رجـل بعمـامـة حمـراء
للفنان الهولندي يان فـان آيك، 1433
للفنان الهولندي يان فـان آيك، 1433
البورتريه الشخصيّ هو نوع من الرسم الذي يحاول فيه الفنّان أن ينقل من خلاله للآخرين صورة عن نفسه. أحيانا يحيط صورته الشخصية بالأسئلة الفلسفية عن الذات، وأحيانا يوظّفها للتباهي بمهارته وموهبته.
وقد كرّس الرسّامون الأوائل جانبا من نتاجهم لتصوير أنفسهم. رمبراندت، مثلا، خلع على كلّ صورة رسمها لنفسه مسحة شكسبيرية، فرسم نفسه على هيئة ملك شرقيّ قديم وعلى صورة الفيلسوف الإغريقي سقراط وكرجل بلاط وكشخص ثمانينيّ أشيب الشعر وبلا أسنان.
والبورتريهات الشخصية تتضمّن أيضا نوعا من الحرّية الوجودية، لأنها تشير إلى أن كلّ شخص يمكن أن يحتوي عالما من الهويّات المتباينة والمختلفة. فما بالك بالفنّان الذي كثيرا ما يتخيّل نفسه في حيوات أشخاص مشهورين أو أسطوريين. بل إن فنّانا مثل ديورر رسم نفسه ذات مرّة بملامح المسيح.
القرن السابع عشر، أي عصر رمبراندت وروبنز وبيرنيني وكارافاجيو، كان ولا شكّ العصر العظيم لفنّ البورتريه. ولم يحدث قبل ذلك أن شعر الرسّامون بحضورهم القويّ أو بأهمّيتهم. وأكثر الصور الشخصية خلودا في تاريخ الرسم تعود إلى تلك الفترة بالذات.
ورغم أن عصر النهضة بدأ في ايطاليا أصلا، إلا أن هذه الحركة امتدّت إلى جميع أرجاء أوربّا إلى أن وصلت إلى بلجيكا حيث كان الرسّام يان فان آيك يعيش ويعمل. في ذلك الوقت كان فان آيك أفضل فنّان هولندي بلا منازع. وما يزال يُلقّب حتى اليوم بوالد اللوحات الزيتية. مستوى الحرفية الذي وصل إليه هذا الرسّام في استخدام ألوان الزيت كان غير مسبوق وغير عاديّ. ويُعتبر هو وروبرت كامبين مؤسّسي ما عُرف بالفنّ الجديد في هولندا القرن الخامس عشر، الذي تميّز بالأسلوب الطبيعي للألوان الزيتية الصاخبة والتفاصيل الدقيقة والنسيج البارع ووهم فراغ الأبعاد الثلاثية.
في هذه اللوحة، يرسم فان آيك بورتريها لرجل لا اسم له ولا وظيفة، ولا توجد تفاصيل تشير إلى هويّته. لكنّ نظراته الحادّة والثابتة المتّجهة إلى الخارج تدلّ على انه شخص يعرف مكانه جيّدا في العالم. وبسبب النظرات المتشكّكة والشفتين المطبقتين بصرامة، ثمّة من يعتقد أن هذا هو الرسّام نفسه. كان من عادة الرسّامين وقتها أن يقدّموا أنفسهم للناس كأشخاص واثقين وذوي كبرياء وفخورين بكونهم فنّانين.
من ناحية أخرى، يمكن القول أن هذا ليس فقط بورتريها للرسّام، وإنما أيضا للعمامة الفخمة الحمراء اللون التي تستقرّ على رأسه بإحكام. هذا النوع من اللباس مناسب لشخص بمثل مكانة الرسّام الاجتماعية.
ما من شك في أن هذه اللوحة تثير إحساسا ما بالغموض. فالشخص الظاهر فيها يبدو كما لو انه خارج لتوّه من العتمة. وجهه ورأسه يحدّدهما الضوء الذي يسقط من الجهة اليسرى والذي استخدمه الرسّام بأسلوب دراماتيكي.
النظرات المخترقة والقويّة تجذب الاهتمام. واللون الأحمر الغامق للعمامة يشعل اللوحة حيوية وصخبا. تعبيرات الرجل متقشّفة ورأسه كبير قليلا بالنسبة للجذع، وهاتان سمتان من سمات فنّ آيك عموما. ولا يبدو أن الرجل من مكانه هذا ينظر إلى مرآة، إذ من المستحيل بالنسبة له من هذه الزاوية المائلة أن يكون واقفا أمام نافذة أو مرآة.
ترى هل اللوحة عن الهويّة؟ عن فكرة الوعي بالذات؟
من الواضح أن اللوحة تتضمّن تحليلا جادّا ومفصّلا لخطوط الجسد، لكنّها لا تحوي الكثير عن أفكار الشخص أو عن مزاجه. ويمكن القول إن الصورة لا تُظهر فان آيك وهو ينظر إلى نفسه بقدر ما تتحدّث عن طبيعة النظر. وهناك احتمال أن تكون اللوحة ترويجا للرسّام أو لإثبات البراعة التي يتعامل بها مع الألوان الزيتية التي كانت شيئا مستحدثا في ذلك الوقت.
بعض النقّاد يعتبرون أن هذا البورتريه يمثّل ذروة أسلوب فان آيك المغرق في الواقعية، لكن دون انفعال. لاحظ كيف أن كلّ ثنية في الملابس وكلّ شعاع ضوء وكلّ نسيج ناعم رُسم بمهارة كبيرة. الرسّام لم يُغفل أيضا التجاعيد حول عينيه والعروق التي يمكن رؤيتها بوضوح والظلال حول ذقنه، أي علامات تقدّمه في العمر.
كان فان آيك قد تخلّى آنذاك عن تقنية التيمبرا ، أي استعمال الألوان المصنوعة من البيض والتي تجفّ سريعا وتدوم طويلا، وبدأ تذويب ألوانه في زيت بذور الكتّان، ما جلب مزيدا من الإحكام والتحكّم في التفاصيل.
فان آيك كان معروفا في زمانه بأنه رسّام الملوك واللوردات والأمراء ورجال الكنيسة. وما تبقّى من لوحاته اليوم لا يتجاوز بضعا وعشرين لوحة. وطبعا هناك العديد من الأعمال الأخرى التي تُعزى إليه دون دليل واضح. في بلاط بورغوندي، حيث كان يعمل، راجت عنه شائعة تقول انه بارع في الفنون الظلامية، أي أعمال السحر والشعوذة. والعمامة الحمراء تخلع عليه ولا شكّ إهاب ساحر أو كاهن أو معلّم روحانيّ.
بورتريه "رجل بعمامة حمراء" يمكن رؤيته اليوم معلّقا في إحدى صالات الناشيونال غاليري بلندن إلى جوار لوحة فان آيك الأشهر بورتريه عائلة ارنولفيني. ولا يزال الإطار الأصلي للبورتريه موجودا ويحمل نقشا يقول "رسمني فان آيك في 21 أكتوبر من عام 1433م". وأسفل النقش كُتبت عبارة "أفعل ما بوسعي" التي يبدو أنها شعار شخصيّ للرسّام. ونفس هذا الشعار يظهر في بعض لوحاته الأخرى مثل البورتريه الذي رسمه لزوجته.
الجدير بالذكر أن الرسّام روبرت كامبين اقتفى خطى صديقه ومواطنه فان آيك في هذا البورتريه فرسم لنفسه بورتريها مشابها يظهر فيه وهو يرتدي عمامة حمراء.
موضوع ذو صلة: رسالة حبّ إلى لوحة
وقد كرّس الرسّامون الأوائل جانبا من نتاجهم لتصوير أنفسهم. رمبراندت، مثلا، خلع على كلّ صورة رسمها لنفسه مسحة شكسبيرية، فرسم نفسه على هيئة ملك شرقيّ قديم وعلى صورة الفيلسوف الإغريقي سقراط وكرجل بلاط وكشخص ثمانينيّ أشيب الشعر وبلا أسنان.
والبورتريهات الشخصية تتضمّن أيضا نوعا من الحرّية الوجودية، لأنها تشير إلى أن كلّ شخص يمكن أن يحتوي عالما من الهويّات المتباينة والمختلفة. فما بالك بالفنّان الذي كثيرا ما يتخيّل نفسه في حيوات أشخاص مشهورين أو أسطوريين. بل إن فنّانا مثل ديورر رسم نفسه ذات مرّة بملامح المسيح.
القرن السابع عشر، أي عصر رمبراندت وروبنز وبيرنيني وكارافاجيو، كان ولا شكّ العصر العظيم لفنّ البورتريه. ولم يحدث قبل ذلك أن شعر الرسّامون بحضورهم القويّ أو بأهمّيتهم. وأكثر الصور الشخصية خلودا في تاريخ الرسم تعود إلى تلك الفترة بالذات.
ورغم أن عصر النهضة بدأ في ايطاليا أصلا، إلا أن هذه الحركة امتدّت إلى جميع أرجاء أوربّا إلى أن وصلت إلى بلجيكا حيث كان الرسّام يان فان آيك يعيش ويعمل. في ذلك الوقت كان فان آيك أفضل فنّان هولندي بلا منازع. وما يزال يُلقّب حتى اليوم بوالد اللوحات الزيتية. مستوى الحرفية الذي وصل إليه هذا الرسّام في استخدام ألوان الزيت كان غير مسبوق وغير عاديّ. ويُعتبر هو وروبرت كامبين مؤسّسي ما عُرف بالفنّ الجديد في هولندا القرن الخامس عشر، الذي تميّز بالأسلوب الطبيعي للألوان الزيتية الصاخبة والتفاصيل الدقيقة والنسيج البارع ووهم فراغ الأبعاد الثلاثية.
في هذه اللوحة، يرسم فان آيك بورتريها لرجل لا اسم له ولا وظيفة، ولا توجد تفاصيل تشير إلى هويّته. لكنّ نظراته الحادّة والثابتة المتّجهة إلى الخارج تدلّ على انه شخص يعرف مكانه جيّدا في العالم. وبسبب النظرات المتشكّكة والشفتين المطبقتين بصرامة، ثمّة من يعتقد أن هذا هو الرسّام نفسه. كان من عادة الرسّامين وقتها أن يقدّموا أنفسهم للناس كأشخاص واثقين وذوي كبرياء وفخورين بكونهم فنّانين.
من ناحية أخرى، يمكن القول أن هذا ليس فقط بورتريها للرسّام، وإنما أيضا للعمامة الفخمة الحمراء اللون التي تستقرّ على رأسه بإحكام. هذا النوع من اللباس مناسب لشخص بمثل مكانة الرسّام الاجتماعية.
ما من شك في أن هذه اللوحة تثير إحساسا ما بالغموض. فالشخص الظاهر فيها يبدو كما لو انه خارج لتوّه من العتمة. وجهه ورأسه يحدّدهما الضوء الذي يسقط من الجهة اليسرى والذي استخدمه الرسّام بأسلوب دراماتيكي.
النظرات المخترقة والقويّة تجذب الاهتمام. واللون الأحمر الغامق للعمامة يشعل اللوحة حيوية وصخبا. تعبيرات الرجل متقشّفة ورأسه كبير قليلا بالنسبة للجذع، وهاتان سمتان من سمات فنّ آيك عموما. ولا يبدو أن الرجل من مكانه هذا ينظر إلى مرآة، إذ من المستحيل بالنسبة له من هذه الزاوية المائلة أن يكون واقفا أمام نافذة أو مرآة.
ترى هل اللوحة عن الهويّة؟ عن فكرة الوعي بالذات؟
من الواضح أن اللوحة تتضمّن تحليلا جادّا ومفصّلا لخطوط الجسد، لكنّها لا تحوي الكثير عن أفكار الشخص أو عن مزاجه. ويمكن القول إن الصورة لا تُظهر فان آيك وهو ينظر إلى نفسه بقدر ما تتحدّث عن طبيعة النظر. وهناك احتمال أن تكون اللوحة ترويجا للرسّام أو لإثبات البراعة التي يتعامل بها مع الألوان الزيتية التي كانت شيئا مستحدثا في ذلك الوقت.
بعض النقّاد يعتبرون أن هذا البورتريه يمثّل ذروة أسلوب فان آيك المغرق في الواقعية، لكن دون انفعال. لاحظ كيف أن كلّ ثنية في الملابس وكلّ شعاع ضوء وكلّ نسيج ناعم رُسم بمهارة كبيرة. الرسّام لم يُغفل أيضا التجاعيد حول عينيه والعروق التي يمكن رؤيتها بوضوح والظلال حول ذقنه، أي علامات تقدّمه في العمر.
كان فان آيك قد تخلّى آنذاك عن تقنية التيمبرا ، أي استعمال الألوان المصنوعة من البيض والتي تجفّ سريعا وتدوم طويلا، وبدأ تذويب ألوانه في زيت بذور الكتّان، ما جلب مزيدا من الإحكام والتحكّم في التفاصيل.
فان آيك كان معروفا في زمانه بأنه رسّام الملوك واللوردات والأمراء ورجال الكنيسة. وما تبقّى من لوحاته اليوم لا يتجاوز بضعا وعشرين لوحة. وطبعا هناك العديد من الأعمال الأخرى التي تُعزى إليه دون دليل واضح. في بلاط بورغوندي، حيث كان يعمل، راجت عنه شائعة تقول انه بارع في الفنون الظلامية، أي أعمال السحر والشعوذة. والعمامة الحمراء تخلع عليه ولا شكّ إهاب ساحر أو كاهن أو معلّم روحانيّ.
بورتريه "رجل بعمامة حمراء" يمكن رؤيته اليوم معلّقا في إحدى صالات الناشيونال غاليري بلندن إلى جوار لوحة فان آيك الأشهر بورتريه عائلة ارنولفيني. ولا يزال الإطار الأصلي للبورتريه موجودا ويحمل نقشا يقول "رسمني فان آيك في 21 أكتوبر من عام 1433م". وأسفل النقش كُتبت عبارة "أفعل ما بوسعي" التي يبدو أنها شعار شخصيّ للرسّام. ونفس هذا الشعار يظهر في بعض لوحاته الأخرى مثل البورتريه الذي رسمه لزوجته.
الجدير بالذكر أن الرسّام روبرت كامبين اقتفى خطى صديقه ومواطنه فان آيك في هذا البورتريه فرسم لنفسه بورتريها مشابها يظهر فيه وهو يرتدي عمامة حمراء.
موضوع ذو صلة: رسالة حبّ إلى لوحة