الصلاة فوق سطح منزل في القاهرة
للفنان الفرنسي جـان ليـون جيـروم، 1865
للفنان الفرنسي جـان ليـون جيـروم، 1865
تغيّرت مواضيع الرسم الاستشراقي على امتداد القرن التاسع عشر. في البداية، أتى إلى المنطقة فنّانو التضاريس مثل الاسكتلنديّ ديفيد روبرتس وغيره، فوثّقوا من خلال رسوماتهم السمات الطبوغرافية لبلدان المشرق، مثل مناظر الصحراء والآثار والصروح القديمة والأنهار والأراضي الزراعية وغيرها.
وفي المرحلة التالية، توافد على المنطقة رسّامو الحياة اليومية، فقدّموا صورا للثقافات المتنوّعة للشعوب، من البازارات إلى المنازل وخلافها.
وإلى هذا النوع الأخير من رسّامي الاستشراق ينتمي جان ليون جيروم الذي كان احد أشهر وأنجح الرسّامين الفرنسيين الذين سافروا إلى بلاد المشرق وأقاموا فيها في القرن التاسع عشر.
وجيروم لم يكن رسّاما فحسب، بل كان رحّالة ورجل أعمال ناجحا أيضا، وكان على اتصال مع تجّار الفنّ الذين كانوا يتهافتون على شراء لوحاته لأنها كانت تناسب تنوّع أمزجتهم بالإضافة إلى أنها كانت تتمتّع بشعبية كبيرة.
وكان جيروم أيضا معلّما مرموقا درّس الآلاف من الطلبة ومارس نفوذا واسعا على جيل كامل من الرسّامين، ومنهم من أصبحوا متخصّصين في رسم الشرق وثقافاته.
وقد تركت صوره المشرقية بصمة مميّزة على المخيّلة الشعبية للأوربّيين والأمريكيين واستُخدمت تلك الصور كثيرا في أعمال المسرح وفي الأفلام وفي كتب التاريخ والأدب. وإحدى أهمّ صوره واسمها "حاوي الثعابين" أصبحت غلافا لكتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد.
كانت لوحات جيروم مثيرة للاهتمام والفضول. والشرق الذي رسمه كان ترجمة لحلم العديد من معاصريه من الكتّاب والأدباء الأوربّيين الذين صوّروا الشرق في أعمالهم الشعرية والروائية.
وقد عاش الرسّام في عصر ازدهار الفنون والآداب في فرنسا. وكان من بين الشخصيات المهمّة التي عرفها في باريس كلّ من الأديبة الفرنسية جورج صاند والكاتب الروسيّ ايفان تورغينيف، بالإضافة إلى بعض مشاهير الموسيقى آنذاك مثل هيكتور بيرليوز وروسيني ويوهان برامز وفريدريك شوبان وغيرهم.
في ذلك الوقت، كانت أرض مصر قد أصبحت مركز جذب للكثير من الرسّامين الذين قدموا إليها مفتونين بعمارتها الإسلامية وسحر الحياة اليومية لأهلها. ومنهم من أقام فيها أشهرا وأحيانا سنوات.
في عام 1860، وصل جيروم إلى القاهرة وبدأ رسم سلسلة من انجح لوحاته الاستشراقية وصوّر فيها جموع المؤمنين وهم يؤدّون الصلاة داخل الجوامع أو فوق أسطح البيوت أو في الزوايا حيث يعيش أصحاب الطرق الصوفية.
وهذه اللوحة هي أحد أشهر أعماله من تلك الفترة، وقد ظهرت، هي أيضا، على أغلفة العديد من كتب التاريخ والأدب التي تتحدّث عن ثقافات الشرق.
وفيها نرى مجموعة من الرجال وهم يؤدّون صلاة المغرب على سطح احد المباني في القاهرة تحت سماء ضبابية يضيئها هلال فضّيّ مع بدايات المساء. وعلى مسافة، تظهر منارتان مملوكيّتان من مسجد محمّد علي، وخلفهما يلوح مبنى القلعة المشهورة.
المصلّون يؤدّون الصلاة إما جماعة أو فرادى وبعضهم وقوف أو جلوس. ومن الملاحظ أنهم يواجهون الشمال في صلاتهم، وليس جهة الجنوب الشرقيّ، إي مكّة المكرّمة، كما يقتضي الحال.
لكن ربّما تعمّد الرسّام عكس اتجاه القبلة كي يتمكّن من تصوير المصلّين جانبيّا. وربّما أراد أن يضفي على الصورة قدرا من الخيال والفتنة والغرائبية.
كان جيروم يرى أن الدقّة غير ضرورية في الرسم، وكان من عادته أن يضحّي بالواقع لمصلحة الاعتبارات الجمالية، فيتلاعب قليلا أو كثيرا بالتفاصيل. وكان يشعر بأنه حرّ في أن يترجم ما يراه على طريقته، فيضيف إلى الصورة ملاحظاته وانطباعاته الشخصية ويعدّل فيها ويعيد ترتيب أجزائها لتخدم فكرة أو غرضا جماليّا، تماما كما يفعل كلّ رسّام خبير.
كان جيروم مفتونا بشكل خاصّ بصلاة المسلمين وبمعمار الجوامع التاريخية. وعندما يرسم صورة لمسجد، كان كثيرا ما يغيّر في شكل المنارة ويضخّم القبّة، كي يبدو الجامع كصرح معلميّ وفخم. كما كان يُلبّس المصلّين ثيابا أنيقة وأحيانا باذخة.
وغالبا ما كان يفعل هذا وفي ذهنه اعتبارات أخرى، مثل متطلّبات السوق ورغبات الزبائن والمشترين الذين كان أكثرهم من أثرياء أمريكا ممّن كانوا يرون في بلاد الشرق مهربا من آثار التصنيع والأعراف المملّة للبورجوازية الغربية.
صور جيروم لمدينة القاهرة ما تزال لها قيمة عالية إلى اليوم، تتمثّل في الذكريات التي تثيرها عن الأيّام الخوالي. وأيّا تكن نظرتك إلى فنّ الاستشراق، فإن ممّا لا شكّ فيه أن تلك الصور هي التجسيد الصوريّ الوحيد المتبقّي حتى اليوم عن عالم كان له وجود في الماضي ثم تلاشى واختفت معالمه أو كادت بفعل تقادم الزمن.
ظلّ جيروم نشطا طوال خمسين عاما وحتى نهاية القرن التاسع عشر. وقد ساعد على ترسيخ مكانة الرسم الأكاديميّ وكان واحدا من أهمّ أقطابه. لكن مشكلته انه أصبح خصما عنيدا لحركات الفنّ الحديث التي ظهرت في بدايات القرن الماضي، مقابل دفاعه المستميت وغير المبرّر أحيانا عن الفنّ الأكاديميّ.
وقد حرمه أسلوبه المحافظ والصارم من تحقيق عظمة فنّية حقيقية في فنّه، وفي نفس الوقت منعه ذلك الموقف من تبيّن وتقدير عظمة الآخرين.
ولد جان ليون جيروم في مايو من عام 1824 في بلدة فرنسية قرب الحدود مع سويسرا. كانت عائلته تنتمي للطبقة المتوسّطة وكان والده يعمل في تجارة المجوهرات.
وقد درس الرسم وهو في سنّ السادسة عشرة على يد بول ديلاروش، ثم ذهب الاثنان إلى ايطاليا حيث زارا فلورنسا وروما والفاتيكان.
في عام 1869، اختير الرسّام عضوا شرفيّا في الأكاديمية الملكية البريطانية، ثم أنعم عليه ملك بروسيا بوسام، وكان من ضمن الشخصيات الفرنسية التي دُعيت لحضور حفل افتتاح قناة السويس عام 1869.
عندما توفّي جيروم في محترفه في يناير من عام 1904، وُجد أمامه احد بورتريهات رمبراندت بالإضافة إلى إحدى لوحاته الخاصّة. وبناءً على طلبه، رُتّبت له جنازة مختصرة وبلا أزهار، وكان من بين شاركوا في تأبينه رئيس سابق للجمهورية وساسة بارزون وكتّاب ورسّامون كبار.
ورغم أن النقّاد اليوم لا يستسيغون فنّه كثيرا ويصفونه بالرجعية، إلا أن جيروم يظلّ رسّاما مبدعا ومتميّزا. كان يدرس ويعمل دون كلل أو ملل ضمن حدود الذوق السائد في زمانه.
وصوره كانت لها شعبية طاغية في أوساط جامعي الفنّ وكانت مقنعة كثيرا. ولم يكن هناك من ينافسه في إحساسه بالتوليف واللون والواقع. انضباطه الشخصيّ وثقته بنفسه كانت كبيرة جدّا، وهذه الأشياء لا تناسب منطق الفنّ الحديث.
غير أن الصور التاريخية والاستشراقية التي رسمها جيروم في القاهرة وفي غيرها من المدن ما تزال تفتن الأعين بواقعيّتها الغريبة. وقد نجح في رسم صورة للشرق كمكان حسّيّ ومثير وغرائبيّ وعنيف ولا يمكن محاكاته، ثم قدّمها للجمهور الغربيّ الذي أحبّها وتفاعل معها.
وفي المرحلة التالية، توافد على المنطقة رسّامو الحياة اليومية، فقدّموا صورا للثقافات المتنوّعة للشعوب، من البازارات إلى المنازل وخلافها.
وإلى هذا النوع الأخير من رسّامي الاستشراق ينتمي جان ليون جيروم الذي كان احد أشهر وأنجح الرسّامين الفرنسيين الذين سافروا إلى بلاد المشرق وأقاموا فيها في القرن التاسع عشر.
وجيروم لم يكن رسّاما فحسب، بل كان رحّالة ورجل أعمال ناجحا أيضا، وكان على اتصال مع تجّار الفنّ الذين كانوا يتهافتون على شراء لوحاته لأنها كانت تناسب تنوّع أمزجتهم بالإضافة إلى أنها كانت تتمتّع بشعبية كبيرة.
وكان جيروم أيضا معلّما مرموقا درّس الآلاف من الطلبة ومارس نفوذا واسعا على جيل كامل من الرسّامين، ومنهم من أصبحوا متخصّصين في رسم الشرق وثقافاته.
وقد تركت صوره المشرقية بصمة مميّزة على المخيّلة الشعبية للأوربّيين والأمريكيين واستُخدمت تلك الصور كثيرا في أعمال المسرح وفي الأفلام وفي كتب التاريخ والأدب. وإحدى أهمّ صوره واسمها "حاوي الثعابين" أصبحت غلافا لكتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد.
كانت لوحات جيروم مثيرة للاهتمام والفضول. والشرق الذي رسمه كان ترجمة لحلم العديد من معاصريه من الكتّاب والأدباء الأوربّيين الذين صوّروا الشرق في أعمالهم الشعرية والروائية.
وقد عاش الرسّام في عصر ازدهار الفنون والآداب في فرنسا. وكان من بين الشخصيات المهمّة التي عرفها في باريس كلّ من الأديبة الفرنسية جورج صاند والكاتب الروسيّ ايفان تورغينيف، بالإضافة إلى بعض مشاهير الموسيقى آنذاك مثل هيكتور بيرليوز وروسيني ويوهان برامز وفريدريك شوبان وغيرهم.
في ذلك الوقت، كانت أرض مصر قد أصبحت مركز جذب للكثير من الرسّامين الذين قدموا إليها مفتونين بعمارتها الإسلامية وسحر الحياة اليومية لأهلها. ومنهم من أقام فيها أشهرا وأحيانا سنوات.
في عام 1860، وصل جيروم إلى القاهرة وبدأ رسم سلسلة من انجح لوحاته الاستشراقية وصوّر فيها جموع المؤمنين وهم يؤدّون الصلاة داخل الجوامع أو فوق أسطح البيوت أو في الزوايا حيث يعيش أصحاب الطرق الصوفية.
وهذه اللوحة هي أحد أشهر أعماله من تلك الفترة، وقد ظهرت، هي أيضا، على أغلفة العديد من كتب التاريخ والأدب التي تتحدّث عن ثقافات الشرق.
وفيها نرى مجموعة من الرجال وهم يؤدّون صلاة المغرب على سطح احد المباني في القاهرة تحت سماء ضبابية يضيئها هلال فضّيّ مع بدايات المساء. وعلى مسافة، تظهر منارتان مملوكيّتان من مسجد محمّد علي، وخلفهما يلوح مبنى القلعة المشهورة.
المصلّون يؤدّون الصلاة إما جماعة أو فرادى وبعضهم وقوف أو جلوس. ومن الملاحظ أنهم يواجهون الشمال في صلاتهم، وليس جهة الجنوب الشرقيّ، إي مكّة المكرّمة، كما يقتضي الحال.
لكن ربّما تعمّد الرسّام عكس اتجاه القبلة كي يتمكّن من تصوير المصلّين جانبيّا. وربّما أراد أن يضفي على الصورة قدرا من الخيال والفتنة والغرائبية.
كان جيروم يرى أن الدقّة غير ضرورية في الرسم، وكان من عادته أن يضحّي بالواقع لمصلحة الاعتبارات الجمالية، فيتلاعب قليلا أو كثيرا بالتفاصيل. وكان يشعر بأنه حرّ في أن يترجم ما يراه على طريقته، فيضيف إلى الصورة ملاحظاته وانطباعاته الشخصية ويعدّل فيها ويعيد ترتيب أجزائها لتخدم فكرة أو غرضا جماليّا، تماما كما يفعل كلّ رسّام خبير.
كان جيروم مفتونا بشكل خاصّ بصلاة المسلمين وبمعمار الجوامع التاريخية. وعندما يرسم صورة لمسجد، كان كثيرا ما يغيّر في شكل المنارة ويضخّم القبّة، كي يبدو الجامع كصرح معلميّ وفخم. كما كان يُلبّس المصلّين ثيابا أنيقة وأحيانا باذخة.
وغالبا ما كان يفعل هذا وفي ذهنه اعتبارات أخرى، مثل متطلّبات السوق ورغبات الزبائن والمشترين الذين كان أكثرهم من أثرياء أمريكا ممّن كانوا يرون في بلاد الشرق مهربا من آثار التصنيع والأعراف المملّة للبورجوازية الغربية.
صور جيروم لمدينة القاهرة ما تزال لها قيمة عالية إلى اليوم، تتمثّل في الذكريات التي تثيرها عن الأيّام الخوالي. وأيّا تكن نظرتك إلى فنّ الاستشراق، فإن ممّا لا شكّ فيه أن تلك الصور هي التجسيد الصوريّ الوحيد المتبقّي حتى اليوم عن عالم كان له وجود في الماضي ثم تلاشى واختفت معالمه أو كادت بفعل تقادم الزمن.
ظلّ جيروم نشطا طوال خمسين عاما وحتى نهاية القرن التاسع عشر. وقد ساعد على ترسيخ مكانة الرسم الأكاديميّ وكان واحدا من أهمّ أقطابه. لكن مشكلته انه أصبح خصما عنيدا لحركات الفنّ الحديث التي ظهرت في بدايات القرن الماضي، مقابل دفاعه المستميت وغير المبرّر أحيانا عن الفنّ الأكاديميّ.
وقد حرمه أسلوبه المحافظ والصارم من تحقيق عظمة فنّية حقيقية في فنّه، وفي نفس الوقت منعه ذلك الموقف من تبيّن وتقدير عظمة الآخرين.
ولد جان ليون جيروم في مايو من عام 1824 في بلدة فرنسية قرب الحدود مع سويسرا. كانت عائلته تنتمي للطبقة المتوسّطة وكان والده يعمل في تجارة المجوهرات.
وقد درس الرسم وهو في سنّ السادسة عشرة على يد بول ديلاروش، ثم ذهب الاثنان إلى ايطاليا حيث زارا فلورنسا وروما والفاتيكان.
في عام 1869، اختير الرسّام عضوا شرفيّا في الأكاديمية الملكية البريطانية، ثم أنعم عليه ملك بروسيا بوسام، وكان من ضمن الشخصيات الفرنسية التي دُعيت لحضور حفل افتتاح قناة السويس عام 1869.
عندما توفّي جيروم في محترفه في يناير من عام 1904، وُجد أمامه احد بورتريهات رمبراندت بالإضافة إلى إحدى لوحاته الخاصّة. وبناءً على طلبه، رُتّبت له جنازة مختصرة وبلا أزهار، وكان من بين شاركوا في تأبينه رئيس سابق للجمهورية وساسة بارزون وكتّاب ورسّامون كبار.
ورغم أن النقّاد اليوم لا يستسيغون فنّه كثيرا ويصفونه بالرجعية، إلا أن جيروم يظلّ رسّاما مبدعا ومتميّزا. كان يدرس ويعمل دون كلل أو ملل ضمن حدود الذوق السائد في زمانه.
وصوره كانت لها شعبية طاغية في أوساط جامعي الفنّ وكانت مقنعة كثيرا. ولم يكن هناك من ينافسه في إحساسه بالتوليف واللون والواقع. انضباطه الشخصيّ وثقته بنفسه كانت كبيرة جدّا، وهذه الأشياء لا تناسب منطق الفنّ الحديث.
غير أن الصور التاريخية والاستشراقية التي رسمها جيروم في القاهرة وفي غيرها من المدن ما تزال تفتن الأعين بواقعيّتها الغريبة. وقد نجح في رسم صورة للشرق كمكان حسّيّ ومثير وغرائبيّ وعنيف ولا يمكن محاكاته، ثم قدّمها للجمهور الغربيّ الذي أحبّها وتفاعل معها.