Monday, January 28, 2008

لوحات عالميـة - 157

الأمــــل
للفنان البريطاني جـورج فريدريـك واتـس، 1886

قد لا تصنّف هذه اللوحة ضمن الأعمال الفنّية التي تثير الفرح أو تبعث على البهجة والارتياح، لكنها مع ذلك تحمل فكرة إنسانية عظيمة وتثير أجمل وأنبل ما في النفس الإنسانية من مشاعر وأحاسيس.
عندما أتمّ جورج واتس رسم اللوحة منذ أكثر من مائة عام، سرعان ما وجدت طريقها إلى كلّ بيت وأصبحت حديث الناس والنقاد، على السواء، في بريطانيا.
وبالنظر إلى مضمونها العاطفي والإنساني العميق، فقد انتشرت اللوحة حول العالم واستنسخت مرارا وتكرارا وظهرت العديد من قصائد الشعر التي تستمدّ من مضمون اللوحة موضوعا لها.
العنوان قد لا يدلّ على جوّ اللوحة، إذ نرى امرأة معصوبة العينين وحافية القدمين وهي تجلس في وضع انحناء فوق ما يبدو وكأنه مجسّم للأرض بينما راحت تعزف على آخر وتر تبقّى في قيثار مكسور.
تعابير وجه المرأة غامضة إلى حدّ ما، بينما يغرق المشهد كله في موجات مهتزّة من اللازوردي والأصفر بتدرّجاتهما المشعّة.
بعض النقاد يرون أن اللوحة تعبّر في الواقع عن اليأس وتثير إحساسا بالحزن، بينما يرى آخرون أنها تعبّر عن تمسّك الإنسان بالأمل ورفضه الاستسلام لليأس. فالمرأة مستمرّة في العزف حتى بعد أن لم يتبقّ في قيثارتها سوى وتر وحيد.
واتس كان احد أعظم الفنانين الذين ظهروا خلال العصر الفيكتوري، وكان للوحاته مضامين رمزية؛ أخلاقية وفلسفية وروحية.
في ذلك العصر كان الفنانون والأدباء والشعراء مفتونين بالموسيقى وعناصر الجمال المختلفة. ومثل معظم معاصريه، كان واتس منشدّا إلى فكرة الموت، إذ كان يرى فيه مفسّرا للحياة وامتدادا لها.
وربّما لهذا السبب، تروق لوحاته كثيرا للمتديّنين وللفئات الاجتماعية المحرومة، بالنظر إلى طبيعتها الروحية التي تضفي على مشاعر الحزن والألم واليأس طابعا من الجمال والنبل والقداسة.
كان واتس يرسم الأفكار لا الأشياء، وكثيرا ما كان يحيط شخوص لوحاته بأجواء ضبابية أو غائمة للإيحاء بأنها انعكاس لأفكار ورؤى معيّنة.
وكان يعتقد دائما أن باستطاعة الفن أن يعبّر عن قوّة الحياة وإرادة الإنسان.
وفي الوقت الذي كان معاصروه يميلون إلى تصوير الأمل والمعاناة والحزن والحياة والموت على هيئة نساء إغريقيات يرتدين ملابس طويلة وشفّافة، كان واتس يجد كل هذه المعاني والظواهر داخل نفسه ويعبّر عنها بمناظره التي يرسمها اعتمادا على معرفته وخبراته الذاتية وميله للتأمّل والنزوع الفلسفي.
والذي يتملّى البناء الفنّي لهذا اللوحة المتميّزة لا بدّ وأن ينصرف تفكيره إلى لوحة بيكاسو الشهيرة عازف الغيتار العجوز، التي تصوّر عجوزا أعمى يعزف على غيتاره بلا اهتمام.
وهناك من المؤرّخين والنقاد من ذهبوا إلى أن لوحة واتس، الموجودة اليوم في متحف تيت البريطاني، تتضمّن صورة سياسية مجازية، وأن المرأة ليست في الحقيقة سوى رمز لبريطانيا التي فتحت العالم وبلغت أوج مجدها وانتصاراتها خلال حكم الملكة فيكتوريا.
لكن ذلك كله لم يجلب السلام ولم يحقّق للناس السعادة وراحة البال التي كانوا يتطلعون إليها في ذلك الوقت.

Wednesday, January 23, 2008

لوحات عالميـة - 156

بـورتريـه دراكـيــولا
(القرن الخامس عشر الميلادي)

يعتبر دراكيولا احد أشهر الشخصيّات التاريخية التي ظهرت في أوربّا خلال القرون الوسطى.
وقد ُنسجت عن هذا الرجل وعن حياته الكثير من الأساطير والقصص الغريبة، وأصبح مادّة للعديد من الأعمال الأدبية والمسرحية والموسيقية، وكُتب عنه الكثير من الدراسات النفسية والانثروبولوجية التي تتناول ظاهرته بالدراسة والتحليل.
وطوال الخمسمائة عام الأخيرة أصبح دراكيولا (واسمه الأصلي فلاد تيبيس Vlad Tepes) رمزا للساديّة والعنف والوحشية.
ويحتفظ التاريخ المدوّن بقصص تقشعر لها الأبدان، وأحيانا تستعصي على التصديق، عن مدى همجية هذا الرجل وقسوته المتجاوزة.
فقد ُعرف عنه انه كان يعاقب أعداءه بإلقائهم في النار أو في صهاريج الزيت المغلي أو بسلخ جلودهم وهم أحياء.
لكن معظم ضحاياه ماتوا على الخازوق، وتلك كانت وسيلته المفضّلة في قتل خصومه. ولهذا الغرض كان يقيم حفلات إعدام جماعية يتناول خلالها الطعام مع النبلاء وسط صرخات وأنين الضحايا المحتضرين. ويبدو أن غايته من وراء استخدام تلك الأساليب الرهيبة كانت ردع كل من تسوّل له نفسه خيانته أو التآمر عليه.
والغريب أن بعض النبلاء الذين كانوا يحضرون معه حفلات الإعدام تلك انتهى بهم الأمر في نهاية المطاف إلى الإعدام بنفس الطريقة.
وفي إحدى المرّات عمد إلى دقّ رؤوس مبعوثي السلطان العثماني محمّد الفاتح بالمسامير لأنهم رفضوا خلع عمائمهم في حضرته.
وتذكر بعض الروايات أن دراكيولا كان يستحمّ بدماء بعض ضحاياه لكي يحتفظ بشبابه وقوّته.
السؤال الذي قد يكون خطر بذهن كلّ من قرأ شيئا عن سيرة حياة هذا السفّاح الكبير هو: ترى كيف كانت هيئته وكيف كانت تبدو ملامح وجهه؟
هذا البورتريه، الشهير والمألوف كثيرا، يوفّر بعض الإشارات التي تقود إلى إجابة ما عن هذا السؤال.
في البداية، لا يُعرف على وجه التحديد من رسم البورتريه. لكن أهميّته أنه ُرسم أثناء حياة دراكيولا، أي أن الرسّام إما انه رأى الرجل عيانا أو انه على الأقل سمع بعضا من أوصافه على ألسنة الناس الذين رأوه.
واللوحة تثير مجدّدا السؤال القديم عن العلاقة بين ملامح الإنسان أو شكله الخارجي وبين نمط سلوكه وطبيعة تصرّفاته.
ملامح الوجه غريبة إلى حدّ ما. هنا لا عظام ولا دم ولا عضلات. العينان واسعتان والأنف حادّ ودقيق والحواجب رفيعة والشارب طويل، مجعّد وملفوف. شعر الرأس هو الآخر طويل، كثيف ومجعّد. ويمكن للناظر أن يتخيّل لأول وهلة أن الشعر الطويل جزء من غطاء الرأس.
الانطباع الذي يوحي به بورتريه دراكيولا هو أننا أمام رجل صارم وقويّ الشخصية، بدليل فمه المطبق ونظراته النافذة والتي تشي بسيطرته على كلّ ما حوله ومن حوله.
شكل العمامة التي يضعها على رأسه لا تخلو من أناقة تبدو شرقية الطابع. وهناك في وسطها نجمة ذهبية تتوسّطها لؤلؤة حمراء.
تقول بعض المصادر التاريخية إن الجيش التركي ضرب حصارا على قلعة ترانسيلفانيا حيث كان دراكيولا يتحصّن. وبعد أيّام من الحصار هرب عبر نفق تحت الأرض ليختبئ في الجبال. لكن زوجته فضّلت أن تلقي بنفسها من أعلى القلعة لتلقى حتفها.
غير أن دراكيولا لم يلبث أن لقي مصرعه على يد الأتراك في العام 1476م.
وقد ُقطع رأسه وأرسل إلى السلطان العثماني في القسطنطينية فيما ُدفنت بقاياه في أحد الأديرة.
بعد قرون، أمرت السلطات الرومانية بحفر القبر، لكن لم ُيعثر فيه سوى على عظام حيوان ميّت. وهذا أفسح المجال لرواج شائعات تقول إن قوى شيطانية اختطفت الجثة وأن دراكيولا تحوّل بعد ذلك إلى مصّاص للدماء بعد أن لحقته اللعنة الأبدية.
وبعد أربعمائة عام على اختفائه، استؤنف الحديث مجدّدا عن دراكيولا بفعل النجاح الساحق الذي حقّقته رواية دراكيولا للكاتب الايرلندي برام ستوكر.
هذه الرواية تحوّلت في ما بعد إلى فيلم سينمائي أخرجه فرانسيس فورد كوبولا وشكّلت بداية حقبة مهدّت لرواج فكرة الفامبايرزم Vampirism أو تقليد مصّ الدماء وانتشارها على نطاق واسع، حيث أصبحت موضوعا للعشرات بل المئات من الأعمال الروائية والمسرحية والسينمائية التي تمتزج فيها الحقيقة بالخيال.
بشكل عام، يمكن القول إن هذه اللوحة قد لا تنطوي على قيم جمالية ظاهرة، لكن أهمّيتها تتلخص في كونها تقدّم صورة بصرية مقرّبة عن الطبيعة الشرّيرة والقاسية لصاحبها.
بعض معاصري دراكيولا يصفونه بأنه كان رجلا صارما شديد المراس ذا عينين خضراوين واسعتين وحواجب كثّة وعنق ضخم.
دراكيولا لم يكن الطاغية الوحيد الذي مثّلت شخصيّته تشكيليا، فهناك العديد من اللوحات والأعمال النحتية التي تصوّر شخصيّات كريهة أخرى مثل نيرون وجنكيز خان وكاليغولا وغيرهم.
أما بالنسبة للفامبايرزم فقد أصبح اليوم ثقافة شعبية قائمة بذاتها في الغرب وجزءا لا يتجزّأ من الأدب والفنّ وحتى الفلكلور.
وتحتشد الأفلام السينمائية التي تتحدّث عن هذه الظاهرة، عادة، بصور الأشباح والقبور والقلاع المظلمة والخفافيش والذئاب والبوم والبرق والمطر والعواصف وضوء القمر الشاحب والضباب.
وبعض النقاد يرجعون أسباب هوس الناس بالفكرة إلى كونها تلامس مخاوف الإنسان العميقة كما أنها ترتبط بالجوانب المظلمة للطبيعة البشرية.
وهناك أيضا الجانب المتعلق بميل الإنسان لكل ما هو ممنوع وتطلعه للشباب الدائم والخلود.
ثم هناك أيضا عنصر الدم نفسه الذي يحتلّ مكانا مركزيا في الشعور الديني من حيث ارتباطه بالتضحية والتطهير.
وأخيرا هناك عنصرا السلطة والإغراء الجنسي اللذان أصبحا جزءا لا يتجزّأ من صورة مصّاص الدماء كما يقدّمه الأدب والفنّ.

موضوع ذو صلة: قراءات في أدب وسينما الرعب

Tuesday, January 15, 2008

لوحات عالميـة - 155

في ذكرى الشاعرة برفين اعتصامي
للفنان الإيراني مرتضـى كاتوزيـان، 1985

يقال أحيانا أن الشعر يصبح مفهوما أكثر عندما يتحوّل إلى موسيقى أو إلى عمل تشكيلي.
والفنان، رسّاما كان أم شاعرا أم موسيقيا، اعتاد أن يرى العالم بعين أكثر حساسية وشمولا، فهو يلتقط التفاصيل ويلاحظ الحالات والظواهر المختلفة ويستمتع برصدها وتأمّلها وتصويرها.
في هذه اللوحة الجميلة يصوّر مرتضى كاتوزيان منظرا استوحاه من قصيدة للشاعرة الإيرانية الراحلة برفين اعتصامي تتحدّث فيه عن طفل يكسر آنية خزفية عن غير قصد ثم لا يجرؤ على العودة إلى البيت خوفا من غضب والده.
اعتصامي اشتهرت بمواقفها وأفكارها وقصائدها الجريئة الداعية لتحرير المرأة.
وقد تأثرت بأفكار والدها الذي كان هو الآخر مناصرا لحقوق النساء، كما عرف عنه ترجمته لكتاب الشيخ قاسم أمين "تحرير المرأة" إلى الفارسية.
وقد توفيت اعتصامي عن عمر لا يتجاوز الخامسة والثلاثين بعد تجربة زواج فاشل لم يدم أكثر من شهرين. وفي أخريات حياتها كتبت قصائد حزينة تتعاطف فيها مع الفئات المحرومة في المجتمع خاصة الأطفال الفقراء واليتامى.
في اللوحة نرى طفلا بملامح بريئة وملابس رثّة وهو جالس يغالب النعاس في زاوية بأحد الشوارع. والى جواره تبدو آنية فخار مكسورة.
المشهد يوحي بالفقر الشديد: الجدران في الخلفية وكذلك ملابس الطفل خصوصا البنطلون المهلهل والمرقّع بقطع حمراء وسوداء.
اللوحة يغلب عليها اللونان الأصفر والبنّي وظلالهما. وثمّة تناغم وتناسق واضح بين الألوان كما يبدو جليا أيضا إتقان الفنان رسم الأطراف. وإن كان يلاحظ أن القدم اليمنى للصبي تبدو اكبر قليلا من عمره المفترض.
هناك أيضا الظلال التي رسمت بعناية وبراعة لافتة. والمنظر بأكمله يدفع الناظر إلى التعاطف مع الحالة الإنسانية التي تجسّدها اللوحة.
مرتضى كاتوزيان يعتبر واحدا من أشهر الفنانين التشكيليين في إيران.
والبعض يصفه بأنه رسّام الفقراء والمهمّشين. وهو ينتمي للطبقة الوسطى وينحدر من عائلة تحبّ الرسم والفنون. ومعروف أن كاتوزيان لم يتتلمذ على يد احد بل علّم نفسه بنفسه إلى أن اخذ أسلوبه في الرسم في النضج والتبلور.
التأثير المتبادل بين الشعر والرسم أمر ليس بالطارئ ولا بالجديد. فـ يوهان فيرمير، مثلا، استوحى مواضيع بعض لوحاته من قصائد أو روايات.
في المقابل تحوّلت عناوين وأجواء بعض لوحات فان غوخ ورينيه ماغريت ووليام ووترهاوس وادفارد مونك إلى أعمال شعرية وروائية وموسيقية.
عنوان لوحة كاتوزيان ربّما يثير ملاحظة قد تبدو شكلية إلى حدّ ما، فهو يبدو طويلا بعض الشيء وقد يراه البعض مملا وغير مناسب. ولو أن الفنان اختار للوحة عنوانا مختصرا مثل "الإناء المكسور" أو "آنية الخزف المكسورة" لكان وقعه أفضل وأجمل. في حين يمكن وضع العنوان الطويل في حيّز فرعي وبين قوسين للتأكيد على فكرة اللوحة وتوضيح مناسبتها.
أما فكرة رسم طفل أو طفلة والى جواره آنية أو مزهرية مكسورة فهي فكرة قديمة في الفنّ وطالما استهوت العديد من الرسّامين.
لكن يمكن القول إن أشهر لوحات هذه الثيمة وأكثرها انتشارا ورواجا هي لوحة رسّام القرن التاسع عشر الفرنسي ايميل مونيير Emile Munier's The Broken Vase بعنوان المزهرية المكسورة.

موضوع ذو صلة: إطلالة على الموسيقى الإيرانية

Monday, December 31, 2007

لوحات عالميـة - 154

لاس هيلانديراس أو أسطورة اراكنـي
للفنان الإسباني دييـغـو فـيلاســكيــز، 1657

رسم فيلاسكيز هذه اللوحة في السنوات الأخيرة من حياته. ومنذ ذلك الوقت، ُينظر إليها كأحد أعظم الأعمال التشكيلية التي أنتجها عصر النهضة الأورّبي.
وقد استقطبت اللوحة اهتمام الكثير من النقّاد والمؤرّخين الذين تباينت تفسيراتهم وتحليلاتهم لمضمونها.
وعبر العصور المختلفة حاول الكثيرون "تفكيك" هذه اللوحة في محاولة لكشف أسرارها والاقتراب من عالمها السحري، غير أن ذلك لم يؤدّ سوى إلى زيادة غموضها.
والبعض يعتبر أن هذه اللوحة أشبه ما تكون بلوحة الشطرنج لشدّة إبهامها واستعصائها على أي شرح أو تفسير.
كان فيلاسكيز رسّاما عظيما واستثنائيا وكان سابقا لزمانه بفضل موهبته المبدعة وعقليته الفذّة المفكّرة. وقد رسم لاس هيلانديراس "أو عاملات النسيج بالاسبانية" بناءً على طلب احد أصدقائه في القصر.
واللوحة تتضمّن أسطورة داخل أسطورة. والموضوع الرئيسي فيها استوحاه الرسّام من أسطورة اراكني الإغريقية التي أوردها الشاعر الروماني اوفيد في كتابه التحوّلات .
وتحكي الأسطورة قصّة فتاة تدعى اراكني، كانت بارعة في الرسم على النسيج.
وكانت رسوماتها محلّ إعجاب الناس الذين كانوا يتوافدون من أماكن بعيدة لمشاهدتها وهي ترسم. ولم يكن بعضهم يتردّد في دفع أغلى الأثمان مقابل الحصول على قطعة من السجّاد المزيّن بأحد رسوماتها.
وكان أصدقاء اراكني ومعارفها يلحّون عليها بأن تشكر أثينا "آلهة الحكمة والمهن الحرفية" التي أنعمت عليها بتلك الموهبة. لكنها كانت تردّ دائما بأن لا دخل للآلهة في الأمر، وأنّ مهارتها نابعة من جدّها ومثابرتها وإصرارها على تعليم نفسها بنفسها.
وبلغ من ثقة اراكني بذاتها أنها كانت تجاهر بالقول أن بإمكانها أن ترسم بأفضل ممّا ترسم الآلهة.
وحسب الأسطورة، كان على أثينا أن تتدخّل لكبح غرور اراكني ومعاقبتها على تحدّي الآلهة والتنكّر لنعمتها.
وفي أحد الأيام تجسّدت الآلهة أثينا على هيئة امرأة عجوز. وقالت مخاطبة اراكني: إن غرورك واعتدادك بنفسك اكبر من موهبتك، وأنّ الآلهة لا يمكن أن تتسامح معك أو تغفر لك تجاوزك وسخريتك".
واللوحة تصوّر هذا الجزء من الأسطورة.
في مقدّمة المشهد إلى اليسار نرى النقاش الذي يجري بين أثينا المتخفّية في زيّ امرأة عجوز واراكني "العاصية".
اراكني الممسكة بطرف الستارة الحمراء والمصغية باهتمام لحديث العجوز لا يظهر من تعابيرها أو ملامحها أنها تدرك خطورة العقوبة التي تنتظرها. كما لا يبدو أن الفتيات الأخريات مهتمّات أو معنيّات بما يجري.
وفي منتصف اللوحة، تقريبا، نرى فتاة ترتدي فستانا احمر وتنظر بصمت إلى أسفل. ووضعية جلوسها والطريقة التي تنظر بها هما عنصران قد يكون الفنان وظفهما لإثارة انتباه الناظر إلى أن ثمّة رابطا بين ما يجري في معمل النسيج وما يحدث على المسرح في الخلفية.
مقدّمة اللوحة معتمة نسبيا والإضاءة تتركّز في الخلفية لأنها تحكي الجزء الأهم من الأسطورة. هناك بوسع الناظر أن يرى صورة حيّة عن ما يجري، ويبدو الأشخاص في ذلك الجزء واقفين في وضعية مرتّب لها جيدا ويتحرّكون بطريقة لا تخلو من مسرحية.
في الخلفية يظهر ما يشبه المحراب المزيّن بالنقوش والألوان الجميلة. هذا المنظر الذي لا يخلو من مهابة وجلال يعطي انطباعا بأن هذه البقعة تمثّل المجال المقدّس لأثينا الحقيقية التي تظهر هناك مع مجموعة من وصيفاتها وقد اتخذت هيئة عسكرية وارتدت قبّعة نحاسية وهي تتلو الحكم على اراكني والذي يقضي بأن تتحوّل إلى عنكبوت!
وفي الخلفية أيضا، على الجدار، نرى جزءا مما يفترض انه آخر قطعة نسيج رسمتها اراكني وهي نسخة من لوحة فنّان عصر النهضة الايطالي تيشيان "اختطاف أوروبّا " وهي أسطورة إغريقية أخرى تروي قصّة اختطاف زيوس لأوربّا ابنة ملك فينيقيا بعد أن بهره جمالها.
ترى هل أراد فيلاسكيز من وراء اختيار هذه اللوحة بالذات ووضعها في الخلفية الإيحاء بأن غضب الآلهة على اراكني كان مضاعفا على اعتبار أنها تجرأت على ذكر تجاوزات كبير الآلهة الذي يبدو في مشهد لا يخلو من الحسّية والإثارة؟
ولماذا اختار الفنان أن يضع ذروة الحدث في الخلفية وليس في الجزء الأمامي من اللوحة كما يقتضي المنطق؟
وهل تتضمّن اللوحة رسائل ضمنية من نوع ما، سياسية أو اجتماعية؟
أيّا تكن الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، فإن من الواضح أن اللوحة تتحدّث عن طبيعة الفن وعن العلاقة بين الإبداع والتقليد، الإله والإنسان، والطالب والتلميذ. وربّما أراد الفنان أن يقول إن الرسم ذو طبيعة مقدّسة تميّزه عن المهن والحرف الشعبية التي لا يتطلب الإلمام بها الكثير من الإبداع والثقافة.
وممّا لا شكّ فيه أن اللوحة – الأسطورة تنطوي على فكرة أخلاقية وتربوية مهمّة، وهي أن على الإنسان مهما أوتي من علم أو معرفة أو دراية أن يتحلّى بالتواضع وأن يحذر من مغبّة تضخيم الذات وأن يدرك أن هناك دائما من هو أعلم منه وأكثر مهارة وتفوّقا.
الألوان هي إحدى السمات البارزة في اللوحة حيث تبدو على درجة عالية من التناغم والحيوية. ثم هناك الكتل والفراغات التي تذوب وتتداخل مع بعضها البعض في إيقاع متناسق. فكل شخص وكل تفصيل مرسوم في المكان الذي يجب أن يكون فيه، والمسافات والأبعاد محسوبة بدقّة وعناية. وفيلاسكيز كان معروفا عنه براعته في توزيع الكتل واستخدام الألوان وتشكيلها ومزجها.
إن كل لوحة من لوحات فيلاسكيز تثير الأسئلة والنقاشات التي لا تنتهي. وهو كان ميّالا لمزج الرسم بالفكر والفلسفة.
وربّما كان يبغي من وراء ملء مناظره بالرموز الغامضة والإشارات المبهمة أن يؤكّد على أن الرسم فنّ متغيّر بطبيعته، وأن تفسير العمل الفني يتفاوت من شخص لآخر ويختلف ويتغيّر مع تغيّر الظروف والأوضاع.
وهناك اليوم من النقّاد والمؤرّخين من أوقفوا حياتهم على دراسة لوحات فيلاسكيز واستكناه معانيها ودلالاتها وأصبحوا يسمّون بـ "الفيلاسكيزيين" نسبة إلى اسم الفنان.
وأخيرا توحي هذه الأسطورة بأن أصل النسيج يعود إلى تقليد الإنسان ومحاكاته للعنكبوت. ومن اسم "اراكني" بطلة الأسطورة اشتقّ في ما بعد مصطلح "الاراكنوفوبيا" الذي يرمز إلى ظاهرة الخوف المرضي من العناكب.

Thursday, December 13, 2007

لوحات عالميـة – 153

نبـوءات حـافــظ
للفنان الإيراني إيمـان مـالكــي، 2003

لشدّة واقعية هذه اللوحة ووضوح ودقّة تفاصيلها، قد يظنّها الناظر لأوّل وهلة صورة فوتوغرافية.
وهذه النقطة ربّما تثير بعض الإشكالات والتساؤلات. لكن لا بدّ أولا من قراءة اللوحة والمرور سريعا على بعض تفاصيلها.
في اللوحة نرى شقيقتين تجلسان في شرفة منزلهما المطلّ على منظر حضري.
الكبرى تمسك بنسخة من ديوان حافظ الشيرازي بينما راحت الصغرى تحدّق فيها بانتظار ما ستقرؤه من شعر.
وباستثناء السماء الممتدّة التي يختلط فيها الغبار بالغيم، لا توجد في الخلفية الكثير من التفاصيل ما عدا بعض الأشجار والبنايات التي تلوح من بعيد.
وقد يكون الفنان أراد من وراء الاقتصاد في رسم الخلفية تركيز انتباه الناظر إلى الموضوع الأساسي؛ أي الفتاتين والجوّ الذي يوحي به الحوار في ما بينهما بشأن الكتاب.
المشهد فيه إحساس حالم وقدر غير قليل من الرومانسية. والتعابير البادية على ملامح الفتاتين هي مزيج من الحزن والترقّب.
بالنسبة للإيرانيين، فإن حافظ الشيرازي ليس مجرّد شاعر فحسب، بل هو جزء لا يتجزّأ من الروح الإيرانية نفسها. وربّما لا يضاهيه شهرة وذيوعا سوى عمر الخيّام.
وقد بلغ من شعبية حافظ وتعلّق الناس بأشعاره أنهم يسمّونه ترجمان الأشواق ولسان الغيب، في إشارة إلى قدرته على التنبّؤ بالمستقبل وكشف الحُجُب واستشراف المجهول.
ولا يخلو بيت في إيران من نسخة من ديوانه. وقد اعتاد الناس في مناسباتهم الاجتماعية والروحية على استنطاق الديوان لمساعدتهم في معرفة ما سيحمله لهم المستقبل من أحداث سارّة أو محزنة. ويحدث أن يفتح الشخص صفحة من الكتاب بطريقة عشوائية ثم يقرأ ما هو مكتوب فيها بصوت مسموع. وبذا يستطيع، بمساعدة الشروحات والهوامش المرفقة، قراءة طالعه ومعرفة ما يخبّئه له المستقبل.
ولأن أمور الحبّ والزواج، والمسائل العاطفية عموما، تشغل بال المرأة أكثر من الرجل عادة، فإن النساء هنّ الأكثر إقبالا على قراءة تنبّؤات حافظ وتصديقها باعتبارها معجزات وكرامات.
من الأشياء اللافتة في اللوحة ارتداء الفتاة الكبرى ملابس تقليدية محافظة إلى حدّ ما. كما أنها تلبس خاتم الخطوبة، وهذا تفصيل لا يخلو من دلالة. وثمّة احتمال بأن ما يشغلها أمر قد يكون له علاقة بالمسائل العاطفية من حبّ وزواج وخلافه.
ومن حيث الهيئة، تبدو الفتاة الصغرى أكثر انطلاقا وتحرّرا بدليل بنطلون الجينز الأزرق الذي ترتديه والذي برع الفنان في تصوير تفاصيله وخيوطه الدقيقة.
والحقيقة أن كلّ ما في هذه اللوحة واقعي بامتياز. وهي تذكّر إلى حدّ كبير بلوحات فيرمير و بوغورو.
الألوان الباردة والمتناسقة هي أحد ملامح الجمال والجاذبية في اللوحة. كما أن أسلوب الفنان في رسم السجّاد والملابس ووضعية الفتاتين وملامحهما التي لا تخلو من طهرانية، كل ذلك يخلع على المشهد إحساسا بالبراءة والقداسة. وممّا يعزّز هذا الإحساس طريقة وقوف الفتاة الكبرى وانحناءتها الصامتة والمتأمّلة التي اختار لها الرسّام خلفية كاملة من السماء والغيم.
ولا بدّ للناظر إلى هذه اللوحة أن يتخيّل أن الفنان، وهو يرسم، كان يحاول النفاذ إلى العالم الداخلي والخاص لفتاتين تعمر قلبيهما الكثير من الأحلام والتطلّعات. وقد نجح في تصوير مزاجيهما وروحيهما الشابّة من خلال هذا المنظر الأثيري البديع الذي يمتزج فيه الحلم والبراءة بالجمال المتسامي والمثالي.
في الآونة الأخيرة ازداد الاهتمام برسومات إيمان مالكي وانتشرت لوحاته على نطاق واسع وأصبح اسما معروفا في الأوساط الفنية العالمية. ومؤخّرا نال جائزة بوغورو الفرنسية بالنظر إلى التشابه الكبير بين أسلوب الرسّامَين الإيراني والفرنسي.
الجدير بالذكر أن مالكي تتلمذ على يد الفنان الكبير مرتضى كاتوزيان كما درس في كلية الفنون بطهران ومنذ صغره كان يبدي اهتماما واضحا بالرسم.
ومالكي يعتبر الأخير في سلسلة أسماء الرسّامين الإيرانيين الذين نالوا شهرة عالمية، مثل محمود فرشجيان وفريدون رسولي وكاتوزيان وسواهم.
أسلوب مالكي أعاد إلى الواجهة جدلا قديما حول "أصالة" الأعمال التشكيلية الشديدة الواقعية.
فبعض النقّاد يرى أنها تفتقر إلى الروح والتلقائية وأن لا فرق بينها وبين التصوير الفوتوغرافي الذي ينقل الواقع كما هو وبطريقة كربونية.
كما يرى هؤلاء بأن ما يسمّى "تأثير الكاميرا" يكبّل الفنان ويشلّ مخيّلته ويحرمه من التحليق في فضاء الخلق والإبداع الحقيقي.
لكن هناك فريقا آخر يرى بأن الرسومات التشكيلية الواقعية تتوفّر هي أيضا على الكثير من عناصر الإبداع والمتعة، وأن اللجوء إلى الكاميرا أحيانا لا يعدّ أمرا سيئا. "فيرمير" فعل شيئا مثل هذا من قبل بتوظيفه تقنية الغرفة المظلمة وأنتج أعمالا لا يختلف الناس اليوم حول تميّزها وغناها من حيث الشكل والمضمون.
وأيّا ما كان الأمر، يمكن القول إن ألوان مالكي الناعمة ومناظره الحالمة وملامح شخوصه القريبة من القلب تشكّل متعة حقيقية للعين. وإحدى سمات الفنّ الناجح هو انه يوفّر المتعة ويبعث في نفس ووجدان المتلقي إحساسا بالارتياح والبهجة والطمأنينة.

موضوع ذو صلة: ديوان حافظ الشيرازي

Tuesday, December 04, 2007

لوحات عالميـة – 152‏

شمشــون و دليـلــة
للفنان الهولندي بيتـر بـول روبنــز، 1610

كلف نيكولاس روكوكس صديقه الفنان روبنز برسم لوحة تتّخذ من قصّة شمشون ودليلة موضوعا لها كي يعلّقها في منزله.
وشمشون، حسب ما تذكر الأساطير، كان بطلا يهوديا يقال انه كان يتمتّع بقوى وقدرات جسدية خارقة.
وتذكر الروايات الانجيلية أن ملاكا ظهر لامّه قبل أن يولد وأخذ عليها عهدا بأن تحسن تربيته فتمنع عنه الخمر ولا تطعمه إلا الغذاء الطيّب وأن لا تقصّ شعر رأسه أبدا.
ويقال إن شمشون كان يصارع أعداءه فينتصر عليهم لوحده مهما كان عددهم وعدّتهم. وتروي بعض القصص كيف انه صارع سبعا ضخما فصرعه، وكيف اقتلع بوابّات مدينة محصّنة بيديه العاريتين، وكيف أباد جيشا بأكمله وليس معه من سلاح سوى عظمة حيوان ميّت! إلى آخر تلك القصص الغريبة.
وقد حاول أعداء شمشون مرارا القبض عليه أو قتله، غير أنهم لم يستطيعوا.
لكن سقوط شمشون تحقّق عندما وقع في حبّ امرأة جميلة تدعى دليلة. وقد رشا أعداؤه المرأة كي تساعدهم في معرفة مصدر قوّته ومن ثم تمكينهم من السيطرة عليه.
وفي إحدى الليالي وبعد عدّة محاولات من المرأة، كشف لها سرّ قوّته المتمثل في شعره الذي لم يقصّ أبدا.
واللوحة تصوّر هذا الجزء من القصّة.
وفيها نرى شمشون بلحيته السوداء وجسده القويّ راقدا في حضن دليلة في ما يبدو وكأنه نهاية ليلة غرامية طويلة.
صدر المرأة ما يزال مكشوفا وعيناها نصف مغمضتين، بينما انهمك شخص بقصّ شعر شمشون النائم على ضوء شمعة تحملها امرأة عجوز.
وفي الخلفية يظهر تمثال لفينوس وكيوبيد في إشارة إلى أن الحبّ كان السبب في المصير البائس الذي انتهى إليه شمشون.
وعلى الباب، إلى يمين اللوحة، وقف بعض الجند حاملين الشموع وقد ظهرت على وجوههم علامات الحماس والترقّب انتظارا لما سينجلي عنه الموقف.
المشهد يحمل لمسة درامية واضحة . وشكل الإضاءة وألوان الملابس والسجّاد ذو النقوش الشرقية والستائر المسدلة على الجدار وملامح الوجوه وانعكاسات اللحم العاري، كلها عناصر تعطي انطباعا بعمق الإحساس بدراماتيكية اللحظة ومصيرية الحدث.
مما يلفت الانتباه أيضا في اللوحة غموض ملامح المرأة، وليس واضحا هنا ما إذا كانت نظراتها تعبيرا عن الشعور بالانتصار أو الشفقة.
بعد أن ُقصّ شعر شمشون تلاشت قوّته وتمكّن أعداؤه من السيطرة عليه واعتقاله. ثم قاموا بعد ذلك بوضعه في السجن بعد أن سملوا عينيه.
وبعد فترة، أخذ للعمل كمهرّج خلال احتفال للإله داغون. في ذلك اليوم كان المعبد ممتلئا بالناس. ولم يفطن أعداء شمشون إلى أن شعره قد نما وعادت إليه قوّته مرّة أخرى.
وقد طلب من الخادم الذي كان يلازمه أن يجلسه في وسط المعبد. وعندما وصل إلى هناك وقف بين العمودين اللذين يسندان السقف وهزّهما بعنف ليتقوّض المعبد ويموت آلاف الناس تحت ركامه بمن فيهم شمشون الذي كان يردّد جملته المشهورة "عليّ وعلى أعدائي يا ربّ!".
قصّة شمشون ودليلة كانت وما تزال موضوعا للكثير من الأعمال التشكيلية والسينمائية والأدبية.
والدرس الذي تقدّمه القصّة هو أن جمال المرأة قد يكون أحيانا مصدر خطر مميت، وأن الرجل مهما كان قويّا فإن امرأة جميلة بإمكانها أن تروّضه وتعرف نقاط ضعفه وان تستغلّها إلى الحدّ الذي يمكن أن يتسبّب في شقائه وربّما نهايته، خاصّة إن كان الرجل من النوع الذي ينقاد للشهوة بسهولة.
بعض الروايات تقول إن دليلة كانت قد مشت في إثر شمشون محاولة خطب ودّه والتقرّب منه، غير أنه كثيرا ما كان يعرض عنها ويتجاهلها. لكنها بعد فترة أصبحت خليلة لأحد أعتى أعدائه.
وقد استخدمها هذا الأخير للإيقاع بخصمه اللدود. ولما عادت إلى شمشون كان قلبها يشتعل غيظا وحقدا عليه، تحدوها الرغبة العارمة في الثأر لكبريائها بالانتقام منه.
بعد وفاة روكوكس، مالك اللوحة الأصلي، ضمّت إلى مجموعة ليكتنشتاين في فيينا. وفي العام 1980 بيعت اللوحة إلى الناشيونال غاليري في لندن بمبلغ خمسة ملايين جنيه استرليني. ومنذ ذلك الوقت يثور الكثير من الجدل والتساؤلات حول اللوحة. وهناك من النقاد والمؤرّخين من يجادل بأن اللوحة الموجودة في الناشيونال غاليري اليوم ليست سوى نسخة مزيّفة عن اللوحة الأصلية التي رسمها روبنز منذ أربعمائة سنة.

موضوع ذو صلة: نساء خطرات