ضـوء القـمـر
للفنان البولندي إيغـور ميتـوراج، 1986
ظلّ القمر حاضرا في وعي وذاكرة الإنسان منذ أقدم الأزمنة. وكان وما يزال يقوم بدور المرآة التي تعكس كلّ الأشياء الجميلة على الأرض. وقد تغنّى الشعراء والكتّاب والفلاسفة بالقمر منذ الأزل. وكان دائما مصدر إلهام لأشهر اللوحات والقصائد والأغاني.
في مقطع من قصيدة "الأرض اليباب" يقول تي إس إليوت: في هذه الحفرة المتغضّنة وسط الجبال، في ضوء القمر الخافت، يغنّي العشب فوق القبور الدارسة". ويقول شاعر آخر: الضوء الأخير غادر العالم. وحده ضوء القمر ينام فوق العشب وخلف ظلال الأشجار الطويلة".
وهناك حكمة قديمة تقول إن أجمل الوجوه هي تلك التي تُرى في ضوء القمر عندما يرى الإنسان نصف الأشياء بعينه ونصفها الآخر بخياله".
النحّات إيغور ميتوراج اختار أن يمثّل ضوء القمر بطريقة سوريالية عندما صوّره على هيئة وجه مكسور وساقط على العشب. الوجه يحمل ملامح الشخوص التي تصوّرها التماثيل الكلاسيكية القديمة من العصرين الروماني واليوناني.
في هذا العمل هناك إحساس واضح بالحداثة. لكنه يتضمّن أيضا إشارات إلى الجماليات الكلاسيكية التي أصبحت اليوم جزءا من الماضي.
يمكن أيضا ملاحظة أن أطراف وجه التمثال مكسورة أو متآكلة. وهي سمة تغلب على أعمال ميتوراج النحتية، وكأنه يذكّر بالتلف الذي لحق بالكثير من التماثيل الكلاسيكية بفعل مرور الزمن.
لكن لماذا هذه التسمية الغريبة، أي ضوء القمر؟ هناك أكثر من احتمال. وجه التمثال قد يكون وجه هيرميس إله النور في الأساطير القديمة الذي كان يلجأ إليه الناس عندما يحلّ الظلام كي يعيد لهم الضوء، الذي هو رمز للطريق أو الوجهة الصحيحة.
ويمكن أن يكون الفنّان أراد من خلال التمثال انتقاد الحضارة الحديثة والتحذير من أدوات الدمار التي أصبح أثرها لا يقتصر على الأرض فقط وإنما امتدّ ليشمل الفضاء والكواكب البعيدة.
وربّما أراد الإشارة إلى تضاؤل اهتمام الناس اليوم بالأساطير القديمة التي تتحدّث عن الظواهر الطبيعية ومن ثمّ ضعف ارتباطهم بالقوى العلوية أو الغيبية.
بعض الشعوب القديمة كانت تعبد القمر وترى في ضوئه الأنيس الذي يخفّف الإحساس بالخوف من الليل والظلام والمجهول. والشعوب الشرقية القديمة كالصينيين واليابانيين كانوا يرون في اكتمال ضوء القمر متعة جمالية وروحية تستحقّ أن تُقام من اجلها الطقوس والاحتفالات. ولم يكن مستغربا أن تُنسب أجمل قصيدة عن القمر لشاعر صيني، وأن يكون أشهر من رسم ضوء القمر رسّام ياباني.
اُقيم هذا التمثال على أرضية احد المنتزهات في ولاية ميشيغان الأمريكية. والمنتزه يضمّ مجموعة من الأعمال النحتية، بعضها لنحّاتين مشهورين مثل هنري مور ورودان واولدنبيرغ. وقد انشيء المنتزه في القرن التاسع عشر، وهو يضمّ جداول وشلالات ومروجا بالإضافة إلى عدد لا يُحصى من النباتات والأشجار.
في العصر الحديث أصبح منظر ضوء القمر يرمز للفقد أو الغياب وأحيانا للتأمّل والحنين. وهذه الأفكار والمشاعر نجد لها صدى في موسيقى بيتهوفن وشوبان وديبوسي وفي لوحات بعض الرسّامين المعاصرين مثل ويسلر وفان غوخ وإدفارد مونك.
إيغور ميتوراج ولد في ألمانيا لعائلة من أصول بولندية. وقد درس الرسم في وارسو وباريس. وفي ما بعد، وتحت تأثير افتتانه بالفنّ والثقافة اللاتينية، ذهب إلى ايطاليا. وهناك قرّر أن يترك الرسم ويمتهن النحت. وميتوراج يُعتبر اليوم من أبرز وأشهر الفنّانين البولنديين المعاصرين. ومنحوتاته موجودة في العديد من المتاحف والمؤسّسات الفنّية وصالات ومكاتب بعض أشهر الشركات العالمية.
وهو يصنع منحوتاته من الرخام والبرونز غالبا. ودائما ما تظهر على شخوصه آثار التلف أو الدمار، فيبدو بعضها برؤوس مكسورة أو وجوه تلّفها الضمادات أو جذوع متصدّعة، بينما يظهر البعض الآخر بلا أيد أو أطراف.
منحوتات ميتوراج، بأطرافها المبتورة وقطعها المتشظّية، قد تكون أكثر من مجرّد محاولة لتشريح الماضي. وربّما يكون لها ارتباط بالتجارب والانفعالات الشخصية للفنّان. وهناك احتمال آخر بأن تكون مظاهر التآكل والتلف فيها تعبيرا عن زمن وجودي أكثر منه تاريخي.
ومن أشهر أعماله الأخرى تمثال لـ ايروس إله الحبّ يظهر فيه معصوب العينين ولا يحمل سهماً كما جرت العادة، في إشارة إلى أن الحبّ أعمى ويختار ضحاياه بطريقة عشوائية.