الرجل الجريح
للفنان الفرنسي غوستاف كوربيه، 1854
للفنان الفرنسي غوستاف كوربيه، 1854
عاش غوستاف كوربيه في عصر هيمنة الرومانتيكية وجمود النيوكلاسيكية. ثم وجد إحساسا جديدا في الرسم الواقعيّ. وإليه يعود الفضل في صوغ مصطلح الواقعية.
الفترة التي عاش فيها الرسّام اتّسمت بالتوتّرات السياسية والاجتماعية. ولوحاته بشكل عامّ تعكس القوّة المتصاعدة للجماهير وازدهار المنظور العلميّ وتأثير الحركات الفنّية والثقافية التي اكتسحت باريس في منتصف القرن التاسع عشر.
وقد اشتهر كوربيه بوصفه رسّاما للأسطح السميكة وببراعته في تقنية السكّين التي تنتج حضورا ماديّا.
وفي ما بعد، امتدّت مهنته إلى ما هو ابعد من الواقعية، عندما بدأ يجرّب أفكارا وأساليب جديدة في الرسم ستتطوّر بعد ذلك إلى ما أصبح يُعرف بالانطباعية.
الذوق الذي كان سائدا زمن الرسّام كان يفترض من الفنّان أن يرسم فنّا ساميا وجميلا ينقل المتلقّي إلى عالم مثاليّ يسكنه الأشخاص الأسطوريون والأغنياء. لكن كوربيه كان يصرّ على رسم الحياة الواقعية بكلّ ما تزخر به من سلبيات ومتناقضات.
في عام 1854، كتب كوربيه إلى راعيه وداعمه الفريد بروياس يقول: لقد رسمت في حياتي العدد من البورتريهات لنفسي، وعندما تغيّرت حالتي الذهنية كتبت قصّة حياتي في كلمتين: الرجل الجريح".
وهذا هو اسم لوحته هذه التي رسمها لنفسه مذكّرا بالفكرة الرومانتيكية القديمة عن الفنّان بوصفه بطلا يعاني.
وكوربيه يبدو في البورتريه مستلقيا على سريره وممسكا عباءته بيده، وإلى جواره سيف وعلى قميصه بقعة دم.
في البداية، ظن النقّاد أن السيف يرمز للفرشاة والدم للطلاء، أي أن الصورة يمكن أن تكون رمزا للفنّان الذي يضحّي بنفسه في سبيل فنّه.
لكن في ما بعد، اُجري للوحة فحص بالأشعّة السينية كشف عن قصّة حبّ مخفيّة. وتبيّن انه كان تحت سطحها صورة لامرأة مستلقية على كتف الرسّام. لكنّه غيّر في اللوحة بعد أن انتهت علاقته بالمرأة، فطمس صورتها وأبقى على صورته هو، وكأنه أراد أن يزيل ذكراها من عقله ومن عمله. ثم استبدل صورتها بسيف وأضاف بقعا من الدم على قميصه ناحية القلب.
وجود الجرح في ذلك المكان ليس بالأمر العشوائيّ، ومن المرجّح أن الرسّام إنّما كان يعبّر من خلاله عن حالة انكسار عاطفيّ.
ولا بدّ وأن كوربيه كان موهوبا كثيرا عندما غيّر في اللوحة دون أن يترك أثرا، لدرجة انه لزم الخبراء عقودا طويلة كي يكتشفوا التعديل باستخدام التقنية المتطوّرة.
ولد غوستاف كوربيه عام 1819 لعائلة من الريف الفرنسيّ. وفي ما بعد ذهب إلى باريس كي يدرس القانون. لكنه قرّر فجأة أن يدرس الرسم.
وفي عام 1865، زار ألمانيا وكان وقتها قد أصبح الزعيم غير المنازع للجيل الجديد من رسّامي الواقعية الفرنسية.
وقد رسم خلال حياته مواضيع متنوّعة كالبورتريهات والأشخاص والطبيعة. وبورتريهاته الشخصية بالذات تحتلّ مكان الصدارة في أعماله.
ويقال أن سلسلة لوحاته عن البحر مع عواصف وغيوم متغيّرة كان لها تأثير كبير على الرسّامين الانطباعيين الذين أتوا في ما بعد.
في احد الأوقات، وجد كوربيه نفسه منجذبا نحو الثقافة البوهيمية. وقد كتب وقتها إلى صديق له يقول: في مجتمعنا المتحضّر أكثر من اللازم، يجب أن أعيش حياتي كهمجيّ، وأحرّر نفسي من تأثير الحكومات. إنني أتعاطف مع الناس العاديّين ويجب عليّ أن أتحدّث إليهم مباشرة وأن اكسب عيشي منهم. لذا قرّرت من الآن أن أجرّب حياة الترحال كبوهيميّ".
كان كوربيه شخصا وسيما ومعتدّا بنفسه بطريقة ساذجة أحيانا، وكان يعرف قيمته جيّدا. وثقته الزائدة بنفسه واضحة في لوحته "صباح الخير مسيو كوربيه"، وفيها يصوّر نفسه واقفا بطريقة مسرحية وممسكا بعصا أثناء لقاء له على الطريق مع راعيه الثريّ بروياس الذي يحيّي الرسّام باحترام وإجلال.
كان كوربيه يصرّ دائما على الاستقلالية كإنسان وكفنّان. وقد رفض الزواج باعتباره مؤسّسة بورجوازية كما قال.
ولطالما ربطته ببلده علاقة تتراوح بين الحبّ والكراهية. ومع ذلك احتُفل به في باريس كأحد المعلّمين العظام، وحقّق أثناء حياته نوعا من النجومية يشبه ما نراه هذه الأيّام. وجزء مهم من نجوميّته يمكن أن يُعزى إلى شخصيّته المتمرّدة وفنّه المستفزّ أحيانا.
مع تقدّمه في العمر، أصبحت حياة كوربيه أكثر تشويقا وإثارة للجدل. فقد رفض وسام الشرف الذي عرضه عليه نابليون الثالث قائلا إن الدولة عاجزة في المسائل الفنّية، وعندما تتركني لأكون حرّا أكون قد أنجزت واجبي نحوها".
ولأنه كان اشتراكيا، فقد شارك في بعض الأنشطة الثورية، وكانت نتيجة ذلك انه سُجن ستّة أشهر عام 1871. وأثناء وجوده في السجن، رسم لنفسه بورتريها يظهر فيه وهو جالس بجانب نافذة ويدخّن الغليون، متذكّرا رفاقه الذين قُتلوا في أحداث ثورة 1871.
وفي إحدى المرّات فُرضت عليه غرامة كانت اكبر من قدرته على الدفع، فهرب إلى سويسرا وبقي فيها إلى أن توفّي في ديسمبر عام 1877.
وقبيل وفاته كتب في مذكّراته يقول: عمري الآن يقارب الخمسين، وقد عشت حياتي دائما في جوّ من الحرّية. لذا دعوني انهي حياتي وأنا حرّ. وعندما أموت أريد أن يقال عنّي أنني لم أكن انتمي إلى مدرسة أو كنيسة أو مؤسّسة أو أكاديمية أو نظام غير الحرّية".
الفترة التي عاش فيها الرسّام اتّسمت بالتوتّرات السياسية والاجتماعية. ولوحاته بشكل عامّ تعكس القوّة المتصاعدة للجماهير وازدهار المنظور العلميّ وتأثير الحركات الفنّية والثقافية التي اكتسحت باريس في منتصف القرن التاسع عشر.
وقد اشتهر كوربيه بوصفه رسّاما للأسطح السميكة وببراعته في تقنية السكّين التي تنتج حضورا ماديّا.
وفي ما بعد، امتدّت مهنته إلى ما هو ابعد من الواقعية، عندما بدأ يجرّب أفكارا وأساليب جديدة في الرسم ستتطوّر بعد ذلك إلى ما أصبح يُعرف بالانطباعية.
الذوق الذي كان سائدا زمن الرسّام كان يفترض من الفنّان أن يرسم فنّا ساميا وجميلا ينقل المتلقّي إلى عالم مثاليّ يسكنه الأشخاص الأسطوريون والأغنياء. لكن كوربيه كان يصرّ على رسم الحياة الواقعية بكلّ ما تزخر به من سلبيات ومتناقضات.
في عام 1854، كتب كوربيه إلى راعيه وداعمه الفريد بروياس يقول: لقد رسمت في حياتي العدد من البورتريهات لنفسي، وعندما تغيّرت حالتي الذهنية كتبت قصّة حياتي في كلمتين: الرجل الجريح".
وهذا هو اسم لوحته هذه التي رسمها لنفسه مذكّرا بالفكرة الرومانتيكية القديمة عن الفنّان بوصفه بطلا يعاني.
وكوربيه يبدو في البورتريه مستلقيا على سريره وممسكا عباءته بيده، وإلى جواره سيف وعلى قميصه بقعة دم.
في البداية، ظن النقّاد أن السيف يرمز للفرشاة والدم للطلاء، أي أن الصورة يمكن أن تكون رمزا للفنّان الذي يضحّي بنفسه في سبيل فنّه.
لكن في ما بعد، اُجري للوحة فحص بالأشعّة السينية كشف عن قصّة حبّ مخفيّة. وتبيّن انه كان تحت سطحها صورة لامرأة مستلقية على كتف الرسّام. لكنّه غيّر في اللوحة بعد أن انتهت علاقته بالمرأة، فطمس صورتها وأبقى على صورته هو، وكأنه أراد أن يزيل ذكراها من عقله ومن عمله. ثم استبدل صورتها بسيف وأضاف بقعا من الدم على قميصه ناحية القلب.
وجود الجرح في ذلك المكان ليس بالأمر العشوائيّ، ومن المرجّح أن الرسّام إنّما كان يعبّر من خلاله عن حالة انكسار عاطفيّ.
ولا بدّ وأن كوربيه كان موهوبا كثيرا عندما غيّر في اللوحة دون أن يترك أثرا، لدرجة انه لزم الخبراء عقودا طويلة كي يكتشفوا التعديل باستخدام التقنية المتطوّرة.
ولد غوستاف كوربيه عام 1819 لعائلة من الريف الفرنسيّ. وفي ما بعد ذهب إلى باريس كي يدرس القانون. لكنه قرّر فجأة أن يدرس الرسم.
وفي عام 1865، زار ألمانيا وكان وقتها قد أصبح الزعيم غير المنازع للجيل الجديد من رسّامي الواقعية الفرنسية.
وقد رسم خلال حياته مواضيع متنوّعة كالبورتريهات والأشخاص والطبيعة. وبورتريهاته الشخصية بالذات تحتلّ مكان الصدارة في أعماله.
ويقال أن سلسلة لوحاته عن البحر مع عواصف وغيوم متغيّرة كان لها تأثير كبير على الرسّامين الانطباعيين الذين أتوا في ما بعد.
في احد الأوقات، وجد كوربيه نفسه منجذبا نحو الثقافة البوهيمية. وقد كتب وقتها إلى صديق له يقول: في مجتمعنا المتحضّر أكثر من اللازم، يجب أن أعيش حياتي كهمجيّ، وأحرّر نفسي من تأثير الحكومات. إنني أتعاطف مع الناس العاديّين ويجب عليّ أن أتحدّث إليهم مباشرة وأن اكسب عيشي منهم. لذا قرّرت من الآن أن أجرّب حياة الترحال كبوهيميّ".
كان كوربيه شخصا وسيما ومعتدّا بنفسه بطريقة ساذجة أحيانا، وكان يعرف قيمته جيّدا. وثقته الزائدة بنفسه واضحة في لوحته "صباح الخير مسيو كوربيه"، وفيها يصوّر نفسه واقفا بطريقة مسرحية وممسكا بعصا أثناء لقاء له على الطريق مع راعيه الثريّ بروياس الذي يحيّي الرسّام باحترام وإجلال.
كان كوربيه يصرّ دائما على الاستقلالية كإنسان وكفنّان. وقد رفض الزواج باعتباره مؤسّسة بورجوازية كما قال.
ولطالما ربطته ببلده علاقة تتراوح بين الحبّ والكراهية. ومع ذلك احتُفل به في باريس كأحد المعلّمين العظام، وحقّق أثناء حياته نوعا من النجومية يشبه ما نراه هذه الأيّام. وجزء مهم من نجوميّته يمكن أن يُعزى إلى شخصيّته المتمرّدة وفنّه المستفزّ أحيانا.
مع تقدّمه في العمر، أصبحت حياة كوربيه أكثر تشويقا وإثارة للجدل. فقد رفض وسام الشرف الذي عرضه عليه نابليون الثالث قائلا إن الدولة عاجزة في المسائل الفنّية، وعندما تتركني لأكون حرّا أكون قد أنجزت واجبي نحوها".
ولأنه كان اشتراكيا، فقد شارك في بعض الأنشطة الثورية، وكانت نتيجة ذلك انه سُجن ستّة أشهر عام 1871. وأثناء وجوده في السجن، رسم لنفسه بورتريها يظهر فيه وهو جالس بجانب نافذة ويدخّن الغليون، متذكّرا رفاقه الذين قُتلوا في أحداث ثورة 1871.
وفي إحدى المرّات فُرضت عليه غرامة كانت اكبر من قدرته على الدفع، فهرب إلى سويسرا وبقي فيها إلى أن توفّي في ديسمبر عام 1877.
وقبيل وفاته كتب في مذكّراته يقول: عمري الآن يقارب الخمسين، وقد عشت حياتي دائما في جوّ من الحرّية. لذا دعوني انهي حياتي وأنا حرّ. وعندما أموت أريد أن يقال عنّي أنني لم أكن انتمي إلى مدرسة أو كنيسة أو مؤسّسة أو أكاديمية أو نظام غير الحرّية".