Tuesday, April 01, 2014

لوحات عالميـة – 342

إستـراحة أثنـاء الرحلـة إلـى مصـر
للفنان الايطـالـي كـارافــاجـيــو، 1597

في وقت ما من القرن السادس عشر، أصدرت الكنيسة الكاثوليكية أمرا بألا يرسم الفنّانون أساطير تُعتبر مشكوكا في صحّتها. ورغم أن القصّة التي تحكي عن رحلة العائلة المقدّسة، أي مريم ويوسف النجّار والمسيح الطفل، إلى مصر ذُكرت بشكل عابر في الإنجيل وروى أخبارها بتفاصيل مختلفة المسيحيّون الأوائل ورجال الدين في القرون الوسطى، إلا أن سلطات الكنيسة ظلّت تشكّك في مصداقيّتها.
لكنّ هذا لم يثنِ الفنّانين عن رسم القصّة في العديد من الأعمال التي يعود أقدمها إلى نهاية القرن السادس عشر. بل لقد أصبحت هذه القصّة موضوعا مفضّلا ورائجا في الرسم طوال القرون الثلاثة التالية. وبدأ رسمها في هولندا ابتداءً من القرن الخامس عشر، ثم أصبحت موضوعا مفضّلا عند الرسّامين الألمان الرومانتيكيين وعند غيرهم.
تقول القصّة إن ملاكا ظهر أمام يوسف النجّار وحذّره من خطط الملك الروماني هيرود لقتل المسيح الرضيع. ثم نصحه الملاك بأخذ الطفل وأمّه إلى مصر طلبا للامان. ويقال إن ذلك ترافق مع زيارة المجوس للقدس وذهابهم إلى هيرود ليسألوه أين يمكن أن يجدوا الطفل الرضيع أو "ملك اليهود" الذي أنباتهم بمولده النجوم.
وقد شعر هيرود بالذعر من احتمال أن يهدّد الطفل عرشه فصمّم على قتله. وكان هذا هو السبب في ارتكاب هذا الملك لما أصبح يُعرف في ما بعد بمذبحة الأبرياء، وذلك عندما أمر رجاله بقتل كلّ الأطفال الرضّع على أمل أن يكون المسيح الصغير من بينهم.
ولهذا السبب، قرّرت العائلة المقدّسة، يوسف والعذراء والمسيح الصغير، الفرار إلى مصر على ظهر بغل. وكانت مصر اختيارا مناسبا، لأنها تقع خارج نفوذ هيرود. كانت مصر وفلسطين في ذلك الوقت جزءا من الإمبراطورية الرومانية. ولأنهما مرتبطتان بطريق يمرّ عبر ساحل البحر، فقد كان السفر بينهما أمرا سهلا ومأمونا.
مكث يوسف وعائلته لبعض الوقت في مصر. وعادوا من هناك إلى فلسطين بعد أن مات أعداؤهم كما تقول القصّة. فهيرود انتهى إلى ميتة شنيعة. وأصبحت الجليل يحكمهما ملك أكثر ميلا للهدوء والحكمة وصارت المدينة في عهده ملاذا آمنا للكثيرين.
ومن أشهر الأعمال التشكيلية التي تناولت موضوع الرحلة إلى مصر هذه اللوحة لكارافاجيو. وعلى غرار ما فعله العديد من الرسّامين الآخرين، فقد رسم كارافاجيو العائلة المقدّسة أثناء توقّفها للراحة في بستان بعد ثلاثة أيّام متواصلة من السفر.
كارافاجيو رسم هنا العذراء وطفلها ويوسف وهم يستريحون في احد الحقول. ورسم أيضا وسيلة السفر؛ أي البغل الذي يظهر في اللوحة وهو يراقبهم من الخلف. لكن الرسّام ضمّن المنظر شخصية لملاك أنثى تعزف الموسيقى.
الملاك التي تعطي ظهرها للناظر رُسمت عموديّا كي تقسم اللوحة إلى جزأين: جزء إلى اليمين نرى فيه جانبا من نهر، والعذراء وهي تحتضن طفلها. وجزء إلى اليسار وفيه يظهر يوسف وهو جالس وممسك بنوتة موسيقية كتبها إكراما للعذراء.
ومن الواضح أن الملاك التي تظهر وهي تعزف الكمان ليس لها أيّ دور في القصّة الأصلية كما لم يرد ذكرها في أيّ مصدر، بل هي من ابتكار الرسّام، ربّما لكي يضفي على المشهد طابعا سماويّا. ومع ذلك فالموسيقى ظلّت، ولأجيال طويلة، صورة مجازية للإبداع الفنّي.
شخص الملاك نفسها يشبه تمثالا من الحجر، مع وشاح ابيض يلتفّ حول جسدها ويشبه، هو أيضا، آلة كمان. وهذا مثال جيّد للتدليل على مدى قابلة الأشياء للتكييف والتحوير.
واقعية اللوحة واضحة في طريقة الرسّام في تمثيل الأشجار والأوراق والحجارة وغيرها من التفاصيل. والمنظر الطبيعي يثير إحساسا بالحنين. كما انه يذكّرنا بمناظر كارافاجيو التي كان يستلهمها من تراث وطبيعة بلده فينيسيا.
قصّة الرحلة إلى مصر كثيرا ما تُروى مع معجزات وتفاصيل غريبة، مثل سقوط صنم بمجرّد أن يمرّ المسيح الطفل بقربه، ولصوص يتخلّون من تلقاء أنفسهم عن خططهم للإغارة على العائلة في الصحراء، ونخلة تثني نفسها كي تسمح لهم بقطف ثمارها، وينبوع ماء يتفجّر في الصحراء فجأة كي يرووا منه عطشهم.
وهناك روايات تتحدّث عن قصّة أخرى حدثت لهم بعد وصولهم إلى مصر، وهي لقاء الطفل المسيح بابن عمّه يوحنّا المعمدان الذي تقول الأسطورة انه أنقذ من مذبحة الأبرياء في بيت لحم على يد احد الملائكة. وقد كان موضوع هذا اللقاء رائجا في رسم عصر النهضة. وأفضل مثال عنه هو لوحة ليوناردو دافنشي "عذراء الصخور" ولوحة رافائيل "عذراء كنيسة سيستين".
موضوع الرحلة إلى مصر رُسم أحيانا مع ملائكة، وأحيانا أخرى مع ولد يقال انه ابن يوسف من زواج سابق. وفي بعض اللوحات، كانت العذراء تُرسم مع نور ذهبيّ يشعّ من رأسها ورأس الطفل.
ومن بين من رسموا القصّة الفنّان الفرنسي جيرار دافيد، والرسّام الأمريكي من أصول افريقية هنري تانر الذي ضمّن القصّة أفكارا معيّنة مثل الحرّية الشخصية والهرب من الاضطهاد وهجرة الأمريكيين السود من الجنوب إلى الشمال.
الجدير بالذكر أن كارافاجيو كُلّف برسم هذه اللوحة من قبل الكاردينال فرانسيسكو دل مونتي الذي كان كارافاجيو رسّامه الخاص. ويقال إن الكاردينال كان يتمتّع بذوق رفيع وثقافة عالية. ويبدو أن هذه اللوحة كانت تناسب شخصيّته واهتماماته.

Wednesday, January 15, 2014

لوحات عالميـة – 341

بورتريه زوجة الرسّام أو سيّدة بفستان ابيض
للفنان البلجيكي ثيـو فـان ريسـلبـيرغ، 1926

هذه اللوحة تُعتبر مثالا على الأسلوب "التنقيطي" "أو التجزيئي" في الرسم والذي كان ينحو باتجاه تجزئة الألوان على رقعة الرسم ووضعها على هيئة نقاط متجاورة.
كان التنقيطيون "أو التجزيئيون"، أو "الانطباعيون المتأخّرون" كما يُسمّون أحيانا، يعتقدون أن مزج الألوان أمر غير ضروري وأن استخدام نقاط من الألوان النقيّة جنبا إلى جنب من شأنه أن يحقّق أقصى قدر من التألّق واللمعان والتناغم مع حالات الضوء وبحيث تظهر النقاط في النهاية وكأنها تختلط وتمتزج في عين المتلقّي لتشكّل صورة كلّيّة.
وقد تزامنت ولادة هذه الحركة مع ظهور نظرية الألوان التي وضعها ميشيل شيفرول وغيره من منظّري أواخر القرن التاسع عشر. ولعبت هذه النظرية دورا مهمّا في تشكيل أسلوب الرسّامين التنقيطيين.
الرسّام ثيو فان ريسلبيرغ كان احد أهمّ الرسّامين التنقيطيين أو ما بعد الانطباعيين. وقد لعب دورا مركزيّا في الساحة الفنّية الأوروبية في مطلع القرن العشرين. وهو معروف على وجه الخصوص بأعماله التي رسمها خلال مرحلته التنقيطية.
كان ريسلبيرغ متمرّدا على التقاليد الأكاديمية التي عفا عليها الزمن وعلى المعايير الفنّية التي كانت سائدة في وقته. ومن بين أبرز زملائه من ذوي النزعة المتمرّدة أيضا كلّ من جيمس إنسور وفرناند كنوبف وبول سينياك وجيمس ويسلر.
وقد تبنّى ريسلبيرغ الأسلوب التنقيطي بعد أن رأى لوحة "يوم أحد في جزيرة لاغران جات" للرسّام الفرنسي جان بيير سُورا. وشكّلت تلك اللوحة بداية هذه الحركة عندما عُرضت لأوّل مرّة في صالون الرسّامين المستقلّين في باريس عام 1886. في ذلك الوقت، كان العديد من الرسّامين يبحثون عن أساليب جديدة. وكان أتباع التنقيطية أو الانطباعية المتأخّرة منجذبين لتسجيل تفاصيل الحياة الحضرية الحديثة، فضلا عن المناظر الطبيعية والحياة على الشواطئ.
في تلك الفترة أنجز ريسلبيرغ أعظم أعماله التي تلفت النظر وتبرهن على قدرته في توظيف الألوان والتقاط تأثيرات أشعّة الشمس. في لوحته هنا يرسم ريسلبيرغ زوجته ماري وهي جالسة في حديقة منزلهما على شاطئ الكوت دازور. وتبدو الزوجة وهي ترتدي قبّعة عريضة وفستانا ابيض وعلى وجهها نظرات تأمّل واسترخاء.
لاحظ كيف أن الفنّان ركّز على الأضواء والألوان. التقنيّات النقطية موظّفة هنا بوضوح على الفستان والقبّعة. لكن الرسّام يمزج هذا مع لمسة واقعية. وعندما رسم هذا البورتريه كان معلّمه سورا قد توفّي وبدأ هو في التخلّي شيئا فشيئا عن التقنيات النقطية والتحوّل إلى أسلوب فنّي أكثر مرونة وواقعية.
في بدايات الحركة التنقيطية، أي حوالي عام 1886، لم يرحّب بها النقّاد أو الجمهور. لكنها استمرّت وانتشرت، وإن على نطاق ضيّق، حوالي خمس سنوات. وعندما توفّي مؤسّسها جورج سورا في عام 1891 لم تتوقّف الحركة بل واصلت تطّورها على مدى السنوات العشر التالية وأصبحت تعبّر عن أفكار سياسية واجتماعية. وكان من أهمّ رموزها، بالإضافة إلى ريسلبيرغ وسورا، كلّ من هنري ادمون كروس وماكسيميليان لوك وبول سينياك ويان توروب.
ولد ثيو فان ريسلبيرغ عام 1862 في إحدى مقاطعات بلجيكا الناطقة بالفرنسية لعائلة برجوازية. ودرس في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة في بروكسل تحت إشراف جان فرانسوا بورتيل. كانت لوحات بورتيل عن طبيعة وشعوب شمال أفريقيا قد دشّنت الموضة الاستشراقية في بلجيكا. وكان لهذه الأعمال تأثيرها الكبير على ريسلبيرغ. لذا قام بثلاث رحلات إلى بلدان المغرب العربي في ما بين عامي 1882 و 1888 ومكث هناك عاما ونصف رسم خلالها مشاهد خلابة لحيّ القصبة في الجزائر ولمدينتي مكناس وطنجة المغربيتين.
وقد فتحت تلك الرحلة أمامه عالما جديدا، إذ المغرب قريبة من أوروبّا، لكنّها مختلفة عنها تماما من حيث العادات والتقاليد.
وعندما عاد إلى بلجيكا، عرض فيها حوالي ثلاثين عملا من رحلته تلك. وحقّقت تلك اللوحات نجاحا واضحا، خاصّة لوحتيه "مدخنّو الكيف" و"بائع البرتقال". كما عرض لوحته الضخمة والغريبة فانتازيا عربيّة التي تُعتبر من أفضل أعماله التي رسمها في تلك الفترة.
ثم سافر ريسلبيرغ بعد ذلك إلى اسبانيا بصحبة الرسّام الأميركي جون سينغر سارجنت. وفي اسبانيا أعجب بأعمال الرسّامين العظام التي رآها في متحف برادو بمدريد. وبوحي من تلك الرحلة رسم عدة لوحات عن أجواء اسبانيا.
ولأن التمثيل الدقيق للضوء كان ما يزال هاجسا يسكن عقله، فقد سافر ريسلبيرغ إلى هارلم لدراسة الضوء في أعمال الفنّان الهولندي فرانز هولس. وفي هارلم التقى الرسّام الأميركي المشهور وليام ميريت تشيس.
وفي عام 1895، بدأ الرسّام رحلة طويلة أخذته إلى أثينا والقسطنطينية والمجر ورومانيا وموسكو وسانت بطرسبورغ. وبعدها بعامين، انتقل إلى باريس حيث تعرّف على العديد من الأسماء اللامعة في المشهد الفنّي هناك مثل ألفريد سيسلي وبول سينياك وإدغار ديغا وهنري تولوز لوتريك وغيرهم.
في نهايات حياته، تحوّل ثيو فان ريسلبيرغ إلى البورتريه النحتي، مثل نحته رأس الأديب أندريه جِيد. في ذلك الوقت كان قد بنى له منزلا في الكوت دازور وبدأ ينفصل شيئا فشيئا عن المشهد الفنّي في باريس إلى حين وفاته في 14 ديسمبر من عام 1926م.

Wednesday, January 08, 2014

لوحات عالميـة – 340

إغـواء القـدّيـس انطـونيـوس
للفنان الإسباني سلفـادور دالــي، 1946

تُعتبر قصّة القدّيس انطونيوس احد المواضيع المشهورة والمتكرّرة في الفنّ والأدب الغربيين. في الرسم مثلا، هناك ما لا يقلّ عن 1500 لوحة عن الموضوع يعود أقدمها إلى القرن العاشر الميلادي في ايطاليا.
وفي الأدب، ألّف الأديب الفرنسي غوستاف فلوبير كتابا يُعدّ اليوم من أهمّ المراجع التي كُتبت عن القصّة. وقد استغرقت كتابته حوالي ثلاثين عاما وتأثّر به أدباء وكتّاب كثيرون من بينهم سيغموند فرويد.
ولد انطونيوس، الذي يُعرف أحيانا باسم انطونيوس المصري، حوالي عام 250م لعائلة موسرة في قرية من قرى مصر. وعاش حياة مريحة ومرفّهة إلى أن بلغ سنّ الثامنة عشرة عندما توفّي والداه وتركاه في عهدة شقيقته غير المتزوّجة.
وفي احد الأيّام سمع انطونيوس راهبا يخطب ويقول: إذا أردت أن تكون إنسانا كاملا فامنح كلّ ما تملكه للفقراء كي تحصل على كنز في السماء". وقد وهب انطونيوس بعد ذلك كلّ ما تملكه عائلته من أموال وأراض وبيوت إلى جيرانه الفقراء. ثم وضع أخته في عهدة مجموعة من الراهبات وقصد الصحراء ليصبح ناسكا ويعيش حياة تقشّف وزهد.
وتمضي القصّة فتقول إن انطونيوس قضى حياته في الصحراء في الصلاة والتأمّل. لكن، وبحسب ما تذكره كتابات من ذلك الوقت، تصدّى له الشيطان محاولا إغواءه فأنزل به السأم والكسل، وذكّره بحياة الثراء والراحة التي تركها وراءه، ثم أرسل إليه النساء الجميلات في محاولة لإغرائه وإيقاعه في الخطيئة.
لكن القدّيس انتصر على كلّ تلك الإغراءات بفضل صلاته وقوّة إيمانه وإرادته. وبعد ذلك انتقل إلى قبر واتخذه مسكنا وأغلق على نفسه الباب. ولم يكن يرى أحدا سوى بعض أهالي القرية الذين كانوا يجلبون له الطعام في عزلته.
بعض المصادر تشير إلى أن انطونيوس كان أوّل ناسك في المسيحية يذهب إلى الصحراء وينقطع فيها للعبادة. وتُروى عنه الكثير من القصص الشبيهة بالأساطير. يقال مثلا انه كان يطير في الهواء ويرى الشياطين تحلّق أمامه وتهاجمه بضراوة في محاولة لصدّه وإعادته إلى الأرض. كما كانت الشياطين تتنكّر له على هيئة حيوانات مفترسة كالأسود والذئاب والأفاعي والعقارب. وفي إحدى رحلاته في الصحراء، قابل شيطانين على هيئة كائنين خرافيين. وقد صوّر بعض الرسّامين ذلك اللقاء الغريب في عدد من اللوحات.
الموتيفات البصرية في قصّة انطونيوس ألهمت العديد من الفنّانين الذين ملئوا رسوماتهم بصور الحيوانات والمخلوقات الغريبة. ووفّرت القصّة لهؤلاء فرصة لإطلاق خيالاتهم الجامحة، فرسموا رؤى وهلوسات وكوابيس مزعجة عن الشياطين التي تتتبّع القدّيس وتعذّبه. ومن أشهر من رسموا الموضوع كلّ من سلفادور دالي وهيرونيموس بوش ومايكل انجيلو وسلفاتور روزا وغيرهم.
في هذه اللوحة التي يمكن اعتبارها ترجمة حديثة للموضوع، يركّز سلفادور دالي على تصوير صراع انطونيوس مع الإغواء، وليس انتصاره عليه، فيرسمه وهو يتصدّى للإغراءات الزاحفة باتجاهه في صورة حصان جامح متبوع بخمسة أفيال ضخمة لها جميعا سيقان كسيقان العناكب.
عَرْض الحيوانات الغريب هو أوّل ما يلفت انتباه الناظر إلى هذه اللوحة. الحصان القائد يرمز للقوّة والمتعة ولرغبات الجسد. والفيل الذي يتبع الحصان مباشرة يحمل فوق ظهره كأس الرغبة الذهبيّ. وفوق الكأس تقف امرأة عارية ترمز للرغبة الجنسية.
الأفيال التالية تحمل المزيد من النساء بالإضافة إلى مسلّة ومعبد قد يكونان رمزين للأخلاق والدين. الفيل الأخير القادم من بعيد، من تحت الغيمة، يحمل برجا طويلا قد يكون رمزا لعضو الذكورة.
وفي الزاوية السفلى إلى يسار اللوحة يظهر انطونيوس وهو يحاول صدّ الإغراءات التي تجلبها الوحوش القادمة، وسلاحه في ذلك صليب يبدو ملتويا قليلا. وهو، أي القدّيس، يظهر متّكئا على صخرة صغيرة وعاريا لأن دالي أراد أن يُظهر ضعفه، بينما تستقرّ بين ساقيه جمجمة صغيرة.
الأسلوب السوريالي واضح في كافّة تفاصيل اللوحة. ودالي، هنا أيضا، يوظّف الأفيال التي كانت دائما احد موتيفاته المفضّلة. السيقان الطويلة للحصان والفيلة ربّما ترمز إلى العلوّ والاقتراب من السماء. ومن الأشياء الملفتة في اللوحة الاستخدام الجميل للألوان اللحمية والبيضاء والبنّية والذهبية.
ويُلاحَظ أيضا أن الرسّام ركز على استعراض الحيوانات وحركتها القويّة مقابل البنية الضئيلة للرجل. ومع ذلك فالحصان المتقدّم رغم قوّته، إلا انه يبدو خائفا من الجسد الصغير للناسك. وفي أسفل الصورة عن بعد، يظهر شخصان يبدوان كما لو أنهما يقودان أو يوجّهان موكب الفيلة.
الغيوم المظلمة والمنذرة بالشؤم التي تظهر في جزء اللوحة الأيمن يعلوها بناء غريب يشبه قصر الاسكوريال الاسباني الذي كان رمزا للسلطة الروحية والزمنية بحكم كونه ديرا وبنفس الوقت مقرّا للملك.
رسم دالي لوحته هذه في محترف بنيويورك. وكان قد قدم إلى المدينة مع عدد من الرسّامين من بينهم بول ديلفو وماكس ارنست ودوروثيا تاننغ وليونورا كارينغتون بناءً على دعوة من إحدى شركات السينما. كانت الشركة قد كلّفتهم برسم لوحات عن موضوع القدّيس على أن تُختار اللوحة الفائزة لتظهر في فيلم مقتبس عن قصّة للكاتب الفرنسي موباسان. وذهبت الجائزة في النهاية إلى ماكس ارنست.
نقّاد دالي لم يكونوا سعداء بأفكاره الروحية ومواضيعه الدينية. لكنه كان مهجوسا بالمطلق وبالرموز الكلاسيكية للمسيحية. واهتمامه بالقصص الدينية سمح له باستكشاف منطقة إبداع جديدة، لذا رسم المادونا والمسيح والعشاء الأخير.
فكرة الإغواء موجودة تقريبا في جميع الأديان. البوذية مثلا تحكي عن أسطورة سيدهارتا الذي يتأمّل تحت شجرة قبل أن يبلغ مرحلة الاستنارة. وأثناء تأمّله يغريه شيطان برؤى عن الشرّ والشهوة. لكن السلام الروحي عند سيدهارتا قويّ بما يكفي لقهر كافّة أشكال الإغواء.
التركيز على قصّة إغواء القدّيس انطونيوس لم يبدأ سوى في القرون الوسطى. ويقال إن كثيرا من هذه القصص المروية عنه مبالغ فيها وأن رواتها وناقليها كانوا من الناس البسطاء وأنها قد لا تكون أكثر من تهيّؤات وخيالات ناتجة عن العزلة الطويلة وربّما الشعور بالاكتئاب.
الجدير بالذكر أن القدّيس أوصى قبيل وفاته بأن يُدفن في قبر سرّي وبلا علامات تميّزه خوفا من أن يصبح قبره مزارا أو محجّا للناس. وقد دُفن في مكان ما على رأس الجبل الذي كان قد اختاره ليعيش فيه في أخريات حياته. وفي ما بعد، اكتُشفت رفاته ثم نُقلت إلى الإسكندرية. وفي وقت لاحق نُقلت إلى القسطنطينية. وفي القرن الحادي عشر أخذت رفاته إلى فرنسا حيث ظلّت فيها إلى اليوم.

Thursday, December 26, 2013

لوحات عالميـة – 339

الطبيعـة تكشـف عن نفسهـا أمـام العِلـم
للفنان الفرنسي لـوي ارنسـت بـاريـاس، 1899

في القرن التاسع عشر الميلادي، كانت الطبيعة تُصوّر على هيئة امرأة جميلة وعارية، وسادت فكرة تقول إن الإنسان يجب أن يكتشف الطبيعة ويزيل عنها النقاب وينتصر عليها ويصبح سيّدا لها. وكلّ هذه الأفعال تتضمّن معنى التملّك والسيطرة.
ولم يكن علماء وفنّانو ذلك الوقت يدركون أن نظرتهم الايروتيكية للطبيعة ستقود إلى مشاكل خطيرة. وبالفعل فقد أدّى سعي البشر لأن يستغلّوا الطبيعة ويكتشفوا أسرارها إلى تخريبها وسقوطها.
ومع الاكتشافات المتوالية تقلّص الإحساس بالدهشة من الطبيعة وتضاءل شعورنا بالمقدّس فيها. وكلّما اكتشفنا الطبيعة أكثر كلّما أصبحت اقلّ غموضا. وربّما يكون الإنسان قد ملّ من الطبيعة ولذا يقوم بانتهاكها.
هيراكليتوس الفيلسوف الإغريقي من القرن الخامس قبل الميلاد قال "إن الطبيعة تحبّ أن تخفي نفسها". لكن ربّما كان من الأفضل لو أن الطبيعة حافظت على تغطية جسدها، عندها ستتضاءل شهوة البشر لانتهاكها ونهشها.
في هذا التمثال يصوّر النحّات لوي ارنست بارياس الطبيعة بهيئة امرأة تلفّ نفسها برداء بينما تزيح خمارها الفضّي عن الجزء الأعلى من جسدها لتكشف عن وجهها وعن كتفيها وصدرها العاري.
الوضعية الحسّية للمرأة وطيّات الملابس الجميلة وألوان الأسطح الثريّة تعكس الأنماط الطبيعية التي هي إحدى سمات الأسلوب الحديث في النحت.
بعض النقّاد يقولون إن التمثال يمزج بين المجاز القديم عن خمار ارتيميس أو ايزيس والذي يُترجَم على انه رغبة الطبيعة في إخفاء أسرارها والفكرة الحديثة عن الطبيعة "الأنثى" التي تكشف نفسها طواعية للرجال "العلماء" دون عنف أو مكر.
هذا التمثال يمكن أن يُفهم على انه رمز للتطوّر التكنولوجي والاختراقات التي حلّت الكثير من ألغاز العالم. لكن هناك من يقول إنه يرمز للتحوّل في مفاهيمنا عن الطبيعة التي أتت بالثورة العلمية والتي حوّلت الطبيعة من مَعلم نشط وملهِم إلى جسد مذعن وبلا عقل.
والتمثال ينتمي إلى عصر الإحياء العظيم للنحت الملوّن الذي أطلقته الاكتشافات الجغرافية والأثرية. وهو مصنوع من الرخام العالي الجودة ومن الأحجار الثمينة التي جُلبت من أماكن بعيدة مثل مقالع الحجارة في الجزائر وشمال أفريقيا.
شخص المرأة مصنوع من الرخام بينما معظم لباسها مصنوع من العقيق. الحجارة نفسها مستمدّة من الطبيعة. ولولا التقدّم التكنولوجي ما أمكن استخلاصها وتطويعها، وهذا جزء لا يتجزّأ من رسالة التمثال. بل لقد قيل إن المرأة لا ترمز للطبيعة بأنوثتها أو بعريها وإنما بالرخام الفاخر والعقيق والحجارة الثمينة الموظّفة في صنعها.
من التفاصيل التي تلفت الانتباه في التمثال السمات الزخرفية الغنيّة كالتأثير المرقّش للرخام الأحمر في الرداء واللازورد النفيس في العيون والعقيق في الخمار والمرمر والمرجان في الفم والشفتين.
عينا المرأة تنظران إلى الأرض في حياء بينما ترفع يديها لتزيل الخمار الذي يغطّي بقيّة جسدها. الغموض في التمثال يتجلّى في الخمار وفي فعل رفعه. رفع الخمار عن الجسد يرتبط عادة بالرؤى الطبّية والعلمية وأحيانا يُعتبر رمزا لعفّة وطهر الأنثى. غير انه في الطقوس الدينية وفي مناسبات الحداد يخفي جنسانية المرأة.
أيضا المرأة ذات الخمار يمكن أن تكون رمزا للبحث عن غموض الأصول والبدايات وحقائق الميلاد والموت. فرويد فسّر أسطورة رأس ميدوسا كرمز للمرأة المحجّبة التي تحيل نظراتها الرجال إلى حجارة. لذا عندما يكشف الرجال خمار ميدوسا فإنهم يواجهون رعب النظر إلى أعضائها الداخلية.
بعض النقّاد اتهموا النحّات بأنه كاره للنساء. لكن هؤلاء يتجاهلون تاريخ استخدام الرموز في النحت وأن النحت نفسه هو رمز لتطوّر العلم. والنحّات يعكس عالم الطبيعة كما اكتشفه العلم.
كُلّف بارياس بتشييد التمثال عام 1889 ليزيّن مدرسة الطبّ في بوردو. وعُرض لأوّل مرّة أمام الجمهور في الصالون عام 1893. وقد استنسخ التمثال مرارا باعتباره تحفة شعبية وهو متوفّر بوسائط مختلفة ومقاسات شتّى.
ولد ارنست بارياس في ابريل من عام 1841م. كان أبوه رسّام بورسلين وشقيقه الأكبر رسّاما معروفا. وقد بدأ ارنست عمله كرسّام. لكن في ما بعد تحوّل إلى النحت ودرس على يد بيير كافالييه. ثم انتظم في مدرسة الفنون الجميلة في باريس ثم في الأكاديمية الفرنسية في روما. وتلقّى بارياس العديد من الجوائز والأوسمة وعمل أستاذا في مدرسة الفنون وانتخب عضوا في مجلس المتاحف الوطنية.

Wednesday, December 18, 2013

لوحات عالميـة – 338

رجـل بعمـامـة حمـراء
للفنان الهولندي يان فـان آيك، 1433

البورتريه الشخصيّ هو نوع من الرسم الذي يحاول فيه الفنّان أن ينقل من خلاله للآخرين صورة عن نفسه. أحيانا يحيط صورته الشخصية بالأسئلة الفلسفية عن الذات، وأحيانا يوظّفها للتباهي بمهارته وموهبته.
وقد كرّس الرسّامون الأوائل جانبا من نتاجهم لتصوير أنفسهم. رمبراندت، مثلا، خلع على كلّ صورة رسمها لنفسه مسحة شكسبيرية، فرسم نفسه على هيئة ملك شرقيّ قديم وعلى صورة الفيلسوف الإغريقي سقراط وكرجل بلاط وكشخص ثمانينيّ أشيب الشعر وبلا أسنان.
والبورتريهات الشخصية تتضمّن أيضا نوعا من الحرّية الوجودية، لأنها تشير إلى أن كلّ شخص يمكن أن يحتوي عالما من الهويّات المتباينة والمختلفة. فما بالك بالفنّان الذي كثيرا ما يتخيّل نفسه في حيوات أشخاص مشهورين أو أسطوريين. بل إن فنّانا مثل ديورر رسم نفسه ذات مرّة بملامح المسيح.
القرن السابع عشر، أي عصر رمبراندت وروبنز وبيرنيني وكارافاجيو، كان ولا شكّ العصر العظيم لفنّ البورتريه. ولم يحدث قبل ذلك أن شعر الرسّامون بحضورهم القويّ أو بأهمّيتهم. وأكثر الصور الشخصية خلودا في تاريخ الرسم تعود إلى تلك الفترة بالذات.
ورغم أن عصر النهضة بدأ في ايطاليا أصلا، إلا أن هذه الحركة امتدّت إلى جميع أرجاء أوربّا إلى أن وصلت إلى بلجيكا حيث كان الرسّام يان فان آيك يعيش ويعمل. في ذلك الوقت كان فان آيك أفضل فنّان هولندي بلا منازع. وما يزال يُلقّب حتى اليوم بوالد اللوحات الزيتية. مستوى الحرفية الذي وصل إليه هذا الرسّام في استخدام ألوان الزيت كان غير مسبوق وغير عاديّ. ويُعتبر هو وروبرت كامبين مؤسّسي ما عُرف بالفنّ الجديد في هولندا القرن الخامس عشر، الذي تميّز بالأسلوب الطبيعي للألوان الزيتية الصاخبة والتفاصيل الدقيقة والنسيج البارع ووهم فراغ الأبعاد الثلاثية.
في هذه اللوحة، يرسم فان آيك بورتريها لرجل لا اسم له ولا وظيفة، ولا توجد تفاصيل تشير إلى هويّته. لكنّ نظراته الحادّة والثابتة المتّجهة إلى الخارج تدلّ على انه شخص يعرف مكانه جيّدا في العالم. وبسبب النظرات المتشكّكة والشفتين المطبقتين بصرامة، ثمّة من يعتقد أن هذا هو الرسّام نفسه. كان من عادة الرسّامين وقتها أن يقدّموا أنفسهم للناس كأشخاص واثقين وذوي كبرياء وفخورين بكونهم فنّانين.
من ناحية أخرى، يمكن القول أن هذا ليس فقط بورتريها للرسّام، وإنما أيضا للعمامة الفخمة الحمراء اللون التي تستقرّ على رأسه بإحكام. هذا النوع من اللباس مناسب لشخص بمثل مكانة الرسّام الاجتماعية.
ما من شك في أن هذه اللوحة تثير إحساسا ما بالغموض. فالشخص الظاهر فيها يبدو كما لو انه خارج لتوّه من العتمة. وجهه ورأسه يحدّدهما الضوء الذي يسقط من الجهة اليسرى والذي استخدمه الرسّام بأسلوب دراماتيكي.
النظرات المخترقة والقويّة تجذب الاهتمام. واللون الأحمر الغامق للعمامة يشعل اللوحة حيوية وصخبا. تعبيرات الرجل متقشّفة ورأسه كبير قليلا بالنسبة للجذع، وهاتان سمتان من سمات فنّ آيك عموما. ولا يبدو أن الرجل من مكانه هذا ينظر إلى مرآة، إذ من المستحيل بالنسبة له من هذه الزاوية المائلة أن يكون واقفا أمام نافذة أو مرآة.
ترى هل اللوحة عن الهويّة؟ عن فكرة الوعي بالذات؟
من الواضح أن اللوحة تتضمّن تحليلا جادّا ومفصّلا لخطوط الجسد، لكنّها لا تحوي الكثير عن أفكار الشخص أو عن مزاجه. ويمكن القول إن الصورة لا تُظهر فان آيك وهو ينظر إلى نفسه بقدر ما تتحدّث عن طبيعة النظر. وهناك احتمال أن تكون اللوحة ترويجا للرسّام أو لإثبات البراعة التي يتعامل بها مع الألوان الزيتية التي كانت شيئا مستحدثا في ذلك الوقت.
بعض النقّاد يعتبرون أن هذا البورتريه يمثّل ذروة أسلوب فان آيك المغرق في الواقعية، لكن دون انفعال. لاحظ كيف أن كلّ ثنية في الملابس وكلّ شعاع ضوء وكلّ نسيج ناعم رُسم بمهارة كبيرة. الرسّام لم يُغفل أيضا التجاعيد حول عينيه والعروق التي يمكن رؤيتها بوضوح والظلال حول ذقنه، أي علامات تقدّمه في العمر.
كان فان آيك قد تخلّى آنذاك عن تقنية التيمبرا ، أي استعمال الألوان المصنوعة من البيض والتي تجفّ سريعا وتدوم طويلا، وبدأ تذويب ألوانه في زيت بذور الكتّان، ما جلب مزيدا من الإحكام والتحكّم في التفاصيل.
فان آيك كان معروفا في زمانه بأنه رسّام الملوك واللوردات والأمراء ورجال الكنيسة. وما تبقّى من لوحاته اليوم لا يتجاوز بضعا وعشرين لوحة. وطبعا هناك العديد من الأعمال الأخرى التي تُعزى إليه دون دليل واضح. في بلاط بورغوندي، حيث كان يعمل، راجت عنه شائعة تقول انه بارع في الفنون الظلامية، أي أعمال السحر والشعوذة. والعمامة الحمراء تخلع عليه ولا شكّ إهاب ساحر أو كاهن أو معلّم روحانيّ.
بورتريه "رجل بعمامة حمراء" يمكن رؤيته اليوم معلّقا في إحدى صالات الناشيونال غاليري بلندن إلى جوار لوحة فان آيك الأشهر بورتريه عائلة ارنولفيني. ولا يزال الإطار الأصلي للبورتريه موجودا ويحمل نقشا يقول "رسمني فان آيك في 21 أكتوبر من عام 1433م". وأسفل النقش كُتبت عبارة "أفعل ما بوسعي" التي يبدو أنها شعار شخصيّ للرسّام. ونفس هذا الشعار يظهر في بعض لوحاته الأخرى مثل البورتريه الذي رسمه لزوجته.
الجدير بالذكر أن الرسّام روبرت كامبين اقتفى خطى صديقه ومواطنه فان آيك في هذا البورتريه فرسم لنفسه بورتريها مشابها يظهر فيه وهو يرتدي عمامة حمراء.

موضوع ذو صلة: رسالة حبّ إلى لوحة

Friday, December 06, 2013

لوحات عالميـة – 337

فينـوس أمـام المـرآة
للفنان الإسباني دييـغـو فـيلاســكيــز، 1651

كانت فينوس، إلهة الحبّ في الأساطير القديمة، موضوعا نادرا في الرسم في اسبانيا القرن السابع عشر، لأنه لم يكن يحظى بموافقة الكنيسة الكاثوليكية. كانت الكنيسة راعيا أساسيّا للفنون في ذلك الوقت. وكان تصوير العري أمرا محفوفا بالمخاطر. محاكم التفتيش بدورها كان لها عيون مبثوثة في كلّ مكان. وأيّ شخص يُضبط متلبّسا برسم لوحة "فاسدة"، كان يُستدعى ويُغرّم ويُطرد من الكنيسة ويُنفى خارج مدينته أو بلدته لمدّة عام. وقد انتهى الأمر بالعديد من اللوحات العارية إلى إتلافها ومعاقبة رسّاميها من قبل تلك المحاكم.
الرجل الذي كلّف فيلاسكيز برسم هذه اللوحة كان نبيلا اسبانيّا يُُدعى الماركيز ديل كاربيو. وقيل انه أراد بطلبه هذا أن يتحدّى تعليمات الكنيسة. وربّما كانت حظوته لدى العرش الاسبانيّ هي التي مكّنته من طلب رسمها دون خوف من أن يتعرّض لأذى محاكم التفتيش. وهناك من يرجّح أن اللوحة وُضعت في مرحلة لاحقة في مكان خاصّ وبعيد عن الأعين في محاولة لتجنّب غضب تلك المحاكم رغم أن الفنّان رسم المرأة من الخلف، ربّما توخّياً للسلامة.
فيلاسكيز يصوّر هنا امرأة عارية مستلقية على فراش من الحرير الرمادي وظهرها للناظر، بينما يظهر وجهها في المرآة التي يمسك بها كيوبيد. الموديل في اللوحة يُعتقد أنها ممثّلة مسرحية كانت من بين خليلات الملك الاسباني فيليب الرابع.
من أهمّ السمات التي يمكن ملاحظتها في هذا العمل الاقتصاد الواضح في استخدام الألوان وغلبة اللون الأحمر الشفّاف. ثم هناك كيوبيد الذي يبدو على غير العادة بلا سهم. وهو لا يفعل شيئا، بل يكتفي بالإمساك بالمرآة وتأمّل جمال الإلهة. وقد استخدم الرسّام طبقات من الطلاء الأبيض الرصاصيّ لإضفاء لمعان على بشرة المرأة ثمّ أضاف إليها ظلالا ناعمة من الأصفر والبنّي والأحمر.
خلافا لمعاصريه من الرسّامين الايطاليين والهولنديين، لم يضمّن فيلاسكيز اللوحة منظرا طبيعيا أو خادمة، واكتفى فقط بالملاك المجنّح الصغير، وهو – أي الملاك - الدليل الوحيد على أن الفنّان كان يرسم شخصية أسطورية أو إلهة وليست امرأة حقيقية.
فينوس في اللوحة، بخصرها الصغير ومؤخّرتها الناتئة قليلا، لا تشبه العاريات الايطاليات الأكثر امتلاءً واستدارة اللاتي كنّ يُستلهمن من التماثيل الرومانية القديمة.
الصورة التي تظهر منعكسة في المرآة تتحدّى قوانين البصريات. يقال مثلا انه ليس بوسع المرأة أن ترى وجهها بهذه الوضعية، وإنّما بطنها وصدرها أو وجه الناظر أو الرسّام، وبالتالي قد يكون بذهنها أن تقيس مدى تأثير جمالها على من ينظر إليها. وقيل أيضا إن وجهها في المرآة يبدو أكبر ممّا ينبغي مرّتين.
ومن الملاحظ أيضا أن الصورة في المرآة لا تكشف عن الجانب الآخر من وجه فينوس، بل تسمح فقط برؤية انعكاس غامض ومشوّش لملامح وجهها. وبالتالي، قد يكون المعنى الكامن في اللوحة هو التأكيد على الجمال الذي تختزنه الذات، وليس عرض صورة عارية لفينوس أو لأيّة امرأة أخرى. كما قد نكون إزاء صورة مجازية عن الحبّ وعن الغموض الذي يجذبنا إليه.
في احد أيّام شهر مارس من عام 1914، تعرّضت هذه اللوحة للتلف على يد امرأة كندية تُدعى ميري ريتشاردسون. كانت المرأة في زيارة للناشيونال غاليري بلندن حيث توجد اللوحة. وعندما وصلت إلى مكانها، توقّفت أمامها لبضع دقائق وهي تتأمّلها. ثم قامت فجأة بتحطيم الزجاج الواقي الذي يحميها واخترقتها بساطور. وقد ترك الهجوم بعض التلفيات والقطوع في اللوحة. لكن أمكن إصلاحها بعد ذلك.
كانت ريتشاردسون عضوا في جماعة متشدّدة تنادي بمنح المرأة حقّ الاقتراع. وقد سبق لها أن قامت بتنفيذ عدد من الأعمال الإرهابية، بما فيها تحطيم منازل وإشعال حرائق وتفجير محطّة للسكك الحديدية.
تشويه فينوس كان جزءا من حملة تمّ تنظيمها في نفس ذلك العام واستهدفت عددا من أعمال الفنّ تحت ذريعة مساواة النساء بالرجال. وفي ما بعد، قالت المرأة إن دافعها من وراء الهجوم هو أنها كانت ترى أن المجتمع والغاليري كانا يُحكمان من قبل سلطة ذكورية وطاغية.
الغريب في الأمر أن ريتشاردسون كانت طالبة في كلّية الفنون. وبعد مرور أربعين عاما على تلك الحادثة، شرحت سبب إقدامها على محاولة إتلاف اللوحة بقولها إنها لم تحبّ الطريقة التي كان الزوّار من الرجال ينظرون بها إلى المرأة، إذ كانوا يتأمّلونها طوال اليوم بعيون زائغة وأفواه فاغرة.
كان فيلاسكيز معلّما كبيرا في تمثيل نسيج الأسطح وكانت له فرشاة وصفية شفّافة. ومن الواضح انه كان يفكّر كثيرا قبل الرسم. اللمسات التلقائية والمظهر المحكم في جميع لوحاته دليل على التأنّي والتفكير والممارسة الطويلة.
وفي الفترة التي رسم أثناءها هذه اللوحة، كان نتاجه قد قلّ بشكل ملحوظ. وربّما كان لذلك علاقة بالأوضاع المتوتّرة في البلاط، إذ كانت الملكة ايزابيلا قد توفّيت، وبعدها بعامين لحقها وريث العرش الشابّ بلتاسار كارلوس، ثم لم يلبث الفرنسيون أن ألحقوا هزيمة قاسية بالجيش الاسباني.
طبقا لإحصائيات بعض دور النشر، تُعتبر هذه أكثر لوحة فنّية تمّ توظيفها في الكتب والروايات. ومن بين الكتب المعروفة التي ظهرت اللوحة على أغلفتها ملوك وذوّاقة لجوناثان براون وتزوير فينوس لمايكل غروبر والأنثى العارية لليندا نيد بالإضافة إلى رواية في مديح النساء المسنّات للكاتب الهنغاري ستيفن فيزينسي وكتاب لفريدريك دي أرماس يتحدّث فيه عن العصر الذهبيّ للفنّ الاسباني.
يقال إن فيلاسكيز رسم أربع لوحات عارية على امتداد فترة اشتغاله بالرسم، وهذه هي اللوحة العارية الوحيدة الباقية من أعماله. والعديد من النقّاد يعتبرونها، مع فينوس اوربينو لـ تيشيان، أكثر صور فينوس جمالا في تاريخ الرسم الأوربّي.
الجدير بالذكر أن للوحة "فينوس أمام المرآة" أسماء عديدة أخرى عُرفت بها، منها "فينوس وكيوبيد" و"حمّام فينوس". وبعد أن نُقلت اللوحة إلى انجلترا عام 1813، أصبحت تُعرف بـ "فينوس روكبي" بالنظر إلى أنها كانت جزءا من مجموعة جون موريت في قاعة روكبي بلندن. وبعد مائة عام تقريبا، أي في 1906، اشتراها الناشيونال غاليري حيث ظلّت فيه إلى اليوم.