فتـيات علـى الجسـر
للفنان النرويجي إدفـارد مونـك، 1902
ما أن يُذكر اسم رسّام ما حتى تقفز إلى الذهن إحدى لوحاته باعتبارها الأشهر والأكثر رواجا. فـ دافنشي غالبا ما يرد اسمه مقرونا بـ الموناليزا. ومانيه بـ اوليمبيا. وكليمت بـ القبلة. وادوارد هوبر بـ صقور الليل. وبول سيزان بـ لاعبي الورق. وويسلر بلوحته عن والدته. وماتيس بـ العارية الزرقاء. وهكذا..
وما يحدث في غالب الأحيان هو أن اللوحة التي تعارف الناس على أنها الأكثر شهرة قد تحجب أعمالا أخرى للرسّام ربّما لا تقلّ عن تلك اللوحة إبداعا وتميّزا.
ادفارد مونك هو الآخر لا يتذكّره الناس إلا من خلال لوحته الأشهر "الصرخة". ومع ذلك، هناك من مؤرّخي الفنّ من يتساءلون عن السبب في أن "الصرخة" أصبحت أشهر لوحة لـ مونك، في حين أن لوحته هنا لا تقلّ عنها، إن لم تتفوّق عليها، من حيث جمالها وقوّتها التعبيرية.
"فتيات على الجسر" هي إحدى أشهر لوحات مونك. وقد رسمها أثناء إحدى اشدّ الفترات معاناة في حياته. غير أن تلك الفترة بالذات شهدت ولادة مجموعة من أكثر لوحاته نضوجا وعمقا. الرمزية القويّة في هذه اللوحة لها علاقة بلوحة مونك الأخرى رقصة الحياة. وهو من خلال هذين العملين كان يحاول استكشاف الأفكار التي تتناول مراحل تطوّر المرأة من النضوج إلى الشيخوخة فالموت.
كان إدفارد مونك يرسم ما يمكن تسميته باللوحات المزاجية أو الانفعالية. وكانت تلك سمة خاصّة بفنّ شمال أوربّا حتى نهاية القرن التاسع عشر. وقد تخلّى مونك عن الرسم في الهواء الطلق الذي كان مهيمنا على لوحات الطبيعة النرويجية، وفضّل أن يرسم الطبيعة وفق رؤية مشحونة انفعاليا وعاطفيا.
في هذه اللوحة اخذ الرسّام منظرا كان قد رآه من قبل في منتجع اوسكوشراند الصيفي يشبه المكان الذي رسم منه "الصرخة". وقد عاد إلى نفس المكان واستخدم القوّة التعبيرية للألوان والخطوط كي يحصل على لوحة أخرى ذات قوّة غنائية وشعرية كبيرة.
كان مونك يعرف المنطقة جيّدا بشاطئها الجميل وأشجار الزيزفون الوارفة فيها وأسوارها البيضاء التي تتوهّج مثل المصابيح في ليالي الصيف.
وقد سبق له وأن قضى عددا من عطلاته هناك، واستطاع أن يغمر نفسه في المكان بحيث تحوّل إلى انعكاس لتأمّلاته الداخلية الخاصّة.
في اللوحة يرسم الفنّان مجموعة من الفتيات يرتدين ملابس خضراء وحمراء وبيضاء وهنّ يقفن على جسر. والسياج الخشبي الذي يستندن إليه يمتدّ إلى خلفية المنظر حيث يقوم بيت صغير تنهض على احد أطرافه شجرة زيزفون ضخمة تظهر انعكاساتها في مياه النهر إلى جوارها على شكل خطوط متماوجة.
ملامح وجوه النساء غير واضحة. وهذا مؤشّر آخر على أن لوحات مونك لا تحكي قصصا بل تثير انفعالات وأمزجة متباينة. وظاهريا اللوحة تتحدث عن الطبيعة. لكنّها في الحقيقة تقود الناظر إلى طبيعة داخلية من المشاعر والانفعالات. وضربات الفرشاة القوّية والطلاء السميك يضيفان غموضا أكثر إلى الجوّ الانفعالي للوحة.
الجسم الدائري الأصفر الصغير الذي وضعه مونك في سماء اللوحة إلى أقصى اليسار ظلّ هو الآخر مثارا للجدل والتكهّنات. البعض قال انه شمس منتصف الليل. والبعض الآخر ذهب إلى انه قمر يوشك على الغروب. وثمّة من تساءل عن سرّ غياب انعكاس ضوء هذا القمر في مياه النهر.
كان مونك يتحدّث كثيرا عن الضوء الغامض للقمر في ليالي شمال أوربّا. وقد رسم الضوء الخافت هنا أيضا، كأنّما يحاول من خلاله أن ينزع عن الأشياء طابعها الفيزيائي ويضفي عليها معاني وسمات روحية. وقد يكون الضوء الغامض كناية عن ذكريات توشك أن تغرب وتتلاشى.
هناك أيضا شيء ما نبيل في طريق اختيار مونك للألوان. حتى الألوان الساطعة عادة كالأصفر والأخضر والأحمر والبرتقالي تبدو هنا مخفّفة وفاتحة، ما يضفي على اللوحة جوّا من الدفء الممزوج بشيء من الحنين.
النقّاد المعاصرون امتدحوا هذه اللوحة باعتبارها أكثر أعمال الفنّان نضجا. وهناك من وصفها بأنها طبيعة للخلاص ورغبة في العودة إلى عالم نظيف وصاف لا يسكنه سوى الأبرياء. كما قوبلت بحماس كبير في برلين عندما عرضها الرسّام هناك لأوّل مرّة.
وبالنظر إلى النجاح الكبير الذي حققته، عاد مونك إلى فكرتها مرارا ورسم منها على امتداد ثلاثين عاما 12 لوحة تحمل جميعها نفس العنوان. الغريب أن الأشجار والسياج والجسر والبيوت التي تظهر في اللوحة ما تزال إلى اليوم على حالها عندما رسمها الفنّان قبل أكثر من مائة عام.