ثـلاث نسـاء
للفنان الفرنسي فرنـاند ليـجيـه، 1921
كان فرناند ليجيه واحدا من مجموعة من الرسّامين الذين كانوا يطمحون في أن يتمكّن تزاوج الفنّ وعصر الميكنة من إعادة صياغة العالم وإنهاء حالة الغموض والتشوّش التي أعقبت الحرب العالمية الأولى.
وقد عكس الرسّام هذه الفكرة في العديد من لوحاته. إذ كان يعمد إلى تحوير أطراف الأشخاص في لوحاته بحيث تبدو قريبة الشبه بالأشكال الهندسية والميكانيكية.
في هذه اللوحة يرسم ليجيه بنفس الأسلوب ثلاث نساء عاريات يتناولن القهوة أو الشاي في شقّتهن. وقد استحالت أجساد النساء إلى أشكال دائرية أشبه ما تكون بأجزاء ماكينة صلبة.
التوازن الهندسي في اللوحة وكثرة الأشكال ذات اللونين الأبيض والأسود ربّما توحي بتأثّره بـ بيت موندريان. وهناك أيضا احتمال انه نسج لوحته هذه على منوال لوحة ديلاكروا المشهورة "نساء الجزائر". كما أن المشهد يذكّر بمناظر الحريم التي كانت موضوعا مفضّلا للرسّامين في الحقبة الرومانسية.
غير أن التفاصيل هنا عصرية. فقد استبدل الرسّام النبيذ بالشاي أو القهوة. واختار أن يصوّر النساء في شقّة بسيطة وليس في قصر فخم. كما أن الزخارف الظاهرة على الجدران تبدو حديثة.
ولد فرناند ليجيه في فرنسا لأب كان يعمل بتجارة المواشي. وقد درس في بدايات حياته الهندسة المعمارية وعمل بعد ذلك مهندسا في باريس.
غير انه لم يلبث أن انتظم في مدرسة الفنون الجميلة كي يصبح رسّاما. وتدلّ أعماله المبكّرة على تأثّره بالانطباعية. لكنه أصبح في ما بعد يميل إلى تضمين لوحاته أشكالا هندسية ورياضية، الأمر الذي دفع بعض النقاد إلى وصف أسلوبه بالأنبوبية لكثرة تركيزه على الأشكال والأنماط الاسطوانية والمخروطية وأحيانا المكعّبة.
هذا التحوّل في أسلوب الرسّام ظهر عقب انضمامه إلى جماعة من الرسّامين الذين أسّسوا لأسلوب جديد متفرّع عن التكعيبية.
لكن في مرحلة تالية، أصبحت لوحاته يغلب عليها التجريد بشكل متزايد.
في بدايات الحرب العالمية الثانية أصبح ليجيه جنديا في الجيش الفرنسي حيث قضى سنتين على الجبهة. وقد نجا من الموت أثناء غارة جوّية شنّها الألمان على فيردان.
وبعد الحرب رسم لوحات مخيفة تعكس تجربته العسكرية ورؤيته للحرب.
من الأمور الأخرى المثيرة للانتباه عند النظر إلى هذه اللوحة طريقة الفنّان في رسم شعور النساء المنسدلة على جانب واحد من الوجه، ما يضفي عليهنّ بعضا من وهج وسحر ممثّلات وفنّانات هذه الأيّام.
ومن الملاحظ كذلك خلوّ ملامح النساء من أيّ تعابير حيث تبدو وجوههن مثل الآلات الصمّاء والجامدة.
كان ليجيه معجبا كثيرا بـ هنري روسو كما كان معاصرا لـ شاغال الذي ربطته به علاقة وثيقة.
وفي احد الأوقات اظهر انجذابا شديدا للسينما، فدرس تقنياتها وتلقّى تدريبا على يد مان راي حيث شارك الاثنان في إخراج أكثر من فيلم.
وفي مطلع ثلاثينات القرن الماضي زار نيويورك حيث كُلّف بتزيين منزل نيلسون روكفللر كما أقام متحف الفنّ الحديث معرضا للوحاته. وبعد عودته إلى فرنسا انتسب للحزب الشيوعي وأصبحت لوحاته اقلّ تجريدا، كما أصبح يركّز على رسم مشاهد من الحياة اليومية للفئات الكادحة مثل البنّائين والبهلوانات والغوّاصين ومن في حكمهم.
هذه النزعة لرسم الفقراء والمحرومين كانت فكرة اشتراكية في الأساس وقد لقيت قبولا واسعا في أوساط الفنّانين الطليعيين قبل وبعد الحرب العالمية الثانية. لكن يقال أن ليجيه لم يكن ماركسيا متشدّدا بل كان شخصا عطوفا ومؤمنا بالأفكار الإنسانية.
وفي السنوات القليلة التي سبقت وفاته في العام 1955 عمل كمحاضر في بيرن ثم في كراكاس وساو باولو.
يُذكر انه في عام 2008 اختفت إحدى لوحات ليجيه من متحف ديفيس الأمريكي. وقد تمّ رصد مكافأة بمبلغ مائة ألف دولار لمن يدلي بمعلومات قد تقود إلى اللوحة. لكن لم يُعثر عليها أبدا.