Thursday, October 03, 2013

لوحات عالميـة – 331

أمّ وطفلها على شاطئ البحر
للفنان النرويجي يوهـان كريستـيان دال، 1840

الذي يرى هذه اللوحة الرائعة لأوّل وهلة قد يظنّها لـ كاسبار ديفيد فريدريش. ففيها ذلك المزيج من الضوء والبحر والسفن والبشر الذي كان فريدريش يرسمه ويضمّنه ذكريات وحالات ذهنية معيّنة.
والحقيقة أن هذا الافتراض له ما يبرّره. إذ يُرجّح أن يكون يوهان كريستيان دال رسم هذه اللوحة إكراما لذكرى فريدريش الذي كان معلّمه وصديقه الأثير. وقد ضمّن اللوحة عناصر مأخوذة من لوحات الأخير الذي توفّي في نفس ذلك العام. كما أن اللوحة تستدعي ليالي فريدريش على الشاطئ الصخريّ المقمر لبحر البلطيق.
في اللوحة نرى امرأة جالسة بصحبة طفل وظهرهما للناظر. المرأة ترتدي تنّورة واسعة وملابس ضدّ الجوّ العاصف، بينما تنظر هي والطفل إلى البحر أمامهما ويراقبان قارب صيد يُفترض أنه يحمل والد الطفل. ومن الواضح أن الاثنين، أي المرأة والطفل، ينتظران بشوق عودة الأب.
وفي أعلى المشهد، يطلّ القمر من وراء الغيوم الثقيلة ملقياً بوهجه الأرجواني على البحر إلى الأسفل وخالقاً نقطة ارتكاز قرب وسط اللوحة تضيء طريق عودة الأب.
هذه اللوحة تمسك بروح الليل وبضوء القمر الذي كثيرا ما استُخدم كرمز للتوق والحبّ، وهي فكرة تناسب هذه الصورة تماما. كما أن المشهد يأخذنا إلى قلب المخيّلة الرومانسية الألمانية. في ذلك الوقت، كتب الفيلسوف آرثر شوبنهاور مقالا تحدّث فيه عن القمر "رفيق الأرض الفضّي في الليل" وعن هالة الغموض التي ظلّ يفتن بها البشر منذ بدء الخليقة.
دال نفسه كتب يقول عن هذه اللوحة: ركّزت على أن أصوّر الضوء الشاحب للقمر في انعكاسه على المشهد إلى أسفل. السلام يعمّ كلّ المكان. المنظر نفسه جميل: ضوء القمر في الغيوم، الانعكاسات على الماء والليل الهادئ".
ولد يوهان كريستيان دال في النرويج عام 1788م وسافر إلى الدانمرك وهو في سنّ الثالثة والعشرين. وقد سجّل في الأكاديمية الملكية للفنون. ثمّ غادر الدانمرك في رحلة أخذته بعد ذلك إلى ايطاليا ثم ألمانيا. لكنّه أثناء ذلك لم ينس بلده أبدا، بل زارها مرارا ورسم اسكتشات عديدة لطبيعتها الوعرة والمتجهّمة. وفي عام 1824 أصبح دال أستاذا في أكاديمية درسدن للفنون.
وفي ذلك الوقت، قابل دال فريدريش الذي كان له تأثير كبير عليه. وهذا واضح من الطبيعة الليلية التي تتكرّر كثيرا في أعمال الاثنين. وقد أصبحا بسرعة صديقين. وتوطّدت صداقتهما أكثر بعد أن انتقل دال للعيش في منزل فريدريش. وكان كلّ منهما بمثابة الأب لأطفال الآخر.
كانا ملازمين لبعضهما البعض لدرجة انه لا يُذكر اسم احدهما إلا مقترنا باسم الآخر. وكانا يرسلان أعمالهما معا إلى نفس المعارض، كما كانا ملتزمين بقوّة بالرومانسية الألمانية.
لكن كانت هناك بعض الاختلافات البسيطة بين أسلوبيهما. كان دال، مثلا، يرسم بسرعة وأحيانا بوجود زوّار في بيته. وعلى العكس من ذلك، كان فريدريش يرسم بعد أيّام من التأمّل وبعد أن يتخيّل تفاصيل المشهد أمامه. وكان دائما يفضّل المحترف الفارغ حيث لا احد يمكن أن يصرفه أو يشتّت اهتمامه.
ومن الناحية الشخصية، كان دال شخصا دافئا اجتماعيا، بينما كان فريدريش انطوائيا ومتحفّظا بسبب تأثّره بنشأته البروتستانتية الصارمة. كان فريدريش يركّز على تأمّل الخلاص ويبحث عن المقدّس في الطبيعة. دال كان مختلفا عنه. كانت مواضيعه المفضّلة هي حبّ العائلة والعودة الآمنة إلى الوطن وما إلى ذلك. وبشكل عام، كان دال يركّز على التجربة الشخصية وليس على الحقائق الكونية أو الكلّية.
وقد وصف دال ذات مرّة فريدريش بأنه شخص لا يتكلّم كثيرا، لكنّه كان يبدو سعيدا دائما. كان فريدريش يكبره بخمسة عشر عاما وكان وقتها في أوج شهرته. وقد أحسّ دال بأنه قريب من فريدريش أكثر من أيّ شخص آخر.
عاش دال حياة هادئة، وإن لم تكن تخلو من المنغّصات. تزوّج أوّلا عام 1820 وأنجب أربعة أطفال. وقد توفّيت زوجته أثناء ولادتها بطفلهما الأخير عام 1827م. وبعد ذلك بعامين، توفّي ولده وابنته بالحمّى القرمزية. وفي العام التالي، تزوّج من إحدى تلميذاته. لكنها ماتت في نهاية تلك السنة وهي تضع مولودها الأوّل. وبعد ذلك عهد إلى خادمة بتربية ابنه وابنته من زواجه الأوّل.
هذه اللوحة قد لا تكون تحيّة لـ فريدريش فقط، بل أيضا إحياءً لذكرى المرأتين اللتين كانتا تعنيان لـ دال الشيء الكثير، وكذلك لأطفاله الذين كان عليهم أن يموتوا وهم في سنّ مبكّرة.
لكن رغم المآسي التي قد تكون مرتبطة باللوحة، فإنها تحمل بعض الرموز المتفائلة: حركة الطفل المفرحة، والغيوم التي تتبدّد لتكشف عن ضوء القمر وتفسح المجال للحظة من لحظات السعادة.
توفّي يوهان كريستيان دال في درسدن بألمانيا عام 1857 عن عمر ناهز السبعين. وبعد ستّين عاما من وفاته أعيدت رفاته إلى النرويج حيث دُفنت هناك.

Saturday, September 28, 2013

لوحات عالميـة – 330

على شاطئ البحر المتوسّط
للفنان الفرنسي هنـري ليبـاسـك، 1921

بعض الرسّامين كانوا ملء السمع والبصر أثناء حياتهم، ولكن نادرا ما يتذكّرهم احد هذه الأيّام. وهنري ليباسك هو أحد هؤلاء. كان معاصرا وصديقا لكبار الفنّانين في زمانه مثل رينوار وبول سينياك وبيير بونار. كان يرسم اللون والضوء ويعبّر من خلال الرسم عن رؤيته الخفيفة والمرحة للحياة.
مناظر ليباسك تشي بحبّه للحياة والجمال والسلام الذي كان يسكن نفسه. تنظر إلى لوحاته فلا تجد فيها سوى صور لنساء منهمكات في أداء أعمالهنّ المنزلية أو في القراءة، أو صور لأطفال يعزفون الموسيقى أو يمشون على الشاطئ أو يقرءون أو يلهون. ولهذا السبب نالت أعماله إعجاب وثناء النقّاد والجمهور وكانت تُستقبل استقبالا حسنا. وعادة ما يلقبّه النقّاد برسّام السعادة.
نشأ الفنّان في بيئة ريفية. ولا بدّ وأنه عانى الكثير من الصعاب قبل أن يتحقّق حلمه بأن يصبح رسّاما. مواضيعه عبارة عن طبيعة وأزهار وحياة ساكنة وأشخاص. وكان مشهورا بأنه رسّام الريف وموانئ الشواطئ الفرنسية من النورماندي إلى كان وغيرهما.
وقد كان معروفا بتفرّده وبشخصيّته الحميمة وإحساسه العميق بالضوء واللون. وتأثّر بألوان الانطباعيين، وخاصّة بيسارو الذي زامله في المدرسة.
اكتشف ليباسك طبيعة جنوب فرنسا التي أقام فيها لفترة بعد أن سبقه إلى هناك سيزان ورينوار وفان غوخ وماتيس وبيكاسو. وقد نقل إلى لوحاته مشاهد لأشجار الزيتون والسماء الزرقاء والأسطح الحمراء وأزهار عبّاد الشمس ومزارع الكروم التي اشتهرت بها تلك النواحي.
في هذه اللوحة، رسم الفنّان اثنتين من بناته مع طفليهما وهم يستريحون على تلّة تطلّ على شاطئ البحر في إحدى القرى الهادئة في الجنوب الفرنسي. وقد استخدم ألوانا متناغمة وشفّافة تنمّ عن براعته في التلوين وفي توظيف الألوان والضوء.
ومن الملاحظ أن الرسّام اغفل في هذه اللوحة، كما في غيرها من أعماله، تفاصيل الوجوه والملامح. وقد كان من عادته استخدام هذا التكنيك، أي ترك شخوصه مجهولين وبلا ملامح، مقابل التركيز أكثر على تعبيرات الأطراف وحركات الأجساد.
ولد هنري ليباسك في شومبانييه في سبتمبر من عام 1865م. وفي عام 1885 ذهب إلى باريس ليدرس في معهد الفنون الجميلة. وقد تشكّلت رؤيته الفنّية بعد مخالطته لرسّامين أصغر منه سنّا مثل فويار وبيير بونار مؤسّس جماعة الأنبياء.
وفي مرحلة تالية تعرّف على كلّ من جورج سورا وبول سينياك وعرف منهما أهميّة نظرية الألوان. كما ربطته علاقة وثيقة مع ماتيس حيث كانا يشتركان في نفس الأفكار الفنّية والتطلّعات، وقد شارك الاثنان معا في تأسيس ما عُرف بصالون الخريف عام 1903م.
قضى الرسّام في الريفييرا الفرنسية حوالي ثلاثين عاما متنقّلا من بلدة لأخرى. وكان يرسم الحدائق والبيوت وضفاف الأنهار والشواطئ، أي تلك الأماكن التي اعتاد الجلوس أو العيش فيها. وشيئا فشيئا استطاع أن يطوّر أسلوبا خاصّا به يتّسم بالبساطة والتلقائية.
وقد جرّب النقطية والوحوشية عددا من السنوات. وكثيرا ما صُنّف كوحوشي بسبب صداقته الطويلة مع ماتيس. ثم اكتشف تيرنر وأسلوبه أثناء زيارة له إلى لندن.
توفّي هنري ليباسك في بلدة لو كانيه شمال كان في أغسطس من عام 1937م. وأعماله موجودة في المتاحف الفرنسية وفي غيرها من المتاحف العالمية في أمريكا واليابان ونيوزيلندا واسبانيا وغيرها.

Wednesday, September 18, 2013

لوحات عالميـة – 329

سيّـدة فـي حمّـامها
للفنان الفرنسي فرانسـوا كلـوويـه، 1571

كانت العلمانية والفردانية والإنسانوية هي الأفكار الرئيسية التي أتى بها عصر النهضة. وقد شكّل ذلك العصر الذي امتدّ من القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر ولادة ثانية لأوربّا ودّعت معها القارّة الركود الاقتصادي والتخلّف السياسي الذي خبرته طوال العصور الوسطى، وبدأ عصر من النموّ المالي والازدهار الاقتصادي والاجتماعي.
وأثناء عصر النهضة، استدعى فرانسيس الأوّل ملك فرنسا عددا من الرسّامين الايطاليين وكلّفهم بمهمّة تزيين قصره في فونتينبلو. وكان من بين الغرف التي أمر الملك باستحداثها غرفة حمّام، وهذا كان يعدّ ترفا نادرا في أوربّا في ذلك الحين.
الرسّامون الذين وفدوا من ايطاليا باشروا عملية التزيين، فرسموا في غرف الزينة واللباس والاستحمام صورا لحوريّات وعرائس بحر وإلهات عاريات يمرحن بين حدائق ونوافير. وثمّة احتمال بأن تلك المناظر هي التي ألهمت ولادة نوع جديد من الرسم يصوّر نساء يتحمّمن في أماكن مرتّب لها جيّدا.
وهذه اللوحة من عصر النهضة الفرنسي هي ولا شكّ إحدى أشهر لوحات هذا النوع من الرسم. وهي تصوّر امرأة تجلس في حوض ماء مغطّى بقماش ابيض. اليد اليمنى للمرأة ترتاح على لوح يحمل فاكهة، بينما تسحب بيدها اليسرى طرف قماش الطاولة إلى أعلى لتكشف عن كلمات منقوشة بالرومانية على حافّة المغطس الخشبي.
وخلف المرأة مباشرة يقف طفل يمدّ يده إلى طبق الفاكهة محاولا الإمساك ببعض حبّات العنب. الفاكهة يمكن أن تكون رمزا لعبور الزمن أو سرعة وتيرة الحياة.
وإلى اليسار تظهر مربّية ترضع طفلا، في إشارة إلى الحياة المنزلية.
وفي الخلفية تبدو خادمة رُسمت طيّات ملابسها بعناية وهي تمسك بإناء ماء. والى جوارها لوحة مرسوم عليها حيوان اليونيكورن الخرافي الذي يرمز غالبا إلى العذرية، بالإضافة إلى شجرة.
اللوحة تعكس إلى حدّ كبير عقيدة وثقافة عصر النهضة. وتفاصيلها توحي بأن المرأة تنتمي إلى طبقة اجتماعية رفيعة. فالناس العاديّون لا يملكون رفاهية الاستحمام مع فاكهة، كما أن وجود الخادمات يدلّ على الغنى. وهناك أيضا اللؤلؤ والخواتم والأساور التي ترتديها، وكلّها من علامات الثراء.
يقال إن المرأة هي ماري توشيت التي كانت الخليلة المفضّلة لشارل التاسع، بينما يذهب آخرون إلى أنها ديان دو بواتييه عشيقة الملك هنري الثاني. وهناك رأي ثالث يقول إن المرأة قد لا تكون حقيقية وأن الفنّان ربّما يكون رسمها من خياله كتجسيد لرؤيته عن قيم الجمال المثالي.
وضعية جلوس المرأة يُحتمل أنها مستعارة من الموناليزا. أمّا الفاكهة والديكور والمجوهرات والستائر القرمزية على الجانبين، وكذلك العري الناعم، فمرسومة بأسلوب يمزج بين رسم الطبيعة الهولندية وأسلوب التأنّق الايطالي أو الماناريزم.
كلوويه هو اسم عائلة من الرسّامين يتحدّرون من جان كلوويه الكبير، وهو رسّام هولنديّ الأصل أتى إلى فرنسا في بداية القرن الخامس عشر. ولا احد يعرف شيئا عن كلوويه الأكبر أو عن أعماله. غير أن المشهور أكثر هو فرانسوا كلوويه الذي يُعتقد أنه ابنه الأكبر. وقد نجح الأخير واشتهر كرسّام، ثمّ اختير عام 1541 رسّاما للبلاط في فرنسا.
كان فرانسوا في الأساس رسّام بورتريه. وقد عُرف على وجه الخصوص بلوحاته ذات التفاصيل الواقعية والدقيقة وبمهارته الكبيرة في التلوين. وأحد أفضل أعماله الأخرى هو البورتريه الذي رسمه للملك فرانسيس الأوّل.

Wednesday, September 11, 2013

لوحات عالميـة – 328

حيـاة ساكنـة.. أقنعـة 3
للفنان الألماني إميـل نـولـدي، 1911

خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، بدأت أهميّة الثقافات غير الغربية في الظهور، متجسّدة في الحركة الفنّية المعروفة بالبدائية. في ذلك الوقت كان الفنّانون قد تمكّنوا من التعرّف على الفنّ القديم من أفريقيا. وكانوا يحرصون على زيارة المتاحف كي يرسموا اسكتشات للقطع الأثرية القديمة للاستفادة من تأثيرها وتوظيفه في أعمالهم.
وبعض هؤلاء عمدوا إلى استخدام السخرية والتشاؤم والرعب كي يوسّعوا تعريف مفهوم الفنّ البدائي. وكانت الأقنعة احد العناصر المهمّة قي هذا النوع من الفنّ. وكانت تُستخدم في الاحتفالات للمبالغة في تصوير الملامح. وأشهر الأمثلة عن الأقنعة ظهرت في اليونان القديمة. ويبدو أن الإنسان ابتكرها مع غيرها من الأشياء البدائية لغرض ديني أو كأداة للسحر أو كوسيط بين الإنسان والقوى المجهولة المحيطة به كي يتغّلب على خوفه منها.
في هذه اللوحة، يرسم اميل نولدي، باستخدام ألوان زاهية وثقيلة، خمسة أقنعة مستمدّة من الفنّ البدائي. احد الأقنعة استوحاه من فينيسيا والآخر من جزر سليمان والثالث من البرازيل. القناع المقلوب على رأسه بلون احمر استلهمه من مهرجانات شمال أوروبّا. وكلّ الأقنعة، عدا الأوسط، ذات ملامح شيطانية وتثير إحساسا بالعدوانية والصدمة والخوف. القناع ذو اللون الأصفر يبدو مبتسما تقريبا وهو يحدّق في الناظر. وقد استخدم الرسّام فرشاة خشنة وألوانا سميكة ومكثّفة وساطعة لكي يعزّز فكرة البدائية ويعمّق تأثيرها الانفعالي.
كان نولدي يهتمّ بالخصائص الانفعالية للألوان وتبايناتها. وكان يرى أن كلّ لون يمسك بروح ومعنى ما ويعكس مزاجا معيّنا، سعيدا أو حزينا.
وقد ركّز في هذه اللوحة وفي غيرها من لوحات الأقنعة على الإزعاج السيكولوجي، خاصّة بعد أن رأى اقتراب نذر الحرب العالمية الوشيكة. غير أن هناك من النقّاد من لاحظ أن أقنعته لا تتضمّن أيّة تعليقات اجتماعية أو سخرية من الناس، إذ لم يكن الرسّام مهتمّا كثيرا بتصوير معاناة أو قسوة الإنسان.
لكن ممّا لا شكّ فيه أن نزوع نولدي لرَسْم الأقنعة كان انعكاسا لاهتمامه بالثقافات الأصلية وطقوسها وتعاطفه مع الثقافات غير الأوربّية بشكل عام. وقد درس أقنعة ثقافات مختلفة. وكان يقول انه لا بدّ من رسم أقنعة بتعبيرات شتّى. لكنه في هذه اللوحة اكتفى برسم تعبيرات متجهّمة. والأقنعة كلّها تقريبا تبدو شرّيرة وكما لو أن عيونها المجوّفة تفتقر إلى الشخصية والى الارتباط الإنساني، أضف إلى ذلك أن الشفاه والعيون في بعضها ملطّخة بالأحمر الذي قد يكون رمزا للعدوانية والدم.
الأقنعة يمكن أن تقود إلى إعادة تعريف الذات والمظهر والكشف عن الطبيعة الإنسانية ومعنى الموت. والرسّامون الذين يميلون إلى رسمها يريدون أيضا أن يقولوا للمتلقّي انه برغم الأقنعة التي نظنّ أننا نختفي وراءها، إلا أنها في الحقيقة تكشف المزيد عن أنفسنا.
وبعض الفنّانين، ومنهم بيكاسو، أعطوا وجها "أو بالأحرى قناعا" للسلوكيات المخيفة والنواحي السلبية في الطبيعة الإنسانية كالطمع والغضب والشهوة وحبّ السلطة وما إلى ذلك. أي أن القناع يعمل على حجب القبح، وتلك إحدى غاياته الأساسية.
بيكاسو اخذ فكرة نولدي عن الأقنعة خطوة ابعد عندما رسم لوحته المشهورة آنسات افينيون. وفي هذه اللوحة المرسومة بأسلوب هو مزيج من التجريدية والتكعيبية، تظهر خمس نساء بملامح بدائية وأقنعة منفّرة.
ولد اميل نولدي، واسمه الأصليّ اميل هانسن، في بلدة نولدي على الحدود الألمانية الدانمركية في أغسطس من عام 1867 لأبوين مزارعين. وفيما بعد اختار اسم البلدة اسما لعائلته. وقد درس الرسم في برلين ثم أصبح عضوا في جماعة فنّية تُدعى "الجسر". وكان من بين من تأثّر بهم من الرسّامين كلّ من فان غوخ وادفارد مونك وجيمس انسور.
في بدايات حياته، زار نولدي نيو غينيا ومكث فيها عامين. وكان لتلك التجربة اثر كبير في انه أصبح يفضّل مواصفات وسمات الفنّ القبلي والبدائي، مثل تشويه الشكل والأنماط الجزئية والألوان المتباينة بقوّة.
وأعماله بعد زيارته تلك كانت عبارة عن تأمّلات عن الناس الذين يعيشون في تناغم مع الطبيعة. وقد درس الأقنعة في متحف برلين للأجناس البشرية. وهو كان ضدّ عرض القطع الأثرية البدائية في المتاحف كأمثلة انثروبولوجية، وإنما كفنّ له أصالته وقدرته القويّة على إثارة الانفعالات. في تلك الفترة، ظهر لأوّل مرّة المفهوم المثاليّ عن الهمجيّ النبيل ، أي الإنسان البدائيّ الذي لم تلوّثه الحضارة والذي يرمز إلى الخيرية التي فُطر عليها الإنسان.
ونولدي في بدائيّته يشبه إلى حدّ ما غوغان وبيكاسو. غير أن شهرته كرسّام تعبيري تضاءلت أمام تلك التي لزميله النرويجي ادفارد مونك، مع انه كان يعتبر التعبيرية أسلوبا ألمانيا خالصا.
في بواكير شبابه، كان نولدي مؤيّدا للحزب النازي. وقد عبّر عن آراء سلبية في زملائه من الفنّانين اليهود. لكن في أواخر حياته، تعرّض لقمع السلطات النازية كما مُنع من الرسم عام 1941م باعتباره فنّانا منحلا. لكنه مع ذلك رسم لوحات كثيرة حرص على إخفائها عن الأعين. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وسقوط النازية، أعيد للرسّام الاعتبار ومنح وسام الاستحقاق الألماني.

Thursday, September 05, 2013

لوحات عالميـة – 327

سـوزانـا والقـاضيـان
للفنان الايطالي غـويـدو رينـي، 1625

القصص الدينية كانت دائما محلّ إعجاب واهتمام الرسّامين. وإحدى أشهر تلك القصص هي قصّة سوزانا والقاضيين التي كانت رائجة كثيرا في الرسم خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر.
هذه القصّة هي مزيج من الايروتيكية والإثارة البصرية والعفّة الأنثوية وقانون الرجل الذكوري. وكلّ من رسمها من الفنّانين رأوا فيها فرصة لإبراز الجسد العاري بنفس الروح التي كانوا يرسمون بها شخصيات أنثوية مشهورة أخرى مثل داناي ولوكريشيا. وقد تحوّلت القصّة التي أوردتها النصوص الدينية كمثال على عفاف الأنثى، تحوّلت من خلال الرسم إلى احتفال بالعري والإثارة الجنسية.
أحداث القصّة وقعت في بابل، وملخّصها أن امرأة يهودية تُدعى سوزانا (أو شوشانا كما تنطق بالعبرية) كانت متزوّجة من رجل على دينها يقال له يواكين. وكانت هذه المرأة تتمتّع بجمال مبهر. كما كانت على درجة من الأخلاق والعفاف بفضل تنشئة والديها المتديّنين لها.
وقد حدث في ذلك الوقت أن عُيّن للمدينة قاضيان مسنّان جديدان كي يفصلا في منازعات الناس بعد أن تقاعد سلفاهما. وكان هذان الرجلان يمرّان في مشوارهما اليومي إلى المحكمة بالقرب من بيت سوزانا. وقد لمحاها مرارا وهي تخرج من منزلها إلى الحديقة الملحقة به.
وشيئا فشيئا أصبح القاضيان مفتونين بجمال المرأة. وسرعان ما تطوّر هذا الشعور إلى نوع من الرغبة في الانفراد بها والتمتّع بجمالها. في البداية، كان كلّ منهما حريصا على أن يخفي حقيقة مشاعره عن الآخر. لكن عندما عرفا أنهما واقعان معا في هوى المرأة، اتفقا على أن يترجما ذلك الشعور إلى فعل وأن يظفرا ببغيتهما مهما كانت الصعاب.
وذات يوم وبينما كانا مارّين من ذلك المكان، نظرا من ثقب باب الحديقة خلسة ورأيا سوزانا وهي تستعدّ للاستحمام. فدخلا دون أن تلحظهما وكمنا وراء إحدى الأشجار. وعندما باشرت خلع ملابسها خرجا من مخبئهما واقتربا منها في اشتهاء. ثم اخبراها أن الأبواب مغلقة وان لا احد يراهم وهدّداها بأنها إن لم تقدّم لهما نفسها طواعية فإنهما سيشهدان ضدّها في المحكمة ويدّعيان أنهما رأياها تمارس الزنا مع شابّ في الحديقة. لكن المرأة رفضت كلام العجوزين الداعرين وزجرتهما بعنف فغادرا المكان وقد أعدّا في نفسهما خطّة.
في اليوم التالي، عُقدت المحكمة برئاسة القاضيين وأمرا بإحضار سوزانا ووجّها لها تهمة الخلوة مع شابّ وارتكاب جريمة الزنا، زاعمين أنهما رأيا الشابّ وهو يهرب. وقد صدّق الناس مزاعم الرجلين على أساس أنهما قاضيان متديّنان ويريدان حماية الفضيلة. ثم صدر الحكم على سوزانا بالموت. وقد بكت المرأة بصوت عال مؤكّدة براءتها ودعت الربّ بأن يكشف الحقيقة وأن يدافع عنها.
وبقيّة القصّة معروفة. فقد أرسل الله فتى شابّا إلى المحكمة وبدأ يصرخ قائلا: أنا بريء من دم هذه المرأة. ويجب استجواب الرجلين قبل الإقدام على قتل امرأة بريئة".
ولم يكن ذلك الشابّ سوى دانيال، الشخصيّة التي تظهر كثيرا في النصوص القديمة والذي يقترن اسمه بجملة من المعجزات والكرامات من بينها القصّة المشهورة التي تحكي عن نجاته من الموت افتراسا في عرين الأسود.
وقد أمر دانيال بأن يُفصل الرجلان عن بعضهما وأن يُسأل كلّ منهما عن تفاصيل ما رأياه. فاختلف وصفهما للشجرة التي ادّعيا أن المرأة التقت بالعاشق المزعوم تحتها. هذا الاختلاف في الوصف اثبت أنهما كانا يكذبان، فتأكّدت براءة المرأة ونجت من الموت رجما، بينا حُكم على الرجلين بالموت.
الرسّام غويدو ريني يصوّر في هذه اللوحة اللحظة التي باغت فيها القاضيان المرأة وهي تستحم. وقد رسم الفنان العجوزين في حالة تسلّل كما ابرز حسّية جسد المرأة. الرجل إلى اليسار يضع إصبعه على فمه لحثّها على أن لا تصرخ أو تبدي مقاومة بينما يزيح بيده الأخرى الرداء عن جسدها. الرجل الآخر يبدو أكثر هدوءا واقل تهديدا بينما يكتفي بسماع ما يقوله رفيقه وبالنظر عن قرب إلى جسد المرأة.
سوزانا تبدو هنا بهيئة جميلة وبالقليل من الملابس. لاحظ كيف أن الفنّان رسمها بوضع إغراء. ملامحها لا تبدو خجولة وليس على وجهها أيّ اثر للرعب أو الضعف، بينما يظهر الرجلان بملامح خبيثة ومتآمرة. حسّية العارية في شخصية سوزانا يعمّقها حقيقة أن من مارس التحرّش عجوزان يُفترض أنهما على درجة من التقى والورع.
اللوحات الأخرى المرسومة عن القصّة تتضمّن عادة معمارا أو نحتا كلاسيكيا. والبعض الآخر يركّز على الدراما والعري. وهناك من الفنّانين من رسموها لكي يظهروا قوّة تديّن المرأة وإخلاصها وثقتها بأن الربّ سيخلّصها، بينما رسمها آخرون ليركّزوا على انحلال تلك الفئة من الناس الذين يستخدمون القانون لأغراضهم الشخصيّة.
الفنّان الأمريكي توماس هارت بينتون رسم سوزانا بهيئة عصرية ونقل القصّة إلى فترة الكساد العظيم. ولم ينس أن يرسم نفسه في اللوحة كأحد الرجلين المتلصّصين.
قصّة "سوزانا والقاضيان" لها أيضا حضور قويّ في الموسيقى والأدب. الموسيقيّ فريدريش هاندل ألّف قطعة استوحاها من القصّة. وفي إحدى الأوبرات الأمريكية تنتقل سوزانا إلى القرن العشرين، وإلى الجنوب الأمريكي تحديدا. لكن خاتمة الأوبرا لا تبدو سعيدة، إذ يحلّ مكان القاضيين واعظ منافق يقوم باغتصاب سوزانا في نهاية المطاف.

Thursday, August 29, 2013

لوحات عالميـة – 326

الأمّ الصغيرة أو مادونا الشوارع
للفنان الايطالي روبيـرتـو فيـروتـزي، 1897

تُعتبر هذه اللوحة من بين أشهر اللوحات في العالم ومن أكثرها استنساخا ورواجا. كان روبيرتو فيروتزي يريد رسم صورة ترمز للأمومة ولهذا اسماها في البداية "مادونينا" التي تعني بالإيطالية الأمّ الصغيرة، ولم يكن بذهنه أبدا أن يرسم صورة دينية. لكن مع مرور السنوات أصبح الناس ينظرون إلى اللوحة كصورة ايقونية للعذراء وطفلها الرضيع. وربّما كان هذا الخلط سببا إضافيا في الشهرة والشعبية الدائمة التي اكتسبتها.
الموديل في اللوحة اسمها انجيلينا. كانت وقتها في الحادية عشرة من عمرها. والطفل الذي تحمله هو شقيقها الأصغر ذو الأشهر العشرة. كان الرسّام قد رأى الفتاة والطفل في فينيسيا ذات شتاء. كانت ترتدي ملابس ثقيلة وتحمل شقيقها إلى صدرها لحمايته من البرد.
ورغم أنها كانت ما تزال صغيرة السنّ، إلا أنها كانت تُظهر إحساسا عميقا بالأمومة وهي تحتضن الطفل. كان فيروتزي في ذلك الوقت في الأربعينات من عمره، وقد رأى انجيلينا فذهل لجمالها وبراءة ملامحها وقرّر أن يرسمها هي وشقيقها.
وعندما عُرضت اللوحة في بينالي فينيسيا من ذلك العام سرعان ما اكتسبت ثناء النقّاد واستحسان الجمهور ونال عليها الرسّام جائزة. وشيئا فشيئا، أصبحت اللوحة تُعامَل بشيء من القداسة واستنسخت آلاف المرّات لمناسبات أعياد الميلاد والزواج وغيرها من المناسبات الدينية والاجتماعية. وعلى مرّ السنين ظهرت منها نسخ معدّلة أضيف إليها غيوم وهالات مقدّسة كي تدعم التفسير الديني لها.
كان فيروتزي يريد تصوير لحظة من لحظات الحنان والعطف بين أخت وشقيقها، فرسم صورة خالدة تتحدّث إلى جميع الناس بعفويّتها وصدقها. الفتاة تظهر في اللوحة وهي تحمل شقيقها النائم على كتفها بسلام وتقف على أعتاب احد البيوت وكأنها تتوسّل من أهله المأوى أو الطعام. وأهمّ ما يلفت الانتباه في الصورة هو وجه الفتاة ذو الملامح الجميلة وعباءتها الخضراء وغطاء رأسها الذهبي وكذلك الملامح الملائكية للطفل النائم.
بعد بضع سنوات من رسم هذه اللوحة، تزوّجت انجيلينا وهي في سنّ التاسعة عشرة وغادرت مع زوجها ايطاليا إلى الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الأولى حيث استقرّا في كاليفورنيا. وقد عاشا هناك حياة مريحة وأنجبا عشرة أطفال. وفي عام 1929 توفّي زوج انجيلينا فجأة عن اثنين وأربعين عاما بعد إصابته بمرض مفاجئ.
وقد كافحت انجيلينا بعده كثيرا من اجل إعالة ورعاية أسرتها الكبيرة. لكن بفعل التعب والإجهاد، أصيبت بانهيار عصبيّ وقضت بقيّة حياتها في مصحّة نفسية. وقد اخذ أبناؤها الأصغر سنّا وأودعوا في ملجأ للأيتام. لكنهم ظلوا أوفياء لأمّهم حتى وفاتها في عام 1972.
إحدى بنات انجيلينا، واسمها ميري، أصبحت راهبة. وكانت تلحّ عليها أسئلة بشأن ماضي عائلتها وظروف موت والدها وجنون أمّها. كما كانت تتساءل عن أقارب والديها في ايطاليا وهل ما يزال احد منهم على قيد الحياة وماذا بإمكانهم أن يخبروها عن أسلافها.
وقد ذهبت ميري بالفعل إلى ايطاليا عام 1970م وعرفت مكان اثنتين من شقيقات والدتها، أي خالاتها. كانت الاثنتان في الثمانينات من عمرهما وكانتا قد فقدتا الأمل في معرفة ما الذي حدث لشقيقتهما بعد أن هاجرت مع زوجها إلى أمريكا.
إحدى الأختين أظهرت لميري صورة خاصّة لأمّها عندما كانت صبيّة وأخبرتها أن والدتها كانت موديل لوحة رُسمت في نهاية القرن قبل الماضي. وكانت ميري قد رأت نسخا من اللوحة، لكن لم يخطر ببالها أن المرأة التي تظهر فيها يمكن أن تكون أمّها.
عائلة ميري في الولايات المتحدة أدهشها الاكتشاف وقرّرت أن تتأكّد من القصّة. وبعد البحث والتقصّي، عرفوا مكان ابن شقيق الرسّام الذي كان ما يزال حيّا. واعتمادا على مذكّرات الرسّام الشخصية، ظهر دليل دامغ على أن والدة ميري كانت هي فعلا المرأة التي تظهر في اللوحة. كما تمّ التعرّف على الطفل الذي معها، وهو شقيقها الرضيع جيوفاني الذي كان عمره آنذاك عاما واحدا.
أثناء حياتها، لم تخبر انجيلينا أطفالها أبدا بأمر اللوحة وفضّلت أن تُبقي ذلك الأمر طيّ الكتمان لأسباب غير معروفة. غير أن عائلتها لا تبدو الآن سعيدة بعنوان اللوحة أي "مادونا الشوارع"، ربّما لأنه يشير بشكل غير مباشر إلى الدعارة. وترى العائلة أن العنوان الأصلي، أي الأمّ الصغيرة، يُعتبر أفضل.
وما يزال أحفاد انجيلينا يبحثون عن اللوحة الأصلية دون نتيجة. وهم يؤكّدون أنهم لا يطالبون بملكيّتها، وإنما يريدون رؤيتها ولمس ألوانها وتفاصيلها بحكم أن الرسّام كان يعرف جدّتهم وجدّهم عن قرب.
ويقال إن اللوحة الأصلية اختفت من ايطاليا أثناء الحرب العالمية الثانية وأنها قد تكون ضاعت أثناء رحلة بحرية في المحيط الأطلنطي. لكن هناك رأيا آخر يقول إن اللوحة قد تكون أخذت طريقها إلى إحدى المجموعات الفنّية الخاصّة في أمريكا.
كان روبيرتو فيروتزي معروفا في ايطاليا في السنوات الأخيرة من القرن الماضي. وقد ولد في فينيسيا عام 1853 لأب يعمل محاميا، ودرس الرسم في سنّ مبكرة. وفي مرحلة تالية انتظم كطالب في جامعة بادوا. لوحته هذه هي أشهر أعماله، لكنّ له أعمالا أخرى اقلّ شهرة تتوزّع على متحفي فينيسيا وتورين. وقد توفّي الرسّام في فينيسيا في فبراير عام 1934.