بورش.
المعروف أن فيرمير لم يترك توقيعا على أيّ من لوحاته، لكنه ترك تواريخ على ثلاث منها فقط. ويبدو أن تأثيره على الكثير من الرسّامين الذين أتوا بعده، بالإضافة إلى كثرة اللوحات المزوّرة المنسوبة له، شكّلا تحديّا كبيرا لخبراء الفنّ الذين حاولوا أن يثبتوا أصالة بعض أعماله وصحّة نسبتها إليه.

Tuesday, September 12, 2017

لوحات عالميـة – 414

فناء منزل في الريف الجزائريّ
للفنان الأمريكي فريـدريك آرثـر بريـدجمان، 1920

كان فريدريك آرثر بريدجمان رسّاما استشراقيا مشهورا في زمانه. لكن الكثيرين اليوم يعتبرونه منسيّا إلى حدّ ما، مع أن أعماله تظهر بانتظام وتبيع جيّدا في مزادات الفنّ العالمية.
وهناك من يقول إن السبب في أن اسمه أصبح غير متداول كثيرا اليوم هو أن ترويجه لنفسه أثناء حياته منع الآخرين من الاقتراب منه أو تناول فنّه تناولا نقديّا. ومنذ وفاته، لم يظهر كتاب يؤرّخ لسيرة حياته كما لم يقم أيّ من المتاحف الكبيرة بتنظيم معرض لأعماله.
كان بريدجمان عاشقا كبيرا لبلدان وثقافات الشرق. وقد أخذته أسفاره الطويلة إلى المغرب والجزائر ومصر وسوريا وتركيا ليطّلع على مظاهر الحياة فيها وليصوّرها.
وهو لم يكن رسّاما فحسب، بل كان أيضا شاعرا وأديبا ومؤلّفا وعازفا موسيقيّا. واهتمام جامعي الفنّ العرب، على وجه الخصوص، بفنّه وفنّ غيره من رسّامي الاستشراق مردّه في الأساس كون الرّسم الاستشراقي هو السجلّ البصريّ الوحيد المتوفّر اليوم عن حياة شعوب المنطقة في القرن التاسع عشر. لكن هناك سببا آخر يتمثّل في تقدير هؤلاء الجامعين لبراعة وإبداع بريدجمان بشكل خاصّ.
اعتبارا من عام 1870، اتّخذ الرسّام من فرنسا وطنا دائما له، حيث تعلّم فيها على يد جان ليون جيروم وكان هو الطالب المفضّل عنده. ويمكن تبيّن تأثير أستاذه عليه من خلال تبنّيه الرسم الأكاديميّ ثم المواضيع الاستشراقية. وما من شكّ في أن رحلات جيروم إلى الشرق عام 1850 شجّعت بريدجمان على أن يسافر إلى هناك مقتفياً خطى معلّمه.
رحلة بريدجمان إلى كلّ من مصر والجزائر بدأها عام 1872. وقد وفّرت له تلك التجربة مصدر إلهام دائم. ورسم خلال رحلته تلك أكثر من ثلاثمائة اسكتش كانت الأساس للعديد من اللوحات الزيتية التي نفّذها في ما بعد.
وفي عام 1890، ألّف بريدجمان كتابا بعنوان "شتاء في الجزائر" ضمّنه العديد من الرسومات والقصص التي لا تُنسى عن أسفاره وخبراته الفريدة في ذلك البلد. وقد سُمح له بدخول بيوت الحريم ورسم ما رآه تقريبا ولم يعتمد على ذاكرته مثلما فعل معاصروه من الفنّانين.
وأثناء رحلاته جمع الرسّام ملابس وأدوات فنّية وتراثية ومعمارية زيّن بها منزله في باريس، لدرجة أن بيته صار مزارا للكثير من الفنّانين. واهتمامه الشديد بالأزياء والإكسسوارات وأنماط الحياة اليومية في الجزائر خاصّة يوفّر سجلا قيّما عن بعض سمات الثقافة الجزائرية في مرحلة انفتاح بلدان المنطقة على الغرب.
في هذه اللوحة، يصوّر بريدجمان جانبا من أنشطة الحياة اليومية في فناء منزل ريفيّ زاره في ولاية بسكرة جنوب شرقي الجزائر. كانت الولاية مشهورة بصناعاتها اليدوية وبساطة الحياة فيها.
وفي اللوحة تظهر امرأتان تقومان بأعمال التطريز بصحبة امرأة ثالثة وخادمة سمراء. المرأة الجالسة أمام طاولة النسيج تعالج الخيط، بينما تراقبها الفتاة الصغيرة باهتمام. وخلفهما تقف فتاة أخرى تمسك بباقة أزهار. وإلى اليسار مائدة مذهّبة عليها عنب وتين.
وفي الخلف يمكن رؤية غزالة تستريح تحت الجدار. والرسّام يضمّنها في اللوحة باعتبارها رمزا لجمال المرأة في الثقافة العربية. وهناك أيضا نافورة وعمود من الرخام ذو طراز أنيق.
ومن الأشياء الأخرى التي تلفت الانتباه الأقدام العارية للنساء والحرّية التلقائية التي يتصرّفن بها والملابس الملوّنة واللمّاعة. وكلّ هذه العناصر فيها إشارة إلى الحواسّ الخمس وإلى جاذبية ونبل الأنثى.
كان بريدجمان قد كتب عدّة تحقيقات عن تجربته في الجزائر ونشرها في مجلّتي اتلانتيك وهاربر الأمريكيّتين. وهو كان مفتونا بالديكور المغاربيّ الذي رآه في منازل الجزائريين الأثرياء. وبعض لوحاته عن تلك البيوت تذكّر بأجواء ألف ليلة وليلة.
كما كتب بإسهاب عن التأثير الكلاسيكيّ، الإغريقيّ خاصّة، على المعمار المغاربي من خلال أشكال الأعمدة والأبواب المقوّسة. وأيضا أشار إلى أن المعماريين العرب عدّلوا وحسّنوا ما وجدوه وأضافوا إليه الكثير من الحيوية الفنّية عبر توظيف الأنماط الهندسية التجريدية والعناصر الزخرفية.
من بين أكثر أعمال بريدجمان الأخرى احتفاءً لوحته منظر لزقاق جزائريّ ولوحة أخرى بعنوان لعبة مثيرة . في اللوحة الأخيرة، يتذكّر الفنّان احد مقاهي القاهرة ويرسم تفاصيله المعمارية وأزياء روّاده. والصورة تُظهِر رجلين يلعبان الشطرنج بحضور رجل ثالث وامرأة.
وقد رسم هذا المنظر عندما عاد إلى باريس، وضمّنه تذكارات أخذها معه من رحلاته إلى الجزائر. تَعامُل بريدجمان البارع مع الضوء والظلّ في هذه اللوحة وتصويره غير النمطيّ للأشخاص، بتوظيفه الحركات والأوضاع والإيماءات كأدوات تعبيرية، كلّ ذلك أكسبه ثناء وإعجاب النقّاد.
ولد فريدريك آرثر بريدجمان في ولاية الاباما الأمريكية عام 1847 لأب كان يعمل طبيبا. وفي البداية درس الرسم في مدرسة بروكلين للفنون، ثم سافر إلى باريس عام 1866 حيث تعرّف فيها إلى جان جيروم الذي كان له تأثير كبير في توجيه مساره الفنّي.
بعد الحرب العالمية الأولى، استقرّ بريدجمان في منطقة النورماندي. ورغم انه استمرّ يرسم هناك، إلا انه توقّف عن عرض أعماله على الجمهور. وقد توفّي في روين عام 1928 وسط تجاهل تامّ تقريبا من النقّاد والصحافة.