نهاية العشاء
للفنان الفرنسي جـول الكسنـدر غـرون، 1913
للفنان الفرنسي جـول الكسنـدر غـرون، 1913
كان جول الكسندر غرون أحد رموز الرسم الأكاديميّ في عصره، ومع ذلك كان معروفا بارتباطه بالمدرسة الانطباعية. كان يتمتّع بموهبة ممتازة، وإحدى لوحاته المبكّرة امتدحها النقّاد ولاقت نجاحا مدوّيا، رغم انه في ذلك الوقت بالكاد تجاوز الثامنة عشرة من عمره.
إحدى المطبوعات التي تعود إلى مطلع القرن الماضي تصفه بأنه "فرنسيّ كان الفنّ والحياة عنده ممتزجين ببعضهما. وقد اختار الرسم لأنه كان يحبّ الحياة ويحتاج إلى التعبير عن مشاعره بطريقة ملوّنة وحيّة".
صحيح أن فنّ غرون يُنظر إليه اليوم كموضة قديمة، لكن انجازاته يجب أن تُعطى قدرها، مثل هذه اللوحة الفخمة التي يصوّر فيها أشخاصا كثيرين يحضرون مأدبة عشاء.
كانت حفلات العشاء في ذلك الوقت، وكما هو الحال اليوم، جزءا لا يتجزّأ من حياة الأوربّيين وواجبا من أهمّ واجبات الزوجات في الطبقات الاجتماعية الرفيعة. فالمضيفة أو ربّة البيت يجب أن تهتمّ بأدقّ تفاصيل الحفل، من قائمة الضيوف إلى أماكن الجلوس إلى الديكور ونوعية الأطباق المقدّمة.
كان الغرض من هذه الحفلات الحفاظ على علاقات اجتماعية طيّبة وودّية بين العائلات المختلفة. والمضيفة أو زوجة صاحب الدعوة كانت تدعو للمأدبة الأشخاص الذين تعتبرهم جديرين بالدعوة، كالأصدقاء الجدد والقدامى والأثرياء والأشخاص الذين تعتقد أنهم قد يكونون مفيدين لزوجها.
وكان على كلّ من يلبّي الدعوة أن لا يعتذر عن الحضور، إلا إن كان فاقدا لقريب أو مصابا بمرض مُعدٍ أو خطير. وبالإضافة إلى الساسة والفنّانين، كانت الدعوات تُوجّه للعزّاب من الشباب الذين يمكنهم إدارة النقاشات وإثارة الأحاديث الممتعة بين الضيوف.
رسم جول غرون هذه اللوحة الضخمة لصالة الرسّامين الفرنسيين عام 1912. ولم يكن هذا أمرا غريبا أو محض صدفة، فللرسّام لوحات ضخمة كثيرة. واللوحة تصوّر وليمة عشاء يحضرها مجموعة من رجال ونساء الطبقة الباريسية الرفيعة.
بناء اللوحة المتناغم ولمعانها وتلقائيّتها هي من الأشياء التي تلفت الانتباه. ولو نظرت إليها عن قرب ستقدّر كلّ التفاصيل الجميلة التي أودعها الرسّام فيها.
لمسته الواسعة تذكّر بأستاذه غيميه. وبراعته في تصوير تأثيرات الضوء يمكن أن تضعه في عداد الرسّامين الحداثيين.
موضوع اللوحة يذكّر بأحوال المجتمع الفرنسي في ما عُرف بـ "الحقبة الجميلة"، فمجتمع باريس يظهر هنا بتنوّعاته وأطيافه المختلفة، من فنّانين وممثّلين إلى ساسة وصحافيّين وأطبّاء مع زوجاتهم.
ونقطة الارتكاز في اللوحة هي المرأة ذات الفستان الأحمر والزهريّ التي تعطي ظهرها للناظر. وقد جرى تعريفها على أنها جينيت لانتوم زوجة مدير جريدة لوماتان العريقة. كانت هذه المرأة مشهورة في مجتمع باريس بجمالها وحضورها الأخّاذ.
الرسّام غيميه، معلّم غرون، هو أيضا حاضر وكذلك الرسّام جورج روشيغرو، بالإضافة إلى غرون نفسه.
الكتب الخاصّة بإيتكيت الطعام والحفلات والمآدب خلال القرنين الثامن والتاسع عشر تزوّدنا بلمحة عن الآمال الموضوعة على المرأة، وخاصّة الزوجة في مجتمع النخبةّ.
كان على صاحبة الدعوة، مثلا، أن تهتمّ بأماكن الجلوس المناسبة لكلّ ضيف، لأن خطأ واحدا يمكن أن يتسبّب في إحراج شخص أو جرح كرامته. وهناك نظام صارم للجلوس، لدرجة أن تغييرا بسيطا في قائمة المدعوّين يمكن أن يغيّر كامل النظام. ويمكن لمدعوّ أن يُعطي ظهره للجالس إلى جواره كنوع من التعبير عن احتجاجه على إجلاسه بجانب شخص غير جدير بمحادثته.
وكان من عادة المضيفة عند انتهاء العشاء أن تصحب المدعوّات إلى غرفة أخرى لتدور دردشة نسائية عن الموضة والقيل والقال، وهي المواضيع الوحيدة التي كان يُعتقد أنها تناسب السيّدات. بينما يبقى الرجال بعد العشاء لمناقشة المواضيع الذكورية كالسياسة والعلوم وما في حكمها.
لكن ابتداءً من القرن العشرين، أصبح الرجال ينضمّون للنساء في غرفة واحدة يمكن للجميع فيها أن يثيروا معا أحاديث عامّة الطابع.
ولد جول الكسندر غرون في باريس في مايو من عام 1868، وكان أبوه يريده أن يصبح تاجرا. لكنه اتفق مع عائلته على أن يدرس الديكور، ثم تتلمذ على يد جان باتيست لافستر مزيّن المسارح المشهور في أوبرا باريس وأنطوان غيميه رسّام المناظر الطبيعية.
في البداية، عمل غرون كرسّام كاريكاتير ومصمّم بوسترات في مونمارتر. وقد وضع الرسوم التوضيحية لمجموعة من الأغاني بتكليف من ملهى القطّ الأسود، كما رسم جداريات لتزيّن ملاهي وحانات ليلية أخرى.
لكنّ هذا كان لكسب لقمة العيش اليومية فقط. وسرعان ما أصبح مشهورا في المجال الذي نافس فيه جميع زملائه، أي رسم البوسترات. وهذا فتح أمامه الباب للذهاب إلى مونمارتر، حيث استقرّ هناك وافتتح له محترفا في المكان الذي اعتاد فيه الرسّامون أن يعيشوا حياة بوهيمية وأصبح بسرعة أحدهم.
كان غرون بطبيعته شخصا مرحا ومحبّا للحياة، وكان على الدوام يصادق رسّامين أكبر منه سنّا. ومعظم هؤلاء كانوا من رسّامي الكاريكاتير الذين كانوا يتّسمون بروح الدعابة. ثم أصبح جزءا من مجتمع باريس المخمليّ آنذاك.
في نهايات حياته، عمل الرسّام كمحكّم وعضو في لجنة المحلّفين في الصالون. لكنه أصيب بمرض باركنسون في أواخر الثلاثينات. وقد عزله المرض عن المجتمع وقضى على قدراته الفنّية إلى أن توفّي في فبراير من عام 1934.
إحدى المطبوعات التي تعود إلى مطلع القرن الماضي تصفه بأنه "فرنسيّ كان الفنّ والحياة عنده ممتزجين ببعضهما. وقد اختار الرسم لأنه كان يحبّ الحياة ويحتاج إلى التعبير عن مشاعره بطريقة ملوّنة وحيّة".
صحيح أن فنّ غرون يُنظر إليه اليوم كموضة قديمة، لكن انجازاته يجب أن تُعطى قدرها، مثل هذه اللوحة الفخمة التي يصوّر فيها أشخاصا كثيرين يحضرون مأدبة عشاء.
كانت حفلات العشاء في ذلك الوقت، وكما هو الحال اليوم، جزءا لا يتجزّأ من حياة الأوربّيين وواجبا من أهمّ واجبات الزوجات في الطبقات الاجتماعية الرفيعة. فالمضيفة أو ربّة البيت يجب أن تهتمّ بأدقّ تفاصيل الحفل، من قائمة الضيوف إلى أماكن الجلوس إلى الديكور ونوعية الأطباق المقدّمة.
كان الغرض من هذه الحفلات الحفاظ على علاقات اجتماعية طيّبة وودّية بين العائلات المختلفة. والمضيفة أو زوجة صاحب الدعوة كانت تدعو للمأدبة الأشخاص الذين تعتبرهم جديرين بالدعوة، كالأصدقاء الجدد والقدامى والأثرياء والأشخاص الذين تعتقد أنهم قد يكونون مفيدين لزوجها.
وكان على كلّ من يلبّي الدعوة أن لا يعتذر عن الحضور، إلا إن كان فاقدا لقريب أو مصابا بمرض مُعدٍ أو خطير. وبالإضافة إلى الساسة والفنّانين، كانت الدعوات تُوجّه للعزّاب من الشباب الذين يمكنهم إدارة النقاشات وإثارة الأحاديث الممتعة بين الضيوف.
رسم جول غرون هذه اللوحة الضخمة لصالة الرسّامين الفرنسيين عام 1912. ولم يكن هذا أمرا غريبا أو محض صدفة، فللرسّام لوحات ضخمة كثيرة. واللوحة تصوّر وليمة عشاء يحضرها مجموعة من رجال ونساء الطبقة الباريسية الرفيعة.
بناء اللوحة المتناغم ولمعانها وتلقائيّتها هي من الأشياء التي تلفت الانتباه. ولو نظرت إليها عن قرب ستقدّر كلّ التفاصيل الجميلة التي أودعها الرسّام فيها.
لمسته الواسعة تذكّر بأستاذه غيميه. وبراعته في تصوير تأثيرات الضوء يمكن أن تضعه في عداد الرسّامين الحداثيين.
موضوع اللوحة يذكّر بأحوال المجتمع الفرنسي في ما عُرف بـ "الحقبة الجميلة"، فمجتمع باريس يظهر هنا بتنوّعاته وأطيافه المختلفة، من فنّانين وممثّلين إلى ساسة وصحافيّين وأطبّاء مع زوجاتهم.
ونقطة الارتكاز في اللوحة هي المرأة ذات الفستان الأحمر والزهريّ التي تعطي ظهرها للناظر. وقد جرى تعريفها على أنها جينيت لانتوم زوجة مدير جريدة لوماتان العريقة. كانت هذه المرأة مشهورة في مجتمع باريس بجمالها وحضورها الأخّاذ.
الرسّام غيميه، معلّم غرون، هو أيضا حاضر وكذلك الرسّام جورج روشيغرو، بالإضافة إلى غرون نفسه.
الكتب الخاصّة بإيتكيت الطعام والحفلات والمآدب خلال القرنين الثامن والتاسع عشر تزوّدنا بلمحة عن الآمال الموضوعة على المرأة، وخاصّة الزوجة في مجتمع النخبةّ.
كان على صاحبة الدعوة، مثلا، أن تهتمّ بأماكن الجلوس المناسبة لكلّ ضيف، لأن خطأ واحدا يمكن أن يتسبّب في إحراج شخص أو جرح كرامته. وهناك نظام صارم للجلوس، لدرجة أن تغييرا بسيطا في قائمة المدعوّين يمكن أن يغيّر كامل النظام. ويمكن لمدعوّ أن يُعطي ظهره للجالس إلى جواره كنوع من التعبير عن احتجاجه على إجلاسه بجانب شخص غير جدير بمحادثته.
وكان من عادة المضيفة عند انتهاء العشاء أن تصحب المدعوّات إلى غرفة أخرى لتدور دردشة نسائية عن الموضة والقيل والقال، وهي المواضيع الوحيدة التي كان يُعتقد أنها تناسب السيّدات. بينما يبقى الرجال بعد العشاء لمناقشة المواضيع الذكورية كالسياسة والعلوم وما في حكمها.
لكن ابتداءً من القرن العشرين، أصبح الرجال ينضمّون للنساء في غرفة واحدة يمكن للجميع فيها أن يثيروا معا أحاديث عامّة الطابع.
ولد جول الكسندر غرون في باريس في مايو من عام 1868، وكان أبوه يريده أن يصبح تاجرا. لكنه اتفق مع عائلته على أن يدرس الديكور، ثم تتلمذ على يد جان باتيست لافستر مزيّن المسارح المشهور في أوبرا باريس وأنطوان غيميه رسّام المناظر الطبيعية.
في البداية، عمل غرون كرسّام كاريكاتير ومصمّم بوسترات في مونمارتر. وقد وضع الرسوم التوضيحية لمجموعة من الأغاني بتكليف من ملهى القطّ الأسود، كما رسم جداريات لتزيّن ملاهي وحانات ليلية أخرى.
لكنّ هذا كان لكسب لقمة العيش اليومية فقط. وسرعان ما أصبح مشهورا في المجال الذي نافس فيه جميع زملائه، أي رسم البوسترات. وهذا فتح أمامه الباب للذهاب إلى مونمارتر، حيث استقرّ هناك وافتتح له محترفا في المكان الذي اعتاد فيه الرسّامون أن يعيشوا حياة بوهيمية وأصبح بسرعة أحدهم.
كان غرون بطبيعته شخصا مرحا ومحبّا للحياة، وكان على الدوام يصادق رسّامين أكبر منه سنّا. ومعظم هؤلاء كانوا من رسّامي الكاريكاتير الذين كانوا يتّسمون بروح الدعابة. ثم أصبح جزءا من مجتمع باريس المخمليّ آنذاك.
في نهايات حياته، عمل الرسّام كمحكّم وعضو في لجنة المحلّفين في الصالون. لكنه أصيب بمرض باركنسون في أواخر الثلاثينات. وقد عزله المرض عن المجتمع وقضى على قدراته الفنّية إلى أن توفّي في فبراير من عام 1934.