طبيعـة كـلاسيكيـة
للفنان الأمريكي تشـارلـز شيلـر، 1931
في لوحة تحمل عنوانا كهذا، يتوقّع الإنسان أن يرى صورة لأشجار وارفة الظلال وأنهار رقراقة وجبال شاهقة على نحو ما نراه عادة في لوحات رسّامي الطبيعة الكلاسيكيين الغربيين، من أمثال توماس كول وجون كونستابل والبيرت بيرشتادت ووليام هنت وغيرهم.
غير أن تشارلز شيلر لا يرسم شيئا من هذا كلّه. وما يظهر في اللوحة هو احد مصانع شركة فورد للسيّارات في ميشيغان بعد افتتاحه مباشرة. في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي كان مصنع فورد أضخم مجمّع صناعي في العالم. كان مشروعا ضخما للغاية. وبدا انه يجسّد القوى الاجتماعية للعصر الجديد.
والرسّام هنا يعبّر عن نظرته لعصر التصنيع الذي زحف على مظاهر الطبيعة. واللوحة تُظهر أن كلّ ما بقي من العالم الطبيعي هو السماء التي تمتزج فيها الغيوم بدخان المصانع.
المنظر ساكن تماما ويشبه صمت أجواء دور العبادة. لكن الطبيعة غائبة تماما عن اللوحة بعد أن حلّت مكانها مباني المصانع الباردة والكئيبة. وعندما تتمعّن في تفاصيل اللوحة سيُخيّل إليك كما لو أنها رُسمت بالمسطرة لفرط دقّة وإحكام الخطوط والتفاصيل الهندسية.
هذه اللوحة كانت أحد أفضل الأعمال الفنّية في زمانها ثم أصبحت تحفة من تحف الفنّ الأمريكي في القرن العشرين.
كان شيلر يستخدم في لوحاته أسلوبا ظهر في بدايات القرن الماضي كان يُعرف بالواقعية التكعيبية. وهي حركة فنّية بدأت بوادرها في أمريكا بعد الحرب العالمية الأولى، وكانت فكرتها الأساسية التصنيع والتحديث وأثرهما على الطبيعة الأمريكية.
وكان معتنقو هذا الأسلوب يركّزون على تصوير العمارة الصناعية ويرسمون مواضيع صناعية وميكانيكية مثل المداخن وآلات سبك المعادن ومخازن الحبوب. كان يجري تصغير الأشياء وتحويلها إلى أشكال هندسية يتمّ تمثيلها بالضوء الساطع وبطريقة تمزج ما بين التجريد والواقعية.
اهتمام شيلر بالأشياء الصناعية كان ينبع من حبّه المتجذّر للأشكال المعمارية. وكان قد تصالح مع ملامح التصنيع ورسم ما يراه كأشكال أساسية.
ومن الواضح أنه كان يسجّل في اللوحة آثار الزحف الصناعي الذي تسبّب في عملية إزاحة تدريجية للطبيعة وما ترمز إليه من سموّ وجلال.
ويمكن القول إن اللوحة تختزن في تفاصيلها قيم عصر الميكنة والآلة. تنظر إلى هذه اللوحة فتحسّ أنها جافّة إلى حدّ كبير. يمكن للإنسان أن يرى هذا المنظر في متحف، لكن وضعه على الجدار والنظر إليه فترة طويلة قد يجلب الإحساس بالإحباط والاكتئاب. وربّما يكون عنصر الكلاسيكية الوحيد في اللوحة هو أن شكلها العام يذكّر بالكاثدرائيات في أوربّا القرون الوسطى.
العنوان اختير كي يوحي بأن اللوحة نفسها كلاسيكية، من حيث شكل المسارات والمداخن. المبنى الوحيد فيها له حدود ومعالم واضحة ويمكن مقارنته بعناصر المعمار الكلاسيكي الذي كان سائدا في اليونان القديمة.
خطّ السكّة الحديدية يوحي بالحركة. ومع ذلك تبدو السكّة مهجورة ولا شيء فيها يتحرّك. فقط يمكن رؤية السماء التي تتصاعد باتجاهها أدخنة المصنع كي تختلط بالغيوم ومن ثمّ تتحوّل إلى منتج ثانوي لعصر التصنيع والتكنولوجيا.
المصنع يبدو فارغا ووحيدا في ضوء الشمس كما لو انه هو الذي اوجد نفسه بنفسه وهو الذي يوجّه العالم من حوله بناءً على خططه الخاصة.
الفكرة هنا هي أن المصنع هو الذي يحرّك الأشياء ويتحكّم فيها وليس جزءا من عالم مترابط العناصر.
في اللوحة أيضا لا يوجد بشر أو حيوانات. وانعدام وجود بشر في اللوحة قد يكون دعوة من الرسّام للناظر كي يتصوّر نفسه جزءا من الفراغات المفتوحة والخاوية.
المشهد مسطّح والألوان مزيج من الزرقاء والبيضاء والبنّية. وبين الفراغات والمباني ثمّة ظلال حادّة وممتدّة. تصميم المصنع يبدو جميلا بالنسبة لرسّام كان يحبّ الأشكال النظيفة والتصميم المجرّد.
الضوء في اللوحة ساطع جدّا مع أن الطبيعة ليست بمثل هذا الهدوء واللمعان والجمال. وواضح انه جرى رسم كل ممرّ كي يبدو شديد التناسق مع الممرّات الأخرى.
كان هنري فورد هو الذي صاغ مصطلح الإنتاج بكميّات كبيرة والذي تحوّل فيه العمال إلى مجرّد جزء من الآلة. صحيح أن هذا أدّى إلى اختزال أهميّة دور الإنسان، لكنه أيضا أتاح إنتاج السلع بجودة معقولة وبأسعار تناسب معظم الناس.
بالنسبة لإنسان القرن الحادي والعشرين، قد تبدو هذه اللوحة بمثابة محاكمة لعصر الآلة. لكنّها بالنسبة لمن عاش في ثلاثينات القرن الماضي ترمز لقدرة أمريكا وعبقرية الأمريكيين.
كان الأمريكيون في ذلك الوقت فخورين بالنهضة الصناعية التي حقّقها بلدهم والتي أسهمت في تسهيل الحياة ورفع مستوى المعيشة عند غالبيتهم. لكن هناك اليوم من يبدون قدرا كبيرا من الأسف عندما يتبيّنون آثار التصنيع المدمّرة على البيئة.
درس تشارلز شيلر الرسم على يد وليام تشيس وحقّق نجاحا مبكّرا كرسّام. ثم ذهب إلى باريس في ذروة شهرة التكعيبية وعمل بالتصوير التجاري لبعض الوقت. وفي باريس أيضا تعرّف على أعمال بيكاسو وماتيس وغيرهما من رموز الحداثة الأوربّية.