نقطـة التـقـاء
للفنان الأمريكي جاكسـون بـولـوك، 1952
يقال أن الفنّ يأتي أحيانا من أماكن بعيدة وخفيّة في أعماق النفس. لذا تصبح الكلمات والأفكار التي تحاول تفسيره أو فهمه غير ذات قيمة أو أهمّية. بل إن محاولات التفسير والفهم يمكن أحيانا أن تثقل العمل الفنّي وتجرّده من جماله وخصوصيّته وغموضه.
هذا الكلام ينطبق تماما على لوحات جاكسون بولوك وما تثيره في النفس من دهشة وحيرة. ومبعث الحيرة هنا يكمن في انك لا تستطيع وصف لوحاته ولا اكتشاف ما أودعه فيها من معانٍ ورسائل ورموز. حركات مشوّشة؟ طاقة فيزيائية زائدة؟ رسائل خفيّة؟ لا شيء واضح على وجه التحديد.
البعض لا يجد لوحات بولوك باعثة على السرور أو المتعة. والبعض الآخر يراها تجلب الدوار وتربك الذهن. وهناك من يقول، على سبيل السخرية والمبالغة، أن أيّ طفل بمقدوره أن يرسم مثلها.
ومع ذلك، فـ جاكسون بولوك يُعتبر اليوم احد أشهر الرسّامين في العالم ومن أكثرهم أصالة وتأثيرا. إحدى لوحاته ابتاعها عام 2006 رجل أعمال مكسيكي بمبلغ مائة وأربعين مليون دولار أمريكي، ما جعلها تتصدّر قائمة اللوحات الأغلى في العالم في ذلك الوقت.
ودائما، كان هناك من ينظر إلى لوحاته محاولا اكتشاف أنماطها وزخارفها الجميلة والمشاعر الدفينة التي قد تكون مخبّأة بين ثنايا خيوطها وأشكالها وألوانها الكثيرة.
كان جاكسون بولوك واحدا من مجموعة من الرسّامين الذين ابتكروا أسلوبا جديدا في الرسم يمزج ما بين التجريد والتعبيرية.
لم يكن هؤلاء يرسمون أشياء مألوفة في لوحاتهم كالطبيعة والأشخاص أو الحياة الصامتة، بل فضّلوا بدلا من ذلك التعبير عن انفعالاتهم من خلال توظيف عناصر الرسم نفسها كالألوان والأشكال والأضواء والظلال والخطوط وما إلى ذلك.
وقد تأثّر بولوك وزملاؤه بأنماط الفنّ الأفريقي وبرسومات الكهوف وفنون سكّان أمريكا الأصليين.
كانت الظروف التي نتجت عن الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك استخدام الأسلحة النووية لأوّل مرّة في تاريخ البشرية، سببا في انتشار حالة من الحيرة والتشاؤم والشكّ بشأن مستقبل ومصير البشر. وكان هذا من بين العوامل المهمّة التي دفعت بولوك وأقرانه إلى التامّل في الواقع والنظر إلى الأشياء بشكل مختلف.
كان هؤلاء يؤمنون بأن الفنّ التقليدي لم يعد قادرا على توصيل انفعالاتهم ومشاعرهم بما فيه الكفاية. لذا بدءوا في البحث عن شكل فنّي أفضل يمكنهم من خلاله أن يعبّروا عمّا بدواخلهم من مشاعر مضطربة وهواجس مؤرّقة.
وقد فتح التجريد أمام الناس آفاقا واسعة وعلّمهم أن يؤمنوا بحرّية الفنّ دون أن يركنوا إلى الأفكار والأساليب الجاهزة مسبقا.
على أن إحدى أهمّ مميّزات الرسم التجريدي هو انه يمكن أن يوجد في كل زمن وجيل كشكل معاصر من أشكال الرسم. بمعنى انه لا يتقادم مع مرور الزمن ولا يبلى بفعل توالي الأساليب والأنساق الفنية والمدارس التشكيلية.
لوحة بولوك هنا عبارة عن فوضى عارمة من الألوان الصفراء والبرتقالية والبيضاء. هذه الألوان يبدو كما لو أنها تنبثق من الخلفية المظلمة للوحة وتتلاقى أو تتقاطع من خلال الضربات التي تكوّن سلسلة من الخطوط والأشكال والظلال التي يعلو بعضها بعضا.
بعض النقّاد وعلماء النفس يقولون عن حالات الانفعال التي يتعذّر تفسيرها أو فهمها أنها أعراض تشوّش وحيرة وارتباك.
هذا الكلام يكتسب مصداقية خاصّة عند النظر إلى السياق الزماني والمكاني الذي أنتج ظاهرة جاكسون بولوك. فعندما رسم الفنّان أعماله، ومن بينها هذه اللوحة، كانت أمريكا ما تزال تعاني من آثار ونتائج الحرب العالمية الثانية وإرهاصات الحرب الباردة وما رافقها من حملات هستيرية ضدّ الشيوعية والمعسكر الاشتراكي.
كان الفنّانون في ذلك الوقت يراقبون ما يحدث بوجوم وغضب، خاصّة بعد أن تبيّن لهم أن آمالهم وأحلامهم بمستقبل أفضل للبشرية قد تدمّرت ووئدت بفعل جنون الحرب وتهوّر القادة السياسيين. لذا أرادوا من خلال التجريد استبدال العالم القديم الآيل للسقوط بعالم آخر جديد يمكن أن يحتضن تطلّعاتهم ويحقّق أحلامهم بغد أكثر سلاما وأقلّ عنفا.
هذه اللوحة يمكن أن يكون لها معنى ما في واقع الحياة. وربّما يكون معناها كامنا تحت الطبقات المتعدّدة والكثيفة من الألوان والأشكال التي يُفترض أنها انعكاس لإسقاطات قويّة وانفعالات جامحة.
وبرغم غموض اللوحة، إلا أنها تجذب العين بألوانها البديعة والمتناغمة. يبدو خيال الفنان هنا متحرّرا ومنطلقا بلا حدود. ويمكننا أن نتخيّل بولوك وهو يصبّ الطلاء أو يرشّه عشوائيا، ثم يرسم دائرة إثر دائرة ويبني حولها طبقات فوق طبقات من اللون بينما يستخدم أصابعه لتذويب ونشر الطلاء فوق مساحة اللوحة الكبيرة.
ويقال إن الرسّام كان يستخدم السكاكين والعصيّ ويمزج الرمل بقطع الخشب والزجاج المكسور وغيرها من الأشياء الغريبة كي يمنح مناظره نسيجا ثقيلا ومتماسكا.
في بداياته، تعرّف جاكسون بولوك على الفلسفات الشرقية والأفكار الثيوصوفية. وكان قبل ذلك شخصا لا دينيا. لكن علاقته بالمعلّم الروحاني الهنديّ المشهور جيدو كريشنامورتي فتحت أمامه الباب واسعا لتعلّم الأفكار والمفاهيم الروحية المعاصرة.
في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، توقّف بولوك عن اختيار عناوين للوحاته واستبدلها بأرقام، في محاولة لتحريض المتلقّي للدخول مباشرة إلى أجواء اللوحة وصرف انتباهه عن أيّ ارتباطات أو تصوّرات مسبقة قد يوحي بها العنوان.
كان جاكسون بولوك يؤمن بأن الرسّام لا يلزمه أن يتمتّع بمهارات تقنية خاصّة وأن كل إنسان مهيّأ لأن يصبح رسّاما على طريقته.
والمعروف أنه جرّب في بداياته حياة التشرّد والفقر. ولم تحقّق لوحاته النجاح والشهرة إلا في المراحل الأخيرة من حياته.
وقد دعمه بعض النقّاد بينما سخر منه آخرون. وفي الستّينات اختير كأهمّ رسّام لأهمّ حركة فنّية أمريكية ظهرت في القرن الماضي.
ويقال إنه بفضل بولوك وزميله الآخر مارك روثكو وغيرهما من رموز التجريدية الأمريكية، أصبحت نيويورك تحتلّ مكانة باريس في كونها الحاضنة الأولى للفنّ الطليعي في العالم.
غير أن حياته الخاصّة لم تكن سعيدة أو سهلة. فقد عانى كثيرا من نوبات الاكتئاب والإدمان على الكحول والتدخين بشراهة.
وفي آخر سنواته أصبح عاجزا ومشوّش الذهن، وبدا كما لو انه غير قادر على مواجهة أعباء وضغوط الحياة.
وفي صيف عام 1956 قُتل جاكسون بولوك في حادث سيّارة عن عمر لا يتجاوز الرابعة والأربعين.
وقد أسهم موته المأساوي وهو في سنّ مبكّرة في إضفاء طابع أسطوري على شخصيّته وفنّه.