سيّـدة بـ جاكيـت اخضـر
للفنان الألماني اوغسـت مـاكـا، 1913
لا يمكن أن تنظر إلى هذه اللوحة الجميلة دون أن تتذكّر ألوان هنري ماتيس أو أجواء لوحات إدفارد مونك. نقاء ولمعان الألوان فيها غريب ومدهش رغم قتامة موضوعها.
كان اوغست ماكا واحدا من أشهر الرسّامين الألمان الذين ظهروا في القرن العشرين. وقد كان معاصرا لـ كاندينسكي، الأب الروحي للمدرسة التجريدية. وكانت تربط الاثنين علاقة وثيقة.
لكن ماكا لم يكن يشارك كاندينسكي وجهة نظره التي تقول بإخضاع الرسم للتفسيرات الغامضة والأفكار الغيبية.
كما لم يكن يهتمّ كثيرا بالقيم والدلالات التجريدية للألوان. كان ينظر إلى اللون باعتباره وسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار الخاصّة فحسب. وقد قيل عن ماكا ذات مرّة انه الرسّام الذي أعطى للألوان سطوعها ونقاءها. وكانت الشفافية والترتيب والتناغم هي الأفكار التي تميّزت بها لوحاته.
ومن الواضح أن اوغست ماكا لم يكن يهتمّ بإضفاء سمة روحية على الطبيعة بقدر ما كان يحاول أن يعكس الطبيعة في أعماله بطريقة حيّة ومبهجة. ومثل ماتيس، كان يحبّ الأشكال البسيطة والألوان اللامعة.
في هذه اللوحة يرسم الفنّان خمسة أشخاص، ثلاث نساء ورجلين، في وضع وقوف.
الأشخاص يبدون بهيئة تشبه التماثيل الساكنة وكلّهم يرتدون الملابس الرسمية والقبّعات. الرجلان والمرأتان إلى اليمين واليسار يمسكون بأيدي بعضهم بعضا.
غير أن نقطة الارتكاز في اللوحة هي المرأة التي تظهر في الوسط مرتدية جاكيتا اخضر وقبعة حمراء. الجاكيت الأخضر الغامق هو ما يجعلها بارزة أكثر من الآخرين.
ولد اوغست ماكا في ألمانيا لأب كان يعمل كمتعهّد بناء وأمّ تنحدر من عائلة من الفلاحين.
وقد عاش معظم حياته في ألمانيا. لكنه تنقّل ما بين باريس وروما وسويسرا وهولندا.
في بداياته، درس ماكا في برلين على يد الرسّام لوفس كورينث. ثم لم يلبث أن تعرّف على التكعيبية وعلى فنّ إدفارد مونك.
وأثناء إقامته في باريس، تعرّف على كلّ من ديغا ومانيه وتأثّر بأسلوبهما كما اطّلع على نظريات دافنشي عن الرسم.
ويمكن القول انه يغلب على لوحاته الأسلوب الانطباعي. مع أن بعض النقاد يصنّفون أعماله بالتعبيرية.
طبيعة المكان في هذه اللوحة قد تساعد في معرفة المزاج الذي تصوّره. اللون الأصفر على الأشجار يوحي بأن الوقت خريف. وفي خلفية اللوحة هناك بحر تتوسّطه بعض البيوت.
المرأة بالملابس الخضراء تبدو وحيدة وحزينة. طريقة وقوفها ونظراتها المصوّبة إلى الأرض ترجّح هذا الانطباع.
ترى هل هذه مقبرة؟ مراسم عزاء؟ هل فقدت المرأة شريكها؟ من الملاحظ أيضا أن ألوان ملابس المرأتين الأخريين أكثر نعومة وإشراقا. الأشكال والتفاصيل في اللوحة مرتّبة بعناية والألوان متناغمة بطريقة جذّابة.
في أواخر حياته، زار اوغست ماكا تونس بصحبة صديقه الرسّام المشهور بول كْلي، حيث عملا هناك معا ورسما لوحات تتضمّن موتيفات عن رحلتهما التونسية.
الأجواء الغريبة لشمال أفريقيا كانت عاملا مهمّا في ظهور أسلوب الفنان في توظيف الألوان الساطعة. وفي تلك الفترة بالذات أنجز بعضا من أشهر أعماله التي أصبحت في ما بعد تحفا فنّية مشهورة ومنها هذه اللوحة.
عندما انطلقت شرارة الحرب العالمية الأولى، استُدعى الفنّان اوغست ماكا للخدمة في جيش بلاده واُرسل إلى الجبهة. وبعد أسبوعين، قُتل في ميدان المعركة إثر إصابته بقذيفة مدفع. كان ذلك في احد أيّام شهر سبتمبر من عام 1914 ولم يكن بعد قد أكمل عامه السابع والعشرين.
وقد رثاه صديقه ورفيق عمره الرسّام الألماني فرانز مارك بكلمات مؤثّرة وحزينة. المفارقة هي أن مارك نفسه قُتل هو أيضا في تلك الحرب بعد اقلّ من عامين على رحيل ماكا.
وكانت آخر لوحة رسمها الفنان اوغست ماكا قبل وفاته بعنوان "وداع". وقد صوّر فيها حالة الإحساس بالشكّ والانزعاج التي كانت تؤرّقه وهو يرى مظاهر القلق وعدم اليقين التي كانت تطبع حياة الناس وهم يرقبون نذر الحرب الوشيكة.