Thursday, February 28, 2008

لوحات عالميـة - 160

أحـــلام الغــــد
للفنان الفلسطيني إسماعيـل شمّـوط، 2000

عندما يتعامل الفنان مع حدث ضخم أو قضية مصيرية، فلا بدّ وأن ينتج عملا ملحميا مثل هذه اللوحة التي يمكن اعتبارها بحقّ سجلا بصريا مكثّفا يختصر تاريخ فلسطين المعاصر ويجسّد نضال شعبها من اجل التحرّر والخلاص والانعتاق.
الفنان الراحل إسماعيل شمّوط يعتبره النقاد المؤسّس الفعلي لحركة الفن التشكيلي الفلسطيني. ولا يمكن قراءة لوحات هذا الفنان دون ربطها بالقضيّة التي كانت دوما الدافع والمحرّض لهذا الإبداع الذي يطبع كافة أعماله.
وكل من يتأمّل لوحات اسماعيل شموط لا بدّ وأن يتخيّل انه يقرأ سفرا ضخما يعكس قدرة صاحبه الفائقة على السرد الدرامي والتصوير التعبيري الذي لا ينقصه الصدق ولا الإحساس القويّ والنافذ. وفي كل لوحاته نلمس حنينا جارفا إلى الوطن وتطلّعا وتوقا لا يني ولا يتوقّف إلى الأيام الخوالي والزمن الجميل.
في هذه اللوحة يربط الفنان بطريقة بارعة بين مكوّنات وعناصر القضية الفلسطينية المادية والمعنوية في آن. فهو يحرص على توثيق عناصر الأرض والشعب والطيور والأزهار لتعبّر عن مفاهيم الحرية والأمل ولتأكيد حقّ العودة والحياة الكريمة لشعب شرّد من أرضه وقاسى مرارة النفي القسري عن وطنه ووطن أجداده.
رسم الفنان الجزء الأساسي من اللوحة والذي يمتدّ على مساحة كبيرة منها على هيئة فتاة مستلقية يشكّل جسدها خريطة فلسطين كاملة ليؤكّد البعد التاريخي لهذه البقعة من الأرض وأنه ما يزال يعتريه الأمل والحلم بأن تكون وطنا لكل أبنائها الذين شرّدوا منها وتشتّتوا في المنافي البعيدة.
وعند التركيز على هذا الجزء من اللوحة، نلاحظ أن الفنان قد رسم فتاة بثوب أبيض من التراث الفلسطيني تحتضن أبناءها بيديها، تحمل حمامتي سلام من جانب وتمسك براية المقاومة يلفها العلم الفلسطيني من الجانب الآخر في مشهد عاطفي يحمل رموز القضية التي يوثقها الفنان.
في تفاصيل هذا المشهد يلفت الانتباه دقّة التفاصيل التي أودعها الفنان في اللوحة، فنلاحظ أنه رسم قبّة الصخرة باللون الأحمر في الجزء العلوي المطرّز فوق صدر الفتاة وحول عنقها وقد كتب فيها كلمات "الحب ، الخير، الصبر، العدل" في إشارة واضحة لموضوع اللوحة، بالإضافة إلى إدراجه لعدد كبير من مدن وقرى فلسطين.
لقد اختصر الفنان إسماعيل شمّوط وصف هذه اللوحة الجدارية بقوله: "للأحلام دوما تلك المساحة الرحبة اللا محدودة. وما من أحد يستطيع أن يمنع الحلم. قالوا: أنا أفكر إذن أنا موجود. أقول: أنا موجود إذن أنا أحلم. وهل يكون للحياة معنى إن خلت من الأحلام؟! إن الحلم حرّ كالحرّية. ونحن نعرف حُلمنا. نعم نعرفه لكننا لا نزال نحلم به. نعرفه وطناً مقدّساً كالحقّ المقدّس. نعرفه عميقا في الشعر والموسيقى واللون. لكنه رائع أكثر بشعبه وبأرضه. كلّ شعبه وكلّ أرضه".
إن كل من يتأمّل تفاصيل هذه اللوحة البديعة لا يمكن إلا أن تتردّد في أذنيه وفي وجدانه بطريقة لا إرادية، ومن مكان ما في خلفية المشهد، تلك الأغاني والأناشيد الحماسية التي تتحدّث عن الارتباط بالأرض ومقاومة الغاصب المحتل.
وليس بالمستغرب أن تحتلّ الألوان البيضاء والحمراء والخضراء كامل بناء اللوحة تقريبا. وكل هذه الألوان تبدو ساطعة، قويّة، مدهشة ومثيرة للمشاعر برموزها ودلالاتها المتفرّدة والعميقة.
إن اسماعيل شمّوط لا يسجّل في لوحاته نكبة الشعب الفلسطيني ومسيرة نضاله الطويلة فحسب، بل يحاول من خلالها تعزيز الشعور بالعزّة والكرامة والانتماء للوطن وإشعال جذوة الأمل في نفوس شعب يواجه القمع والتهجير والتصفية كل يوم.
وفي لوحاته تتكرّر مشاهد الحمام والرمّان والثياب المطرّزة التي تعتبر رموزا تقليدية لفلسطين منذ القدم.
كان الفنان إسماعيل شمّوط متزوّجا من الفنانة تمام الأكحل، وقد تلقّى دراسته في مصر وايطاليا وأقام معارض لأعماله في عدد من عواصم العالم ونال العديد من الجوائز العالمية تكريما له على إبداعه والتزامه العالي بقضايا الحرّية والكرامة الإنسانية.

Thursday, February 21, 2008

لوحات عالميـة - 159

حقـل قمـح و أشجـار سـرو
للفنان الهولندي فنسنـت فــان غــوخ، 1889

رسم فان غوخ هذه اللوحة بعد حوالي شهر من وصوله إلى المصحّة النفسية في آرل.
وخلال فترة مكوثه في المستشفى، كان الأطبّاء يسمحون له بالذهاب إلى الحقول المجاورة ليمارس هوايته في الرّسم كلما خفّت نوبات الصرع التي كانت تنتابه من حين لآخر.
ومن بين أشهر لوحاته التي أنجزها آنذاك هذه اللوحة التي تشير إلى مدى تأثّر فان غوخ بالأسلوب الياباني في الرسم، وخاصّة طريقة تمثيل الخطوط واستخدام الألوان.
في اللوحة نرى حقلا للقمح يقوم في وسطه وعلى أطرافه عدد من أشجار السرو. وبالإضافة إلى الأشجار، تبدو بعض التلال والجبال والأعشاب تحت سماء غائمة.
ولعلّ أهم ما يميّز هذه اللوحة عمق منظورها وسماكة نسيجها وإيقاع الأشكال فيها، بالإضافة إلى صفاء ألوانها التي تصوّر حيوية الربيع وبهاءه.
كان فان غوخ يراقب الأشجار من نافذة غرفته في المستشفى، وفي إحدى رسائله لأخيه ثيو يقول: لطالما أثارت هذه الأشجار تفكيري. وأجد من الصعوبة بمكان أن أتجنّب رسم هذا الحزن وهذه العزلة النهائية. إن هذه اللوحة ستخبرك عما عجزت أنا عن التعبير عنه بالكلمات وهو ما اعتبره مصدر الإلهام والسعادة في حياة الريف".
إن الناظر إلى هذه اللوحة لا بدّ وان يتخيّل أن كلّ شيء فيها يتحرّك. إذ بفعل ضربات الفرشاة الملتفّة كالدوّامة، تبدو الأشجار مضطربة والعشب كما لو أنه يتطاير مع الريح، ما يبعث شعورا غامضا بالتوتّر والخطر المحدق.
ارتبطت أشجار السرو منذ القدم بالموت وأحيانا بالخلود. وفي بعض الحضارات الشرقية القديمة كانت ترمز للكمال والجلال والحكمة.
فان غوخ كان هو أيضا مفتونا بالنظر إلى أشجار السرو متأمّلا أشكالها وألوانها وطريقة تموضعها في الطبيعة المفتوحة.
أثناء وجوده في المستشفى، كان فان غوخ منكبّا على التأمّل في حال الأدباء والشعراء والفنّانين الذين نجحوا في فهم واستكناه المشاعر والحالات الإنسانية العميقة وجسّدوا ذلك في أعمالهم.
وكان هو نفسه يتمنى أن يعكس في لوحاته جانبا من تلك المشاعر وأن يكون لأعماله نفس التأثير الانفعالي والعاطفي.
وفي سنواته الأخيرة أصبح ميّالا لرسم مشاهد نهارية وبات من النادر رؤية مناظر الفجر والغسق التي كانت تميّز لوحاته الأولى.
في العام 1993 بيعت هذه اللوحة بمبلغ 57 مليون دولار أمريكي. وقد أعارها المليونير الأمريكي الذي اشتراها إلى متحف الميتروبوليتان حيث ظلّت فيه إلى اليوم.
بعد حوالي سنة من رسمه هذه اللوحة، أي في السابع والعشرين من يوليو 1890، أقدم فان غوخ على الانتحار بإطلاق رصاصة على صدره في أحد هذه الحقول التي ألهمته رسم أعظم لوحاته وأكثرها شعبية وذلك خلال فترة السنتين اللتين قضاهما في آرل.
وبعد وفاته سرعان ما بدأت لوحاته تجتذب اهتمام النقاد الذين اكتشفوا أصالة وعمق موهبته ورؤيته الفنية، ليحتلّ في ما بعد مكانته كأحد أشهر الرسّامين الطليعيين في تاريخ الفن الحديث.

موضوع ذو صلة: سجال فلسفي حول حذاء

Friday, February 08, 2008

لوحات عالميـة - 158

مــزاج مسـائــي
للفنان الفرنسي ويليـام بـوغـرو، 1882

كثيرون هم الرسّامون الذين فتنوا بتصوير الجسد الأنثوي. وربّما لا يوجد رسّام واحد لم يحاول ذات مرّة رسم شكل لأنثى. وكان هذا يعتبر دائما مقياسا على براعة الرسّام وأصالة موهبته.
وفي أغلب الحالات، لم يكن رسم الأنثى العارية مدفوعا بالبحث عن فكرة فلسفية أو تجربة ثقافية ما، بل كان تعبيرا عن افتتان الفنان بالجانب الحسّي للموضوع.
ومن بين أشهر الأعمال الفنية التي تصوّر الشكل الأنثوي هذه اللوحة الرائعة لويليام بوغرو. وفيها نرى امرأة فاتنة، غُطّي جسدها جزئيا، بينما تقف بجلال على شاطئ البحر وقت هبوب العاصفة.
ويلاحَظ أن الفنان حرص على تغطية الجزء السفلي من جسد المرأة بينما أبقى على صدرها مكشوفا.
المشهد يذكّرنا بأفرودايت، "أو لعلّها كياندا أو ثيامات أو ثالاسا"، وهي تبدو هنا كما لو أنها تتأمّل هويّتها كأنثى محاولة اكتشاف طبيعتها الخاصّة كما تعكسها السمات الأنثوية للعالم.
المعروف أن الأنثى ارتبطت دائما ببدايات الكون وأصل الحياة. وبعض الأساطير القديمة تصوّر آلهة البحر والخصوبة على هيئة امرأة تخرج من البحر مبشّرة بالميلاد وبالبدايات الأولى للخلق.
ومنذ القدم، اقترنت صورة الأنثى بالعناصر والفصول وبعالم الطبيعة. وفي الكثير من ثقافات العالم، ترمز الأنثى لدورة الحياة ولطقوس العبور أو التحوّل من طور لآخر. وفي هذا إشارة إلى وجود المرأة الأزلي وحضورها الدائم الذي يتجاوز حدود المكان والزمان.
بوغرو اختار للوحة هذا العنوان "مزاج مسائي"، ربّما لكي يبتعد عن التسميات النمطية التي كانت شائعة في زمانه والمستمدّة من الأساطير. وقد يكون اختار هذا العنوان كي يضفي على الموضوع مضمونا معاصرا. بالإضافة طبعا إلى ما يوحي به العنوان من مسحة شاعرية، وهي سمة غالبة على معظم أعمال هذا الفنان.
علاقة الأنثى بالبحر علاقة وثيقة وقديمة. وهناك العديد من الأعمال الفلسفية والأدبية والفنية التي تتحدّث عن هذه الجزئية بالذات. فالبحر يرمز للرحم وما يتّصل به من دلالات الخصوبة والخلق والميلاد. وهناك اعتقاد قديم يقول بأن الحياة بدأت، أوّل ما بدأت، في الماء.
من الواضح أن هذه اللوحة نفّذت بأسلوب رقيق ينمّ عن شاعرية عالية، يميّزه هذا النسيج البديع وهذه الألوان المترفة والساحرة.
وبالإضافة إلى تناغم الألوان، هناك طريقة رسم الوشاح المنسدل على جسد المرأة، بالإضافة إلى الأسلوب البارع الذي اتبعه الفنان في رسم حركة الجسد وجعله يتداخل ويتناغم مع حركة الموج.
في العصر الذي عاش فيه بوغرو، كان الناس يغضّون الطرف عن اللوحات التي تصوّر نساءً عاريات، شريطة أن توضع ضمن سياق أسطوري أو ديني أو تاريخي.
وخلال القرون الوسطى كانت صورة المرأة العارية مرادفة للشرّ والموت والرذيلة. وبحلول عصر النهضة تغيّرت الحال وأصبحت صورة المرأة العارية رمزا للمثالية أو الحسّية. وطوال القرون الخمسة الأخيرة ُرسمت آلاف اللوحات الفنية التي تصوّر نساءً عاريات على هيئة آلهات وقدّيسات وحوريّات في أوضاع مختلفة وبحالات تتراوح ما بين الايروتيكية والارتقاء والتسامي الروحي.
والمتأمّل في تفاصيل هذه اللوحة البديعة لا بدّ وأن يلاحظ الأسلوب المرهف الذي تمّ به تمثيل الوجه ذي التعابير الغامضة والأطراف وتفاصيل الجسد الأخرى. وهذا كلّه يشي بمعرفة الفنان الواسعة بالتشريح وتناسب الأعضاء، كما انه يشير إلى أن الرسّام خطّط لهذه اللوحة جيّدا وعمل عليها مرّات ومرّات إلى أن أخذت شكلها النهائي.
ساندرو بوتيشيللي يعتبر أول فنّان رسم الأنثى العارية. وتعتبر لوحته "مولد فينوس" إحدى أشهر الأعمال الفنية التي عالجت الفكرة.
في الحضارات القديمة، كان الجسد الذكوري العاري هو المهيمن، ونادرا ما كان احد يفكّر في رسم امرأة عارية. وكانت التماثيل التي تصوّر رجالا عراة منتشرة في كل مكان، حيث كان ينظر إلى الرجل باعتباره تجسيدا لكمال الإنسان الجسدي والمعنوي.
ومن الأمور اللافتة أن الإغريق لم يكن يستهويهم جسد المرأة ولم يكن يحرّكهم الجمال الأنثوي كثيرا. كانوا يرون ذروة الكمال في جسد الرجل، وكان الجسد الذكوري العاري عندهم جزءا مهمّا من الأدب ومن الحياة بشكل عام.
ميكيل انجيلو، فنان عصر النهضة الايطالي، كان يرسم الرجال غالبا. ومن شدّة تعلّقه بالجسد الذكوري كان يرسم نساءه في هيئات ذكورية وبقوام صارم وعضلات بارزة.
وعلى النقيض من ميكيل انجيلو هناك فنّانون رسموا رجالا بملامح أنثوية.
وليام بوغرو يُنظر إليه اليوم على انه احد أعظم الرسامين في التاريخ. وقد كان متأثّرا بالمدرسة الكلاسيكية الايطالية. وبعد وفاته ترك أكثر من 700 لوحة تتناول مواضيع تاريخية وأسطورية ومن الحياة اليومية.
وبعض النقاد يعيبون على أعمال بوغرو خلوّها من المضامين السياسية والاجتماعية، ويسوقون ذلك باعتباره دليلا على ابتعاد الفنان عن مشاغل واهتمامات الناس في فرنسا القرن التاسع عشر.

Monday, January 28, 2008

لوحات عالميـة - 157

الأمــــل
للفنان البريطاني جـورج فريدريـك واتـس، 1886

قد لا تصنّف هذه اللوحة ضمن الأعمال الفنّية التي تثير الفرح أو تبعث على البهجة والارتياح، لكنها مع ذلك تحمل فكرة إنسانية عظيمة وتثير أجمل وأنبل ما في النفس الإنسانية من مشاعر وأحاسيس.
عندما أتمّ جورج واتس رسم اللوحة منذ أكثر من مائة عام، سرعان ما وجدت طريقها إلى كلّ بيت وأصبحت حديث الناس والنقاد، على السواء، في بريطانيا.
وبالنظر إلى مضمونها العاطفي والإنساني العميق، فقد انتشرت اللوحة حول العالم واستنسخت مرارا وتكرارا وظهرت العديد من قصائد الشعر التي تستمدّ من مضمون اللوحة موضوعا لها.
العنوان قد لا يدلّ على جوّ اللوحة، إذ نرى امرأة معصوبة العينين وحافية القدمين وهي تجلس في وضع انحناء فوق ما يبدو وكأنه مجسّم للأرض بينما راحت تعزف على آخر وتر تبقّى في قيثار مكسور.
تعابير وجه المرأة غامضة إلى حدّ ما، بينما يغرق المشهد كله في موجات مهتزّة من اللازوردي والأصفر بتدرّجاتهما المشعّة.
بعض النقاد يرون أن اللوحة تعبّر في الواقع عن اليأس وتثير إحساسا بالحزن، بينما يرى آخرون أنها تعبّر عن تمسّك الإنسان بالأمل ورفضه الاستسلام لليأس. فالمرأة مستمرّة في العزف حتى بعد أن لم يتبقّ في قيثارتها سوى وتر وحيد.
واتس كان احد أعظم الفنانين الذين ظهروا خلال العصر الفيكتوري، وكان للوحاته مضامين رمزية؛ أخلاقية وفلسفية وروحية.
في ذلك العصر كان الفنانون والأدباء والشعراء مفتونين بالموسيقى وعناصر الجمال المختلفة. ومثل معظم معاصريه، كان واتس منشدّا إلى فكرة الموت، إذ كان يرى فيه مفسّرا للحياة وامتدادا لها.
وربّما لهذا السبب، تروق لوحاته كثيرا للمتديّنين وللفئات الاجتماعية المحرومة، بالنظر إلى طبيعتها الروحية التي تضفي على مشاعر الحزن والألم واليأس طابعا من الجمال والنبل والقداسة.
كان واتس يرسم الأفكار لا الأشياء، وكثيرا ما كان يحيط شخوص لوحاته بأجواء ضبابية أو غائمة للإيحاء بأنها انعكاس لأفكار ورؤى معيّنة.
وكان يعتقد دائما أن باستطاعة الفن أن يعبّر عن قوّة الحياة وإرادة الإنسان.
وفي الوقت الذي كان معاصروه يميلون إلى تصوير الأمل والمعاناة والحزن والحياة والموت على هيئة نساء إغريقيات يرتدين ملابس طويلة وشفّافة، كان واتس يجد كل هذه المعاني والظواهر داخل نفسه ويعبّر عنها بمناظره التي يرسمها اعتمادا على معرفته وخبراته الذاتية وميله للتأمّل والنزوع الفلسفي.
والذي يتملّى البناء الفنّي لهذا اللوحة المتميّزة لا بدّ وأن ينصرف تفكيره إلى لوحة بيكاسو الشهيرة عازف الغيتار العجوز، التي تصوّر عجوزا أعمى يعزف على غيتاره بلا اهتمام.
وهناك من المؤرّخين والنقاد من ذهبوا إلى أن لوحة واتس، الموجودة اليوم في متحف تيت البريطاني، تتضمّن صورة سياسية مجازية، وأن المرأة ليست في الحقيقة سوى رمز لبريطانيا التي فتحت العالم وبلغت أوج مجدها وانتصاراتها خلال حكم الملكة فيكتوريا.
لكن ذلك كله لم يجلب السلام ولم يحقّق للناس السعادة وراحة البال التي كانوا يتطلعون إليها في ذلك الوقت.

Wednesday, January 23, 2008

لوحات عالميـة - 156

بـورتريـه دراكـيــولا
(القرن الخامس عشر الميلادي)

يعتبر دراكيولا احد أشهر الشخصيّات التاريخية التي ظهرت في أوربّا خلال القرون الوسطى.
وقد ُنسجت عن هذا الرجل وعن حياته الكثير من الأساطير والقصص الغريبة، وأصبح مادّة للعديد من الأعمال الأدبية والمسرحية والموسيقية، وكُتب عنه الكثير من الدراسات النفسية والانثروبولوجية التي تتناول ظاهرته بالدراسة والتحليل.
وطوال الخمسمائة عام الأخيرة أصبح دراكيولا (واسمه الأصلي فلاد تيبيس Vlad Tepes) رمزا للساديّة والعنف والوحشية.
ويحتفظ التاريخ المدوّن بقصص تقشعر لها الأبدان، وأحيانا تستعصي على التصديق، عن مدى همجية هذا الرجل وقسوته المتجاوزة.
فقد ُعرف عنه انه كان يعاقب أعداءه بإلقائهم في النار أو في صهاريج الزيت المغلي أو بسلخ جلودهم وهم أحياء.
لكن معظم ضحاياه ماتوا على الخازوق، وتلك كانت وسيلته المفضّلة في قتل خصومه. ولهذا الغرض كان يقيم حفلات إعدام جماعية يتناول خلالها الطعام مع النبلاء وسط صرخات وأنين الضحايا المحتضرين. ويبدو أن غايته من وراء استخدام تلك الأساليب الرهيبة كانت ردع كل من تسوّل له نفسه خيانته أو التآمر عليه.
والغريب أن بعض النبلاء الذين كانوا يحضرون معه حفلات الإعدام تلك انتهى بهم الأمر في نهاية المطاف إلى الإعدام بنفس الطريقة.
وفي إحدى المرّات عمد إلى دقّ رؤوس مبعوثي السلطان العثماني محمّد الفاتح بالمسامير لأنهم رفضوا خلع عمائمهم في حضرته.
وتذكر بعض الروايات أن دراكيولا كان يستحمّ بدماء بعض ضحاياه لكي يحتفظ بشبابه وقوّته.
السؤال الذي قد يكون خطر بذهن كلّ من قرأ شيئا عن سيرة حياة هذا السفّاح الكبير هو: ترى كيف كانت هيئته وكيف كانت تبدو ملامح وجهه؟
هذا البورتريه، الشهير والمألوف كثيرا، يوفّر بعض الإشارات التي تقود إلى إجابة ما عن هذا السؤال.
في البداية، لا يُعرف على وجه التحديد من رسم البورتريه. لكن أهميّته أنه ُرسم أثناء حياة دراكيولا، أي أن الرسّام إما انه رأى الرجل عيانا أو انه على الأقل سمع بعضا من أوصافه على ألسنة الناس الذين رأوه.
واللوحة تثير مجدّدا السؤال القديم عن العلاقة بين ملامح الإنسان أو شكله الخارجي وبين نمط سلوكه وطبيعة تصرّفاته.
ملامح الوجه غريبة إلى حدّ ما. هنا لا عظام ولا دم ولا عضلات. العينان واسعتان والأنف حادّ ودقيق والحواجب رفيعة والشارب طويل، مجعّد وملفوف. شعر الرأس هو الآخر طويل، كثيف ومجعّد. ويمكن للناظر أن يتخيّل لأول وهلة أن الشعر الطويل جزء من غطاء الرأس.
الانطباع الذي يوحي به بورتريه دراكيولا هو أننا أمام رجل صارم وقويّ الشخصية، بدليل فمه المطبق ونظراته النافذة والتي تشي بسيطرته على كلّ ما حوله ومن حوله.
شكل العمامة التي يضعها على رأسه لا تخلو من أناقة تبدو شرقية الطابع. وهناك في وسطها نجمة ذهبية تتوسّطها لؤلؤة حمراء.
تقول بعض المصادر التاريخية إن الجيش التركي ضرب حصارا على قلعة ترانسيلفانيا حيث كان دراكيولا يتحصّن. وبعد أيّام من الحصار هرب عبر نفق تحت الأرض ليختبئ في الجبال. لكن زوجته فضّلت أن تلقي بنفسها من أعلى القلعة لتلقى حتفها.
غير أن دراكيولا لم يلبث أن لقي مصرعه على يد الأتراك في العام 1476م.
وقد ُقطع رأسه وأرسل إلى السلطان العثماني في القسطنطينية فيما ُدفنت بقاياه في أحد الأديرة.
بعد قرون، أمرت السلطات الرومانية بحفر القبر، لكن لم ُيعثر فيه سوى على عظام حيوان ميّت. وهذا أفسح المجال لرواج شائعات تقول إن قوى شيطانية اختطفت الجثة وأن دراكيولا تحوّل بعد ذلك إلى مصّاص للدماء بعد أن لحقته اللعنة الأبدية.
وبعد أربعمائة عام على اختفائه، استؤنف الحديث مجدّدا عن دراكيولا بفعل النجاح الساحق الذي حقّقته رواية دراكيولا للكاتب الايرلندي برام ستوكر.
هذه الرواية تحوّلت في ما بعد إلى فيلم سينمائي أخرجه فرانسيس فورد كوبولا وشكّلت بداية حقبة مهدّت لرواج فكرة الفامبايرزم Vampirism أو تقليد مصّ الدماء وانتشارها على نطاق واسع، حيث أصبحت موضوعا للعشرات بل المئات من الأعمال الروائية والمسرحية والسينمائية التي تمتزج فيها الحقيقة بالخيال.
بشكل عام، يمكن القول إن هذه اللوحة قد لا تنطوي على قيم جمالية ظاهرة، لكن أهمّيتها تتلخص في كونها تقدّم صورة بصرية مقرّبة عن الطبيعة الشرّيرة والقاسية لصاحبها.
بعض معاصري دراكيولا يصفونه بأنه كان رجلا صارما شديد المراس ذا عينين خضراوين واسعتين وحواجب كثّة وعنق ضخم.
دراكيولا لم يكن الطاغية الوحيد الذي مثّلت شخصيّته تشكيليا، فهناك العديد من اللوحات والأعمال النحتية التي تصوّر شخصيّات كريهة أخرى مثل نيرون وجنكيز خان وكاليغولا وغيرهم.
أما بالنسبة للفامبايرزم فقد أصبح اليوم ثقافة شعبية قائمة بذاتها في الغرب وجزءا لا يتجزّأ من الأدب والفنّ وحتى الفلكلور.
وتحتشد الأفلام السينمائية التي تتحدّث عن هذه الظاهرة، عادة، بصور الأشباح والقبور والقلاع المظلمة والخفافيش والذئاب والبوم والبرق والمطر والعواصف وضوء القمر الشاحب والضباب.
وبعض النقاد يرجعون أسباب هوس الناس بالفكرة إلى كونها تلامس مخاوف الإنسان العميقة كما أنها ترتبط بالجوانب المظلمة للطبيعة البشرية.
وهناك أيضا الجانب المتعلق بميل الإنسان لكل ما هو ممنوع وتطلعه للشباب الدائم والخلود.
ثم هناك أيضا عنصر الدم نفسه الذي يحتلّ مكانا مركزيا في الشعور الديني من حيث ارتباطه بالتضحية والتطهير.
وأخيرا هناك عنصرا السلطة والإغراء الجنسي اللذان أصبحا جزءا لا يتجزّأ من صورة مصّاص الدماء كما يقدّمه الأدب والفنّ.

موضوع ذو صلة: قراءات في أدب وسينما الرعب

Tuesday, January 15, 2008

لوحات عالميـة - 155

في ذكرى الشاعرة برفين اعتصامي
للفنان الإيراني مرتضـى كاتوزيـان، 1985

يقال أحيانا أن الشعر يصبح مفهوما أكثر عندما يتحوّل إلى موسيقى أو إلى عمل تشكيلي.
والفنان، رسّاما كان أم شاعرا أم موسيقيا، اعتاد أن يرى العالم بعين أكثر حساسية وشمولا، فهو يلتقط التفاصيل ويلاحظ الحالات والظواهر المختلفة ويستمتع برصدها وتأمّلها وتصويرها.
في هذه اللوحة الجميلة يصوّر مرتضى كاتوزيان منظرا استوحاه من قصيدة للشاعرة الإيرانية الراحلة برفين اعتصامي تتحدّث فيه عن طفل يكسر آنية خزفية عن غير قصد ثم لا يجرؤ على العودة إلى البيت خوفا من غضب والده.
اعتصامي اشتهرت بمواقفها وأفكارها وقصائدها الجريئة الداعية لتحرير المرأة.
وقد تأثرت بأفكار والدها الذي كان هو الآخر مناصرا لحقوق النساء، كما عرف عنه ترجمته لكتاب الشيخ قاسم أمين "تحرير المرأة" إلى الفارسية.
وقد توفيت اعتصامي عن عمر لا يتجاوز الخامسة والثلاثين بعد تجربة زواج فاشل لم يدم أكثر من شهرين. وفي أخريات حياتها كتبت قصائد حزينة تتعاطف فيها مع الفئات المحرومة في المجتمع خاصة الأطفال الفقراء واليتامى.
في اللوحة نرى طفلا بملامح بريئة وملابس رثّة وهو جالس يغالب النعاس في زاوية بأحد الشوارع. والى جواره تبدو آنية فخار مكسورة.
المشهد يوحي بالفقر الشديد: الجدران في الخلفية وكذلك ملابس الطفل خصوصا البنطلون المهلهل والمرقّع بقطع حمراء وسوداء.
اللوحة يغلب عليها اللونان الأصفر والبنّي وظلالهما. وثمّة تناغم وتناسق واضح بين الألوان كما يبدو جليا أيضا إتقان الفنان رسم الأطراف. وإن كان يلاحظ أن القدم اليمنى للصبي تبدو اكبر قليلا من عمره المفترض.
هناك أيضا الظلال التي رسمت بعناية وبراعة لافتة. والمنظر بأكمله يدفع الناظر إلى التعاطف مع الحالة الإنسانية التي تجسّدها اللوحة.
مرتضى كاتوزيان يعتبر واحدا من أشهر الفنانين التشكيليين في إيران.
والبعض يصفه بأنه رسّام الفقراء والمهمّشين. وهو ينتمي للطبقة الوسطى وينحدر من عائلة تحبّ الرسم والفنون. ومعروف أن كاتوزيان لم يتتلمذ على يد احد بل علّم نفسه بنفسه إلى أن اخذ أسلوبه في الرسم في النضج والتبلور.
التأثير المتبادل بين الشعر والرسم أمر ليس بالطارئ ولا بالجديد. فـ يوهان فيرمير، مثلا، استوحى مواضيع بعض لوحاته من قصائد أو روايات.
في المقابل تحوّلت عناوين وأجواء بعض لوحات فان غوخ ورينيه ماغريت ووليام ووترهاوس وادفارد مونك إلى أعمال شعرية وروائية وموسيقية.
عنوان لوحة كاتوزيان ربّما يثير ملاحظة قد تبدو شكلية إلى حدّ ما، فهو يبدو طويلا بعض الشيء وقد يراه البعض مملا وغير مناسب. ولو أن الفنان اختار للوحة عنوانا مختصرا مثل "الإناء المكسور" أو "آنية الخزف المكسورة" لكان وقعه أفضل وأجمل. في حين يمكن وضع العنوان الطويل في حيّز فرعي وبين قوسين للتأكيد على فكرة اللوحة وتوضيح مناسبتها.
أما فكرة رسم طفل أو طفلة والى جواره آنية أو مزهرية مكسورة فهي فكرة قديمة في الفنّ وطالما استهوت العديد من الرسّامين.
لكن يمكن القول إن أشهر لوحات هذه الثيمة وأكثرها انتشارا ورواجا هي لوحة رسّام القرن التاسع عشر الفرنسي ايميل مونيير Emile Munier's The Broken Vase بعنوان المزهرية المكسورة.

موضوع ذو صلة: إطلالة على الموسيقى الإيرانية